مجلة الرسالة/العدد 100/القصص
→ الحياة | مجلة الرسالة - العدد 100 القصص [[مؤلف:|]] |
من الأدب الإيطالي ← |
بتاريخ: 03 - 06 - 1935 |
من أساطير الإغريق
فينوس ربة الجمال والحب
مولدها، نشأتها، إحدى مغامراتها الغرامية
للأستاذ دريني خشبة
تعالوا يا أعزائي المحبين نسمع أغنية الجمال والحب، من ربة الجمال والحب، بارزة من الثبج، فوق الموجة الكبيرة وسط اليم.
لقد كانت السماء زرقاء صافية، ولكنها لطفت ورقت، وتضاعف صفاؤها، عندما ذاع في ملكوتها النبأ العظيم، وبشرت بمولد فينوس!
ابتسمي أيتها الشفاه الحزينة، وانبسطي أيتها الأسارير المقطبة، وأثلجي يا صدور المكلومين!
وأنت أيها القلب الملتاع قف خفقانك، وأنت أيها الطرف الساهم كفكف عبرتك، ويا نفوس العاشقين اطربي، فقدت ولدت فينوس!
برزت عرائس البحار يصلين في بكرة الصباح لأبوللو، فما راعهن إلا الطفلة المعبودة تخرج من الزبد الأبيض كما تخرج من الصدفة لؤلؤة غالية؛ وتتهادى على رؤوس الموج كطيف نوراني فيسجد الماء تحت قدميها الصغيرتين، متمما بصلاة الحب لربة الحب، مرتلا أنشودة الجمال لربة الجمال!
وافتر فم الدنيا عن ابتسامة سعيدة حلوة، يحيي الفم السعيد الحلو، الذي سيملأ قلوب العالمين رضى وسعادة!
وأشرقت ذكاء حمل أبوللو فلمح السوسنة الوردية تخطر على لازورد الماء، فترك عربته المطهمة بالذهب تعرج وحدها في القبة الزرقاء، وانثنى هو يزف البشري إلى آلهة الأولمب!
وهرعت عرائس الماء إلى فينوس الطفلة فرقصن وزغردن وتغنين وحملنها إلى قصورهن المرجانية في الأعماق، حيث أرضعنها لبان الهوى، ولقنها كلمات المحبة، ونشأنها على أساليب الصبابة والغرام، حتى أينعت وترعرت، فأزمعن المسير بها إلى الأولمب حيث يتلقاها الآلهة، فتأخذ مكانها بينهم. . .
وكم كان جميلا رائعا أن يصطف التريتون والأوسيانيد والنيريد من حولها؛ وكم كان جميلا رائعا رقص التريتون على صفحة الماء الجياش بالزبد، وتغريد الأوسيانيد كأنهن بلابل الروض الأخضر ترسل في هدير المحيط شدوها فيحور غناء كله!
وكم كان جميلا رائعا من النيريد أن يتضاحكن مترنمات في الحلقة الأولى حول فينوس فتستجيب السماء لهن، ويميد البحر من طرب بهن!
كم كان جميلا رائعا أن يخب موكب الحب فوق الماء حتى يكون على فراسخ من قبرص معدودات، فينثني الجميع إلا فينوس التي يهدهدها زفيروس الطيب، رب النسيم الجنوبي، حتى يصل بها إلى الشاطئ، حيث يكون في انتظارها بنات ثيميز ربة العدالة، وبنات يورينوم ربات الفضيلة والخلق الحسن، فيتقدمن إلى ربة الحب، فيصلين لها، ويجففن شعرها الذهبي المتهدل فوق كتفيها العاجيتين؛ ثم تدلف بينهن، لفاء هيفاء غراء غيداء مهتزة الجيد وضاحة الجبين، كلما خطت خطوة قبلت الأرض قدميها المعروقتين، وكلما مرت ببلقع اهتز وربا، واعشوشب وأزهر، حتى يلقاها آلهة الحب الأربعة، رب الشهوة هيميروس، ورب الغزل سواديلا، ورب الألفة بوثوس، وهيلين رب الزواج؛ فينخرطون في الجماعة، ويهطعون إلى الأولمب!
