الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1000/بلغنا العدد الألف!

مجلة الرسالة/العدد 1000/بلغنا العدد الألف!

مجلة الرسالة - العدد 1000
بلغنا العدد الألف!
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 01 - 09 - 1952


نعم، بلغنا العدد الألف! ومعنى ذلك انقضاء ألف أسبوع من عمر الرسالة الباقية، أو عشرين عاما من عمر صاحبها الفاني! وان عشرين عاما يقضيها الكاتب المتأمل في هذا المرصد الأدبي والاجتماعي يصوب مناظيره إلى كل سماه، وينصب مخابيره في كل أرض، لتكشف له عن ظواهر في الآفاق، وعن بواطن في الأنفس، ما كان ليراها، ولا بقلبه، لو أنه جلس مجلس المشاهد المتفرج في مسرح الحياة.

قضيت ثلث عمري الأعلى والأغلى دائبا دءوب القمرين، أعمل ليل نهار في عالم عبقري الأحلام والرؤى، يزخر بالعقول النيرة، والنفوس الخيرة، والأخيلة الخصبة؛ أناجيهم بالروح، وأخاطبهم بالقلم، وأقابلهم في البريج، وأجعل لهم من صفحات الرسالة جواء يسبحون في أطباقها مع الملائكة، ورياضا يهيمون على زهورها مع الفراش، وحقولا يعسلون من رحيقها مع النحل، حتى اجتمع لهم من أفانين الحق والخير والجمال عشرون مجلدا ضخما هي تاريخ نهضة وثورة أمة وتراث جيل.

في ذات عشية من عشايا نوفمبر من عام 1932 زرت أخي الدكتور طه حسين في دارته بالزمالك. وكنت منذ أربعة أشهر قد رجعت من العراق بعد من أغلقت دار المعلمين العليا ببغداد، وكان هو قد أنزل عن كرسيه في كلية الآداب من جامعة فؤاد. فقلت له بعد حديث شهي من أحاديث الذكرى والأمل:

ما رأيك في أن نصدر معا مجلة أسبوعية للأدب الرفيع؟

فضحك طه ضحكته التي تبتدئ بابتسامة عريضة، ثم تنتهي بقهقهة طويلة، وقال:

وهل تظنك واجدا لمجلة الأدب الرفيع قراء في مجتمع ثقافة خاصته أوربية، وعقلية عامته أمية، والمذبذبون بين ذلك لا يقرءون - إذا قرءوا - إلا المقالة الخفيفة والقصة الخليعة والنكتة المضحكة؟

فقلت له: لعل من بين هؤلاء وهؤلاء طبقة وسطا تطلب الجد فلا تجده، وتشتهي النافع فلا تناله.

فقال وهو يهز رأسه ويمط شفتيه: حتى هذه الطبقة، أن كانت، ستقبل على الجد النافع أول الأمر لأنه يتغير وتنويع، فإذا ما ألح عليها لا تلبث أن تسأمه وتزهد فيه. والمثل أمامك في (السياسة الأسبوعية).

فقلت له: ربما كان لإقبال القراء على (السياسة الأسبوعية) ولأدبارهم عنها سببان آخران غير التغيير والسأم. كانت هذه المجلة أول ما صدرت قوية غنية خصبة فأصبحت حاجة؛ ثم اعتراها ما يعتري الكائن الحي من الوهن والانحلال فصارت فضلة.

فقال لي بعد نقاش طويل: أنت وشأنك! أما شأني فهو المقال الذي أكتبه، والرأي الذي أراه.

وكان يظاهرني على تفاؤلي أصدقائي الأدنون من لجنة التأليف والترجمة والنشر، فكانوا بهذه المظاهرة نقطة الارتكاز ومبعث المدد.

