مجلة البيان للبرقوقي/العدد 60/حضارة العرب في الأندلس
→ الناس عباد ما عشقوا | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 60 حضارة العرب في الأندلس [[مؤلف:|]] |
اللورد نورثكليف ← |
بتاريخ: 15 - 8 - 1921 |
(الرسالة الثانية)
من المرية إلى قرطبة
تابع
ومن شعر الغزال الهين اللين الذي يرتفع له حجاب السمع، ويوطأ له مهاد الطبع كما يقولون قوله.
قالت أحبك قلت كاذبة ... غر بذا من ليس ينتقد
هذا كلام لست أقبله ... الشيخ ليس يحبه أحد
سيان قولك ذا وقولك أن ... الريح نعقدها فتنعقد
أوأن تقولي النار باردة ... أوأن تقولي الماء يتقد
وقوله:
لا ومن أعمل المطايا إليه ... كلُّ من يرتجى إليه نصيبا
وما أرى ها هنا من الناس إلا ... ثعلبا يطلب الدجاجة وذيبا
أوشبيها بالقط ألقى بعين ... يه إلى فارة يريد الوثوبا
وحدثنا أبوبكر بن القوطية قال كان عباس بن ناصح الثقفي قاضي الجزيرة الخضراء يفد على قرطبة ويأخذ عنه أدباؤها فمرت بهم يوما قصيدته التي أولها.
لعمرك ما البلوى بعار ولا العدم ... إذا المرء لم يعدم تقي الله والكرم
حتى مر بهم قوله:
تجاف عن الدنيا فما لمعجز ... ولا عاجز إلا الذي خط بالقلم
وكان الغزال إذ ذاك في الحلقة وكان حدثا نظاما متأدبا متوقد القريحة فقال: أيها الشيخ وما الذي يصنع مفعل مع فاعل فقال كيف تقول فقال كنت أقول فليس لعاجز ولا حازم فقال له عباس والله يا بني لقد طلبها عمك فما وجدها.
(تمت هذه الرسالة الثانية)
الرسالة الثالثة
مقامي في قرط (كتبت هذه الرسالة في قرطبة سنة ست وأربعين وثلاثمائة من هجرة المصطفى ﷺ بدار كتب سيدي الحكم بن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين حفظه الله وأعز به العلم والدين) (وسأستوعب لك في هذه الرسالة جميع ما رأيت وشاهدت وسمعت وأخذته عيني ولقفته أذني مدى الأيام التي قضيتها ي حضرة بلاد الأندلس منذ قدومي إليها سنة خمس وأربعين وثلاثمائة إلى اليوم الذي وضعت فيه هذه الرسالة من سنة ست وأربعين وثلاثمائة الموافقة سنة سبع وخمسين وتسعمائة من ميلاد السيد المسيح صلوات الله عليه)
قدومي إلى قرطبة
كان وصولنا إلى قرطبة في ذلك الموكب الفخم النبيل الذي قام بنا من المرية وفيه أبوعلي القالي البغدادي وأبوعبد الله الصقلي الفيلسوف وأمير البحر الأكبر عبد الرحمن بن رماحس الذي أمره - كان - سيدي الحكم بأن يتلقانا في المرية ويجيء معنا إلى قرطبة في جماعة من أعيان الأندلس وأدبائها وقوادها - عصر يوم الخميس السادس والعشرين من رمضان فكانت الليلة ليلة القدر، ومن ثم حثثنا السير، ودخلنا قرطبة من بابها القبلي مما يلي ضفة نهر الوادي الكبير، وقصدنا تواً إلى أحد قصور الإمارة، وهوالقصر الذي أمر سيدي ولي العهد بإعداده لنا، فنزلنا به وألقينا عصا التسيار وما كدنا نضع أمتعتنا حتى شخصنا إلى الجامع الأعظم - جامع قرطبة.
