الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/نوابغ العالم

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 8/نوابغ العالم

بتاريخ: 15 - 5 - 1912


ابن حمديس - كرومل - نابليون بونابرت

ابن حمديس والمعتمد بن عباد

أو صفحة من تاريخ الأندلس

(تابع لما في العدد 5 و 6)

انتهينا فيما أسلفنا القول عليه من ترجمة ابن حمديس إلى وفوده من بلده سرقرسه إحدى مدائن صقلية على المعتمد بن عباد أحد ملوك الطوائف في الأندلس فلا جرم إنا ذاكرون شيئاً عن المعتمد بن عباد هذا لما في الكلام عليه من التبصرة بأحوال ابن حمديس والكلام يدخل بعضه في بعض والحديث شجون والشيء يذكر بالشيء.

ملوك الطوائف

لما انتثر سلك الخلافة الأموية بالأندلس وذلك حين خلع الأجناد آخر خلفاء بني أمية وهو هشام بن محمد الملقب المعتمد بالله سنة 433 قام الطوائف مقام الخلائف وانتزى الأمراء والرؤساء من البربر والعرب والموالي بالجهات واقتسموا خططها وتغلب بعض على بعض حتى استقل آخراً بأمرها ملوك منهم استفحل أمرهم وعظم شأنهم ولاذوا مع ذلك بالجزية للاسبانيين أن يظاهروا عليهم أو يبتزوهم ملكهم وعبروا على ذلك حيناً من الدهر حتى قطع عليهم البحر ملك العدوة وصاحب مراكش لسلطان يوسف بن تاشفين اللمتوني فخلعهم وأخلى منهم الأرض (كما سيمر بك بعد) فمن أشهر هؤلاء الملوك بنو عباد ملوك اشبيلية وغرب الأندلس وبنو جهور الذين استبدوا بقرطبة وبنو الأفطس ملوك بطليوس وبنو النون ملوك طليطلة وباديس ابن حسون ملك غرناطة وألبيرة وابن أبي عامر صاحبه شرق الأندلس وابن صمادح المستقل بالمرية - وقد فطن أدباء ذلك العصر لتأثير هذا التفرق على الأندلس فقال قائلهم (ابن رشيق القيرواني):

مما يزهدني في أرض أندلس ... تلقيت معتضد فيها ومعتمد

ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد

وقال آخر (ابن العسال) لما أخذ الاسبانيون طليطلة من يد بني ذي النون:

حثوا رواحلكم يا أهل أندلس ... فما المقام بها إلا من الغلط السلك ينثر من أطرافه وأرى ... سلك الجزيرة منثوراً من الوسط

