الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 1/في الأدب الغربّي

مجلة الرسالة/العدد 1/في الأدب الغربّي

الشاعر المحتضر
Le Poète mourant
في الأدب الغربّي
المؤلف: ألفونس دو لامارتين
المترجم: أحمد حسن الزيات
قصيدة الشاعر المحتضر بقلم لامرتين، ونشرت ترجمة أحمد حسن الزيات في العدد الأول من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 15 يناير 1933



الشاعر المحتضر

قصيدة من عبقريات لامرتين

ترجمها وأهداها إلى روح شوقي

أحمد حسن الزيات

تحطمت كأس عمري وهي مُترعة، وتصرمت حياتي زفرات في كل نَفَس، وَعيّ َبإمساكها ما أرسلت من عبرات وحسرات، وقرع الموت بجناحه الناقوس الباكي عليَّ مؤذناً بساعتي الأخيرة، فليت شعري أنوح أم أغني؟؟!.

لأغَنِّ ما دامت أناملي لا تزال على القيثار، لأغن ما دامت المنون تلهمني، وأنا على باب الآخرة ما تلهم البجعة من صرخة موزونة وأنة ملحونة، وإذا لم تكن النفس شيئا غير الحب والألم فلم لا يكون وداعها لحناً قدسياً؟؟!

إن القيثار يبعث أجملألحانه حين ينكسر، والمصباح يرسل أبهى أضوائه حين يخمد، والبجعة ترفع طرفها الى السماء حين تسلم الروح، والإنسان وحده يرجع البصر إلى الوراء ليعد أيامه ويبكيها!!

وما هذه الأيام التي تستدر حوالب عينيه؟ شمس تشرق متقطعة، وساعات تمر متشابهة، وخير تمنحه ساعة فتسلبه أخرى، ثم عمل يتلوه راحة، وألم يتبعه أحيانا حلم!

ذلك هو اليوم، ثم يمحو آيته الليل!

لِيبْك ذلك الذي أشتد على حطام الدنيا حرصه، وتعلق بأمانيها سببه، ثم يرى حبل مستقبله يَنْبَتّ، وظِل آماله يتقلص! أما أنا فأترك الدنيا في سهولة ويسر لأن جذوري منها كجذور النبتة الرخوة من الأرض، تهب عليها رياح المساء فتقلعها!

الشاعر أشبه شيء بالطيور الغوابر، لا تعشعش على الضفاف ولا تقع على غصَون الغاب وإنما تهدهد نفسها على متون الموج، ثم تمر مغردة على بعد من الشاطئ، فلا يعرف الناس من أمرها، غير ما يسمعون من صوتها!

أبداً لم تدرب يدي على الوتر الرنان يد مخلوق؛ لأن ما تلهمه روح الله لا تعُلِّمه يد إنسان فالجدول لا يتعلم كيف يجري في المنحدر، والنسر لا يتعلم كيف يشق بجناحيه الهواء، والنحلة لا تتعلم كيف تؤلف العسل!

الناقوس تقرعه القوارع في مكانه العالي ليوم بشرى أو يوم نعي، فينوح مرة ويشدو مرة، وأنا كنت بهذا الناقوس أشبه! طهرني الألم كما طهره اللهب , وحركت الأوتار المختلفة أوتار قلبي فأخرجت لكل عاطفة نغمة!

أنا كالقيثارة (الأيولية) تعزف طول الليل من تلقاء نفسها على خطرات النسيم، وتمزج خرير المياه بأنينها الرخيم، فيقف السائر حيران دهشاً مما يسمع! يطرب ويعجب ولا يدري مصدر هذه الزفرات المقدسة!

قيثارتي تخضل غالباً بالدموع! وما الدموع للمرء إلا كندى السماء للأرض! وهيهات أن ينضج القلب تحت السماء الصافية! فالكأس المصدوعة يسيل عنها عصير الكروم، والريحان الذابل إذا وطئته قدماك، تَضوَّع شذاه بين خطاك!

خلق الله نفسي من نغمة محرقة، فمن يتصل بها يحترق بلهبها! فيا عجبا لمنحة القدر!! أنا أسرفت في الحب ومن ذلك الإسراف أموت! ما لمست شيئاً قط إلا حال إلى رماد! كذلك رجوم السماء الساقطة على أشجار الخَلنَج، تنطفيء بعد أن تدمر كل شيء!

ولكن العمر! لقد استوفى اجله. . والمجد! آه! وما يعنيني من صدى نغمة باطلة تنتقل من عصر الى عصر، وسمعة كاللعبة البراقة تنحدر من جيل الى جيل؟ أيها الذين وعدهم المجد سلطان الغد! استمعوا الى هذا اللحن الذي يخرج من قيثارتي! هل تجدون لرنينه أثراً في الأذان، بعد ما حمله الهواء الى غير هذا المكان؟!

