الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 6/النقد والمناظرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 6/النقد والمناظرة

بتاريخ: 17 - 3 - 1912


روح اللغة وروح الدين

حديث لفيلسوف الشرق وإمامه المرحوم الشيخ محمد عبده

نشأت في هذه الأيام ناشئة من الفتنة اللغوية أرهج في صحفها بالسواد، وأثار فيها نقع المداد، عصبة خفاف الأحلام، ضعاف الأقلام، لا يرون عهدة الخلق في أنفسهم أسراً، ولا رقة الدين في قلوبهم كسراً، وكأنهم منذ درجوا من بيوتهم صغاراً ما عرفوا من اللغة إلا ما تظهره السابلة أو تبطنه الحوانيت بل كأنهم منذ خرجوا من مدارسنا التي تفتح أبوابها كأفواه الخرس - على سعة بدون فائدة - ما عرفوا غير كراسة الإنشاء ولا راضوا من جماح القول غير تلك المجلدات البليدة التي تطير على وجهها في يد الصبي كلما ساطها بلسانه وهو قد يتعتع في أقصر سورة من القرآن، وأصغر عبارة من البيان.

فأولئك لا يطلعون علينا إلا كالجيش يظهر بعد الهزيمة فُلُّهُ، ويذهب كُثره بالمجد ثم يرجع بالخيبة قُلُّه، وقد زعموا أنهم أُرسلوا إلينا بدعوة جديدة في الإصلاح اللغوي فإذا سألتهم ما خطبكم أيها المرسلون قالوا إنّا أرسلنا إلى قوم مجرمين يحتفظون بلغة يزعمونها لهم وهي لغة العرب ويحرصون على تاريخ هو تاريخ العرب. ويتأدبون بآداب قديمة هي آداب العرب. وآية لهم أنا نريد أن نجعلهم نبطاً مستعربين أو عربا مستنبطين أو مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؟

فسبحانك اللهم لشد ما خذلتهم فتحجروا مما أبحت واسعاً، وشبهوا على الناس أمراً ساطعاً، وما نأمن أن نحن وسعناهم بالحلم، وأغضينا عنهم أعضاء أهل العلم، أن يعودوا فيقولوا وأن لكم ديناً أنتم بعروته مستمسكون، وبحبوته معتصمون، وهو كذلك ليس دسنكم ولا دين آبائكم الأولين وإنما هو دين العرب. . . . ثم أن لكم كتاباً (القرآن) نقرؤه ولا نفهمه لأنه لم ينزل باللغة المصرية بل نزل باللغة المضرية التي هي لغة العرب. ثم لا يكون من هذا الورم إلا أن ينفجر صديداً، وينقلب داثراً جديداً، ويصبح أمراً شديداً، وما أحد عندنا أولى بغصة النصيحة وأن شرق بها وتوجر الملام المرّ وإن اختنق به من هذا المريض بذات قلبه الذي لا يهزأ به فيما نري إلا من توهمه صحيحاً، ولا يسخر منه إلا من ظنه صريحاً، ولقد يكون وأنت ترى الثوب البالي أحسن وجهاً من عافيته، وأمتن أسباباً في الصح بيته وقافيته على أن ركن اللغة الفصحى قد تعاورته قبل هذه الآونة معاول كثيرة أقربها عهداً بنا قلم القاضي ولمور الانجليزي ذلك الرجل الذي ما أحسبه اقتلع قلمه المسموم إلا من بين أنياب الشيطان فقد أراد أن يمسخنا مسخا، وينسخ شريعتنا نسخا، ويدع شيوخنا في المكانة اللغوية (كمشايخ الحارات) وفتياننا في الرطانة البربرية كخدم (البارات)، ولكم رأينا بعد ذلك من مثله ولموراً مصرياً لم يجن عليه إلا نقص تعليمه وضعف تقويمه، فأمسى حرباً على الحق ولكنه أصبح وحده المخذول فيها كما قال أستاذنا الإمام رحمه الله.