من جاور الشر لا يأمن عواقبه ... كيف الحياة مع الحياة في سفط

بنو عباد

وإنما الذي يعنينا القول عليهم الآن هم بنو عباد الذين نبغ منهم المعتمد صاحب ابن حمديس. قالوا: كان بدء أمر بني عباد في الأندلس أن نعيماً وابنه عطافاً أول من دخل إليها من بلاد المشرق وهما من أهل العريش القرية الفاصلة بين الشام ومصر وأقاما متوطنين بقرية بقرب تومين من إقليم طشانة من أرض اشبيلية وامتد لعطاف عمود النسب من الولد إلى الظافر محمد بن إسماعيل القاضي فهو أول من نبغ منهم في تلك البلاد وتقدم بأشبيلية إلى أن ولى القضاء بها فأحسن السياسة مع الرعية والملاطفة بهم فرمقته القلوب. وكان يحيى بن علي بن حمود الحسني المنعوت بالمستعلي صاحب قرطبة وكان مذموم السيرة فتوجه إلى اشبيلية محاصراً لها فلما نزل عليها اجتمع رؤساء اشبيلية وأعيانها وأتو القاضي محمداً وقالوا له أما ترى ما حل بنا من هذا الظالم وما أفسد من أموال الناس فقم بنا نخرج إليه ونملك ونجعل الأمر إليك فقبل ووثبوا على يحيى فقتلوه وتم الأمر للقاضي ثم ملك بعد ذلك قرطبة وغيرها من البلاد وكان من أهل العلم والأدب والمعرفة التامة بتدبير الدول ولم يزل ملكاً مستقلاً إلى أن توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة ثم قام مقامه ولده المعتضد بالله أبو عمرو عباد. قال صاحب الذخيرة ثم أفضى الأمر إلى عباد قطب رحى الفتنة، ومنتهي غاية المحنة، ناهيك من رجل لم يثبت له قائم ولا حصيد، ولا يسلم منه قريب ولا بعيد، جبار أبرم الأمر وهو متناقض وأسد فرس الطلا وهو رابض، متهور يتحاماه الدهاة، وجبان لا تأمنه الكماة متعسف اهتدى، ومنبتّ قطع فما أبقى. ثار والناس حرب وضبط شأنه بين قائم وقاعد حتى طالت يده، واتسع بلده، وكثر عديده وعدده، وكان قد أوتي من جمال الصورة وتمام الخلقة وفخامة الهيئة وبساطة البنان وثقوب الذهن وحضور الخاطر وصدق الحدس ما فاق على نظرائه ونظر مع ذلك في الأدب قبل ميل الهوى به إلى طلب السلطان أدنى نظر بأذكى طبع حصل منه لثقوب ذهنه على قطعة وافرة علقها من غير تعمد لها ولا أنعام النظر في غمارها. ولا إكثار من مطالعتها. ولا منافسة في اقتناء صحائفها. أعطته سجيته ما شاء من تحبير الكلام وقرض قطع من الشعر ذات طلاوة في معان أمدته فيها الطبيعة وبلغ فيها الإرادة واكتتبها الأدباء للبراعة جمع للبراعة جمع هذه الخلال الظاهرة إلى جود كف باري السحاب بها. ومن شعره:

شربنا وجفن الليل يغسل كحله ... بماء صباح والنسيم رقيق

معتقة كالتبر أما بخارها ... فضخم وأما جسمها فدقيق

ولم يزل في عز سلطانه واغتنام مساره حتى أصابته علة الذبحة فمات بها سنة إحدى وستين وأربعمائة فقام بالمملكة بعده ولده المعتمد على الله أبو القاسم محمد.

قال ابن القطاع فيه أنه أندى ملوك الأندلس راحة، وأرحبهم ساحة. وأعظمهم ثماداً. وأرفعهم عماداً. ولذلك كانت حضرته ملقى الرحال. وموسم الشعراء وقبلة الآمال. ومألف الفضلاء. حتى أنه لم يجتمع بباب أحد من ملوك عصره من أعيان الشعراء وأفاضل الأدباء ما كان يجتمع ببابه. وتشتمل عليه حاشيتا جنابه - ولقد صدق ابن القطاع فقد كان من شعرائه الوزير ابن عمار وابن اللبانة. وأبو بكر الداني وكلهم من فحول الأندلس وضرب له البحر من صقلية صاحبنا ابن حمديس وأبو العرب مصعب بن محمد بن أبي الفرات القرشي الزبيري الصقلي الشاعر بعد أن بعث إليه ابن عباد خمسمائة دينار يتجهز بها ويتوجه إليه وكذلك بعث إلى أبي الحسن الحصري القيرواني الشاعر صاحب الأبيات المشهورة التي أولها:

يا ليل الصب متى غده ... أقيام الساعة موعده

رقد السمار فارَّقه ... أسف للبين يردده

والتي وازنها أمير الشعراء لعهدنا أحمد بك شوقي بأبيات أولها:

مضناك جفاه مرقده ... وبكاه ورحم عوده

ووازنها أحد المتقدمين بقوله:

قد مل مريضك عوده ... ورثي لاسيرك جسده

لم يبق جفاك سوى نفس ... زفرات الشوق تصعده

هاروت يعنعن فن السحـ - ـر إلى عينيك ويسنده

وإذا أغمدت اللحظ فتكـ - ـت فكيف وأنت تجرده

كم سهل خدك وجه رضى ... والحاجب منك يعقده ما أشرك فيك القلب فلم ... في نار الهجر تخلده

