مجلة الرسالة/العدد 10/في الأدب العربي
→ حول قصة مصرية | مجلة الرسالة - العدد 10 في الأدب العربي [[مؤلف:|]] |
من طرائف الشعر ← |
بتاريخ: 01 - 06 - 1933 |
ابن خلدون والتفكير المصري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
(5)
على إن ابن خلدون كان من جهة أخرى يحظى بتقدير فريق قوي من الرأي المصري المفكر. وكان على رأس هذا الفريق المؤرخ العلامة تقي الدين المقريزي. فقد درس المقريزي في فتوته على ابن خلدون واعجب بغزير علمه، ورائع محاضراته، وطريف آرائه ونظرياته. ويتحدث المقريزي عن شيخه ابن خلدون بمنتهى الخشوع والإجلال وينعته (بشيخنا العالم العلامة الأستاذ قاضي القضاة) ويترجمه في كتابه (دور العقود الفريدة) بإسهاب وإعجاب، ويرتفع في تقدير مقدمته إلى الذروة فيقول: (لم يعمل مثلها، وانه لعزيز أن ينال مجتهد مثالها، إذ هي زبدة المعارف والعلوم ونتيجة العقول السليمة والفهوم، توقف على كنه الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبر عن حال الوجود، وتنبئ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدر الظيم، والطف من الماء سرى به النسيم). وهو تقدير يعارضه فيه ابن حجر كما قدمنا، ويأخذ ابن حجر وتلميذه السخاوي على المقريزي موقفه من ابن خلدون، ويرميانه بالمبالغة والإفراط في تعظيمه وإجلاله، ويقدم لنا ابن حجر تعليلا لهذا الموقف، وهو إن المقريزي كان ينتمي إلى الفاطميين وابن خلدون يجزم بإثبات نسبهم، ثم يقول لنا: إن المقريزي غفل في ذلك عن مراد ابن خلدون، فانه كان لانحرافه عن آل علي يثبت نسب الفاطميين إليهم، لما أشتهر من سوء معتقد الفاطميين وكون بعضهم نسب إلى الزندقة وادعى الألوهية.
وقد تأثر المقريزي فوق تعظيمه وتقديره لابن خلدون بنظرياته تأثراً كبيراً. وظهر هذا الأثر واضحاً في كتابه (إغاثة الأمة بكشف الغمة) الذي انتهت إلينا نسخة وحيدة منه تحتفظ بها دار الكتب المصرية.
ففي هذا الكتاب الذي يقول لنا المقريزي انه كتبه في ليلة واحدة من ليالي المحرم لسنة 808 والذي يتحدث فيه عن محن مصر منذ اقدم العصور إلى عصره، ينحو المقريزي في الشرح والتعليل منحى شيخه وأستاذه ابن خلدون في مقدمته. فيقدم لرسالته بمقارنة موجزة بين الماضي والحاضر، وملخص لما جازته مصر من محن الغلاء والشَرَق منذ الطوفان إلى عصره، ثم ينفرد لنا فصلاً يتحدث فيه عن الأسباب التي نشأت عنها هذه المحن وأدت إلى استمرارها طوال هذه الأزمان، وفي هذا الفصل نرى منهج ابن خلدون في البحث والتعليل واضحاً، بل نرى المقريزي يستعمل ألفاظ شيخه وعباراته مثل (أحوال الوجود وطبيعة العمران وما إليها.) وفي رأي المقريزي إن أسباب الخراب والمحن، ترجع أولاً إلى توليه الخطط السلطانية والمناصب الدينية بالرشوة، واستيلاء الظلمة والجهلاء عليها، وثانياً غلاء استئجار الأطيان، وزيادة نفقات الحرث والبذر والحصاد (نفقات الإنتاج) على الغلة، وثالثاً ذيوع النقد المنحط، ويتبع ذلك بنبذة في تاريخ العملة في الدول الإسلامية ومصر. ثم يتحدث عن طبقات المجتمع، وأوصاف الناس، ويقسم لنا المجتمع المصري إلى سبعة أقسام: _
(1) أهل الدولة.
(2) أهل اليسار من التجار وأولي النعمة من ذوي الرفاهة.
