الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 61/سعد زغلول

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 61/سعد زغلول

بتاريخ: 1 - 10 - 1921

بطل مصر العظيم


سعد زغلول

إنما ألهم الناس أن يعينوا هذا البطل نائبا عنهم لأن الله سبحانه وتعإلى كان قبل ذلك قد اجتباه واختاره وعينه ناصرا ومؤيدا لحقيقة من الحقائق الكبرى وتاجرا مروجا لها عن تمام اعتقاد لها في أعماق نفسه بحيث يتجلى لأشد معارضيه وألد خصومه إنهم إنما يطاولون الطود الشامخ الباذخ ويساجلون التيار الدافق الزاخر وأنهم وإياه.

كناطح صخرة يوما ليفلقها ... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

أجل يتجلى لأهل المراء والمعاندة أن أمامهم صخرة تتفتت عليها بددا وترفض دونها هباء هجمات القحة وحملات الاعتداء من أحزاب المروق والفسوق، فلا جرم أن تصبح هذه الصخرة الصلدة محل ثقتنا واعتمادنا، وأن يكون بذروة هذا الجبل الأشم اللائم بذؤابته أشعة كوكب الحرية مناط أمانينا وآمالنا، وأن تكون ثقتنا به بعد ذلك عمياء فلا يسأل عما يفعل إذا كانت روحه خلاصة أرواحنا ونفسه صورة مؤلفة من مجموع نفوسنا، وكان هوذاته الوطن الذي يمثله وهوعنوان آرائنا ومبادئنا ونزعاتنا وعواطفنا يمثلها في صفحته الناصعة النقية أبين تمثيل وأصدقه وأبرأه من شوائب الأغراض والغايات وغبار التهم والشكوك والشبهات. فلا يعد عجيبا أن يجعله الشعب مقياس شعوره والمرآة التي يستبين في صفحتها صورة المثل الأعلى من الهمة والواجب فيتخذها القدوة يصلح من نفسه احتذاء لمثالها وطبعا على غرارها ليشبهها ويحكيها. وهنيئا لهذا الشعب الذي اختار من ذلك البطل رجلا جزلا شديدا. صلبا جليدا. وليس كبعض الناس خيالا أجوف وشبحا فارغا تنفذ فيه اليد ولا تراه العين.

إن من أبين الأدلة على بطولة سعد استغناءه بنفسه واستقلاله بذاته. وتلك شيمة الرجولة وآية البطولة. إن سعدا لهوالكنز الثمين والذخر العتيد والغنى الواسع والثراء العريض حتى لقد يستحيل على الذهن أن يتصوره بحالة ضعف أووهن أوعجز أوخور أواستكانة أواستخذاء أوذلة أومسكنة أواحتياج إلى معونة ناصر أومساعدة عضد مؤازر أوافتقار إلى أنس أنيس. أومسامرة جليس. ومحال أن يتمثل للوهم وكأنه وحيد أومستوحش أوفقير أومعسر أوشقي بائس. أوقانط يائس. أوحزين مغموم. أومطرق مهموم. بل إن الذهن البشري لا يستطيع أن يتخيله فخما ضخما جليلا جبارا متكبرا عزيز الجانب حمي الأنف متحفزا طماحا مستعليا على الأقران غلابا للخصوم مفراحا ممراحا جذلان مستبشرا طروبا. طلق الجبين تخاله كوكبا مشبوبا ثم تراه فوق ذلك كله راسي الأساس راسخ القواعد موطد الأركان ثابت الدعائم لا تزعزعه الكوارب الكوارث، ولا تزلزل منه مفظعات الخطوط والحوادث.

وأي قوة في الأرض تستطيع أن تهز من ذلك الرجل العظيم وقد تشبع بأقدس فكرة وجاش قلبه بأكبر أمنية، بل أي غطرسة من جبابرة الأرض تستطيع أن تكف من غربه أوتفل من حده بعد ما تمطر منه في حلبة الجهاد أعتق جواد سباح. وحلق منه في سماء النهضة الشماء أجرأ نسر طماح. وماذا تبتغي فئة المعارضة والمعاندة وطائفة الهزيمة والخذلان والذل والعار - ماذا تبتغي الفئة الضالة الآثمة من رفع أصواتهم بسخف القول وهذيانه. أيحسبون أن صرير الجنادب سيبلغ مسامع من قد استحوذت على مشاعره نشوة ملائكية من رحيق الحرية المقدس، لقد ارتفع البطل العظيم فوق منال تلك الأصوات الخبيثة منذ تناول الكأس الإلهية المصنوعة من ندى أجنحة الملائكة فانتهج في مراقي العلياء ذلك المنهج الذي سلكه من قبله محرروالشعوب ومخلصوالأمم وبات ينتعل الفرقدين ويطأ بأخمصيه المجرة والسهى.

