مجلة البيان للبرقوقي/العدد 56/فصول مختارة من كتاب الحكمة والقدر
→ عجز الذهن البشري | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 56 فصول مختارة من كتاب الحكمة والقدر [[مؤلف:|]] |
محاورة ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1920 |
للشاعر الكاتب البلجيكي مترلنك
مترلنك من أكبر شعراء أوروبا الحديثة وكتابها، وقد اشتهر بطائفة من الروايات التمثيلية وجملة نم المقالات الأدبية، وإن كتابه الموسوم بالحكمة والقدر لكاف في أن يجعل اسمه في عداد الكتاب الثابتين على الدهر القلب، الخالدين على الزمن الفاني.
وهذا الكتاب تتخلله روح التفاؤل المهذب المستنير الذي يدل على سعة الذهن وانفراج ما بين أطراف الخيال، ويتغشاه ضوء الرضى الناشئ نم قوة الدراية بحقائق الحياة والمنبعث عن استفاضة العلم بدخائل الروح، فهو جدير بأن ينبط في النفس مشارع الأمل ويبجس فيها عيون الرجاء وينضر أمانيها الذابلة ويروّض تعلاتها المصوحة، وأن هناك ضرباً من التفؤل يستفز فينا الغضب ويبتعث السخط لأنه يدل على رقدة العقل وجموده وبلادة الحس وركوده وينم عن إدراك مواطن الروعة وجوانب العظمة في الحياة، فإن الناظر في الحياة قد تهوله عظمة الخير فتسبب له القلق والخضوع وقد ترهبه صولة الشر فتحدث في نفسه الحزن وتولد فيها الألم، وأن عقيدة الأمل لتسفل في النفوس التي ينشأ فيها الأمل من عدم الفطنة لما يحفهم من أسرار الكون الخفية ودخائله المستترة وفتور شعورهم بالحيرة الضاربة بأرواقها حول الإنسان والتي هي من أكبر البواعث للفكر على التفكير، والقارئ قمين أن يعلم من أمل مترلنك أن فضل العقيدة وأثرها في الحياة - سواسية عقيدة الأمل وعقيدة اليأس - لا يتوقف عليها في ذاتها ولكن على كيفية اعتقادها وطريقة اعتناقها، والعقائد في الحياة الفردية مثل الأديان في الحياة العامة تسمو وتنحط تبعاً لحالة معتقديها فإن الدين إذا ولج إلى عقول الهمج المستوحشين تحول في أذهانهم إلى خرافات مشوشة وأباطيل فارغة وتعصب ضيق ممقوت ولكنه في الأذهان الصافية المتفتحة للمعرفة تفتح الزهرة لقطرات الندى يتحول إلى منافذ من خلالها الكمال والخير، وطاقات ترى بها الجمال والحق، وينشأ من ذلك أن العقيدة التي تنهض بأمة وتسمو بها في مدراج السيادة والعظمة قد تكون هي نفسها التي تحدو بأمة أخرى في ركاب الفناء والزوال وقد لاحظ أحد الكتاب أن فلسفة شوبنهور النافية للحياة الزاهدة في الوجود كانت من بواعث الهاض الشعوب السلافية لأنها كشفت لهم أن الحياة لا تستحق الحرص عليها فحببت إليهم الأ على المخاطر وعدم المبالاة بالصعاب وهو نت عليهم ملافاة الموت بصبر لا ينتكث وعزم لا يفل فزادت الحيوية المتحيرة في نفوسهم جيشاناً، وقد تكون فلسفة شبوبنهور نفسها من بواعث الخمول والسقوط لامة أخرى.