فقد يممت ذات يوم تلك الدار دار الحكمة فأصبت الإمام في ظل شجراته وهو ينظر في بعض أوراق من كتاب المخصص الذي لولا همته، ما ظفرت به أمته، وكان يمر على كثير منه بعد أن يعاني ضبط روايته ذلك الحافظ الكبير المرحوم الشيخ محمد محمود الشنقيطي. فأخذت مجلسي وأنا من إجلالي للإمام كأنما أضع قلبي في كل حرف يقرؤه فما أن استتم الباب حتى التفت إلي مبتسماً وقال أيعجبك المخصص.

قلت يا مولاي إنك قلبت البديع فجعلت براعة الاستهلال تجاهل العارف وإلا فإن الذي نشأ على أن تعجبه ألاجرومية كيف لا يعجبه المخصص.

فضحك إلي وكان رحمه الله يعرف مبلغ حرصي على تقييد ألفاظه والتقاط حكمته والضن بآثاره ويلمح أني إنما أدخر من لدنه علماً فكان يطيل أحياناً في بيانه، وينير كل مشتبه ببرهانه ويسلس لكل معنى من عناته. فقلت له فيما قلت: ولكن يا مولاي هل تظن نشأنا الحديث يقبل على المخصص وهو ما هو في بسط العبارة واتساعها واستفاضة الأطراف إلى ما يفوت أجل المستفيد، وأمل المستزيد، فضلاً عما فيه من تحقيق ليسوا لمثله وتدقيق ليس لمثلهم؟ فقال:

لا أظن ذلك في النابتة الحديثة ولا في الجذوع القديمة. . . . (الشيوخ) وإنما علينا أن نعمل في إصلاح أمر دنيانا ليوم سيأتي كما نعمل في إصلاح أمر آخرتنا ليوم سوف يجيء. وإذا كنا ننصرف عن العلم لندرة أهله والمقبلين عليه فلا بد من يوم يكون فيه هذا النادر معدوماً لأن سنة النقص عند أسبابها كسنة الزيادة عند أسبابها والوجود لا يدرك مقدار ما نقص منه ولا ما زاد فيه فلا يعبأ بالموجودين وأحوالهم وإنما يدرك من له قوة الإدراك.

نحن نظهر المخصص ونصبر على مضض ما نعانيه في ذلك لخلال ثلاث فأما واحدة فلئلا نفقده كما فقدنا غيره من قبل وأما الثانية فليجده معنا من يكون من أهله حتى ينتفع به. وأما الأخرى فلتنشأ بعدنا به الأمة الجديدة. وهي آمال ليس لنا من ثلاثتها إلا الأول فعلينا أن نوجد العمل وعلى الزمن أن يحد مقدار الحاجة إليه.

قلت يا مولاي نعم ولكن قد كان المخصص مفقوداً أو في حكم المفقود فما أحسسنا أننا فقدنا شيئاً رزئنا به أمراً جسيما. وكانت هذه الكلمة سقطة انطويت فيها تحت لساني فطارت لحظات الإمام كأنها لهب البرق ثم أغضي وقال:

ذلك لأننا لا حس لنا وإنما نحن منوَّمون تنويماً خرافياً فلا نشتغل إلا بعقول الماضين التي استهوت عقولنا ببقايا آثارها في الكتب فإذا قيل لنا أن فلاناً قد نص على كيت وكيت جعلنا ذلك نصاً إلهياً على فقد إرادتنا وحجة على وجوب استسلامنا. فهم قد عاشوا لأنفسهم ولنا أما نحن فكأننا نعيش لهم ونموت لأنفسنا فقط. وبذلك فقدنا الشعور بالجنسية المستقلة وإن لم نفق الجنسية نفسها.

أرأيت علماءنا يعرفون من تاريخ العلم كله غير أسماء معدودة ورثوها كما تورث العادة؟ فنحن نريد أن نخرجهم من هذا الجمود ليعلموا أن الأسماء كثيرة وأن بعضها كبعضها إذا صار الأمر للتاريخ وقد أصبحت كلها لدينا سواء نقدر منها بعقولنا لا بعقول غيرنا فإذا أخذنا أخذنا عن بينة وإذا تركنا تركنا عن بينة. وهذا لا يكون إلا إذا أحسسنا أننا في الوجود الحقيقي لا في الوجود التاريخي ولسنا نحس إلا إذا اعتدنا إدراك الفرق بين الوجودين ولن نعتاده إلا إذا جددنا ذلك التاريخ العتيق المتعلق ببعض الكتب التي ألفناها وعكفنا عليها هيهات بتجدد ذلك إلا إذا أكثرنا من إحياء آثار السلف كالمخصص وغير المخصص.

