مجلة البيان للبرقوقي/العدد 6/باب الأدب
→ ../ | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 6 باب الأدب [[مؤلف:|]] |
باب التاريخ ← |
بتاريخ: 17 - 3 - 1912 |
الفكاهة في شعر العرب
ً // للكاتب العبقري عبد الرحمن شكري
الفكاهة نوعان فكاهة خيالية وفكاهة لفظية والفكاهة الخيالية هي نوع من الخيال ومجالها حيث يتضاءل الجد فيه فهي الخيال في حال تبسطه ومن أجل ذلك كانت الفكاهة لا تستعمل في مكان الجد ولكن صعباً على من لم يتعود النقد أن يعرف الحد الفاصل بين مكان الجد ومكان الفكاهة فمن الناس من يعد في الجد ما يعده آخر في باب الفكاهة ومن الناس من يعد في الفكاهة ما يعده غيره في باب الجد ورجحان رأيه بقدر نصيبه من صحة الذوق وسنبين ذلك في هذا المقال فمن أمثال الفكاهة الخيالية قول ابن الرومي في رجل أصلع:
يأخذ أعلا الوجه من رأسه ... أخذ نهار الصيف من ليله
وليس كل خيال يجري بالفكاهة لأن الخيال إذا لم يكن وثاباً امتنعت عليه سبلها لأنها تخرج من التأليف بين الحقائق المتباعدة والصور المتنائية وتباعد الصور ليس دليلاً على تباعد الصلة التي بينها فإن ابن الرومي في بيته السابق قد ألف بين صورتين متباعدتين وهما أن صلع الرجل جعل وجهه مغيراً على رأسه آخذاً منه وإن تزايد نهار الصيف يُجنَي من تناقص ليله ووجه الشبه الذي بين الصورتين قريب متين وأني لأحسب أن تطير ابن الرومي بينه وبين فكاهته الخيالية سبب لأن التطير يبعثه سوء الظن وسوء الظن يدعو المرء إلى اتهام الناس بمعاداة صاحبه وذلك يبعث على تطلب السبيل الدمث لهجائهم وانتقاصهم وأوجع الهجاء ما جعل المهجو ضحكة في أفواه الناس فأكبر ظني أن سوء رأي ابن الرومي في الناس هو الذي استقدح الفكاهة في خياله وهذا بيرون كان مر النفس فاتخذ من مرارة نفسه رائداً إلى الفكاهة اللاذعة انظر كيف يصف وزيراً من وزراء الانجليز حيث يقول فلان ذو الذهن الخصيّ فإن تشبيهه الغباوة بالخصى من الفكاهة الخيالية وهذا المتنبي قد سما بنفسه بين الثريا والسماك ومن كان يربأ بنفسه أن يُعدَّ في الناس عرف من أين تؤتى الفكاهة اللاذعة انظر إلى قوله في رجل أعور:
فيا ابن كَرَوَّسٍ يا نصف أعمى ... وأن تفخر فيا نصف البصير
ومرارة النفس تزيد الفكاهة قوة ورسوخاً في النفس غير أنها تلبسها زياً أسود يلائم زيه وتستخدمها في إنفاذ أمرها وتقريب غرضها أما إذا لم تجد الفكاهة في النفس ما يرنق صفوها ويمر مذاقها كانت كالنهر حين تدفقه بين الصخور صافي الماء عذبه هذا جوزيف أديسون لطيف الفكاهة شريفها مهما غلا في نقد العادات والأخلاق ومن أجل ذلك كان خليقاً أن يحمل النفس على الخروج عما يشوبها من غير أن يضيع ثقتها بضميرها ومن غير أن يثير عداء الناس ويحرك بغضهم باللفظ الجارح فقد كانت الفكاهة في لسان سويفت اوكارليل كالسيف في يد الجَلود أو السوط في يد الجلاد.