وتفاؤل مترلنك تفاؤل رجل أطل على الهاويات البعيدة الغور التي نتثاءب لابتلاعنا وأشرف على الجبال السامية الأعلام الشامخة الذرى التي تحاول تسلقها فيعجزنا، فرأى أنه من الميسور تجنب تلك الهاويات وأنه ليس من وراء الإمكان صعود تلك الجبال - جبال الكمال التي يشم منها أزاهير الحكمة ونسائم السعادة وليس المنشأ الوحيد لتفاؤله إطراحه المذهب الجبريين فقد يكون الإنسان من القائلين بحرية الإرادة وهو عليل الظن بالإنسانية من ناحية انتفاعها بتلك الحرية ولكنه يرى ان دائرة حكم القدر ضيقة الرقعة محصورة التخوم وأن الإنسانية في يدها تهذيب نفسها، وهو واسع السعادة مشردة عن رياض النعيم وأن الفكرة الابدالتي تترك نفساً مثل نفس كارليل أو شوبنهور مثل الصدفة تسمع منها أنين لج الأبد الزاخر قد استحالت على يده إلى فكرة لماعة الجنبات مشرفة النواحي نستمد منها القوة في ساعات الكلال والفتور إذ يري أن أعمالنا الفكر في عظمة الأبد مما يزيدنا قوة على قوة لأننا في تأملنا تلك العظمة إنما نملح ظلال عظمة نفوسنا وقد لا يكون مترلنك أصاب من الحق الكلي والمفاصل في الكثير نم أفكاره ولكنه مما لا سبيل إلى دفعه أنه قد أتى بأفكار سامية تندى على الكبد الحرى وأعاد في الأذان في هذه الأوقات المادية العصيبة النغمات الحسان والأناشيد العذاب التي سمعها القدماء من أمثال مرقس أورلياس وسنكا وغيرهما من الفلاسفة والأسطوانيين و؟؟؟؟ الصول التي وقع عليها الاختبار.
- * *
أنا لا أزعم أن القدر عادل وأنه يكافئ الصالح ويعاقب الشرير، وأي روح واثقة من المكافأة مطمئنة إلى طيب الجزاء يمكن أن تدعى الصلاح وصحة الضمير وسلامة دواعي الصدر، وأننا عند ما نحكم على القدر لأقل منه عدلاً وأشد مغاراً في الظلم، وأن عيوننا لا تنظر سوى المصائب التي تقرع مروة الحليم ولا تبصر غير سحب الهم المركوة التي تمطره، ولكننا لا نري سعادته ونعيمه لأنه من شرائط تفهم سعادة العاقل الحكيم ووسائل إدراكها أن يكون في نفوسنا من الحكمة والعدل بقدر ما في نفسه، وأن الر=جل ذا النفس الأرضية الوضيعة والقلب المغلف الجاف إذا حاول تقدير حكيم جليل وزنته ألفيت سعادة الحكيم تنساب من بين أنامله انسياب الماء، ولكنها في زنة الذهب ولمعانه ولألأئه وتوهجه في يد ضريبة الحكيم وصنوه العادل لأن كليهما قد منح ثقوب الرأي ونفاذ البصيرة وأن يرى أبعد من مرمى الأبصار وأسمى من تحليق الأفكار، وأن المصيبة التي تنزل بالحكيم قد تكون قريبة الشبه موجودة النظير في الملمات التي تحل ركابها بساحات غيره من الناس ولكن سعادته ليس لها أدنى علاقة ولا أقل صلة بتلك السعادة التي يتوهمها من لم يكن حكيماً، وأن في السعادة لأقاليم مجهولة أكثر مما في الشقاء، وأن صوت الشقاء واحداً بداً ولكن السعادة كلما نفذت إلى الأعماق كانت أخفت صوتاً وأكثر صمتاً، وإذا نحن وضعنا في كفة الميزان الأحزان والهموم ومناكر الأيام وعيوبها ووازناها في الكفة الأخرى بما يحسبه كل منا سعادة رأينا المستوحش يضع في كفة السعادة مقداراً من الريش وكمية من البارود ويضع الذهب المتحضر بعض الذهب وعدة أيام الأحلام وليالي الصبوات وذكر النشوات، ولكن الحكيم يضع آلاف الأشياء التي لا تستطيع عيوننا أن تستشفها يضع كل روحه وحتى الشقاء الذي كابده فهذبه والألم الذي مارسه فنقاه.
