مجلة البيان للبرقوقي/العدد 6/التربية الطبيعية
→ باب العلم | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 6 التربية الطبيعية [[مؤلف:|]] |
الطبيعة ونواميسها ← |
بتاريخ: 17 - 3 - 1912 |
أو
أميل القرن الثامن عشر
وضعه جان جاك روسو
وعربه ابراهيم عبد القادر المازني
الكتاب الأول
الطفولة - مبادئ عامة
كل شيء حسن لدن يخرج من يد الصانع الأكبر مبدع الخليقة ومبديء الطبيعة فإذا انتقلت به الحال إلى يد الإنسان خبث وفسد بئس لعمري الإنسان زرّاع الفساد أما تراه يحمل الأمم على مكروهها ويطعم الشعوب جنا أرض غير أرضها ويُحمل الأشجار غير ثمارها وهو الذي يرهج الرياح ويخبثها ويهدم كل قائم ويشوه كل جميل ويذلل أخاه الإنسان كما تذلل الفرس الجموح حتى تصبح طوع العنان كأنما الإنسان شجرة في بعض رياضه يغرسها حيث يشاء:
وكما أن الماء قوام النبت كذلك التربية قوام الإنسان فلو أن الناس خلقوا طوالاً أشداء وهم مع ذلك يجهلون المنفعة من ذلك لما اغني عنهم طولهم وقوتهم شيئاً ولكان وفاء الطول وشدة الأسر أضرّ بهم لامتناع التعاون وانقطاع التناصر إذ كانوا بطريق ذلك جاهلين ولهلك الناس من الحاجة قبل أن يحيطوا بحاجاتهم خُبراً. ولقد رأيت الناس يرثون لحال الطفل ويتوجعون لحظة وما دروا أن النوع البشري كان يهلك لو أن الإنسان لم يكن في بادئ أمره وأول حياته طفلاً!
خلقنا الله ضعفاء فنحن محتاجون إلى القوة وخلقنا معدمين فنحن مفتقرون إلى المعونة وخلقنا بطاء الحسّ مغلقي الأذهان فنحن محتاجون إلى ما يرهف أذهاننا ويضرم شعلة الذكاء فينا. وهذه أصلحك الله حاجة لا يسدها شيءٌ غير التربية.
والتربية على ثلاثة أقسام: التربية المكتسبة من الطبيعة والتربية المكتسبة من الناس والتربية المكتسبة من الأشياء: فأما نماء قوى المرء العقلية والجسمية فهذه ه المكتسبة من الطبيعة وأما استخراج المنافع من ذلك واجتلاب الفوائد فشيءٌ نقتبسه من الناس ونحمله عنهم وأما تجارب المرء وما يهديه إليه نظره فيما حوله فذلك ما اسميه التربية المكتسبة من الأشياء وكذلك يتواطأ على تخريجنا وتربيتنا أساتذة فمن تعارضت فيه دروسهم وتباينت تعاليمهم فذهب الخُلف بكلٍ مذهباً فقد ساء تخرجه ولم تحسن تربيته وأما من تدامج فيه تأديبهم وتسايرت كلمتهم واتحدت وجهتهم فهذا الذي حسنت تربيته فصار حقيقاً أن يعيش أكمل عيشة وأرغد حياة.
وإذا نحن تأملنا هذه الأنواع الثلاثة وجدنا أن التربية المكتسبة من الطبيعة مستقلة عنا من بينها لا دخل لنا فيها وأن التربية المكتسبة من الأشياء رهن بنا من بعض الوجوه وليس درج أيدينا وتحت حكمنا إلا التربية المكتسبة من الناس. بيدَ أن هذا صحيح نظراً لا عملا إذ من ذا الذي يرجو أن لا يغفل الطفل طرفة عين وأن يراقب حركاته وسكناته ويوقظ رأيه لكل ما يقال ويفعل على مسمع من الطفل ومرأى حتى لا يسمع لغو الكلام ولا يرى فعال الأشرار.
