مجلة البيان للبرقوقي/العدد 54/حضارة العرب في الأندلس
→ ../ | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 54 حضارة العرب في الأندلس [[مؤلف:|]] |
روح الإسلام ← |
بتاريخ: 1 - 4 - 1920 |
الرسالة الثانية
من المرية إلى قرطبة
تابع ما نشر في العددين 7و 8 من السنة السابعة
الأسطول الأندلسي
وروح العظمة التي ترفرف عليه
أسلفنا لك في الرسالة الأولى من هذه الرسائل شيئاً من القول قد يكون مغنياً في معنى الأسطول وأثره الصالح في ادلولة التي تعنى به، وإن الدولة الفاطمية في أفريقية، والدولة الأموية في الأندلس لهذا السبب بعينه ولأن بلادهما واقعة على سيف البحر الرومي البحر الأبيض المتوسط وبحر الظلمات المحيط الاطلانطي قد بذتا سائر الدول في العناية بالأساطيل حتى قبضنا بها على أعنة البحار، واستوتا على ما فيه من جزائر وأقطار، وآضنا بذلك وآضت رعاياهما سادة البر والبحر، بل ذل الزمان لهم ولانت أعطاف الدهر، وهذا هو الذي أرهج بين هاتين الدولتين بالفساد. وأرسل بينهما عقارب ألحقاد، وأثار بينهما نقع الحرب والجهاد، حتى لا تكاد الحروب بين الدولتين ينطفئ لهيبها، فتراهما للتافه من ألأسباب يجردان الجيوش بعضهما على بعض، وتتلاقى أساطيلهما مصرجة بالشر، ولعلك لم تنسى بعدُ حادثة هذا المركب الأندلسي الذي قمنا فيه من الاسكندرية، وأنه تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز لدين الله الفاطمي وأخذ ما فيه من بريد وبضائع، فما كان من المعز إلا أن أرسل أسطولاً كبيراً إلى؟؟؟؟ لأسطول الأندلسي في المرية - كما أُخبرنا بذلك ونحن في هذا البلد - فعاث فيه عيثاً والحق به وبالمرية ما أرضاه ونقع غلته وأطفاً لهيبه، فلم يسع أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر إلا الانتقام من المعز، فأمر بتجريد الأسطول وحشد المقاتلة والذهاب إلى أفريقية، فذهب إليها تحت أمرة حاجبه الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد أسطول كبير يقل عدداً عظيماً من رجالات الحرب، فعاج أولاً على مدينة وهران وجمع من فرسان الأندلس المحتلين بلاد المغرب نحواً من خمسة وعشرين ألف فارس ثم هجم بالرجلان والفرسان على أفريقية ودارت بينه وبين رجال المعز رحى الحرب فهزم الأندلسيون قبائل صنهاجة وكتامة، وكان يتلف منها السو الأعظم من جيش الأفارقة - واقتفوا آثارهم حتى بلغوا ضواحي تونس - وهي غنية بتجاربها الواسعة يسكنها كثير من تجار اليهود الأغنياء فحصروها براً وبحراً وألحوا في الحصر، فلما رأى أهلها أن الخطر محدق بهم عرضوا أن يسلموهم المدينة وقدموا مبلغاً كبيراً من المال إلى الحاجب ابن شهيد، وقدموا إليه كذلك أنسجة من كل نوع وطرفاً من الحلي وذهباً وحجارة كريمة وملابس من الصوف والحرير وأسلحة وخيلاً وعدداً عظيماً من الأرقاء، ثم غنم عدا ذلك سفن الميناء وأثقالها وضمها إلى سفنه وكر راجعاً إلى الأندلس.