(3) الباعة وهم متوسطو الحال من التجار، وأصحاب المعاش وهم السوقة.
(4) أهل الفلح وهم أرباب الزراعة والحرث وسكان الريف.
(5) الفقراء وهم جل الفقهاء وطلاب العلم.
(6) أرباب المصالح والأجر وأصحاب المهن.
(7) ذوي الخصاصة والمسكنة الذين يتكففون الناس.
ويذكر أحوال كل فريق بالتفصيل، ثم يتحدث عن أسعار عصره وبخاصة أسعار المواد الغذائية ويختتم بشرح رأيه في معالجة هذه المحن، وهو أن يغير نظام العملة، فلا يستعمل منها إلا المكين الثابت من ذهب وفضة، وهي فكرة تثبيت النقد بعينها.
هكذا ينحو المقريزي في الشرح والتعليل، وهكذا نلمس أثر المؤرخ واضحاً في منهج تلميذه، ونستطيع أن نجد كثيراً من أوجه الشبه بين ما يعرضه المقريزي في رسالته، وبين ما كتبه ابن خلدون في مقدمته عن طبيعة الملك وعوامل فساده، وعن السكة، وعن أثر المكوس في الدولة، وأثر الظلم في خراب العمران، وكيف يسري الخلل إلى الدولة وتغلبها وفرة العمران والغلاء والقحط، وغير ذلك مما يتعلق بانحلال الدول وسقوطها بل نستطيع أن نلمح مثل هذا الأثر في بعض ما كتبه السخاوي نفسه في كتابه (الإعلان بالتوبيخ) عن قيمة التاريخ وأثره في دراسة أحوال الأمم، فهنا يبدو السخاوي أيضاً على رغم خصومته لابن خلدون متأثراً بفكرته الفلسفية في شرح التاريخ وفهمه.
وهنالك مؤرخ مصري أخر هو أبو المحاسن بن تغري بردي يشاطر شيخه المقريزي تقديره لابن خلدون ويشيد بمقدرته ونزاهته في ولاية القضاء ويقول لنا انه باشر القضاء بحرمة وافرة وعظمة زائدة وحمدت سيرته.
ويظهر اثر ابن خلدون أيضاً في اعتماد بعض أكابر الكتاب المصريين المعاصرين عليه والاقتباس من مقدمته وتاريخه، ومن هؤلاء أبو العباس القلشندي صاحب كتاب (صبح الأعشى) فانه يقتبس من ابن خلدون في مواضع شتى من موسوعته.
(6)
هذه صورة دقيقة شاملة لحياة ابن خلدون في مصر، وصلاته بحياتها العامة، وأثره في حركتها الفكرية المعاصرة.
وهذه الحقبة من حياة المؤرخ، وهي حقبة طويلة امتدت ثلاثة وعشرين عاماً، تخالف في نوعها وظروفها حياته بالمغرب، ففي المغرب عاش ابن خلدون بالأخص سياسياً يتقلب في خدمة القصور المغربية، ويخوض غمر دسائس ومخاطرات لا نهاية لها.
ولكنه عاش في مصر عالماً قاضياً وإذا استثنينا مفاوضاته مع تيمورلنك في حوادث دمشق، وسعيه إلى عقد الصلة بين بلاط القاهرة وسلاطين المغرب، فانه لم يتح له أن يؤدي في سير السياسة المصرية دوراً يذكر. وإذا كان ابن خلدون قد خاض في مصر، معترك الدسائس أيضاً، فقد كان هذا المعترك محلياً محدود المدى شخصياً في نوعه وغاياته.
