مجلة البيان للبرقوقي/العدد 60/اكتساب الاحترام
→ مساوئ العقاب | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 60 اكتساب الاحترام [[مؤلف:|]] |
أنواع الجمال والزينة ← |
بتاريخ: 15 - 8 - 1921 |
في القهوات والفنادق
مقال فكيه بديع لكاتب نقادة هزلي كبير
من بين الملذات الإنسانية التي نتطلع إليها نحن جميعا ونعمل على اجتنائها، هذا الاحترام الذي نراه في عيون الناس ونشهده مكيلا لنا مغدقا علينا. والناس واهمون في قولهم أن الاحترام مزية مقصودة على السروات والمثرين، وحق من حقوق الأغنياء، غير منازعين فيه أومعارضين وإني لأعرف رجلا مسكيناً فقيراً اضطر إلى تزوير صك (شيك) وتعريض نفسه إلى عذاب السجن وغيابة المحابس، كل ذلك لكي يظهر لصاحب الفندق الذي نزل به أنه غني وأنه يستحق الاحترام. ولقد كان هذا المسكين مخطئاً خطأ كثيرين منا نحن الفقراء. لأن الأغنياء كذلك مشتركون معنا أيضاً في هذا الشأن، وليس في العالم ثروة مهما كانت طائلة تستطيع أن تكتسب احترام الغلمان والجرسونات وأصحاب البارات وخدم الفنادق ومساحي الأحذية، وإنما قد نشهد من هؤلاء العامة احتراماً كاذبا لا أثر له في الحقيقة.
ولكن هناك وسائل يستطيع الإنسان أن (يبلف) بها غلمان القهاوي ويكسب احترامهم وإجلالهم شأنه، وهي لا تحتاج إلى نفقة كثيرة، ولا تتطلب مالا طائلا.
فالطريقة الأولى منها هي أنك إذا بلغت القهوة أوالفندق فسر توا إلى القاعة الكبرى أوالردهة الواسعة وانطلق في الحال في الكلام عن مسابقات الخيل، وأندية البليارد، ومجامع الألعاب الراقية. وحذار أن تتكلم بتواضع أوهيبة كما يفعل الكثيرون ولكن ليكن كلامك بصوت جهوري متطاول قوي كأنك من النقاة فيما تحدث الناس حولك، وعليك أن تقوكلمتك وتصر عليها كأنما أصدرت بها قانونا لا حول عنه ولا مرد. واخرج عن طورك واغضب وقم حانقا من مكانك وعد إليه، إذا عرضك أحدهم فيما قلت أوتصدى لك من أراد مناقشتك في رأيك.
ورب معترض يقول لك إذا كنت تجهل هذه الفنون فلن تفلح حيلتك في كسب الاحترام من الغلمان والخدم في الحان الذي أنت فيه ولكن هذا الاعتراض قائم على السخف والبلاهة والخطأ، إذ هل تتصور أن الناس الجلوس حولك قد أصابوا منها أكثر من علمك. وإذا ص أنهم كذلك فهل تظن أنهم عارفون بجهلك بها. بل يجب ألا يبرح من بالك أنهم قرؤوا أقل منك، وعرفوا أقل من معرفتك، وإن الجرأة في هذا السبيل كفيلة بأن توجد لك حجرة في أكبر فنادق العالم، ومكانا متعاليا في أفخم قهوة في المدينة.
وإني لأذكر ذات يوم أن دخل رجل علينا ونحن جلوس في أحد الفنادق الكبرى، رجل أكبر ظني أنه من الصحفيين، وقد تبينت ذلك لأول وهلة، رجل لا يدري كيف يسوق الجاموسة، أويقود البقرة من حبلها بله الخيل والجياد الصافنات، رجل من الاشتراكيين لم يخرج إلى أرباض المدينة يوما إلا على (البسكليت) ولكنه إذا كان دوننا في كثير فقد كان أعظم منا وأكبر وأجل في شيء واحد وهوحذقه فن اكتساب الاحترام في القهوات والفنادق، لأنه جلس في مقعده وما كاد يشرب شرابه حتى انطلق يحدثنا عن قصة قنص له يوم طارد ثعلبا ماكراً خبيثاً. وهي حادثة لم تحصل مطلقا ولم تكتب له في اللوح المحفوظ البتة، وكنا خمسة عشر رجلا في الحجرة ولم يكن فينا رجل من الغنى بحيث يقدر على قنص كهذا. ولذلك ما عتم حديثه أن نفذ فيهم نفوذ السهم إلى الهدف، وأخذ بجماع قلوبهم على ما في قصته من أكاذيب ومفارقات تدل على جهله بفنون الصيد. ولكن القوم هم أجهل منه به لم يدركوا من هذا شيئا، بل عدوه إلها وحاولوا أن يوقفوا تيار حديثه ولكنه أبى إلا الإفاضة في أكاذيب ألعن من الأولى، فلم ينصرف إلا والناس محترموه وخدم الفندق ينظرون إليه نظرة الإعظام والإكبار.