إذا تلفظت بكلمة القدر انطبعت في صفحات أذهان الناس مجللة بالسواد مكسوة بالمخاوف فإن الذي يدور بخلدهم بالغريزة والجلبة هو أن الشعب الذي يؤدي بسالكه إلى القبر - وهو في أكثر الأوقات الاسم الذي يطلقونه على الموت عندما تكون يده خافية عن الأبصار - هو عندهم الموت الذي يحوك سداره ولحمته من المستقبل ليمد ظلال الموت على الحياة، ونحن نسمع بالموت يتربص الدوائر بالمسافر في منعطف الطريق وحنيته نقول أنه لا محيد لأحد عن ملاقاة المقدور ولكن لو لاقى المسافر بديلاً فنحن لا ننيط ذلك بالمقدور ولو أنا فعلنا ذلك لكانت له صورة أخرى في القلوب وشأن مختلف في النفوس ولكن بين كل ذلك ألا يوجد أفراح ومسرات نلتقي بها في طريق الحياة ورحلتها أكبر وأجل من أية كارثة وأفدح نزلة، بل أضخم وأفخم من الموت نفسه؟ أما يمكن أن نلتقي بسعادة سامية على منال العيون قصية على مرامي الأبصار؟ أو ليس من طبائع السعادة أنها أقل ظهوراً وأخفى مدباً من الشقاء، وأن الطرف يتقاصر عن إدراكها كلما تسامت وتوقلت في النواحي العالية؟ ولكن هذه الأنعيرة التفافاً ولا نكلف به خاطراً، وأن كل القرية قد تحتشد جموعها وتلتف حول مشهد محزن ولكن قل بين الناس من يتمهل ملياً ويوكل ألحاظه بقبلة عذبة ندية أو برؤية جمال مشرق زاهر يبهج الروح ويسرها أو بتأمل أشعة نم الحب تنير نواحي القلب وتشرق في دياجيه، ولقد تكون تلك القبلة منتجة لسرور ليس بأقل من الألم الذي يتولد من الجرح. إننا نظلم القدر ونحن لا نؤلف أبداً بين القدر والسعادة، وإذا نحن اعتبرنا القدر منفصلاً عن الموت فإنما نفعل ذلك لنحكم الأواخي ونقوى الروابط بينه وبين مصائب أفدح من الموت وآلم وقعاً.
- * *
من الشطط أن نفكر دائماً في القدر موصولاً بالموت مرتبطاً بالدواهي والنكبات، فمتى يحين الوقت الذي يبطل فيه اعتقادنا أن الموت خير نم الحياة وأكثر أهمية وأن الشقاء أعظم من السعادة؟ ولماذا عند ما نحاول أن نستحضر مصير رجل من الرجال نحصر نظرتنا في الدموع التي تصوبت من جفونه والزفرات التي تصعدت من صدره لا في الابتسامات التي علت صفحة وجهه في أوقات المسرات ومصابيح الطلاقة والبشر التي توقدت عليه في ساعات الابتهاج والإطراب؟ ولأين تعلمنا أن قيمة الحياة مرتهنة بالموت لأن الموت موقوف على الحياة؟ ولماذا مصرع رج كسقراط وغيره ممن كانت حياتهم مستنبلة سامية يترك منا بكي العيون هاملاً ويخلف فينا الهم مقيداً ومرسلاً لأن خاتمتهم كانت فجاءة وكانت مريرة مؤلمة، ونستريح إلى أن الشقاء يتغشى الحكمة والفضيلة وأنه سواء عنده الباز الأشهب والغراب الأبفع وأنا ليفصلنا عن العدل نفنف متباعد إذا كنا لا نريد أن نري ف الحكمة واعدل ونواحيهما غير الحكمة والعجل فحسب ولماذا نحصر وجوداً بأكمله وحياة تامة في ساعة الموت، ولماذا نظن أن حكمة سقراط وفضيلته وقد ساقتا إليه رسل الشقاء وأوفدتا عليه طوائف المصائب وهل الموت يحوي منتدحاً أكثر امتداداً من الميلاد؟ أو لسنا نفكر في مولد الحكيم عندما نفكر في مصيره؟ أن السعادة أو الشقاء تنشأ عن الأعمال التي تصدر عنا في الفترة الممتدة بين ساعة المولد وساعة الموت وبذلك لا تقدر سعادة الرجل عند الموت ولكن يفتش عنها في الأعوام الطوال التي تتقدمه، ويخيل إلى أننا دائماً نتوهم أن الحكيم الذي سطر لنا التاريخ ميتته الرهيبة كان يطوي الأيام في تنبئ مظلم مخيف بالحادثة التي أضمرتها له الأيام وخبأتها له حكمته؟ وأننا لنخطئ في ذلك فإن الموت يخيف الشرير اكثر مما يخيف الحكيم، ومهما كانت خاتمة الحكيم مؤلمة فإنها لم ترسل ظلالاً سوداء فوق حياته لأنه لم يصرف أوقاته في ميتات أولية ولكنه من أصعب الأمور علينا أن لا نظن أن جرحاً ينضج بالدم يحيل إلى لا شيء كل سكون الحياة وهدوئها.
- * *
لنذكر دائماً أنه لا شيء يصيبنا إلا وهو من طبيعة روحنا ومعدنها، وأن كل الأخطار التي تقدم علينا تلبس لأرواحنا أزياء الأفكار التي تمر بإخلادنا كل يوم وأن أعمال الشجاعة وأحداث البطولة لا تمنح إلا لهؤلاء الذين عاشوا السنين الطويلة أبطالاً في زوايا النسيان وأكنان الخفاء، وسواء هبطت الوادي أو رقيت الجبل سواء شرقت حتى لم تجد ذكر مشرق وغربت حتى لم تجد ذكر مغرب أو اقتصرت على الطواف بمنزلك فإنك ملاق نفسك في طرق القدر، وأن مخاطراتنا لتتطاير حولنا تطاير النحل حول خلاياه عند ما يكون على نية الاحتشاد، وهذه المخاطرات تترقب ظهور الفكرة الرئيسية من أرواحنا فإذا لاحت تلك الفكرة تدفعت نحوها والتفت حولها، فكن كاذباً يسرع إليك الكذب وكن نباض القلب بالحب نزاعاً إلى البطولة يترادف إليك الحب وتتلاحق إليك أحداث البطولة، فإن كل ذلك يقبل إليك إذا أشار إليه طرف القلب، وإن الروح إذا صارت عند إقبال المساء أوفر عقلاً وأصفى حكمة صار الحزن الذي كاثرها في الصباح أحكم وأصفى وأطهر وأنقى.
- * *
حول الرجل الصالح دائرة متسعة من السلام والأمن من داخلها. تزول سهام الشر وتفنى وليس في طاقة زملائه أن يقذفوه بالمكائد ويهيجوا به الألم، ومن الحقائق الجلية أننا إذا كنا نرسل العبرات من حنث أعدائنا ومكائدهم فما ذلك إلا أننا نسر ونبهّج إذا نحن أبكيناهم وحشونا قلوبهم حرفاً وإذا كانت سهام الحسد في وسعها أن تصل إلى جلودنا وتسيل من دمنا فإن ذلك لأن في نفوسنا سهاماً نريد أن نطلقها، وإذا كانت الخيانة تستثير الزفرات من حنايا ضلوعنا وتستوقد الغضب بين جوانحنا فإنه لا بد من أن نكون غير مخلصين لأنفسنا، فإن كل تلك الأسلحة لا تجرح إلا الروح التي لم تقدمها قرباناً على مذبح الحب.