وأحسن الفكاهة ما صدر عن رغبة في إصلاح فاسد وتقويم معوج من العادات والأخلاق والعرب تستعمل الفكاهة في الهجاء والسخر والتعجيز والوصف انظر إلى قول المتنبي في رجلين قتلا جرذاً وأبرزاه ليعجب الناس من كبره:
وأيهما كان من خلفه ... فإن به عضة في الذنب
انظر إلى الصورة الخيالية المضحكة التي في هذا البيت صورة شجار بين رجلين وبين جرذ وانظر كيف ادعى الشاعر أن أحدهما قد عض الجرذ في ذنبه ولكن المتنبي يمزج الهجاء بالفحش في كثير من شعره ومن الفكاهة ما كان يستعمله الشاعر في المديح تغالياً في إعلاء ممدوحه وتكثيراً لما يستخرجه من المعاني وأكثر هذا النوع سخيف لأنه أقرب إلى الذم منه إلى المدح وأني ما قرأت قوله:
خفت إن صرت في يمينك أن تأ - خذني في هباتك الأقوام
ألا تملكني الضحك من ذلك المنظر الغريب المودع في هذا البيت وذكرت ما يشبهه مما يحدث يوم الجمعة عند باب السيدة زينب حيث يتسابق الفقراء والمساكين إلى التمر والكعك والفطير الذي تفرقه النساء صدقة وقد بلغني أن امرأة وضعت حذاءها في ناحية فأخذه أحد المساكين حاسباً أنه من هباتها وقد خاف المتنبي أن صار على قرب من ذلك الكريم أن تأخذه الأقوام حاسبة أنه عبد من هباته ومثل هذا قوله:
وقلبك في الدنيا ولو دخلت بنا ... وبالجن فيه ما درت كيف ترجع
أليس هذا أقرب إلى السخر والتهكم منه إلى المدح ولكن هكذا الشاعر القدير إذا لم يراقب خياله أتى بالمستهجن ولا يحسب أن المتنبي أراد أن يمزج بمعاني المدح شيئاً من الفكاهة وهو خروج بالمدح عن حده وليس هذا من أدب المدح وإنما دفعه إلى مثل هذا الغلوُّ وحب الابتداع وهما شيئان مقرونان في قَرَن.
أما شعراء الجاهلية وصدر الإسلام فإنهم وجدوا الفحش وهُجْر الكلام أنكى وأوجع وقد يمزجون به شيئاً من الفكاهة هذا سبيلهم في الهجاء إلا في القليل النادر وأما شعراء الدولة العباسية فإنهم يستعملون الفحش في الهجاء أيضاً ولكنهم تفننوا في استعمال الفكاهة اللاذعة وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام يستعملون الفكاهة في السخر والتعجيز أكثر من استعمالهم إياها في الهجاء أو الوصف هم يستعملونها كثيراً في الوصف إذا أريد منه السخر وممن استعمل الفكاهة من الشعراء العباسيين فأجاد أبو نواس ومن بديع شعره في هذا الباب قوله في البخيل:
خبز الخصيب معلق بالكوكب ... يحمى بكل مثقف ومشطب
جعل الطعام على بنيه محرماً ... قوتا وحلله لمن لم يسغب
انظر إلى قوله (وحلله لمن لم يسغب)
ويعجبني في هذا الباب قول حافظ إبراهيم في الفقر:
وخال الرغيف في البعد بدراً ... ويظن اللحوم صيداً حراما
وقال أبو نواس:
رأيت الفضل مكتئباً ... يناغي الخبز والسمكا
فأسبل دمعه لما ... رآني قادماً وبكى
فلما أن حلفت له ... بأني صائم ضحكا
إذا كان لأهل الفضل والأخلاق الحميدة أن يبيحوا الهجاء فلا أكثر من هذا والشاعر خليق أن ينزه منطقه عن مثل ما وقع بين الفرزدق وجرير والأخطل والبعيث أو مثل ما وقع بين بشار وحمّاد عجرد أو مثل أهاجي ابن الرومي في بوران أو هجاء المتنبي لأبن كيغلغ وماذا يري الأديب مما تسيغه النفس المهذبة في هجاء البحتري للمستعين حيث يقول:
وما كانت ثياب الملك تخشى ... جريرة بائل فيهن خارى
أو قول الأخطل:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم بولي على النار
أو قول المتنبي يحمي ابن كيغلغ الطريق وعرسه ما بين رجليها الطريق الأعظم إلى آخر الهجاء.