لا غروأن يصبح سعد بعدما أفعم صدره بفكرة الاستقلال الملتهبة ولعبت برأسه سورة الكأس المقدسة ورنحت نشوتها أعطافه قد اقتحم كل عقبة واستسهل كل صعوبة في سبيل الحرية.

فمضى يعسف النجاء كما زل ... ل من المنجنيق مردى رجام

أوكما انقض كوكب أوكما ط ... ارت من البرق شقة في غمام

واضعا نصب عينيه الغرض الأشرف الأسمى يدوس بنعليه كلما يعترضه في سبيله المجيد من كيد أودسيسة أوتخويف أوتهديد بل لا يبالي نفيا ولا حرمانا ولا تجريدا ولا سجنا ولا جوعا ولا ظمأ ولا عريا ولا جميع آلات التعذيب والتمثيل مما هوشر مساوئ عهود الإرهاب والعصور المظلمة - كل ذلك جدير أن يتلقاه سعد ساكن الجأش منشرح الصدر باسم الثغر لأن روحه العالية الكبيرة تأبى إلا أن تستخف بهذه العقوبات إزاء غرضها الشريف الأنبل فتنعدم في نظرها هذه الآفات كما تنهزم جحافل الظلماء أمام أسنة الأشعة المشرقة بل ما أجدر روحه العظيمة أن تستلذ آلام تلك الفظائع في سبيل الواجب المقدس ومازال أبطال الحرية من أقدم الأزمان إذا نزل أحدهم من بطن أمه أخذ أخصر طريق إلى موقف مناوأة الظلمة الجبابرة الطغاة ثم أخذ أقصر طريق من هذا الموقف إلى المشنقة أوالمقصلة أوسيف الجلاد ثم تراه يتهافت على الموت كأنه ألذ متعة النفس وأشهى أمنية الروح، ولا بدع أن يفرح الأبطال بالموت إذا وجدوا الحياة شرا من الموت.

أبوأن يذوقوا العيش والذم واقع ... عليه فماتوا ميتة لم تذم

دعاها الردى بعد الردى فتتابع ... تتابع منبت الفريد المنظم

ومن كانت هذه درجته من البطولة كان حريا أن لا يقشعر جلده الرقيق من أفظع آلات التعذيب وأن لا تروعه النار المحرقة، واللجة المغرقة. والعقدة المزهقة ولا السيف المشهور. والكفن المنشور. واللحد المحفور. وقد روي عن القس المتورع (أنتوني بارسونر) من أفراد الملة البيوريتانية الإنكليزية أنه لما قدمه جبابرة الكاثوليك للنيران فدنا منه لهيبا تناول قشا من بين يديه فوضعه على رأسه ليكون أسرع لسريان النار ثم قال (هذه قلنسوة الله).

وكذلك ترى إن أس البطولة هوالثبات على المبدأ وما رأينا ولا سمعنا بمن بذ سعدا في هذه الفضيلة. لقد رأينا من كان حوله يتلونون كل ساعة لونا ويتشكلون كل برهة شكلا تأثرا بالأهواء والمطامع وحرصا على إرضاء بعض الأفراد أومتابعة الجماهير. والحرص على إرضاء الأفراد ومتابعة الجماهير مناف للبطولة بل هوعكس البطولة ونقيضها إذ هوالخور والضعف المبين بينما البطولة هي القوة العظمى. هذا ومتابعتك الغيرة دليل على فرط حاجتك إلى تأييدهم إياك ومساندتهم لك عطفهم عليك. واحتياجك إلى مثل هذا من الغير دليل على ضعفك وعجزك عن القيام على قاعدتك وأساسك. والرجل العظيم متى اقتنع بصحة رأيه وصلاح فكرته نفذها بلا أدنى اهتمام بآراء الغير بل نفذها على اعتبار أنه هووحده الحي العائش على ظهر المعمور وإن كل من حوله من أناس ليسوا سوى أحلام وأوهام. فإن شئت أن تكون رجلا وتكتب في سجل البطولة فنفذ فكرتك وامض عزمتك والزم مذهبك واثبت على مبدئك وإذا حمل ذلك الناس على الضجيج من حولك استنكارا لك واغتياظا منك فزدهم غيظا وكربا باستمرارك على خطتك وتماديك في منهاجك. وهنأ نفسك أعظم التهنئة على أنك أتيت شيئا عجابا وأمرا مستغربا مخالفا للمتبع والمألوف خارقا للعادة لأنك قد ارتفعت بهذا عن مستوى جيلك السخيف البليد المغفل الأعمى المرين على بصره المطبوع على قلبه الراسف في أغلال المذاهب السخيفة الغبية. وقيود المبادئ القديمة الرجعية. ولقد روي أن فتى جاء مرة شيخه يستنصحه في أمر قد هم به ولكنه يخشى عاقبته فقال له الشيخ نصيحتي إليك يا بني أن تفعل أبدا كل ما تخشاه وتخاف عاقبته.