فقلت ولكن المصيبة في النابتة شر من المصيبة في الجذوع لأن هذه لا تنخر إلا في زمن طويل أما مصيبة النابتة فهي القصف السريع وقد نراهم لا يكتفون بهجر لغتنا وآدابها والانسلاخ منها بل ينقلبون حرباً عليها وعلى أهلها.

فقال رحمه الله: ذلك زيغ من الشبان يمكن تقويمه إذا استمرت حركة الإصلاح الديني في مجراها لأن التيار يعين على الإسراع في اكتساح مالا يَسبَح وما نشأ كره اللغة العربية في أمثال هذه المفتونة قلوبهم إلا من إهمال الدين فلو عرفوا أن دينهم يقوم بالكتاب والسنة وأنهما عربيان وأن عربيتيهما نمط عال لسموا إلى هذا النمط ولكان من اندفاع رغباتهم إليه بالدرس والبحث والتنقيب على آثار العلماء حياة الجنسية في قلوبهم المريضة فإن نهضة الشرق لا تكون إلا بالجنسية الإسلامية الصحيحة التي أساسها الدين والكتاب. ولكنهم فقدوا روح الدين ففقدوا معه روح اللغة وأصبح ظاهرهم فيه الرحمة وباطنهم من قبله العذاب فهم منسوبون إلينا نسبة الوجوه المطمئنة وخارجون علينا خروج القلوب الكاذبة. ولو سئلت رأيي في المدارس التي يخرج منها أمثال هؤلاء لأشرت بأن تجعل مستشفيات لغوية.

وأعلم أنه لولا شيوخنا يتعبدون بألفاظ القرآن تعبداً ينسيهم ذوق أسلوبها وحلاوة تركيبها لأحيتهم روحه اللغوية حياة أخرى ولكنهم لم ينظروا إلى أن اللغة كانت هي الأصل في هذا الكتاب الكريم حين أنزل إلى قوم ليس لهم من الدين الفطري السليم إلا دين اللسان وحده فنسوا ما قبل النتيجة ولذلك لم يحسنوا الانتفاع بها وسقطت عندهم إلى رتبة المقدمات التي لا تفيد بذاتها إلا قليلاً.

غير أننا لا نيأس من روح الله ما دامت فينا طائفة تعمل عملاً صالحاً وأن كثر العائبون والمعارضون فقد يمسي حرباً على الحق ولكنه كثيراً ما يصبح المخذول فيها.

قلنا وهذه قارعة نقرع بها أولئك الذين يريدون أن تكون لنا لغة مصرية مصبوغة باللون الأُمي فإن ذلك لا يكون إلا يوم يصبح لنا دين مصري. . .! ولو نظر هؤلاء إلى أبعد من أطراف أنوفهم ولو قليلاً لرأوا أنه ليست لنا سياسة مصرية أيضاً وما تربية الأمة السياسية بأعضل من تربيتها اللغوية ولا سيما في مصر فلو توخينا هذه الأخيرة وسعينا لها سعيها على الطريقة التي تربي بها الأمم - طريقة الروية والحزم والصبر الطويل الذي يعدل عمر جيل أو أجيال - لكان جزاؤنا منها موفوراً ولم يكن بيننا وبين ما نسعى إليه إلا جيل يسقط وتسقط معه تلك الفئة التي تستجهل أهل الفصاحة حتى يقوم الجيل الذي يشمئز من اللكنة وينتفي من عارها.

فقبل أن يطلب اللون الأمي في لغة من اللغات ينبغي أن يسأل عن مقدار التربية الأمية في أبناء تلك اللغة فقد يكون هذا اللون بما ينطوي تحته من العلل كصفرة السل أو بياض البرص أو حمرة الرمد أو سواد الوجه عند الله. . . .

وتربية الألكن لا تكون بالإشادة إلا زادته الإشارة لكنة كما أن تربية الأبكم لا تكون بالكلام إلا زاده الكلام بكماً وإنما دواء العلة ما يقدره الطبيب دون ما يرضاه العليل فقد يكون ألم العلة في وهمه أخف من ألم العلاج وفي هذا تبصرة وذكرى.