شهد الله أني منذ حييت لم أذكر هذا الاسم العظيم إلا بإزراء، ولطالما عصرت هذه الكلمة التي أخترعها هذيان الإنسان فلم أجد غير هواء، هنالك لفظتها كما تلفظ الشفتان قشرة يابسة.

في سبيل هذا الأمل الخالب، في هذا المجد الكاذب يرمي الإنسان في مجرى الزمن اسمه وهو عابر، فيلَقفه التيار، وتضعفه الأيام كلما سار، حتى يصير حطاماً تعبث به أمواج الدهر، ثم تحمله على غواربها من عصرٍ الى عصر، حتى تلقي به في لجج النسيان!

أنا كذلك القي اسمي بين تلك الأسماء العائمة، على هذه الأمواج المتلاطمة، ثم اتركه على هوى الرياح والأمطار يطفو ويرسب! فهل يكون بذلك شأني أعظم ومقامي أرفع؟ ولماذا وكل ما هنالك أسم؟! وهل تسأل البجعة الطائرة في جو السماء إذا كان ظلها لا يزال طافيا على أديم هذه الغبراء؟!

تسألني لماذا كنت أغني؟ سل البلبل لماذا تتجاوب أغاريده وأناشيد الجدول طوال الليل؟! أنا أنشد يا صحابي كما يتنفس الإنسان، ويشدو العصفور، ويعزف الهواء، ويخر الماء!

الحب والدعاء والغناء ثلاث تقسَّمن كل حياتي!. . ولم آسُ ساعة الموت على فائت مما يتشوف إليه الناس في دنياهم إلا على زفرة حارة تتصَّعد الى الله، وسكرة طروبة تهبط من القيثار، وصمتة عاشقة تعمق حين يتعانق قلب وقلب!

إن مثولك خاشعاً أمام الجمال تسمع رجفان أوتار المزِْهر، وترى حديث الهوى يمتزج مع أنغامه ويسري في حشاك، وتستقر الدموع من العين المعبودة كما يستقر النسيمأنداء الفجر من الزهرة المطلولة. . .

وترى طافها الشاكي يصَعَّد حزيناً في السماء كأنما يطير مع النغم، ثم يرتد واقعاً عليك وهو بالحرارة العفيفة يجيش، وتبصر من خلال أهدابها المسبلة شعاع نفسها كالنار المضطربة في حالك الليل البهيم. . .

وترى ظلال أفكارها على جبينها الزاهر ترف، والكلام على شفتيها المثقلتين يموت، ثم تسمع بعد هذا الصمت الطويل هذه الكلمة ترن حتى تبلغ أذن الجوزاء! هذه الكلمة، كلمة الآلهة والناس هي: (إني احبك!)

ذلك هو الذي يساوي في الحياة زفرة!!

زفرة!! حسرة!! كلام لا معنى له!

على جناح الموت، روحي تطير إلى السماء! تطير حيث ترى العين شعاع الأمل يضيء! تطير إلى حيث طارت النغمة التي خرجت من مزهري! تطير إلى حيث صعدت جميع زفراتي!.

الإيمان (وهو عين الروح) قد اخترق ظلماتي كما تخترق عين العصفور ما وراء الظلال الحزينة. ثم باحت لي غريزته النبوية بما إستسر من حظي! وكم مرة اقتحمت نفسي آفاق المستقبل حتى بلغت السماء محمولة على أجنحة اللهيب، فتقدمت بذلك الموت! لا تنقشوا اسمي على قبري الكئيب العابس، ولا تثقلوا بالبناء ظلي الخفيف، أن قليلا من الرمل يكفيني! لست وا أسفاه حريصاً ولا غيوراً!. ثم لا تتركوا من الفراغ أمام القبر الا مقدار ما يضع الزائر العابر ركبتيه!

حطموا هذا المزهر وذرُّوا حطامه في الهواء والماء واللهب فانه لم يجاوب أهازيج النفس إلا بنغمة واحدة! أن مزهر الساروفين يرتجف تحت أناملي! وعما قليل أعيش معهم في عالم النغمات، وأقود بقيثارتي ألحان السموات!

وعما قليل!! أن يد الموت الثقيلة قد قطعت الوتر!

انقطع بعد أن أرسل في أمواج الهواء، نغمة شاكية صماء، صمت مزهري البارد يا رفاقي! فخذوا مزاهركم، وأدخلوا نفسي عالم البقاء، بين خفق الأوتار وترجيع الغناء!. .