- * * إذا نحن تعمقنا في الحياة وضح لنا الكثير مما خفى علينا من أسرار الأحزان الكبيرة وأسباب اليأس العظيم ورأينا أرواحاً كثيرة حولنا تحيا حياة خمول وإن النفوس قد أقفرت فلم تتفتح لها نفس لأنها على يقين من خلوها من كل ما يحفز على الإعجاب ويثير الإجلال ولكن الحكيم ترتاده الساعة التي تدعى فيها كل روح يقظته وانتباهه وحبه وحنانه ولو لم يكن ذلك إلا لأنها تملك هبة الوجود الخفية المقدسة والتي فيها ينظر الكذب والضعف والرذيلة كلها متجمعة على السطح حيث ينفذ عينه من خلالها وتستشف من ورائها القوة والصدق والفضيلة في الأعماق، وإنها لساعة مباركة سعيدة حيث يقف الشر وقد تجلى خيراً لم يجد هادياً وتظهر الخيانة كأمانة كانت مضللة مصدوده عن سبيل الرشد مبعدة عن ورد السعادة وحيث يصير الكره حباً واليأس قوة.
لنذهب حيث شئنا فإن نهر الحياة الجياش العباب يتدفق تحت قبة السماء ويسير بين حيطان السجون وأسوارها حيث لا تضاحك الشمس غوارب أمواجه بينما هو يتدفق بين درجات القصور حيث السرور والابتهاج، وليس يعنينا عمق ذلك النهر أو اتساعه أو قوة تياره الدائم التدفع والوثوب ولكننا نروم معرفة حجم وصفاء الكاس التي نغمرها في مائه الجاري لأن كل ما نحمله ونستهلكه من أمواهه يأخذ شكل تلك اتلكاس لأنها قد استعارت شكل أفكارنا وصورة إحساساتنا وإن لكل إنسان كاساً من صنع أمانيه وأحلامه وصياغة نوازعه ورغباته، فإذا نحن تذمرنا من القدر وتسخطنا أحكامه فإن ما يحزنن ويسبب شكوانا هو أن القدر لم يوقظ في نفوسنا إلا رغبة في كأس أفتن صنعاً وأبهر لألأ، والحقيقة التي قد تغيب عن أذهاننا هو أن فكرة عدم المساواة محصورة في الرغبة، وعدم المساواة هذه نزول في اللحظة التي ندركها فيها، وأن النزوع إلى رغبة أشرف كفيل أن يأتي لنا بها، فإن صدر المقدور لينبض بهذا الطموح الجديد فيزيد كأسنا جمالاً وإشراقاً وعمقاً واتساعاً لأن معدن تلك الكأس قابل للالتواء حتى في ساعة الموت العابسة الجافة، وليس هناك من سبيل لشكوى هذا الذي علم أن مشاعره ينقصها الحماس الرفيع أو للآخر الذي يصعد في أفق نفسه الأمل سعادة أوسع نطاقاً وإني إذا كنت أحسد حسداً شريفاً هؤلاء الذين استطاعوا أن يملؤا كؤوسهم أكثر فتنة وأمهر ائتلاقاً من كأسي حيث مجرى النهر سلسال صاف فإن عندي - وإن كنت أجهل ذلك - نصيباً وافراً من كل ما يستقون من النهر بل أن شفي لتجاور شفاههم على حافة تلك الكأس اللماعة.