نعم وكان ابن عباد نفسه شاعراً بل كانت جواريه شواعر بل كان المكان نفسه قصيداً من الشعر. تلك هي الأندلس التي كانت فردوس هذه الأرض كما كانت أيامها ربيع الدهر

سلام ترجف الأحشاء منه ... على الحسن بن وهب والعراق

على البلد الحبيب إليّ غورا ... ونجداً والأخ العذب المذاق

ليالي نحن في وسنات عيش ... كأن الدهر عنا في وثاق

وأيام لنا وله لِدَان ... عريناً من حواشيها الرقاق

لقد انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام

  • * *

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر

ولعمري لقد اخطأ من قال إن علة ضياع الأندلس تفشي الأدب والشعر بين أهليها وإنما هو أستغفر الله خطأ الأقدار، وتقلب الليل بالناس والنهار، وإلا فقد ملك الأندلس بعد هذا العهد الشاعر. الرجل الجد الوعر المقادة يوسف بن تاشفين صاحب مرّاكش ثم دولة الموحدين وبقيت بأيدي المسلمين بعد ذلك العهد نيفاً وثلثمائة سنة نبغ في خلالها الفلاسفة والأطباء والكيماويون والمخترعون والمكتشفون مثل ابن رشد وابن الطفيل وبني زهر (أبي العلاء وأبي مروان وأبي بكر) وأبي القاسم الزهراوي وأبي القاسم عباس بن فرناس أول من اخترع الطيران وأولئك الأخوة الذين ركبوا بحر الظلمات (المحيط الأطلانطيقي) ليبحثوا عن أرض غير هذه الأرض - وقد كان للمسلمين الأساطيل العظام، والجواري المنشآت في البحر كالأعلام، حين كانت أوربة أمماً موحشة لا أثر للعلم والمدنية بين ربوعها ولكن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده.

شعر ابن حمديس في الأندلس

ففي هذه البيئة التي كلها شعر وكل من فيها شاعر ملوكها ووزراؤها ونساؤها وأرضها وسماؤها وقصورها وأنهارها قال ابن حمديس أكثر شعره وأجزله وأبرعه ذلك الشعر الواضح الجلي اللطيف المسلك إلى النفوس الحسن الموقع من القلوب لأنه لغة الطبيعة إذ هي التي أنطقته ولكن ليس كلٌّ تنطق الطبيعة وإنما هي تنطق من يعرف ألجانها ويفهم معانيها وليس يفهم معانيها إلا الألمعي الذكي الطبع الصافي الحسن الصحيح الوجدان مثل شاعرنا ابن حمديس - نقول في هذه البيئة التي كلها شاعر. أما البيآت المفحمة أو الجامدة أو الناطقة الصامتة الناطقة بضوضائها وقعقعة عرباتها الشتى الصنوف وأصوات الانتخاب ومجالس الشورى وأكاذيب السياسيين وعويل الصحف السياسية وراء هؤلاء كما تعول الأجراء الخائفة وراء الذئاب. والصامتة بصموت ملوكها عن رفد أهل النبوغ والتفرد، وإظّهار أغنيائها أياهم حتى كأنهم هم العقلاء والنابغة هو المجنون الأوحد، وصموت أبنائها إلا عن تعقبهم وقذعهم القذع القعد، وجهل نسائها الهاوي بهن إلى الحضيض الأوهد، فأن مثل هذه البيآت لا جزم تخمد فيها القرائح وتموت الهمم وتَبلّد القلوب ولا تنطق لعمري شاعراً ولا نصف شاعر كما قال الحكيم المعري أبو العلاء:

نلوم على تبلدها قلوباً ... تعاني من معيشتها جهادا

إذا ما النار لم تطعم وقوداً ... فأوشك أن تمر بها رمادا

نموذج من شعر ابن حمديس

أسلفنا أن ابن حمديس وفد إلى الأندلس على المعتمد بن عباد سنة إحدى وسبعين وأربعمائة بعد أن ملك صقلية روجر النورمندي وأن ذلك أي انفصاله عن وطنه وضياع استقلاله نال منه وأحفظه على الأيام. وقد يذكر القارئ كلمته المشهورة التي يتشوق بها صقلية بعد فراقه إياها وفيها يقول:

ذكرت صقلية والأسى ... يجدد للنفس تذكارها

فإن كنت أخرجت من جنة ... فأني أحدث أخبارها

ولولا ملوحة ماء البكا - ء حسبت دموعي أنهارها

ولم يقف به ال عند ذلك بل أخذ يحض قومه على جهاد الروم النورمنديين ويرسل إلى قواد صقلية بالمدح يذكرهم فيها بواجبهم ويمدح ملوك المسلمين في الأندلس وأفريقية لا استجداء واسترفاداً ولكن حثاً لهم على الجهاد والحروب فمن قوله يحث قومه على جهاد الروم:

بني الثغر لستم في الوغى من بني أمي ... إذا لم أصل بالعرب منكم على العجم

دعوا النوم أني خائف أن تدوسكم ... دواه وأنتم في الأماني مع الحلم

وردوا وجوه الخيل نمو كريهة ... مصرحة في الروم بالثكل واليتم إلى أن يقول:

ولله أرض إن عدمتم هواءها ... فأهواكم في الأرض منثورة النظم

وعزكم يفضي إلى الذل والنوى ... من البين ترمي الشمل منكم بما ترمي

وإن بلاد الناس ليست بلادكم ... ولا جارها والحكم كالجار والحكم

ومن قوله يمدح القائد مهيب بن عبد الحكم الصقلي:

أسد الروع الذي حملاقه ... ترسل اللحظة موتاً فيهاب

  • * *

في جهاد قرن الله به ... عنده الزلفى إلى حسن المآب

كم بأرض الشرك من معمورة ... أصبحت من غزوه وهي تباب

في أساطيل ترى في أحشائها ... لبنات الروم فيهم انتحاب

وقال يتمدح بأهل بلده:

ولله أرضى التي لم تزل ... كناس الظباء وغيل الأسود

فمن شادت بابلي الجفون ... نفور الوصال أنيس الصدود

  • * *

ومن قسور شائك البرثنين ... له لبدة سردت من حديد

يصول بمثل لسان الشواظ ... فيولغه في نجيع الوريد

زبانية خلقوا للحروب ... يشبون نيرانها بالوقود

ومن قوله يمدح أبا الحسن علي بن يحيى في وصف أساطيله:

ترمي بنفط كيف يبقى لفحه ... والشم منه محرق الأكباد

وكأنما فيها دخان صواعق ... ملئت من الإبراق والإرعاد

وهذه كانت أساطيل أسلاف أهل طرابلس وتونس والجزائر في القرن الثاني عشر فأين أساطيل أخلافهم في القرن العشرين! وقال يذكر صقلية وأهل بلده:

أرى بلدي قد سامه الروم ذلة ... وكان بقومي عزه متقاعساً

وكانت بلاد الكفر تلبس خوفه ... فأضحى لذاك الخوف منهن لابسا

عدمت أسوداً منهم عربية ... ترى بين أيديها العلوج فرائسا إلى أن يقول:

أما ملئت عرراً قلورية بهم ... وأردوا بطارقه بها واشاوسا

هم فتحوا إغلاقها بسيوفهم ... وهم تركوا الأنوار فيها حنادسا

وساقوا أبأيدي السبي بيضا حواسرا ... تخال عليهن الشعور برانسا

يخوضون بحراً كل حين إليهم ... ببحر يكون الموج فيه فوارسا

بحريية ترمي بمحرق نفطها ... فيخشى سعوط الموت فيها المعاطسا

تراهن في حمر اللبود وصفرها ... كمثل بنات الزنج زفت عرائساً

فأنت ترى أن ابن حمديس لم تلهه الأندلس وما فيها من رخاء ونعماء عن شؤون بلده والعمل على إخراج الروم النرمنديين منها وهكذا الشاعر الصادق فآية صدقه أن يكون تألمه ببنات الدهور، كالتذاذه ببنات الكرم والبنات الحور، فيكون شعوره بالألم واللذة والحسن والقبح وما إلى ذلك قوياً متفوقاً على شعور سائر الناس وإلا فإنه لا جرم غير شاعر - نقول أن ابن حمديس لم تشغله الأندلس ونعماؤها عن النظر في حال بلده وقول الشاعر الحماسي يحرض به قومه وملوك المسلمين على الجهاد ومطاردة الروم النرمنديين من بلاد الإسلام ولكن الشاعر كالمرآة الصافية تنعكس فيها الأشياء فتريكها كما هي أو كالماء يتلون لك بلون إنائه فكأنما ترى الإناء لا الماء فكان ابن حمديس إذا ذكر ما أصاب بلده هاج كما يهيج البركان وقال الشعر الحماسي الذي يهتاج الأفئدة ويثير الحمية ويحرك النفوس إلى الهيجاء كما تحركهن الموسيقى في هذه العصور والذي ذكرنا لك نموذجاً منه آنفاً وإذا أخذت عينه منظراً طبيعياً أخاذاً للنفوس مثل نهر من نهار الأندلس قال ما يحيل سمعك بصراً مثل قوله:

ومطرد الأجزاء يصقل متنه ... صبا أعلنت للعين ما في ضميره

جريح بأطراف الحصى كلما جرى ... عليها شكى أوجاعه بخريره

كأن جباناً ريع تحت حبابه ... فأقبل يلقى نفسه في غديره

كأن الدجى خط المجرة بيننا ... وقد كالت حافاته ببدوره

شربنا على حافاته دون سكرة ... نقبل شكراً منه عيني مديره

وإذا رأى قصراً من قصور الأندلس تلك التي كانت آية في الإتقان والزخرف والزينة قال يصف بركة تجري إليها المياه من شاذوران من أفواه طيور وزرافات وأسود

والماء منه سبائك من فضة ... ذابت على درجات شاذروان

وكأنما سيف هناك مشطب ... ألقته يوم الحرّ كف جبان

كم شاخص فيه يطيل تعجبا ... من دوحة نبتت من العقيان

عجباً لها تسقى الرياض ينابعاً ... نبعت من الثمرات والأغصان

خصت بطائرة على فنن لها ... حسنت فأفرد حسنها من ثاني

قس الطيور الخاشعات بلاغة ... وفصاحة من منطق وبيان

فإذا أتيح لها الكلام تكلمت ... بخرير ماء دائم الهملان

وكأن صانعها استبد بصنعه ... فخر الجماد بها على الحيوان

أوفت على حوض لها فكأنها ... منها على العجب العجاب رواني

فكأنها ظنت حلاوة مائها ... شهدا فذاقته بكل لسان

وزرافة في الجو من أنبوبها ... ماء يريك الجري في الطيران

مركوزة كالرمخ حيث تري له ... من طعنة الحلق انعطاف سنان

وكأنها ترمي السماء ببندق ... مستنبط من لؤلؤ وجمان

لو عاد ذاك الماء نفطاً أحرقت ... في الجو منه قميص كل عنان

في بركة قامت علي حافاتها ... أسد تذل لعزة السلطان

ترعت إلى ظلم النفوس نفوسها ... فلذلك انتزعت من الأبدان

وكأن برد الماء منها مطفئ ... ناراً مضرجة من العدوان

وكأنما الحيات من أفواهها ... يطرحن أنفسهن في الغدران

ومثل قصيدته التي ذكرناها في العدد 5 و 6 وفيها يقول وهو مما لم يذكر ثمت

قصر لو أنك قد كحلت بنوره ... أعمى لعاد إلى المقام بصيرا

واشتق من معنى الجنان نسيمه ... فيكاد يحدث بالعظام نشورا

نسي الصبيح مع الفصيح بذكره ... وسما ففاق خورنقا وسديرا

لو أن بالإيوان قوبل حسنه ... ما كان شيئاً عنده مذكورا

أعيت مصانعه على الفرس الألى ... رفعوا البناء واحكموا التدبيرا ومضت على الروم الدهور وما بنوا ... لملوكهم شبهاً وله ونظيرا