ولك أن تغير المنظر وتبدل الفن بفن آخر إذا اختلجت بفؤادك خالجة شك في صلاحية ما ادعيت من الفنون ولكن اجتنب الخوض في فن صيد السمك، فإن ذلك في خطر لا يفيدك فتيلا إدعاؤه، لأن كل إنسان يعرف صيد الأسماك حتى الفقراء المساكين، ثم هناك خطر آخر وهوأنك لم تلم بأسماء أنواع الأسماك التي تسبح في البحار. فقد تدعي أنك اصطدت (قرموطا) عظيما من نهر (التايمز) مع أنه لا يوجد في نهر التايمز قرموطا واحد.
والطريقة الثانية في اكتساب الاحترام من غلمان الفنادق إذا كنت رجلا صموتاً قليل الكلام بطبعك وسجيتك، هي أن تعمد قبل الذهاب إلى النوم في حجرتك إلى كتابة عدة رسائل وغلف (مظاريف) تسمها بعنوانات طائفة من الوزراء وأعضاء الأسرة المالكة وأمراء الأمة وكبار الجواهرجية وعظماء السروات وأرباب الأموال وتضع كل تلك الغلف فوق المائدة في حجرتك، ولا تظن أنك واجد عناء في هذه المهمة، فحسبك أن تكتب ظروف الخطابات. وأما عما تضعه في داخلها فلا أسهل عليك من جمع الإعلانات التي تجدها ملقاة على الموائد في القهاوي والحانات ووضع كل إعلان منها في غلاف من تلك الغلف التي عنونتها بأسماء الطبقات العالية، فإذا أصبح الصباح جمعت الظروف كلها وطلبت الخادم فسألته عن مكان مكتب البريد ولكن لا حاجة بك إلى إرسالها حقيقة إلى البريد ورميها في صندوقه لأن غرضك قد تحقق. وقد وقف الخادم يرقب هذه العنوانات وهوفي أشد الذهول استعظاما لشأنك. ولا تخشى من هذه الناحية على قائمة الحساب ولا تخف ارتفاع الأثمان. بعد أن تم لك ما أردت من الهيبة والاحترام.
وهناك طريقة ثالثة وهي الالتجاء إلى التليفون والانتفاع بهذا المخترع الحديث. أطلب من (الكومبانية) أية نمرة تجدها في قائمة المشتركين تدل على اسم عظيم، وتخير أكبر رأس في البلد فاطلبه في التليفون دون خشية شيء، فإن القانون لا يمنع ذلك ولا يحظره فإذا أعطيت النمرة واتصل الطريق بالقصر الذي أردت أن الوسيلة لتحقيق غايتك من (بلف) الخدم الوقوف حولك، وصاحب الحان الجالس على منصته يرتقب الطالع والداخل، والمتكلم والصامت، إذن فاسأل مخاطبك في الجهة الأخرى هل القصر هوخاصة الأمير الفلاني. بعد أن تكون قد تخيرت اسما أجمد من الاسم الذي طلبته، ولا شك في أن الخادم سيجيب سلبا. ولكن مقامك في القهوة أوالفندق أصبح بذلك محفوظا معظما مبجلا.
الرابعة في مجموعة الطرق هي أنك إذا نزلت بفندق للمكث أياما معدودة، فمر الخدم دائما قبل ذهابك إلى مضجعك بأن يوقظوك في بكرة الصبح التالي، ولا تستيقظ إذ ذاك إلا في الضحى العالية ولعلك تسألني عن السبب الذي جعل لهذه كل هذا التأثير الذي نشاهده فأنا أعترف لك بجهلي ذلك السبب ولكن أظن أن السبب هوالجمع بين النشاط الذي تظهره بالتفكير في اليقظة أومحاولتها. وبين الترف الذي تبديه بالتأخير في الخروج من السرير. والنشاط والترف هما الصفتان اللتان تظفر من الأصاغر والعامة والسوقة بأشد الإعجاب إذا شهدوهما في الطبقة الحاكمة التي تدعي أنك من أهلها. ثم لا تنسى التأثير الذي يحدث في نفوس الخدم من طلبك الشيء ثم الرجوع إلى محوه وإلغائه.
والطريق الخامسة هي أن تكون قوياً عظيما في نفسك. خلقت للرئاسة والزعامة والقيادة.
وأن تكون من موجدي هذه الدنيا وبناة حضارتها، وأن تكون ذا إرادة صارمة عنيفة عانية، وأن تنير في نفوس الذين حولك بفضل قوتك وقوة شخصيتك إحساسا يكرهم على الطاعة. ويريدهم على الامتثال ولكن لا أعرف الوسيلة لتحقيق ذلك، فإن علمه عند الله وهووجى خصه الخالق بالقليلين.