- * *
لنترك الشكوى من عدم اكتراث الطبيعة بالحكيم، وإن هذا الاكتراث يبدو لنا غربياً لأننا نتوغل في أقاليم الحكمة، فإن أول واجبات الحكمة أن نطرح في الضوء ضآلة الفراغ الذي يملؤه الإنسان في ذلك الوجود، وفي هذا الصراع يظهر الإنسان خطير الشأن مثل النحل في خلاياه، وإن النحل ليحمل نفسه عناء إذا أظن أن زهرة واحدة تكون في الروض أكثر ازدهاراً وإشراقاً لأن ملكة النحل قد ثبت أنها شجاعة باسلة جديرة بالسطوة والنفوذ في الخلايا، وأن لا ينبغي أن نظن أننا نحط من قيمة أنفسنا ونهضم من جانبها عند ما نعلي قدر الكون ونفخمه، وسواء أنطنا العظمة بنفوسنا أو بالكون فإن هذا يسوق إلى أرواحنا حلسة اللانهائي التي هي دم الفضيلة وقوتها ولا ينبغي أن نتطلب من وراء الفضيلة جزاء ضخماً، فإن جزاء الفضيلة داخل نفوسنا لا خارجها، والذين يرفعون أصواتهم في طلب مكافأة هم أبعد الناس وأقصاهم عنها، ولا ينبغي أن يعزب عن بالنا أن عمل الخير نفسه هو زهرة لحياة داخلية طويلة من السرور والقناعة والبشاشة والرضي، وهو يحدث عن ساعات الهدوء والسلام في أشرق أعالي الروح واسحق نواحيها، وأنه لا مكافأة تأتي بعد عمل الخير تعادل أو تقارن بذلك الجزاء العذب الجميل الذي ذهب معه وأن هؤلاء الذين يفعلون الخير غير منتظرين لجزاء هم الذين يعرفون سرور الروح، وأننا نفعل الشر لأسباب واضحة معلومة لنا ولكن أفعال الخير تصيرا كثر صفاء ونقاوة كلما جهلنا الدافع لها والحافز عليها، ولو أدنا أن نقدر فضيلة رجل فلنسأله عن بواعث الفضيلة في نفسه وإن أقل الناس علماً بالجواب هو أصدقهم فضيلة، وقد تظن أن العقل إذا اتسع وترامت حدوده تزول من الروح الشجاعة وهذا نقيض الحق فإن العقل الأكثر اتساعاً يستصحب مثلاً أعلى للشجاعة أسمى وأبعد عن الغرض، وإن هذا الذي يذهب إلى أن الفضيلة في حاجة إلى تأييد ومساعدة من القدر أو نم العوالم الأخرى ليس في نفسه حاسة الفضيلة المبجلة المحترمة، وإذا أردنا أن نخلص في عمل الخير فإنه يلزم أن نعمل الخير لتلهفنا إلى الخير نفسه ولتلفتنا إلى معرفة أدنى وأعرق بالخير. وإن هناك فرقاً لا يخفي على العين البصيرة بين روح الرجل الذي يعتقد أن أشعة عمل الخير ستترامى إلى مسافات بعيدة وتنير في نواح قاصية وبين هذا الذي يعتقد أنها لا تنير سوى روحه ولقد توجد قوة وقتية في الحق الطموح المتطلع ولكن القوة التي تأتي من ناحية الحق المتواضع المتخشع أكثر دواماً وأبقى على الزمن، ولخير لنا أن نكون مثل الجندي الذي يغرف صغر قدره وتفاهة تأثيره في المعركة ولكنه يظل يجاهد بقوة وعزيمة مشدودة نم أن نكون مثل الجندي الآخر الذي يخيل له أن كل ضربة من ضرباته تقرب النصر وأن الرجل المهذب المستقيم ليحقر أن يخدح جاره ويزيل له المحال ولكنه شديد الميل إلى أن يعتبر أن مقداراً من خداع النفس لا يمكننا فصله عن المثل الأعلى وإذا كان في الفضيلة مكسب وربح فإن أنبل الناس نفساً يرغم على أن يفتش عن السعادة في مظان أخرى.