أذكرتنا الفردوس حين أرتنا ... غرفاً رفعت بناءها وقصورا

فالمحسنون تزيدوا أعمالهم ... ورجوا بذلك جنة وحريرا

والمذنبون هدوا الصراط وكفرت ... حسناتهم لذنوبهم تكفيرا

أبصرته فرأيت أبدع منظر ... ثم انثنيت بناظري محسورا

فظننت أني حالم في جنة ... لما رأيت الملك فيه كبيرا

وإذا الولائد فتحت أبوابه ... جعلت ترحب بالعفاة صريرا

عضت على حلقاتهن ضراغم ... فغرت بها أفواهها تكبيرا

فكأنها لبدت لتهصر عندها ... من لم يكن بدخولها مأمورا

تجري الخواطر مطلقات أعنة ... فيه فتكبو عن مداه قصورا

بمرخم الساحات تحسب أنه ... فرش المها وتوشح الكافورا

ومحصب بالدر تحسب ثربه ... مسكا تضوع نشره وعبيرا

تستخلف الأبصار منه إذا أتى ... صبحاً على غسق الظلام منيرا

وإذا سمع مزهراً قال وأصار مسمعيك أربعاً تسمع بها مزهرين لا واحداً

في حجره أجوف له عنق ... نبطت بظهر تخاله حدبه

يمد كفاً إليه ضاربة ... أعناق أحزاننا إذا ضربه

قلت إلا فانظروا إلى عجب ... جاء بسحر ناطق الخشبه

وإذا نكب في صاحب له كما نكب في صاحبه المعتمد بن عباد بزوال ملكه وخلعه وسجنه قال وصور له الصدق والوفاء في أحسن صورة

ولما رحلتم بالندى في أكفّكم ... وقلقل رضوي منكم وثبير

رفعت لساني بالقيامة قد دنت ... فهذي الجبال الراسيات تسير

إلى أبيات أخرى ستمر بك عند الكلام على بقية تاريخ المعتمد بن عباد والمترجم به. وإذا ثكل عزيزاً عليه كما ثكل الشاعر جارية له أخذها منه البحر قال وأسأل مدمعيك:

وواحشتاً من فراق مؤنسة ... يميتني ذكرها ويحييها

أذكرها والدموع تسبقني ... كأنني للأسى أجاريها جوهرة كان خاطري صدفاً ... لها أقيها به وأحميها

يا بحر أرخصت غير مكترث ... من كنت لا للبياع أغليها

أبتها في حشاك مغرقة ... وبث في ساحليك أبكيها

ونفخة الطيب في ذوائبها ... وصبغة الكحل في مآقيها

عانقها الموت ثم فارقها ... عن ضمة فاض روحها فيها

ويلي من الماء والتراب ومن ... أحكام ندين حكماً فيها

أماتها ذا وذاك غيرها ... كيف من العنصرين أفديها

وقال في حزنه مثل هذا:

ويا ريح أما مريت الحيا ... ورويت منه الربوع الظماء

فسوقي إليّ جهام السحاب ... لاملأهن من الدمع ماء

وقالفي صفة خسوف القمر ما يضؤل بجانبه مجهر الراصد:

والبدر قد ذهب الخسوف بنوره ... في ليلة جسرت أواخر مدها

فكأنه مرآة قين أحميت ... فمشي أحرار النار في مسودها

وقال في باب اللهو مثل قوله:

قم هاتها من كف ذات الوشاح ... فقد نعي الليل بشير الصباح

باكر إلى اللذات واركب لها ... سوابق اللهو ذوات المراح

من قبل أن ترشف شمس الضحى ... ريق الغوادي من ثغور الأقاح

وفي باب النسيب

زادت على كحل الجفون تكحلا ... ويسم نصل السهم وهو قتول

ومثل

لا تنكري أنك حورية ... روائح الجنة نمت عليك

للكلام بقية وفيها سائر شعر ابن حمديس وترجمته وترجمة المعتمد وفصل في فرق ما بين شعر الأندلسيين وشعر المشارقة.