وأخيرا تغلب العزم المصمم على التردد الخوار فصدرت الرسالة. صدرت قوية بالروح، غنية بالمادة، فتية بالامل، فكانت ولله الحمد حدث العام وحديث الناس! صادفت خلاء فشغلته، وخللا فسدته، وعبثا فحاولت أن تصدر عنه بإيقاظ النخوة في الرءوس والكرامة في النفوس والرجولة في النشء. ثم حركت في الملكات الموهوبة ساكن الشوق إلى الإنتاج فأبدعت، وأهابت بالقوى الأدبية المتفرقة فتجمعت. ثم سفرت بين الأدباء في كل قطر من أقطار العروبة، فعرفت بعضا إلى بعض، وأطلعت كلا على عمل كل. ثم قادت كتائب الفكر والبيان في ميادين الإصلاح الأدبي والاجتماعي والسياسي على نهج واضح من الدين والخلق، فكتب الله لها النصر في معارك، ووعدها الفوز في معارك. ولو كانت الرسالة اليوم بسبيل أن تكشف عن قلبها، وان تتحدث بنعمة ربها، لذكرت فيما تذكر بلائها العظيم في إنهاض الأدب، وتوحيد العرب، وتخريج طبقة من الأدباء، وتثقيف أمة من القراء، بله مجاهدتها السلطان الباغي والثراء الطاغي والفقر المهلك. ولكنها ترى ذلك من لغو الحديث ما دام (وحي الرسالة) منشورا وأعداد المجلة محفوظة.

كانت نشأة (الرسالة) كنشأة (الوفد) من كل الوجوه؛ وكان تطورها كتطوره من بعض الوجوه. نشأة الرسالة كما نشا الوفد إجابة لحال مقتضية وضرورية موجبة. لم تكن في مصر حين صدرت الرسالة مجلة الحق، وتقضي حاجة القارئ الجاد. إنما كان الأدب السامي حينئذ خبئ في الصدور وحبيس المكاتب. فلم تكد تخرج إلى الناس حتى احتشدت فيها القوى المدخرة، وظهرت على صفحاتها الملكات المستترة، فلم يبق في العالم العربي صاحب نثر أو شعر إلا أشرق فيها عقله، وانتشر مع انتشارها فضله.

كذلك لم يكن في مصر يوم ظهر الوفد جماعة سياسية تواجه مشكلات الحرب العالمية الأولى، وتوجه خطوات الثورة المصرية الثانية. إنما كانت السياسة يومئذ أصداء خافته لأصوات الماضي، وآراء متهافتة من ترهات الحاضر. فلم يكد سعد زغلول يؤلف الوفد حتى انضم إليه عباقرة الرأي ودهاقين السياسة فلم يبق في مصر صاحب قلم أو لسان أو منطق أو جاه إلا قصر جهده على الوفد، وأضاف جهاده إلى جهاد سعد.

ثم سعى الشيطان بين الأخوة فتصدع الشمل وتفرق الهوى وتمزقت الوحدة. فأنشق على الرسالة كتاب. واشتق منها صحف كما انشق على الوفد أقطاب، واشتق منه شعب. فضعف الأصل ولم يقو الفرع، واعتل المصدر ولم يصح المشتق، وخسر المفرد ولم يربح الجمع. وأصبحت الرسالة رجلا واحدا يجتمع من حوله أشياع الفكرة، كما أصبح الوفد رجلا واحدا يسير من خلف أتباع المبدأ.

على أننا نطمع في فضل الله أن يزيد الرسالة قوة في عهد مصر الجديد. وما تسال الرسالة إلا العون من الله؛ فقد عودها جل شانه ألا تفزع إلا إليه فيما يحزب من أمر وما ينوب من مكروه.

ولعل السر في بقائها إلى اليوم على ضعف وسيلتها وقل حيلتها أنها عفت عن المال الحرام، فلا تجد لها اسما في (المصروفات السرية)، ولا فعلا في المهمات الحزبية، ولا حرفا من الإعلانات اليهودية.

وإذا لم يكن للفضيلة نفاق في عهد غرق فيه (القصر) في الفحش والنكر والبغي والاغتصاب والاستبداد والقتل وارتطمت فيه (الحكومة) في الاختلاس والغش والخيانة والرشوة والمحاباة والختل، فإنا لنرجو أن يكون لها من السيادة والفوز نصيب، في عهد يتولى الأمر فيه بإذن الله على ما هو ومحمد نجيب!

أحمد حسن الزيات