وتكون الأنباء قد تواترت عن قدوم الربة الجديدة، فيصنع لها عرش عتيد ما تكاد آخر ياقوتة تركب فيه حتى تصل فينوس فجأة فتستوي عليه، وتتصارع أبصار الآلهة العطشى حول جسمها الخصب، المترع بالمفاتن، وتتلمظ الشفاه الجائعة تود لو تفترس هذا الفم الأحوى الجميل، وتسري كهرباء الاشتهاء في الأذرع القوية، والصدور الهرقلية، تحلم بضم الجيد الناهد، ومخاصرة الوسط المياس، و. . . تثور الرغائب، وتفور الشهوات. . . . وفينوس ممتلئة كبرياء. . . كأنها العنقاء. . . ترسل اللمحة عن طرفها الساجي فتصرع هؤلاء وهؤلاء!!
وتقدم الآلهة كل بدوره يطلب يد فينوس، وكان كل إله يفاخر أخاه بما لديه من نعم وآلاء. وكان مضحكا أن يسفه الآلهة بعضهم بعضا بين يدي ربة الجمال والحب حتى ازدرتهم جميعا، وخبرت حماقاتهم مالا يتفق وهذا الورد المتفتح في خديها، والسحر النائم في مقلتيها، والفتنة الثاوية في كل جارحة من جارحاتها؛ فرفضتهم أجمعين، وإن تكن برفضها قد أغضبت أباها كبير الآلهة وسيد أرباب الأولمب.
ولم يغض الآلهة عن تحقير فينوس لهم، بل انقلب إعجابهم ثورة، وارتد افتتانهم نقمة، وود كل منهم لو خلى بينه وبينها فيبطش بها بطشا شديداً
وأجمعوا أمرهم ضحى، وذهبوا إلى زيوس يطالبونه بالإثئار لكرامتهم كأرباب مرهوبي الجانب مخوفي الشيطان، من ابنته ربة الحب الطائشة!!
وخاف زيوس ثورة الآلهة، وأفزعه تجمهرهم في ردهة الأولمب يتصايحون ويصخبون، فخرج إليهم هاشا باشا، ودق بصولجانه على الأرض المرمرية وقال: إخواني. . أبنائي:
(لستم أنتم وحدكم تنقمون على فينوس الجميلة ما بدر منها في حضرتكم من زهو وخيلاء، بل أنا معكم ناقم على هذه الابنة العاقة التي صعرت في حضرتي خدها، وشمخت بأنفها، وحسبت أنها خير من الآلهة درجة وأعلى مقاما. .
لتطب نفوسكم يا إخواني ويا أبنائي! لقد أصدرت الساعة إرادة أولمبية تقضي بأن تتزوج فينوس المتكبرة المتغطرسة المختالة، من فلكان الحداد صانع دروعكم ولجم خيولكم!).
وما سمعها الآلهة حتى صاحوا لسانا واحدا: (ليحي زيوس العادل! تقدست يا زيوس! طوبى لك يا أولمب!)
وكان فلكان بين الجماعة وهي تهتف، ولكنه كان مشغولا عنهم بتلك السعادة التي هبطت عليه من السماء، وكان يحمل إرزبته الهائلة، فلما سمع النطق الأولى، ضرب بها الأرض ضربة راجفة، أحس بها بلوتو في أعماق الجحيم. . .
- (يحسب الآلهة أننا معشر الربات ملك أيمانهم دائما، يتصرفون بنا كما يحلو لهم! ما عليهم إلا أن يأمروا، وما علينا إلا أن نطيع! لقد كنت أؤثر أن ألبث في القصور المرجانية في أعماق الأعماق، على أن تشرق علي شعاعة من الشمس الدافئة التي يرتع فيها أولئك الآلهة العتاة الظالمون!)
- (هوني عليك يا مولاتي فقد يصفح غدا سيد الأولمب!
- (يصفح أو لا يصفح. .
- (يا للهول!. . .
- (أي هول يا فتاة. . .
- (ينبغي ألا تعرضي نفسك لغضب رب الأرباب. . .
- (رب الأرباب! أنت تضحكينني يا أجمل العرائس الأوسيانيد!
- (مولاتي. . . .!
- (إن رب الأرباب يحكم دنيا من الخزعبلات. . أما القلوب. . أما قلوب العذارى. . فالحب وحده يتولاهن، ويهيمن عليهن. . .
- (إلهتي فينوس. . .
- (لا تنزعجي هكذا يا عروس الماء. . . لقد ولدت لأكون ربة الجمال والحب. . فأولى لي ثم أولى، أن أسعد بالحب، وأن أختار من ذوي الحسن متعتي الغالية ونعيمي الأوفى. . . فلكان!! أنا أقسم أن هذا الحداد لا يفرق بين القبلة والجذوة، ولا بين نشوة الحب وزفير الكير!! وأخشى أن يغازلني يوما فيحذفني بإرزبته، يحسبها ريحانة أو زنبقة!! يا للحداد القذر!!).