وكانت حياة ابن خلدونفي مصر اكثر استقراراً ودعة، وأوفر ترفاً ونعماء من حياته بالمغرب، ولكن الظاهر إن سحباً من الكآبةوالألم المعنوي كانت تغشى هذه الحياة الناعمة. فقد كان ابن خلدون في مصر غريباً بعيداً عن وطنه وأهله، وكان يعيش في جو يشوبه كدر الخصومة وجهد النضال، ونستطيع أن نلمس ألم البعاد في نفس المؤرخ في بعض المواطن، فهو يذكر غربته حين يتحدث عن اتصاله بالسلطان إثر مقدمه ويقول إن السلطان (أبر مقامه وآنس غربته). وهو يكشف لنا عن هذا الألم في قصيدة طويلة نقلت إلينا التراجم المصرية منها هذه الأبيات المؤثرة:
أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موقف غربتي ونحيبي
وأبين يوم البين موقف ساعة ... لوداع مشغوف الفؤاد كئيب
لله عهد الظاعنين وغادروا ... قلبي رهين صبابة ووجيب
ولا ريب إن هلاك أسرة المؤرخ كانت عاملاً في إذكاء هذا الألم المعنوي، وهو يحدثنا عن هذه الفاجعة بلهجة الحزن واليأس حين يقول: (فعظم المصاب والجزع ورجح الزهد).
وكان المؤرخ يؤثر حياة العزلة في فترات كثيرة، وهو يشير إلى ذلك في بعض المواطن، حيث يقول لنا انه: (لزم كسر البيت ممتعاً بالعافية لابساً برد العزلة). وتشير التراجم المصرية إلى هذه العزلة فيقول لنا السخاوي: (ولازمه (أي المؤرخ) كثيرون في بعض عزلاته، فحسن خلقه معهم وباسطهم ومازحهم). وكان المؤرخ يشتغل في هذه الفترات بمراسلة أصدقائه بالمغرب والأندلس من السلاطين والأمراء والفقهاء، وهو يشير إلى ذلك في عدة مواضع.
وقد يكون من الشائق أن نعرف أين كان يقيم المؤرخ بالقاهرة، ولدينا عن ذلك نصان نقلهما ابن حجر عن الجمال البشبيشي ويقول الجمال في أولهما (انه كان يوماً بالقرب من الصالحية فرأى ابن خلدون وهو يريد التوجه إلى منزله وبعض نوابه أمامه. . .) (فيلوح من هذه الإشارة إن المؤرخ كان يقيم مدى حين على مقربة من الصالحية في الحي الذي تقع فيه هذه المدرسة اعني حي بين القصرين أو في أحد الأحياء القريبة منه، وذلك لأن مركز وظيفته كقاض للقضاة كان بهذه المدرسة ولأن إيوان الفقهاء المالكية كان يقع بجوارها. وأما في النص الثاني فيقول لنا الجمال ما يأتي مشيراً إلى ولاية ابن خلدون للقضاء عقب عوده من دمشق سنة ثلاث وثمإنمائة (إلا انه (أي ابن خلدون) تبسط بالسكن على البحر واكثر من سماع المطربات. . . الخ) ويستفاد من ذلك إن المؤرخ كان يقيم في هذا الحين في أحد الأحياء الواقعة على النيل ولعله جزيرة الروضة أو لعله بالضفة المقابلة من الفسطاط، حيث كانت لا تزال بقية من الأحياء الرفيعة التي قامت هنالك مذ خطت الروضة وعمرت وصارت منزل البلاط في أواسط القرن السابع، وسكن الكبراء والسراة في الضفة المقابلة لها من الفسطاط. ويرجح هذا الفرض إن المدرسة القمحية التي كان يدرس فيها ابن خلدون بلا انقطاع كانت تقع على مقربة من هذا الحي.
هذا وأما مثوى المؤرخ الأخير، فقد ذكر لنا السخاوي انه دفن (بمقابر الصوفية خارج باب النصر) ويحدثنا المقريزي عن موقع هذه المقابر وقد كانت تقع بين طائفة من الترب والمدافن التي شيدها الأمراء والكبراء في القرن الثامن خارج باب النصر في اتجاه الريدانية (العباسية) ومقبرة الصوفية هذه أنشأها صوفية الخانقاه الصلاحية في أواخر القرن الثامن في هذا المكان وخصصت لدفن الصوفية، وقد كان المؤرخ كما نذكر مدى حين شيخاً لخانقاه بيبرس.
فهل يكشف لنا الزمن يوماً عن مثوى رفات المفكر العظيم فيغدو قبره أثراً جليلاً يحج إليه المعجبون برائع تفكيره وخالد آثاره؟