مجلة الرسالة/العدد 100/حول الأوزاعي (ثانياً)
→ الخرافة | مجلة الرسالة - العدد 100 حول الأوزاعي (ثانياً) [[مؤلف:|]] |
التربية الخلقية والاجتماعية في المدرسة ← |
بتاريخ: 03 - 06 - 1935 |
للأستاذ أمين الخولي المدرس بكلية الآداب
كنت كتبت في العدد 91 من الرسالة، كلمة عن الأوزاعي، قصدت فيها أول ما قصدت إلى ملاحظات في أسلوب تفكير الكاتب، وعرضت في ذلك لإنكاره تأثر الأوزاعي بالفقه الروماني في الشام. ودار حول ذلك كلام، آخره ما كتبه الأديب الفاضل صالح بن علي الحامد العلوي في العدد 97 من الرسالة، تحت عنوان: (هل تأثر الفقه الإسلامي بالفقه الروماني أو الحقيقة هي العكس)؛ وإني أشكر لحضرته غيرته الدينية، وجميل أدبه في نقاشه، ثم أعود إلى الموضوع من الناحية التي عرضت له منها أول ما عرضت: ناحية أسلوب التفكير، وصحة الانتقال والاستنتاج.
ويبدو لقارئ مقال الأديب السنغافوري أنه متأثر بمقال نشر في مجلة النهضة الحضرمية بعنوان: (من أين أخذ الإفرنج قوانينهم) وقد نقل منه قدرا كبيرا. ولعله يسر حضرته أن أبلغه أن هذا الموضوع نفسه نشر في مصر - وربما بنصه - منذ ربع قرن مضى، ملحقا بكتاب مقدمة القوانين للأستاذ عبد الجليل سعد، وقد طبع سنة 1910م. وقرأت هذا الموضوع منذ بضعة عشر عاما، ولا أزال أذكره جيدا، ومع ذلك كله قلت فيما قلت عن تأثر الأوزاعي بالفقه الروماني تلك الكلمة المتواضعة العلمية وهي: مع عدم تعصبي للقول بهذا التأثر، ومع القصد في بيانه فإني أرى هذا الاستدلال على عدم تأثر الأوزاعي غير مقبول من الوجهة الاجتماعية والنفسية. . . الخ) ولا أزال أقول للكاتب إن ما نقله عن مجلة النهضة الحضرمية لا يؤثر في هذا الرأي كما لم تؤثر فيه قراءتي لهذا الموضوع في مصر منذ عهد بعيد؛ ولا أجعل موضوع الأخذ أو التأثر هنا محل بحث جديد ومناقشة على صفحات مجلة سيارة، لأنه أوسع من ذلك وأعمق، ولأن ملاحظاتي لا تتوقف عليه، كما لن أعمد في تعليق على ذلك المقال إلى الإطالة والإسهاب نزولا على حكم الوقت الضيق الآن، ثم نزولا على حكم البتة، إذ لا أرى قراء الصحف الأسبوعية ينشطون لتلك المناقشة الفنية الطويلة. وسأكتفي بأن أضع بين يدي السيد العلوي والقراء ما أراه موضع ملاحظة في إجمال تام.
1 - قال السيد: ومهما قلنا بالفرق بين الأخذ والتأثر لكلا المعنيين بجريان إلى مدى واحد، وهو أن يكون في أصل الفقه الإسلامي ومزاجه شيء من الفقه الروماني)، ومع صرف النظر عن مسألة الفقهيين لا نرى محلا للتسوية بين التأثر والأخذ هذه التسوية، لأن التأثر قد يكون سلبيا صرفا، فنقول إن الوثنية العربية قد أثرت في تحريم الإسلام للتصوير والنحت، ولن ينتهي هذا إلى أن في مزاج الإسلام وأصله شيئا من الوثنية الجاهلية. والنظر يقضي بأن التأثر السلبي قد يكون أقوى أنواع التأثر وأشدها، فلا محل للتسوية بين التأثر والأخذ.
2 - وقال: إن الإسلام في ذاته جاء خارقا لقاعدة البيئة والثقافة، إذ قام النبي محمد ﷺ، وهو النبي الأمي الذي نشأ أبعد الناس عن أن يطلع على قانون روماني أو حكمة منقولة، وأتى بهذا الدين الأقدس مناقضا كل التناقض لما عليه قومه،. . . الخ. وغريب هذا القول من السيد، لأنه لا يصح إلا على تقدير أن هذا الدين من صنيع الرسول نفسه، وهو أمي. . الخ فعمله ناقض لقاعدة البيئة والثقافة، أما على أن الإسلام - كما هو في حقيقته - وحي إلهي فلا يستقيم هذا التمثيل مطلقا في نقض قاعدة البيئة والثقافة، لأنا لم نقل إن الله خاضع للبيئة والثقافة، بل نقول إن الله أجرى الحياة على نواميس منها تأثير البيئة والثقافة. . . الخ. وعلى وفق هذه النواميس جاء الإسلام العرب موافقا لحالهم معالجا لأمراضهم، جاريا على أسلوب تعبيرهم محكما له في فهم القرآن الكريم دستور العربية، ولم لم يجيء الإسلام بحيث تتقبله النفوس العربية، وتفهمه العقول العربية لكان عبثا - تعالى الله عنه - ولم يعش ولم ينجح.