وكذلك يتضح أن البطل لا يتزعزع ولا يتزحزح ولا يستمال ولا يستدرج ولا يرشى ولا يباع ولا يشترى. أجل إن الروح العظيمة لا تبيع استقلالها وعظمتها وشرفها فهي لا يهمها طعام هنيء. ولا شراب شهي. ولا لباس بهي. ولا مهاد وطي. ولا وثار طري. إذ كان سر العظمة ولبابها هوفي الافتنلع بأن الفضيلة حسبها والمجد غايتها.

ما سرها اللؤم والغضارة في العي ... ش بديلا بالمجد والقشف

وقد ما عرف عن العظمة أن الفقر حليتها والزهد تاجها. وأنها ما سرتها قط المكاسب والمغانم. ولا ساءتها الخسائر والمغارم.

ولست بمفراح إذ الدهر سرني ... ولا جزع من صرفه المتقلب

كلا بلوت فلا النعماء تبصرني ... ولا تخشعت من لأوائه جزعا

ونحن لا نزال نرى البطولة تستحي أن تباشر اللذات الجثمانية والشهوات المادية حتى لتود لوتجردت من حواسها وتخلصت من بدنها. فهي من باب أولى حرية أن تحتقر مظاهر التنعم والترف. والبذخ والسرف. وهل رأيت أوسمعت قط ببطل يعنى بقيافته وهندامه، أوبحليته ووسامه. أويعلق أدنى أهمية على ألوان خوانه. أوألوان ردائه وطيلسانه. أويكاد يختنق غما إذا أتاه طباخه بالمسلوقة بدل القلية. أويهم أن ينتحر هما إذا حرم علاوة أودرجة في الميزانية. أويجعل همه من الدنيا محظية أو (أبعدية)، أو (بسكويتا)، أو (بنكنوتا) أوشهادة رئيس كذوب. أوابتسامة مومس خلوب. كلا ما كان ذلك قط من شيمة الأبطال ولا من شيمة سعد وحاشى لسعد وهو البطل العظيم أن يسف لأمثال هذه الحقائر مثلما يسف إليها أقوام تحككوا فيه كذبا وبهتانا، وانضموا إليه زورا وعدوانا فحسبوا وهم الأصفار النوكى. والأحراض الهلكي. إنهم بفضل ما انعكس عليهم من سنا نوره الوضاء سيخدعون الناس عن حقائقهم فيوهمونهم أنهم المشرقون الييرون - وأنهم للمضلمون المعتمون. أجل إنا لا ننسى ما قد تسفل إليه أولئك الأصفار من حقائر الأغراض يوم كانوا مع سعد اثقالا على عنقه وأعباء على عاتقه وأغلالا وآفات ومصائب وهم يوهمون الناس أنهم أنصاره وأعوانه. وإخوانه وخلانه.

ولكن البطل سعدا لا يحفل بأولئك الأصفار فإنهم كالأصفار عن شمال كميته الإيجابية لا قيمة لهم معه ولا يحدثون في مقداره الهائل العديم الحد زيادة ولا نقصانا وإن كنت شخصيا أميل إلى الاعتقاد بأنه بعد انفصالهم عنه قد صار أعظم وأكبر. وأصبحت كميته أوفر وأكثر.