ليلة القدر في جامع قرطبة
قصدنا إلى الجامع الأعظم منشرحي الصدر، لحضور ليلة القدر. والجامع قدس الله بقعته ومكانه، وثبت أساسه وأركانه، قد كسي ببردة الإزدهاء، وحل في معرض البهاء، كأن شرفاته فلول من سنان، أوأشر من أسنان، وكأنما ضربت على سمائه كلل، أوخلعت على أرجائه حلل، وكأن الشمس خلفت فيه ضيائها، ونسجت على أقطاره أفياءها، فترى نهارا قد أحدق به ليل، كما أحدق بربوة سيل، ليل دامس، ونهار شامس، وللذبال تألق كنضنضة الحيات، أوإشارة السبابات في التحيات، قد أترعت من السليط كؤوسها، ووصلت بمحاجم الحديد رؤوسها، ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة، أوكالثعابين العائمة، عصبت بها أتفاح من الصفر، كاللقاح الصفر، بولغ في صقلها وجلائها، حتى بهرت بحسنها ولألائها، كأنها جليت باللهب وأشربت ماء الذهب، إذ سمتها طولا رأيت منها سبائك عسجد، أوقلائد زبرجد، وإن أتيتها عرضا رأيت منها أفلاكا ولكنها غير دائرة، ونجوما ولكنها ليست بسائرة، تتعلق تعلق القرط من الذفرى، وتبسط شعاعها بسط الأديم حين يفرى. والشمع قد رفعت على المنار رفع البنود، وعرضت عليها عرض الجنود، ليجتلي طلاقة روائها القريب والبعيد، ويستوي في هدايا ضيائها الشقي والسعيد، وقد قوبل منها مبيض بمحمر، وعورض مخضر بمصفر، تضحك ببكائها وتبكي بضحكها: وتهلك بحياتها وتحيا بهلكها، والطيب تفغم أفواحه، وتتنسم أرواحه، وقتام الألنجوج والند، يسترجع من روح الحياة ما ند، وكلما تصاعد وهومحاصر، أطال من العمر ما كان تقاصر، في صفوف مجامر، ككعوب مقامر، وظهور القباب مؤللة، وبطونها مهللة، كأنها تيجان، رصع فيها ياقوت ومرجان قد قوس محرابها أحكم تقويس، ووشم بمثل ريش الطواويس، حتى كأنه بالمجرة مقرطق، وبقوس قزح ممنطق، وكأن اللازورد حول وشومه، وبين رسومه، نتف من قوادم الحمام، أوكسف من ظلال الغمام، والناس أخياف في دواعيهم، وأوزاعهم في أغراضهم ومراميهم، بين ركع وسجد، وأيقاظ وهجد، ومزدحم على الرقاب يتخطاها، ومقتحم على الظهور يتمطاها، كأنهم برد خلال قطر، أوحروف في عرض سطر، حتى إذا قرعت أسمائهم روعة التسليم، تبادلوا بالتكليم، وتجاذبوا بالأثواب، وتساقوا بالأكواب، وكأنهم حضور طال عليهم غياب. أوسفر أتيح لهم إياب. وصفيك مع إخوان صدق، تنسكب العلوم بينهم انسكاب الودق، في مكان كور العصفور، استغفر الله أوككناس اليعفور، كأن إقليدس قد قسم بيننا مساحته بالموازين، وارتبطنا فيه ارتباط البيادق بالفرازين، حتى صار عقدنا لا يحل، وحدنا لا يفل، بحيث تسمع سور التنزيل كيف تتلى وتتطلع سور التفصيل كيف تجلى، والقومة حوالينا يجهدون في دفع الضرر ويعمدون إلى قرع العمد بالدرر، فإذا سمع بها الصبيان قد طبقت الخافقين وسرت نحوهم سرى القي، توهموا أنها إلى أعظامهم واصلة، وفي أتحافهم حاصلة، ففروا بين الأساطين، كما تفر من النجوم الشياطين كأنما ضربهم أبوجهم بعصاه، أوحصيهم عين بن صاف بحصاه، فأكرم بها من مساع تسوق إلى جنة الخلد. وتهون في السعي إليها الطوارف والتلد، تعظيما لشعائر لله، وتنبيها لكل ساه ولاه، حكمة تشهد لله تعإلى بالربوبية، وطاعة تذل بها كل نفس أبية، فلم أرى أدام الله سبحانه عزك منظرا منها أبهى، ولا مخبر أشهى. . .