ومتى صارت التربية فناًّ فقد أوشكت أن يصير نجاحها أمراً لا تبلغ إليه وسيلة ولا تناله حيلة لأنا لا نملك كل شروط النجاح وأسباب الفوز وغاية ما تصل إليه مقدرتنا هو أن ندنو من الغاية القصوى جهد المستطاع فأما بلوغها فلا يكون إلا بمساعدة الحظ وهذا مالا يصح أن نعتد به أو نعتمد عليه.
وما عسى هذه الغاية تكون؟ هي التي يهدينا إليها سراج الطبيعة لأنه لما كان تآزر الأنواع الثلاثة ضرورياً لتمام التربية كان من الضروري كذلك أن نجعل ما في أيدينا ذريعة إلى الظفر بما ليس فيها ولما كان لفظ الطبيعة من الغموض والاستبهام بحيث لا نأمل أن يفهم الناس ما أوقعناه عليه من المعنى لذلك رأينا أن نفصح عن مضمونه ونعرب عن مكنونه حتى لا تلتبس علينا وجهة الصواب.
قالوا الطبيعة هي العادة والمرء مما تعود. وهذا قول يحتاج إلى إيضاح فاعلم أن المرء قد يجري في حياته على عادات لا محيد له عنها ولا سبيل إلا إليها من غير أن يغير ذلك من الطبيعة أو يؤثر فيها فهو في ذلك كالعود الذي أخذت عليه طريقه وحلت بينه وبين مسيره الرأسي فإذا خليته وشأنه بعد ذلك لم يرجع عما رسمت له بل يمضي حيث أكرهته ولكن العصير النباتي لم يغير من أجل ذلك مذهبه الأول وإذا استرسل العود في النماء فلا بد أن يستقيم اعوجاج ما طال منه وكذلك أميال الإنسان التي تخلقها العادة والتي هي أجنبية من فطرته لا تتغير أو تتبدل الأحوال فتنبذ العادة وتعود الطبيعة إلى مجراها الأول. وليست التربية إلا العادة وأن في الناس من ينسى ويترك وآفة العلم الترك فيخسر ما أفاد من التربية وفيهم كذلك المعتصم بحبالها المستمسك بأسبابها فما علّة هذا الاختلاف؟ لئن كنا نقصر لفظ الطبيعة على ما توافق مع الطبيعة من العادات فما أحرانا أن ننزع عن هذا الجهل ونقصر عن هذا السخف؟
الصواب أن الطفل يولد شديد الحس تتناول مشاعره كل شيء فإذا شب وتنبه لما يحصل في نفسه من الإحساسات رأيته يميل إلى ما أثارها من الأشياء أو ينفر أولاً من حيث هي طيبة لذيذة أو ثقيلة بغيضة ثم من حيث هي ملائمة له أو غير مشاكلة ثم من حيث ما يتبين فيها من الارتباط بمعاني السعادة أو الكمال. وذلك إذا بلغ كمال العقل. وهذا الخُلق جدير أن يشتد ويقوي على قدرٍ ما لصاحبه من صفاء النفس ولطافة الحس ولكن العادة قيد فهو يتبدل تبعاً لأفكارنا وهذا الخُلقُ - قبل أن يتحول - هو ما أدعوه الطبيعة.
وإذ قد نفضنا غبار اللبس عن لفظ الطبيعة وحسرنا عنه ظلال الإبهام فلنعد إلى ما كنا بصدده فنقول ينبغي أن نرد كل شيء إلى هذا الخلق وقد كان هذا يكون ممكناً لو كانت أنواع التربية الثلاثة التي ذكرناها فيما أسلفنا مختلفة وليست متعارضة ولكن ما العمل وهي متنادة متعارضة وما الحيلة ونحن بدل أن نربي المرء لنفسه نربيه لسواه؟ ألا إن الاتفاق محال لأنه لا محالة من مكافحة الطبيعة ومقاومة أوضاع البشر فأما أن نربي الطفل ليصير رجلاً وأما أن نربيه ليصير حضرياً لأن الجمع بين الغايتين من وراء الطاقة.