- (ولكن زواجكما تسجل في السماء يا ربتي!
- (إن كان سجل السماء مدنسا بكل هذه المقابح الاستبدادية، فأنا. . فينوس ربة الجمال والحب والزواج. . آنف أن يدرج في صفحاته اسمي!
والآن اسمعي يا أوسيانة، اذهبي إلى حبيب مارس فبلغيه أنني منتظرته الليلة، بعد مغيب الشفق، تحت السنديانة الكبرى في أول منعرجات الغابة. . .)
وهكذا أقبلت ربة الحب على كؤوس الحب تنهل منها ما تشاء، وتستعرض الآلهة وأنصاف الآلهة تقبل منهم على من تشاء وتعرض عمن تشاء. . وما أكثر القطيع وما أنهم الذئب!
لقد علقت مارس القوي، إله الحرب، ورب الدمار، ولم تبال بزوجها الفظ القذر المنتن، الذي لا يميز جرس الموسيقى من طرق الحديد، ولا نسيم الجنة من زفرات الجحيم!
وعلقها مارس وافتتن بها، حتى لكان يعد دقات قلبه دقة فدقة، حتى يلقاها، فتهدأ أعصابه، ويطمئن قلبه، ويثوب إليه رشده
ولقد كان اللعين إذا خلا إلى فينوس، يذهب في الاستمتاع بها إلى أقصى حدود الطاقة؛ وكان يبهره منها ألا يلقاها إلا متجردة، فيجس هذه الذراع، ويتحسس ذلك الثدي، ويرشف ذياك الفم، ويرتع في هذه الجنة ذات الثمر التي نسميها الجيد، ويخضع لرقي السحر النافذة من جفنيها المدججين بالسهام؛ ثم يضل في تلك الظلال الشفقية التي يعكسها عليه شعرها. فإذا أفيق زودته بابتسامة تظل ترقص على الخدين والشفتين، وشكت فؤاده بغمزة من طرفها تتركه بين الحياة والموت. . . وهكذا حتى يرضى!!
وكان لا يخشى من أعين الرقباء مثل ما يخشى من عين أبوللو، ولذا كان إذا وافى فينوس في هذا المنعزل الغرامي السحيق، في أعمق أحشاء الغابة، ترك خادمه أليكتريون عند أول الشعب المؤدي إلى الطريق العام، يلحظ المارين وينبه إلى خطر الأعداء والناقمين، حتى يكون الأليفان بنجوة من الفضيحة، وفي حرز من ألسن الكاشحين. فإذا تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ذهب أليكتريون فأيقظ العاشقين الآثمين، فينهضان من غفوة الهوى إلى يقين الفراق، قبل أن تشرق الشمس ولكن! وما أقسى ولكن هذه إذا لم تكن سعودا على المحبين!! لقد ذهب العاشقان يتراشفان كؤوس الهوى دهاقا، ويلتذان بكل مأثم ومحرم، حتى إذا نال منهما الجهد، وترنحت أعينهما تحت عبء السهاد الطويل، انبطحا على الحشيش الأخضر، هو إلى جانبها، وهي إلى جانبه، غارقين في سبات هنيء! ولمح أليكتريون ظبيا نافرا، يتفزع في ظلام الغابة؛ فتبعه، وطفق يدور وراءه حتى لحق به بعد عناء شديد، فاحتمله وعاد به إلى مركزه من مكان الحراسة. . ولكنه ما كاد يصل ثمة، حتى تساقط متهدما من التعب، وغلبه نعاس عميق. . .
وأشرقت الشمس!! وبرزت المركبة الذهبية حاملة أبوللو، رب هذا الكوكب المشرق المتأجج، وبدأت رحلتها السماوية، وأخذت ترتفع في العلاء رويدا، حتى إذا كانت بمنزلة الضحى، أطل أبوللو فرأى مارس الأثيم، وفينوس الغاوية، متعانقين على الحشيش الأخضر، وكانت بين أمه لاتونا، وأمها ديون ما يكون عادة بين (الضرائر) من بغضاء ومشاحنات؛ وكانت ديون تفخر على زوجات زيوس جميعا بأنها أم فينوس وحسب!