لماذا لا نعتقد أنه ليس من واجبنا أن نرسل العبرات مع كل الباكين ولأن نشاطر الأحزان كل موجع كسير القلب وأن نعرض قلبنا لكل طارق فيلاطفه ويسليه أو يطعنه ويدميه؟ إنا لا نجد من الدموع والجروح والآلام أعواناً إلا إذا كانت لا تحل منا عرى العزمات ولا تقدح منا في معاقد القوة والثبات، ولا يغيبن عن بالنا أنه مهما متن رسالتنا في الدنيا ومهما كان الغرض من مساعينا وآمالنا ومن نتيجة أفراحنا ومسراتنا فنحن قبل كل شيء حراس للحياة وإن هذا لا صدق الحقائق وأثبتها بل هو الأساس الذي تشاد عليه أخلاق البشر وآدابهم، وإن الحياة منحت لنا السبب نجهله فليس من شأننا أن نصغر من قيمتها وأن نقذف بها في زوايا الإهمال وأننا نمثل في هذا الكوكب الأرضي حياة الشعور والفكر ولذا فإن كل الميول التي من شأنها ان تطفئ حماس الإحساس وتفت قوة الروح هي في مصدرها غير تهذيبية، وواجبنا هو أن نتعهد ذلك الحماس وأن نزيد في قيمته ونعلي من أمره ولنحاول دائماً أن نتهدى إلى يقين أعمق في عظمة الإنسان وفي قوته وفي مصيره ومآله أوفى شعفه وشقائه وبؤسه ومرارته لأن الشفاء النبيل السامي ليس بأقل إنهاضاً للروح نم السعادة النبيلة السامية من أشعتها إلى ميولنا وأفكارنا وتبعث من ضيائها إلى شجاعتنا وأقدامنا وإن كل جمال تأخذه العين ويستمكن منه البصر فيما حولنا لجميل أيضاً في نفوسنا وإن كل ما نجده في نفوسنا عظيماً مستحقاً للإجلال والتوقير نجده أيضاً في نفوس الآخرين واني لا أستطيع أن أجعلك نبيل النفس ما لم أكن نبيلها ولست أمنحك إعجاباً ما لم يكن في روحي شيء يستوجب الإعجاب.
- * *
إن السمو لا يأتي إلى الروح من طريق تضحية النفس وإن النفس كلما صارت أسمى أخذت التضحية تختفي عن الإبصار كما تختفي أزهار الوادي عن ناظر الصاعد الجبل وإن التضحية لعلامة جميلة على قلق الروح ولكن القلق لا ينبغي أن يعيش وأن يتغذى في نفوسنا من أجل نفسه والروح التي على طريق اليقظة ترى في كل شيء سبباً للتضحية ولكن أشياء قليلة تظهر كذلك للروح التي صارت لا ترى في أنكار النفس والرحمة والتطوع جذوراً لا يستغنى عنها بل فيها أزهاراً خفية، وكثيرون من يهدمون قصور سعادتهم ويطفئون أنوار مآلهم المتألقة ليصلوا إلى رؤية أوضح للنفس في اللهب المتهالك الفاني وكأنهم يمسكون في يدهم مصباحاً يجهلون طريقة استعماله فإذا انتظم سلك الليل وتشوقوا للأنوار بددوا مادته في نار غيرهم ولنحذر أن تعمل عمل الرجال في الخرافة الذي وقف يحرس المنارة ثم تصدق بزيتها الذي كان يضيء فيملأ البحر نوراً، وإن كل روح في فضائها منار تتفاوت حاجتها إليه وإن القوة اللامدية التي تغير في أرواحنا ينبغي أن تضيء أولاً لنفسها لأنها بهذا الشرط فقط ستضيء للآخرين أيضاً.
- * *
إن أصغر فكرة مسلية فيها من القوة في ذاتها ما ليس موجوداً في أبلغ شكوى وأفصح تعبير عن ألم وحزن، وإن الفكرة العامة المتسعة العميقة التي لا تجلب سوى الحزن لقوة تحرق أجنحتها في الظلام لترمي أشعة حول جدران سجنها وإن أبسط فكرة أمل أو خضوع بارتياح لقانون لا مندوحة عنه لقوة في نفسها.
علي أدهم