- * *
ومن سننهم التي مضوا عليها وجرات عادتهم بها أن يحتفلوا بالأسطول عند رجوعه ظافراً من حرب، فتقوم الأساطيل بألعاب وحركات بمرأى من عظماء الدولة ومسمع، كأنها في حرب مع الأعداء فاتفق في اليوم الذي وصلنا فيه إلى المرية أن آب الأسطول الأندلسي رافعاً أعلام النصر في هذه الواقعة، فأمر أمير البحر عبد الرحمن بن رماحس بأن تقوم الأساطيل بألعابها، فما كان منا إلا أن بادرنا إلى إمتاع أنفسنا بمشاهدة هذه الألاعيب صحبة الأمير، فذهبنا إلى الميناء - ميناء المرية - فوجدنا ثمت في انتظارنا مركب كبيراً كأنه رضَوى أو ثبير، أو الأمل الكبير، فدعينا إلى النزول فيه، ثم أخد لأمير ابن رماحس في أن يرينا ما في هذا المركب من بروج وقلاع ومناظر وتوابيت ومن منجنيقات ومكاحل بارود ونفط - ومن نوتية ومن مقاتلة وأسلحة وهلم مما قضينا منه عجباً - وهذا المركب نوع من الأنواع التي يتألف من منها الأسطول يسمى الشواني الواحد منه شونة وبعد ذلك أخذ هذا المركب يسير بنا الهوينا في اختيال، مترجحاً ذات اليمين وذات الشمال كأنه عروس يرفرف عليها روج الجمال والإجلال، وبعد أن سار في البحر شيئاً وقف بنا حيث نشاهد حركات الاسطول وألاعيبه. وكان الشاطئ. ساعتئذٍ قد غُص بالنظارة من كل صنف من أصناف الناس، والزوارق قد انتثرت على متن البحر من جميع النواحي، وفيها لا يعلم عديدهم إلا الله من الاندلسيين والاندلسيات، كي يشاهدوا حركات الأسطول - فكان لذلك منظر تحسر دونه الظنون، وتتراجع دون إدراكه الأوهام - منظر يهز رواؤه الفكر، ويُشيع الروعة في الصدر، وينتقل من هذا العالم إلى عالم آخر كأنه الخلود.
مجال أسود وملهى سفين ... فياطيب لهو ويامنظر
وياحسن دنيا وياعز كلك ... يسوسهما السائس الأكبر
ثم بصرنا بعد ذلك الأساطيل على اختلاف ضروبها، وقد أخذت بصورة شيطانية في ألاعيبها، فإذا رأيت ثَم رأيت، كنائن، غير أنها تمرق مروق السهام، ورواكد هي مدائن، بيد أنها تمر مر السحاب غير الجهام، وأطياراً إلا لها جوارح، لا تصبد إلا الأرواح وأفراساً في سرعة البرق اللامح، سوى أنها ذات دُسُر وألواح.
معيدة السقائف ذات دسر ... مضبَّرة جوانبها رَدَاح
- * *
تتخاذل الألحاظ في إداركها ... ويحار فيها الناظر المتأمل
فكأنها في اللطف فهم ثاقب ... وكأنها في الحسن حظ مقبل
- * *
فيا للجواري المنشئآت وحسنها=طوائر بين الماء والجو موماً
إذا نشرت في الجو أجنحة لها ... رأيت به روضاً ونوراً مكمما
- * *
ذات هدب من المجاذيف حاك ... هدب باك لدمعه أسغاد
حمم فوقها من البيض نار ... كل من أسلت عليه رماد
- * *
ملأة الكماةُ ظهورها وبطونها ... فأتت كما يأتي السحاب المغدق
عجباً لها ما خلت قبل عيانها ... أن يحمل الأسد الضواري زورق
- * *
رأرت زئير الأسد وهي صوامت=وزحفن زحف مواكب في زورق
- * *
ترمي ببروج إن ظهرت ... لعدو محرقة بطنا
وبنفط أبيض تحسبه ... ماء وبه تذكى السكنا
- * * وما زالت الأساطيل تلعب كأنها في سوح القتال، من لدن ذَرَّ قرن الشمس إلى أن جاء وقت الزوال.