وممن استعمل الفكاهة في الهجاء من غير أن يبيح حرمة الأدب أبو العلاء المعري حيث يقول:
رويدك أيها العاوي ورائي ... لتخبرني متى نطق الجماد
وأبو تمام حيث يقول:
ألصقت قلبك من بغضي على حرق ... أضر من حرقات الهجر للجسد
أنحفت جسمك حتى لو هممت بأن ... ألهو بصفعك يوماً لم تجدك يدي
ومن بديع ما سمعت من الفكاهة قول أبي نواس وكان قد حبسه الفضل بن الربيع في أيام الأمين حتى أشاع أهل خراسان أنه يصطفي ماجناً خليعاً ويقضي معه ليله ونهاره فأقام أبو نواس في السجن زمناً ثم استتابه الفضل فتاب فعفا عنه فبعث إليه بهذه الأبيات:
أنت با ابن الربيع ألزمتني النس - ـك وعودتنيه والخير عاده
فارعوى باطلي وأقصر حبلي ... وتبدلت عفة وزهاده
المسابيح في ذراعي والمص - ـحف في لَبّتي مكان القلاده
وإذا شئت أن ترى طرفة تعـ - ـجب منها مليحة مستفاده
فادع بي لا عدمت تقويم مثلى ... وتفطن لموضع السجاده
تر إثراً من الصلاة بوجهي ... توقن النفس أنه من عباده
لو رآها بعض المرائين يوماً ... لاشتراها يعدها للشهادة
ولقد طال ما شفيت ولكن ... ادركتني على يديك السعاده
وهناك نوع من أنواع الفكاهة يسميه الأفرنج الفكاهة اللفظية وشيخ هذه الصناعة (فولتير) ورب الفكاهة الخيالية عندهم هو جان بول رختر الألماني أما شكسبير فنصيبه من النوعين أوفر نصيب والعرب تستعمل الفكاهة اللفظية ولكنهم قد يغالون فيها فتجيء سمجة والفكاهة اللفظية مثل قول المتنبي:
كأن السُماني إذا ما رأتك ... تصيدّها تشتهي أن تصادا
ويعجبني منه استخدامه هذه الفكاهة اللفظية في الاعتذار حين عاتبه بعض أخوانه لأنه لم يرد سلامة فقال: أنا عاتب لتعتبك ... متعجب لتعجبك
إذ كنت حين لقيتني ... متوجعاً لتغيبك
فشغلت عن رد السلا - م وكان شغلي عنك بك
فهذا الاعتذار مالطة ولكنه مغالطة مليحة فهو من الفكاهة اللفظية لأن الصلة التي بين شغله بالتوجع لغياب صديقه وشغله عنه صلة توهم وليست مثل الصلة التي بين أخذ أعلا وجه الأصلع من رأسه وبين أخذ نهار الصيف من ليله في بيت الرومي فإنك إذا نظرت إلى الصورة المودعة في هذا البيت أي صورة وجه الأصلع ورأسه ثم رأيت كيف يجني تزايد يوم الصيف من تناقص ليله علمت كيف تميز الفكاهة الخيالية من الفكاهة اللفظية التي أصلها المغالطة في مثل اعتذار المتنبي والفكاهة الخيالية يلتذها المرء بخياله والفكاهة اللفظية يلتذها المرء بملكة المنطق لأنها مغالطة منطقية كان يريد صاحبك أن يبرهن لك مزاحاً باضطراب في المنطق أن شيئاً خطأ هو رأس الصواب أو أن شيئاً صواباً هو رأس الخطأ واعتذار المتنبي هو مثل من أمثال ذلك: أما الفكاهة الخيالية فهي التي تعرض عليك صورة من صر الخيال يبسم لها القلب وتحسب أن البيت الذي يحتويها صورة لا بيت شعر أما الفكاهة اللفظية فهي مغالطة يبسم لها الذهن فإنك إذا قرأت اعتذار المتنبي أعجبتك مهارته ولطف تخيله وهذا شيء مصدره الذهن وكذلك إذا عرض عليك قوله:
كأن السماني إذا ما رأتك ... تصيدها تشتهي أن تصادا
ولكن إذا عرض عليك قول ابن الرومي في الرجل الأصلع الذي يأخذ وجهه من رأسه أخذ نهار الصيف من ليله الأح لك بصورة فكاهية وقد تكون الفكاهة اللفظية أجلب للضحك من الفكاهة الخيالية لأن المغالطة عند العامة هي مصدر ضحكهم.