والرجل الطبيعي كامل في ذاته غير ناقص فهو كالوحدة الحسابية أو العدد الصحيح نسبته إلى نفسه أو رفاقه فأما الحضري فما أشبه بكسر الوحدة الذي هو رهين بالمقام فإن قيمته ليست في نسبته إلى نفسه ولكن في نسبته إلى الكل - وهو المجتمع الإنساني.
ولقد أعملت في المجتمعات الروية وقلبتها ظهراً لبطن حتى عرفت مظهرها ومخبرها فرأيت خيرها عند الناس أقدرها على مسخ الإنسان وسلخ وحدة وجوده منه لتفنى في الوحدة العامة بحيث يدرك كل أحد أنه جزء من الكُل وليس واحداً صحيحاً مستقلاً وأنه لا حياة له إلا بالجماعة ولا إحساس له إلا مع الجماعة.
ولكي نكون شيئاً معدوداً ذا شخصية مستقلة لا تتجزأ ينبغي أن يكون لساننا صورة قلوبنا وفعلنا مطايقاً لقولنا وأن نكون ذوي زَمَاع إذا هممنا بأمر لم يحلنا عن قصدنا شيء ولم تحسبنا عن لُبانتنا بَدَاة. ومن لي بأن أرى هذا الرجل لا علم أرجل هو أم حضري أم الاثنان معاً وكيف استطاع أن يكونهما أو يؤلف بينهما.
ولقد كان من آثار هذا الاختلاف أن ظهر نوعان من التربية متناقضان كذلك أحدهما عام والثاني خاص فإذا أردت أن تحيط بالتربية العامة خُبراً وتسعها علما فعليك بجمهورية أفلاطون فإنها ليست كما يظن من يأخذ بالعنوان مؤلفاً في السياسة والحكومة ولكنها كتاب فريد في التربية لم يصنف في بابه أجمع منه.
على أني مع ذلك رأيت الناس إذا ذكروها أدخلوها في باب الخرافة ولعمري لو كان ليسرجاس دون نظريته في التربية لكانت ادخل في هذا الباب فقد شوه الإنسان ومسخه فأما أفلاطون فقد طهره وشتان بين هذا وذاك.
أما التربية العامة فلا وجود لها اليوم ولا يمكن أن يكون لها وجود لأنه لا بد كي تتهيأ أسباب ذلك من أمة وإلا فمن تريد أن تربي والأمة لا تتألف حتى يلم شعثها ويضم شتاتها بلد والأمة والبلد لفظان أصبحا لا ينبئان عن معنى ولا يسفران عن مدلول فصار حقاً علينا أن نمحوهما من لغاتنا الحديثة وعندي على ذلك البراهين القيمة والحجج اللائحة ولكن في الصدع بها خروجاً عما نحن فيه.
ولست أعد هذه المعاهد والمدارس إلا أضحوكة من الأضاحيك وسخرة تضحك وتبكي ولا اعتداد عندي بهذا الأسلوب الذي جرى عليه العالم في التربية لأنه يرمي إلى غايتين متناقضتين والتناقض داعية الفشل وباعثة الخيبة وهذا القالب الذي يُضرب عليه في تأديب النشء وتربيتهم إنما يخرج لنا رجالاً ذوي وجهين أدعياء وإذا عمت الدعوى فنحن خليقون أن لا ننخدع بها وكل سعي في هذا السبيل ذاهب أدراج الرياح.
