مجلة الرسالة/العدد 100/الدسائس والدماء أو علي بك الكبير
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 100 الدسائس والدماء أو علي بك الكبير [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 03 - 06 - 1935 |
كتاب للأستاذ خيري سعيد
للأستاذ محمود تيمور
إنها لصفحة مروعة تلك التي قرأناها في هذا الكتاب. صفحة الدسائس والدماء حقا. صفحة تصور لك في أسلوب روائي أخاذ ذلك العصر الدامي الفاجر الذي عاشت فيه مصر حقبة من الزمن، وهي ترى بعيون ذاهلة وقلب ينبض حسرة وألما، ونفس صابرة هذه المشاهد الجهنمية التي تمثل على مسرحها. ذلك هو عصر المماليك الذي أحياه أمامنا في لباقة صديقنا القصصي الأستاذ خيري سعيد، فاستطعنا ونحن نقرأ كتابه أن نحيا في ذلك العصر نعاشر أهله ونصاحب حكامه ونشهد مواقعه المتلاحقة، ونحضر حفلاته الرائعة - حفلات الانتصار والاندحار - استطعنا أن نعيش في ذلك الجو الغريب نشم فيه رائحة البخور ممزوجة في الدم، ونصغي فيه إلى صوت المؤذن يطغي على أنات المحتضرين وصليل السيوف، وهي تهوى على الرقاب. أجل لقد استطاع الأستاذ خيري بأوصافه الدقيقة وخياله الواسع أن ينقلنا إلى ذلك العصر ويتركنا فيه برهة من الزمن، شعرنا أثنائها أننا رجعنا القهقري إلى القرون الوسطى، وأن الدنيا غيرها بالأمس، فلا كهرباء ولا قهوات ولا ولا. . فإذا أردنا أن ننتقل فعلى الدواب ذات السرج المفضضة والبراذع المنقوشة تخترق بنا الحارات الضيقة. نذهب بها في نزهة إلى الخليج. أو في مهمة إلى بركة الفيل حيث قصور الأمراء. أو في أمر بيع وشراء إلى ساحل بولاق، ذلك المرفأ النيلي العظيم المزدحم بخيرات البلد. . وإذا أردنا أن نعلم شيئا مما هو جار من الحوادث تسقطناه لماما من أفواه الناس. فهناك فتنة تختمر، أو مجزرة تستعر، أو حرب على الحدود تدور رحاها. وإذا أردنا أن نريح أعصابنا ورغبنا في الترويح عن أنفسنا قصدنا إلى دور أصدقائنا العلماء فنحظى بجلسة هادئة نشرب فيها القهوة الفاخرة، ونتناول العشاء السخي، ونستمع إلى مسامرتهم الجميلة أو إلى أناشيد المنشدين. . أجل لقد عشنا حقا في مصر في ذلك العهد القاسي المضطرب. رأينا الأمة منقسمة إلى طبقات لا يتعدى أهل الواحدة على الأخرى. فهناك طائفة الفلاحين تعمل طيلة العام لتمون الكُشاف والسَّناجِق (الأمراء المماليك) إذ أن الحكم حكم إقطاع. الفلاح آلة نشطة طيعة ليس لها إلا أن تعطى. ولكنها كانت في الوقت نفسه آلة ماكرة تعلمت الخبث من هؤلاء السادة الطغاة فاستطاعت أن تراوغهم هازئة بهم. ترشو هذا لتبعد ذاك، وتعطي جزءا لتحتفظ لنفسها بأجزاء. ثم هناك الطبقة الحاكمة وهي المماليك، تلك الطائفة الغريبة التي امتهنت الحكم ورضيت بما يحفه من خطر دائم. طائفة كانوا يشترونها في الأسواق أطفالا أرقاء يأتون بهم من مواطنهم في بلاد الشركس وأواسط آسيا، وينشئونهم نشأة حربية، فإذا ما نما المملوك واكتمل أصبح فارسا يجيد الحرب كما يجيد الحكم. وهو في الحالتين غدرا خبيث يعمل بقول القائل: الغاية تبرر الواسطة. يعيشون طول حياتهم والسيف لا يهمد لحظة في يدهم. وانك لترى على ملابسهم المزركشة المقصبة المحملة بالخناجر والسيوف بقعا من الدم كأنها أوسمة فخار. . وإذا ما دخلت دورهم عثرت قدمك برأس أو بضعة رؤوس بشرية تعترض طريقك. فإذا ما أغضيت النظر وتابعت سيرك دوى في أذنك صراخ مستغيث، فإذا بهارب يهوي أمامك متخبطا في دمه. . هؤلاء المماليك وعلى رأسهم شيخ البلد كانوا حكام مصر الحقيقيين في تلك الحقبة الرهيبة التي زعم العثمانيون أن البلد فيها إيالة تركية لا أكثر ولا أقل. ولكن أين مظهر تلك التبعية؟ أفي الباشا الوالي ذلك الحاكم المسكين الذي كان يوليه السلطان حكم مصر فلا يتعدى حكمه دائرة القلعة المسجون فيها؟ وليته كان يُترك سعيدا بحكم هذه المنطقة الصغيرة. إنه كان فيها أشبه بالطرطور يلبسه شيخ البلد. ليس عليه إلا أن يصدر الفرمانات التي يطلبها منه هذا الشيخ، فإذا عصى فإلى العزل أو الحبس أو القتل!! أم في تلك الحامية التركية الضعيفة التي نقص أفرادها على توالي الزمن فاستعيض عنهم بنفر من أهل البلد؟. . وهناك غير هاتين الطائفتين طائفة قوية تحتكم في ثروة البلد هي طائفة التجار، تلك التي كانت كلها من أبناء البلد والتي عاشت بالرغم مما انتابها من عسف كان يهد في ثروتها، عاشت في شيء من الرخاء والهدوء؛ وبجانب هذه الطائفة كانت طبقة العلماء - شيوخ الأزهر - تلك التي كانت تسيطر على البلاد بقوتها الروحية. وكانت الأمة كلها وحكامها على رأسها تضمر لها الاحترام وتعمل بنصائحها. ولكن هذا لم يكن يمنع عنها في بعض الأحيان بطش هؤلاء الحكام وغدرهم.
. . . أجل لقد استطاع الأستاذ خيري سعيد أن ينقلنا إلى ذلك الجو وكأنه أركبنا طيارة وطار بنا على صعيد مصر كلها فإذا بنا نرى النار تشتعل في كل مكان: حكام القاهرة يريدون أن يسيطروا على الأرياف، وحكام الأرياف يريدون أن يحتفظوا باستقلالهم الإداري يستمتعون بما جنوه من أموال وخيرات، وبين هؤلاء الحكام وبعضهم حروب لا يخمد لها لهيب، والناس لا تعرف من الأمن إلا اسمه. فإذا ما سار التاجر بأسطوله النيلي المحمل بخيرات البلد من منطقة إلى أخرى وجب عليه دفع الإتاوة إلى شيوخ قطاع الطرق - طائفة أخرى مستقلة عن كل الطوائف امتهنت السلب وتفننت فيه وأثرت منه - وإلا أصاب أسطوله النهب والتحطيم.
في ذلك الجو الخانق ظهر علي بك الكبير. وكان كبقية المماليك. عاش منذ نعومة أظافره بين مؤامرات الخيانة تطيح برؤوس الأمراء. عاش مملوكا طيلة حياته تتمثل في سياسته أساليب القسوة والغدر. ولكنه كان مملوكا أكثر ذكاء وأشد صلابة وأكبر أطماعا من غيره. تمثلت فيه صفات الملك فاستطاع أن يستخلص لنفسه حكم مصر فاستغنى عن الباشا الوالي وأخضع سائر المماليك لحكمه وضرب على أيدي قطاع الطرق. فاستمتعت البلاد في عهده بالأمن وبشيء من الطمأنينة لم تستمتع بهما في عهد غيره. وأحست بنوع من الكرامة الوطنية تذكو في فؤادها. فقد رأت حاكمها العظيم يقطع صلته بالدولة العثمانية ويجعل لمصر مركزا ممتازا بين الدول. . . ولكن هذا العهد لم يدم طويلا، فقد تألب المماليك المدحورون برياسة محمد بك أبي الذهب مملوك علي بك وساعده الأيمن فيما مضى - وشقت عليه عصا المطاعة وقاتلته حتى دحرته، ومن ثم أرجعت الباشا الوالي إلى عرشه الواهي المتآكل. . . وعادت الحياة كما كانت قبل أن يحكمها ذلك العاهل الكبير.
صور عنيفة جبارة، يعرضها أمامك المؤلف في دقة غريبة وتنسيق جميل في كتابه الدسائس والدماء، وإنك لتعجب وأنت قرأ هذه الصحائف الممتعة كيف استطاع الكاتب أن يجمع لك في كتاب لا يتعدى المائة والخمسين صفحة، هذه الحوادث الجسيمة والشخصيات المعقدة في شبه ملحمة لم تدع كبيرة ولا صغيرة عن هذا العهد إلا سجلته. ولعلك تعجب أيضاً إذا علمت أن كل فصل من فصول هذا الكتاب يصح أن يكون قصة مستقلة يستطيع مؤلفها أن يملأ بها عشرات الصفحات. . .
فإلى صديقي خيري تهنئتي الخالصة وتقديري الكبير.
محمود تيمور