وكانت لا تعدل بابنتها واحدة من جميلات الأولمب، بما فيهن ديانا أخت أبوللو، وابنة لاتونا
انطلق أبوللو والشماتة تضطرب في قلبه الناقم على فينوس، يحمل الخبر الفاجع إلى فلكان، فألفاه مستغرقا في صنع شبكة حديدية هائلة، والنار تتلظى في أتونها الكبير، والدخان ينعقد في جو المصنع كأنه ينقذف من بركان، والملاقط والمبارد والمخارط متناثرة على الأديم المعفر القذر كأنها أعجاز نخل. . .
- (فلكان!. . .)
- (هلا. . . أبوللو. . ماذا جاء بك في هذه الضحوة. . . وأني غادرت عربتك؟)
- (أثرت أن أطأ ثرى هذه الأرض بقدمي على أن تحملني يوح، وقد تدنس شرف الأولمب بالفضيحة المزرية!. . .)
- (الفضيحة المزرية؟ ماذا وراءك يا أبوللو؟. . .)
- (فلكان! أين زوجتك؟. . . هل أويت إليها الليلة؟)
- (زوجي؟ فضيحة مزرية؟. . . ماذا تعني أيها الأخ؟)
- (أولم تفقه بعد؟. . . ولكن قل لي: ماذا تصنع بكل هذه الأسلاك الغليظة؟)
- (أصنع شبكة كبيرة. . .)
- (ولمة؟)
- (لقد لاحظت النجس مارس يحوم حول حماي. . وأنا لا بد صائده)
- (هلم، هلم. . .)
- (وإلى أين؟. .)
- (تصيده. . ألم تنته من صنعها بعد؟)
بل انتهيت. . . وأين مارس؟. . .)
- (على الحشيش الأخضر، في أول شعاب الغابة، مما يلي الطريق العام)
- (ومع من؟. .)
- (مع. . . . . . . إنه قطعة واحدة مع. . . . فينـ)
- (معها؟. . . يا للهول؟. . . هلم. . . . يا للعرض الأحمر؟. . . .)
واحتمل شبكته العظيمة، وانطلق الإلَهان إلى حيث. . . النائمان الحالمان الآثمان!
لقد كان ملتصقين التصاقا تاما. . حتى ما يكاد ينفذ الماء بينهما ونسى كل إلف شفتيه في شفتي إلفه، فهما جلنارتان تبثان نجوى الهوى إلى جلنارتين!
يا لله! ليس هذا فسقا أيها الآلهة، بل هو التمازج الذي سميتموه الزواج!
وانقض فلكان كالمذنب المدمر، فألقى شبكته على الخائنين!
وانتفض مارس وهو يكاد يصعق من الذعر، وانتفضت فينوس وهي تكاد تذوب من الخجل! ولكن! أي ذعر وأي خجل وهذه الشبكة قد أمسكت بهما كسمكتين!!
لقد مضى فلكان، بعد إذ ربط الشبكة بما كسبت في أصل دوحة كبيرة، وعاد بكل الأسرة الأولمبية (لضبط الحادثة!)
وكانت ساعة رهيبة، انصبت فيها لمزات الآلهة الناقمين على رأس فينوس، وراح كل منهم ينتقم لكرامته المهدورة من كبريائها وصلفها، وهي ما تكاد تبين!!
وأطلق فلكان سراحهما؛ أما فينوس فذهبت تنشد عشاقا آخرين!
وأما مارس، فمضى إلى حيث خادمه الأحمق أليكتريون، فألفاه ما يزال يغط في نومه غطيطا مزعجا، فركله ركلة أطارت صوابه، وأخذ بتلابيبه فخضضه تخضيضاً!
ثم إنه أقسم لينتقمن منه انتقاما يكون أحدوثة الآباد وضحكة العباد، فنفث في أذنيه نفثتين، ارتد بهما الخادم المسكين ديكا عجيب الصورة، أرجواني التاج، طويل الجناحين، عظيم الذل!
وركله مارس ركلة ثانية، وقال له: (اذهب إذن فلن تذوق عيناك غفوة الفجر أبد الآبدين، ودهر الداهرين، وستصحو قبل كل الخليقة لتصيح في النائمين:
ويحكم أيها الغفاة، هبوا فقد كاد أبوللو يقطر مركبة الشمس!. . .
وما يزال أليكتريون، ديكنا المحبوب، يوقظنا قبل الشروق إلى اليوم!. . .
دريني خشبة