بقيت التربية الخاصة أو الطبيعية ولكن أي غناء للناس في رجل لم يرب إلا لنفسه، ولو استطعنا أن نجمع في رجل واحد بين الغايتين ونوفق بين الغرضين بأن أزلنا مناقضات الحياة البشرية لذللنا بذلك كوؤداً ظاهراً في طريق سعادته وهذا أصلحك الله مطلب يقصر عنه باعنا ويفوت مبلغ ذرعنا ولا بد لنا كي يتمثل مثل هذا الرجل لعالم تصورنا من رؤيته وقد بلغ كماله والإحاطة بأمياله ومراقبته في تقدمه وتعقبه في طريق نموه أي لا بد لنا من معرفة الرجل الطبيعي واستطلاع طلعه وهذا كلام سيحيط القارئ بجملته وتفاصيله بعد الفراغ من قراءة هذا الفصل. وقد آن لنا أن ننظر فيما ينبغي علينا فعله لنظفر بهذا المخلوق النادر فاعلم أن علينا واجبات جمة شتى جلها ينحصر في أن لا نفعل شيئاً وأن لا ندع شيئاً يفعل فإن الملاح إذا ركب ظهر البحر في ريح رخاء وأراد أن ينساب مع التيار انسياب الحُباب فليس به إلى الحذق والمهارة حاجة كبيرة فإذا التطمت الأمواج واصطرعت كتائب الماء فإن السلامة في أن يلقى الملاح خيرزانته والحزامة أن لا يكافح معتلج الأذى فإياك إياك أيها الملاح أن توكل بسفينتك الأرواح وتتركها رهن الأمواج وتلقى أزمتها إلى أيدي التيار فيلتهمك طامح اليم وتطوح سفينتك في مهاوي العباب.
وفي الدائرة الاجتماعية حيث لكل منزلة معلومة ينبغي أن يربى كل امرئ لمنزلته فإذا ترك أحد مكانه الذي أعدّ له فليس بصالح لسواه فالتربية لا عائدة فيها إلا إذا كان السعد ألفاً للأب في وظيفته والزمان مساعفاً والأيام مسالمة فأما فيما عدا ذلك فهي ضارة بالطفل ولو كنا في مصر حيث يتوارث الأبناء وظائف الآباء لهان الخطب ولقلنا قد عرف كل امرئ آخرته ومصيره ولكنا في بلاد أهلها يتغيرون ومراتبهم ثابتة على حالها الأولى ولست أدري إذا أعد الرجل بنيه لمرتبته الاجتماعية أهو ناظر في ذلك إلى صالحه أم صالحهم؟
ولكن الناس متساوون ووظيفتهم المشتركة هي الرجولة فمن حسن إعداده لها فهو خليق أن ينهض بما يحمل وينفذ فيما يندب له وليس يعنيني أن تلميذي أميل سيكون في مستقبل أيامه عاملاً في الجيش أو الكنيسة أو القضاء فإن الطبيعة قد أغفلت عمل أبويه ودعته إلى الاضطلاع بواجبات الحياة البشرية وما كنت لأعلمه من ضروب التجارة إلا كيف يعيش ولست أنكر أنه لا يكون بعد نفض يدي من تأديبه قاضياً بمعنى الكلمة أو جندياً أو قسيساً ولكنه سيكون رجلاً قبل كل شيء وأنه لحقيق بعد ذلك أن لا يتعاظمه أمر ليس يعجز سواه ومن كان كذلك فليس بضائره مرَّ الليالي وانتقال الأحوال.
وأولى العلوم بتوجهنا إلى تحصيلها وانقطاعنا لطلبها هي درس الحياة وتعرفها فإن أحسن الناس تربية هو عندي أردهم لنفسه على محبوبها ومكروهها وأجلدهم على مضّ الحياة ومن هذا ينتج أن التربية الحقة ليست نصائح يصبها المرء في أذن طفله ويسديها إليه من حين لحين ولكنها الدربة وعجم الخطوب وأدب الزمان وسبك الدهور فهي تبتدئ مع ابتداء الحياة كالعود يسقى الماء وأول مؤدب للطفل ظئره. (متلو)