ومن كان يحسب أن خبائث أولئك الغادرين وسخائف غيرهم من الخونة المارقين وعواء سواهم من الحمقى المأفونين تثير غضبة سعد أوتكدر صفاءه فلينفينا هذا الوهم من خاطره وليعلمن أن بطولة سعد تأبى عليه أن يقابل هذه الحماقات والسخافات وهذه النذالة والسفالة إلا بمنتهى الاستخفاف والهزء والضحك. وقد ما كان الضحك والميل إلى المزاح والمعابثة من أروع سجايا البطولة. ومازالت صحف التاريخ تعرض عليك الأبطال في ساعة الروع وأزمة الهول والبلاء أشرح ما يكونون صدرا. وأرخى بالا وأبسم ثغرا. والأدلة التاريخية على ذلك أكثر من أن تحصى. نورد لك من بينها موقف سقراط ساعة إعدامه وأمازيح سير توماس مور وهوعلى المشنقة. وقول حلحلة الفزاري وسعيد بن أبان الفزاري. فإن عهد الملك بن مروان لما أحضرهما ليقيد منهما قال لحلحلة (صبرا) فقال حلحلة أي والله.

أصبر من ذي ضاغط عركرك ... ألقى بواني صدره للمبرك

ثم التفت للجلاد (وكان صاحب الثار) فقال له أحد الضرب فإني والله ضربت أباك ضرب أسلحته فعددت النجوم في سلحته. ثم نظر عبد الملك إلى سعيد بن أبان فقال له (صبرا سعيد) فقال إي والله.

اصبر من عود بجنبيه الجلب ... قد أثر البطان فيه والحقب

ونذكر أيضاً من هذا القبيل قول وكيع بن أبي الأسود فإنه لما يأس منه خرج الطبيب من عنده فقال لابنه محمد إنه لا يصلى الظهر فقال له أبوه ما قال المعلوج فقال وعد أنك تبرأ فقال وكيع أسألك بحقي عليك إلا ما خبرتني بالحقيقة. فقال ذكر أنك لا تصلى الظهر قال ويلي على ابن الخبيثة والله لوكانت في شدقي للكتها إلى العصر.

ومن هذا الباب أيضاً ما جاء في مأساة (السياحة البحرية) للشاعرين الجليلين الإنكليزيين (بومون) و (فلتشر) على لسان (جوليتا) والقبطان البطل وزمرته الشجعان.

جوليتا: ويحكم أيهم المتمردون. أما علمتم أن في استطاعتنا إعدامكم؟

القبطان: بلى. وأنت أما علمت أن في استطاعتنا أن ننعدم ونهزأ بك ونحتقرك.

هذه - وأبيك - أجوبة محكمة. صادرة عن أفئدة مضرمة. وكلمات مأثورة نقطة فائضة من أرواح كبيرة. قد أصبحت لفرط عظمتها تستهين بالعروش والتيجان. والسطوة والسلطان. وتلهو بالمحن العظام. والكرب الجسام. وتلعب والخطب مشمر من ثيابه. وتضحك والموت كاشر عن نابه. وقد ما كان الضحك زهرة الفطرة السليمة. واللعب ثمرة الشيمة القويمة. ولا بدع فأجسم حوادث الدهر وكوارث الزمن أحقر في عين البطل وأضأل من تثير خاطره وتكدر صفو باله. فالحق عنده والواجب أن تكون الحياة كلها عيدا وعرسا وأن تصدر منه أعماله الكبار. وكأنها النغم الرخيم منبعثا عن الأوتار. أو كأغاريد البلابل والقمارى. حتى ولو كانت هذه الأعمال هي تقويض دولة الأشرار. وثل عروش الجبروت والفجار. وتطهير أديم الأرض مما قد لوثه من خبائث الطغاة. وإنقاذ العالم مما قد جثم على متنفسه وشد خناقه من جرائم الظلمة والعتاة. ونحن ما زلنا نرى العظيم في كل زمان أومكان ينبذ النواميس المتبعة والتقاليد المألوفة ظهريا منتهج سبيل غريزته. ممثلا دوره المجهول عليه بفطرته. أصم عن العازلين معرضا عن المعارضين جاعلا تحت قدمه ودبر أذنه صيحة الساخطين. وصرخة الناقمين. فلو استطعت أن تجمع في مخيلتك أبطال العالم وعظماء الدهر منذ بدأ الخليقة فتستشف ثمت حقائقهم وأكناههم إذن لبدوا لعين بصيرتك كأنهم صبية يلعبون وغلمة يمرحون ويعبثون. وإن بدوا لأعين الجماهير متلفعين أردية الجد والتوقير. متسربلين حلل الأبهة والنفوذ والتدبير.