- * *
وهنا يجمل بنا أن نقول لك القول على أنواع السفن التي يتألف منها الأسطول الأندلسي وعُددها وآلاتها - فمن تلك الأساطيل نوع ما يقال له الشواني جمع الشونة أو الشيني كما بك آنفاً - وهي أجفان حربية كبيرة تقام فيها الأبراج والقلاع للدفاع والهجوم - وأبراجها ذات طبقات مربعة - فالطبقة العليا منها تقف منها الجنود المسلحة بالقِسيَّ والسهام - وفي الطبقة السفلى الملاحون الذين يجذفون بنحو من مائة مجذاف، ويتراوح ما تحمله الشونة من الشونة من المقاتلة - ما بين المائة والخمسين وبين المائتين - وتجهز الشواني وقت الحرب بالسلاح والنفطية والازودة بله الجنود البحرية، ومن أنواع الأسطول نوع يعرف بالبوارج جمع البارجة وهو أكبر من الشواني - ومثله نوع يقال له المسطحات - ومن هذه الأساطيل نوع يقال له الحرافات جمع الحرافة وهي مراكب حربية كبيرة قُرابَة الشواني بيد أن هذه تماز عن تلك بالمنجنيقات وتلك هذه عن بالقلاع، فتراهم يحملون في الحراقة مكاحل البارود والعرادات والمنجنيقات يرمي بها النفط المشتعل على الأعداء - وهم يعملون الحراقة في صورة الأسد وفي صورة الفيل وفي صورة العقاب وفي صورة الحية وفي صورة الفرس كتلك الحراقات التي كانت للأمين بن الرشيد والتي يقول فيها الحسن بن هانئ:
سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن برا ... سار في الماء راكباً ليث غاب
أسداً باسطاً ذراعيه يعدو ... أهزت الشدق كالح الأنياب
لا يعانيه باللجام ولا السو - ط ... ولا غمز رجله في الركاب
عجب الناس إذ رأوه على صو - رة ليث يمر مر السحاب
إلى أن قال يصف هذه المطايا:
تستبق الطير في السماء إذا ما ... استعجلوها بجيئة وذهاب
ذات سور ومنسر وجناحين ... تشق العباب بعد العباب أما الطرائد فهي السفن التي تحمل الخيل للأسطول، وأكثر ما يكون فيها أربعون فرساًة والقرافير - فهي السفن الكبيرة التي تحمل الزاد والكراع والمتاع - والفلائك والقوارب والشلنديات فهي من توابع الأسطول كالطرائد والقرافير.
- * *
أما عُدد الأساطيل وآلاتها ومعداتها وأسلحتها فهي الرماح والعِصي والتراس والزرد والخوذ المنجنيقات والعرادات.