3 - وقال: (إن الشريعة الإسلامية وجدت كاملة دفعة، أو بعبارة أصح جاءت في زمن واحد،. . الخ) وهذه العبارة أوضح من أن تحتاج مخالفتها إلى دليل، ويتجلى ذلك في قوله بعد، (وهيأ لنا شريعة كاملة وقانونا ربانيا منظما يصلح لأن يطبق على أي جيل وعلى أية أمة، ولم يزد فيه الفقهاء بعده شيئا قط إلا تصنيفه ونقله. .) فهذا الكلام ليس أحسن حالا من سابقه، فالفقهاء قد فهموا وطبقوا، واستنتجوا واستنبطوا، وخلفوا كل هذا المجهود الفقهي الكبير الهائل مبنيا بيدهم على الأصول العامة التي جاء بها الوحي، ولم يكونوا مصنفين وناقلين فقط، على أن حضرته يقول (. . . والنصوص الفقهية كلها صريحة بينة الأغراض واضحة المرامي) وهذه العبارة بنفسها ينقضها هو في الصفحة ذاتها حين يقول عن القرآن: (على أن الاختلاف في تفسيره. . . ليس إلا لإيجازه المعجز مع بعد مراميه الغيبية) فإن هذا الإيجاز المعجز لم يفت آيات الأحكام كذلك، وبعد المرامي يشملها أيضاً؛ وإذا كانت النصوص صريحة بينة الأغراض واضحة المرامي ففم اختلف فقهاء المذاهب الكثيرة المتعددة، وفيم اختلف فقهاء المذهب الواحد في الزمنين المختلفين، وفيم تغايرت الأحكام في المسألة الواحدة هذا التغاير البين؟ والطريف في ذلك أن السيد يمثل لهذه الصراحة والوضوح بقولك مثلا لا تكذب، وأنه ليس معناه إلا لا تخبر بغير الواقع في كل زمن ومكان، وفات السيد أن هذه المسألة الخلقية نفسها على وضوحها الشديد عنده محل خلاف طويل تعدى حتى إلى كتب البلاغة، فقيل الصدق مطابقة الخبر الواقع، وقيل مطابقته للاعتقاد، وقيل مطابقته للواقع مع الاعتقاد؛ وعلى هذا يختلف كذلك تفسير الكذب، فحبذا لو كان الأمر من السهولة والصراحة والوضوح على مثل ما يراه السيد.
4 - ويقول حضرته في النصوص الفقهية (. . . أما الأغلب منها فمن الحديث والسنة، وبعضها عن الكتاب مفسرا بالسنة) ولا نعرف وجها للحكم بأن أغلب النصوص من السنة لا من الكتاب، ولا يفهم أن الأغلب ما هو من السنة والكتاب معا إذ ليس هناك مصدر للنصوص سواهما.
5 - ويقول (ولا يجوز أن يقاس الفقه بالتفسير) ولا أدري كيف لا يقاس الفقه بالتفسير في الاختلاف والفقه ليس إلا تفسير آيات الأحكام!!
وعندي أن الكاتب الفاضل يحسن أن يعدل رأيه في هذه الأشياء قبل أن يهتم بمسألة الفقه الروماني وأخذه أصوله عن الفقه الإسلامي، أو تأثر للفقه الإسلامي به، فتلك مسائل متأخرة.
ويلي ذلك في مقال السيد ما نقله عن مجلة النهضة الحضرمية وأشرت إلى أنه منشور في مصر منذ زمن طويل؛ وقد وعدت ألا أحمله ولا أحمل القراء مؤونة مناقشته - على كثرة مواضع ذلك فيه - وإنما أقول للسيد إن كلمتي في التأثير والتأثر لا تتوقف على البت في تاريخ أصول القانون الروماني الحديث، وإنما ترجع إلى مسلمات لا محل لاختلافنا فيها: تلك هي أن الرومانية حكمت الشام قطعا، وكان ذلك الحكم لقرون كثيرة قطعا، وكانت الدولة الرومانية التي ورثت حضارة اليونان نظم للحكم قطعا، وكانت لها شرائع مدنية وعسكرية ومالية قطعا، وكان الإسلام هو الذي خلف على ذلك كله بلا شك، - وكان لهذا على طول الزمن أثره الذي تختلف به الشام عن الحجاز مثلا ولا بد، والأوزاعي ابن هذه البيئة الحديثة العهد بهذه الحال الرومانية، فلتلك البيئة وهاتيك الثقافة أثرهما المحتوم في تكوين الأوزاعي، ولهذا التكوين أثره في فهم الكتاب والسنة والاستنباط منهما - ولا يتوقف شيء مما قلنا على درجة رقي الفقه والنظام الروماني، ولا على أن الحديث منه مسروق من الإسلام أو مقتبس منه أولا.
لكني حينما أترك هذا المقال في الفقه الروماني الحديث دون مناقشة لا أدع منه عبارة ختامية للسيد في مقاله، تلك هي قوله (. . . إن الفقه الروماني جديد لفقه جماعة من العلماء وتحقق أنهم أخذوه من الفقه الإسلامي، وهذا ما يجب ألا يعتقد خلافه كل مسلم). بل أقول للسيد لسنا في شيء من المطالبة بهذه العقيدة المعروفة ثم سرقة الفقه الروماني من الفقه الإسلامي. وحرام علينا في الدين والعقل أن نعتقد ما نشاء ونلزم بما نشاء، فدع يا سيدي هذا لمثله من الرأي والبحث. ولا تتوجس خيفة من كل شبح، ولا تعدن كل رأي دسيسة، ولا تتهمن كل مسلم بالضعف والانخداع، فالأمر أخطر من ذلك كله، وأهون من ذلك كله أيضاً.
أمين الخولي