قد تصادف في كل مليون إنسان واحدا تستبيك منه شيم أحلى من المدام. وأشجى من الأنغام. وأشهى من المنى والأحلام. وتستصبيك منه شمائل. أرق من الأصباء والشمائل: في أريحية كما اهتز الجسم. ولوذعية مثلما ائتج الضرام فإذا بحثت عن سر هذا التفوق والنبوغ ألفيته الشذوذ عن مألوف العادات. ومحترم السخافات. وما يعظمه الجمهور من مشروع الأضاليل. ومقدس الأكاذيب والأباطيل.

وكذلك شيمة البطل العظيم سعد وهذه شمائله وتلك أخلاقه وهوذلك الفذ الأوحد الفريد النادر المثال المنقطع القرين الذي لا ترى في الملايين نده ونظيره ولا يجود لك كل جيل بمثله. وهواللغز الدقيق لا تدرك منه الأفكار إلا القشور والكوكب النائي القصي لا تنظر الأبصار منه غير النور، وسائره محجوب مغيب عن الأفهام والأوهام مختبأ في ثنايا عظمته المهيبة. وغضون بطولته الوعرة الرهيبة. ومتى البطل للجماهير مفهوما. وللجماعات مدركا معلوما. ومع خضوع أوروبا لنابليون وانقيادهم لأدنى لفظة من لسانه وإشارة من بنانه هل كانت تدرك حقيقة سره. أم استطاعت أن تحل لغزا وتكشف مكنون أمره؟ وهل استطاع الناس أن يفهموا قيصر وهانيبال وتيمورلينك وكولومبس ولوثر وغاليلوإلا بعد أن نفض لهم التاريخ من كل جعبته. ومحض حقيقته. وكذلك شأن سعد بطلنا العظيم. فقل للناقد المدقق. والمتنطع المتحذلق، الذي يحاول قح وغفل وغرورا أن يضع البطل الرهيب تحت مجهر نقد الأعمى. ألا فلتلقين مقياسك ولتطرحن نبراسك ولتكسرن معيارك. ولتحطمن مخبارك ولتخسأن هيبة ولتطرقن رهبة. ثم لتنكصن على عقبيك ولتنجون بنفسك الضئيلة ولا تحاولن مرة أخرى أن تتعرض للطوفان فتغرق. وللبركان فتحرق. وابغ لك يل صاحبي بدل ذلك حلة أنيقة. أوزوجة رشيقة. وابذل جهدك بعد ذاك في نيل وظيفة عالية ودرجة سامية وماهية تشفي الغليل. وتهبك الفيتون والأتوموبيل. واتخذ يا قرة العين قصرا وإيوانا. وجنة وبستانا. وأمتعة وأثاثا. ثم خلف كما تشتهي ذكورا وإناثا. واقض يا منية القلب أيامك الهنية بين البيت والديوان. والقهوة والحلواني. واشتم مرؤوسك وارتعش أمام رؤسائك وجمل هندامك. ورنح قوامك. وسمن أردافك. ونجد لحافك. واضحك واطرب وارقص والعب وحب واكره وغش واخدع ونافق وداهن وحاسن وخاشن. واسلك سبيلك الوضيعة الخسيسة الدنسة القذرة التربة الوحلة الملتوية العوجاء. الخبيثة النكراء، وبعد ذلك مت كما تحب وتهوى وتغسل بماء الورد وتكفن بالحرير واذهب إلى دار الآخرة في أفخم موكب بين صراخ الأحباب ولطم الكواعب الأتراب ونشيد أولاد الكتاب واندفن كما تتمنى في قبر من المرمر المسنون، تحت أفياء النخل والزيتون، وكذلك تفز بالسعادة والنعيم في حياتك ومماتك ويرحمك الله. ولكن لا تتعرض إلى الأبطال ولا تطأ حرم العظماء من الرجال ولا تلج على الليث عريسته. ولا تستفز الأفعوان من أطراقته. وتمثل قول القائل.

حداك إلى الحين حتى استثرتني ... عليك وإني في عريني لمخدر

وإياك ومناوأت الجلة الكبار. فإنها مشوار كثير العثار. ولقد رامها من هوأجل منك وأعظم ومن لا تصلح أن تصلح حذائه. وتمسح ردائه. فباء بالخذلان وعاد بالخسران. وكان مثله - وهوالأريب الداهية - كمثل الفراش ساور المصباح. فاحترق منه الجناح. ثم التهمته النيران فكأنه ما كان.