وقد رأيت الأندلسيين يستعملون في حروبهم البحرية، النار اليونانية وهي مزيج من الكبريت وبعض الراتنجات والادهان في شكل سائل يطلقونه من اسطوانة نحاسية مستطيلة يشدونها في مقدم السفينة فيقذفون منها السائل مشتعلاً أو يطلقونه بشكل كرات مشتعلة أو قطع من الكتان الملتوت بالنفط فيقع فيحقهل حرقاُ، ومن غريب هذه النار أنها تشتعل في الماء والهواء والنفط - وقد رأيتهم كذلك يستظهرون بالبارود الذي يسمونه الثلج الهندي - ونحن قلم نسمع بأمة من الأمم اهتدت إلى هذا الثلج الهندي قبلهم - ذلك إلى معدات أخرى لا أظنهم قد سُبقوا إليها، أرانيها الأمير ابن رماحس في الشونة، التي كنا نشاهد منها حركات الأسطول، مثل التوابيت المعلقة فوق البروج، وهي صناديق كبيرة مفتوحة من أعلاها، يصعد إليها الرجال قبل استقبال العدو فيقيمون فيها للاستكشاف ومعهم حجارة صغيرة في مخلاة معلقة بجانب الصندوق فيرمون العدو بها وهم مختبئون في هذه الصناديق، ومعهم عدا الحجارة قوارير النفط يقذفون بها السفن والقلاع فتحترق في التو واللحظة - ومعهم كذلك عدا الحجارة وقوارير النفط جرارة النورة وهي مسحوق ناعم مؤلف من الكلس والزرنيخ يرومون بها الأعداء في مراكبهم فتعمى أبصارهم بغبارها وقد تلتهب فيهم التهاباً - وقد رأيتهم وهم يرمونهم أيضاً بقدور الحيات والعقارب وربقدور الصابون اللين كي يزولقوا أقداهم - ومن حيلهم التي يتخذونها وقاء من أعدائهم أنهم يحوطون المراكب بالجلود أو اللبود المبلولة بالخل والماء أو الشب والنطرون كي لا يفعل النفط فيها فعله - ومن حيلهم أنهم يجعلون في مقدم المركب هناة كالفأس يسمونها اللجام، وهي حديدة طويلة محددة الرأس وأسفلها مجوف كسنان الرمح تدخل في أسفلها في خشبة كالقناة بارزة في مقدم المركب يقال لها الاسطام فيصير اللجام كأنه سنان رمح بارز في مقدم المركب فيطعنون مركب العدو به فلا يلبث حتى ينخرق فينصب فيه الماء فيغرق - ومن تلك الحيل أنهم إذا جن الليل لا يشعلون في مراكبهم ناراً ولا يتركون فيها ديكا وقد يسدلون على المراكب قلوعاً زرقاء، فلا يرى العدو مراكبهم التي يشبه لونها لون الماء أو السماء. فسبحان الملهم من يشاء ما يشاء، ويخلق ما لا تعلمون لا إله غيره.
- * *
أما رآسة الأساطيل فقد جعلوا على كل أسطول قائداً ورئيساً فالقائد يدبر أمر سلاحه وحربه ومقاتلته، والرئيس يدبر أمر جريه بالريح أو المجاذيف ومعرفة مسالك البحر وطرقه بواسطة الرهنامج وبيت الابره التي هي مبتكراتهم ولم يسبقهم إليهم سابق فيما علمنا. أما النظر في الأساطيل كله فيرجع إلى أمير واحد من أعلى طبقات المملكة يلقبونه أمير البحر أو أمير الماء.
مدينة المرية
أما مدينة المرية فهي من مشهور مدائن الأندلس، وهي على ساحل البحر الرومي كما اسلفنا، وفيها دار الصناعة، ويربض فيها الشطر الأكبر من الأساطيل الأندلسية، والشطر الآخر يربض في مدينة بجاية - وهي واقعة بين جبلين، فعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة وعلى الآخر ربضها والسور محيط بها وبالربض، وفي غريبها ربض له آخر يسمى ربض الحوض، ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات، وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة وأحجار أولية وكأنما غربلت أرضها من التراب، ولها مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار، وطول واديها أربعون ميلاً في مثلها كلها بساتين بهجة وجنان نضرة مطردة وطيور مغردة وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام - وبها لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول وللحل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول، وللثياب الجرجانية والأصفانية كذلك - ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف، وقد علمت أنه لا يوجد في بلاد الأندلس أكثر مالاً من أهل المرية، ولا أعظم متاجر وذخائر - وبها من الحمامات والفنادق نحو الألف وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسناً - وفيها كثير من العلماء والأدباء والفلاسفة.
وجملة القول أن المرية هذه كما رأيت تزخر بالحياة زخراُ، وتنطق بنشاط المسلمين وجدهم، وبأقصى غايات عزهم لذلك ومجدهم
فلو أن السماء دنت لمجد ... ومكرمة دنت لهم السماء