وليس لنوعي الفكاهة حدود معينة فلا تقدر أن تقول هذا حد الفكاهة الخيالية وهذا حد الفكاهة اللفظية فإنهما قد يمتزجان أنظر إلى قول الرومي في رجل بخيل:
فلو يستطيع لتقتيره ... تنفس من منخر واحد
هذا البيت يليح لك بصورة فكاهية صورة رجل من بخله يتنفس من منخر واحد ولكنها مغالطة مليحة لأن البخيل مهما كان بخيلاً لا يجد نفعاً له في أن يتنفس من منخر واحد حتى لو استطاع ذلك ولكن لا مغالطة في تشبيه تطاول وجه الرجل الأصلع على رأسه بتزايد نهار الصيف وتناقص ليله لأنه ليس معنى التشبيه أن المشبه والمشبه به سواء فإذا نظرت إلى قول ابن الرومي في البخيل وجدت الفكاهة اللفظية ممتزجة بالفكاهة الخيالية وذلك أيضاً كائن في بيت أبي العلاء:
رويدك أيها الغاوي ورائي ... لتخبرني متى نطق الجماد
على أن أكثر الفكاهة اللفظية يجيء ممزوجاً بشيء من الفكاهة الخيالية وبقدر نصيبه منها يكون نصيبه من روح الشعر وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام يستعملون الفكاهة الخيالية أكثر من الفكاهة اللفظية وهذا دليل على صحة أذواقهم ولكن شعراء الدولة العباسية قد أكثروا من استعمال الفكاهة اللفظية لأنهم تفننوا في أنواع المغالطة المنطقية وقد يجيئون بها مليحة وقد يجيئون بها سمجة.
ولكن أكبر عيوب شعرائنا هو استخدامهم الفكاهة في موضع الجد وهم لا يعرفون أنها فكاهة وقد ذكرت من أمثال ذلك استخدام المتنبي الفكاهة في المديح وهو لا يعرف أنها فكاهة وأقبح من هذا استخدامهم الفكاهة في الرثاء مثل قول إمام العبد في قصيدة يرثي بها الشيخ محمد عبده ما معناه أنه لبس سواد جلده حداداً عليه قبل مماته وإمام العبد لم يرد أن يمزح فيخالف أدب الرثاء ولكنه أتى بالمزح من غير قصد وعمد لأنه تعود قراءة أمثال هذا المزح في الرثاء والمتنبي إذا استخدم المغالاة في الرثاء حسبت أنه يمزح مع الميت أو أنه يسخر منه ويهزأ به ومن أمثال المزح في الرثاء قول شاعر يرثي إماماً العبد ويقول له في رثائه أعرني سواد جلدك كي ألبسه حداداً عليك هذا أقرب إلى باب السخر والتهكم واستعمال المزح في الرثاء دليل على سقم في ذوق الشاعر وشعراء الجاهلية وصدر الإسلام كانوا أصح أذواقاً من العباسيين لأنهم لم يستخدموا الفكاهة في موضع الجد من مدح أو رثاء أو حكمة إلا أن يجيئوا بها على سبيل التهكم أو السخر أو التعجيز وهم يريدون ذلك هذا مذهبهم إلا في القليل النادر ولكن بدأت الشعراء تستخدم الفكاهة في مواضع الجد وهم لا يعرفون أنها فكاهة في أواخر الدولة الأموية ثم في أيام الدولة العباسية وما زالوا يغالون في ذلك حتى جاؤا بالغث المستهجن في باب المديح والرثاء والحكم وشعراء هذا العصر يتابعونهم في سقم ذوقهم.
فخليق بنا أن نلتمس سلامة الذوق في شعر شعراء الجاهلية وصدر الإسلام وأن نضع المعنى موضعه كما نلتمس حسن الابتداع ولطف التوليد في شعر شعراء الدولة العباسية.