مجلة البيان للبرقوقي/العدد 52/اعترافات الفرد دي موسيه
→ ../ | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 52 اعترافات الفرد دي موسيه [[مؤلف:|]] |
محاورة ← |
بتاريخ: 1 - 2 - 1920 |
كان من بين الموضوعات التي وقع عليها اختيارنا لنشرها مذ السنة الثانية للبيان اعترافات شاعر فرنسا الخالد الفرد دي موسيه - وقد نشرنا فعلاً من هذه الاعترافات الفصل الثالث والرابع - لأن الأول والثاني كمدخل لهذه الاعترافات، ولاعترافات نفسها إنما تبتدئ من الفصل الثالث، ثم سكتنا عن الاسترسال في نشرها لاشتغالنا بالموضوعات الأخرى التي كانت أهم في نظرنا بيد أن كثيراً من قراء البيان اليوم طلبوا إلينا ملحين أن نعود إلى ترجمة الاعترافات - ولأن العهد بالسنة الثانية قد طال وأصبح الكثير من قراء البيان اليوم غير قرائه بالأمس - لذلك لم يجد ندحة عن استئناف ترجمة هذه الاعترافات من أولها. والمحور الذي تدور هذه الاعترافات حوله هو التشهير بعصر الشاعر ومساوئه ومن هنا اسماها اعترافات فتى العصر.
(الفصل الثالث)
حضرة وليمة في دار بعض الناس، وكان حولي أصدقائي في الحلل الفاخرة. والحلى الباهرة. والمكان غاص بالفتيان والفتيات - يتلأ لأن جمالاً وبشراً، ويتألقن سروراً وحسناً. وعن يميني ويساري الأباريق والأقداح. والنرجس والأقاح. والألوان في الصحاف، والزجاج يجلو السلاف. وفرقة الموسيقى تصدح الألحان. كهديل الورق في الأغصان. وكانت تجلس أمامي على المائدة حبيبتي - وكانت من أمنح خلق الله وكنت بها صبا مستهاماً.
وكانت سني إذ ذاك تسعة عشر، وكنت في رخاء من العيش وصفاء من الدهر وأمان من النوائب. وكنت شاباً نبيلاً شريفاً، ومخلصاً صريحاً، مملوء الفؤاد بالأماني المستحيلة مما تفيض به قلوب الأحداث والشباب. وكانت الخمر قد دبت في عظامي والتهبت حمياها في عروقي. فكنت بتلك الحال التي يظل فيها المرء يبصر شخص حبيبته في كل ما تقع عليه عينه من المرئيات. فكأن الكون كله في نظرة جوهرة عظيمة لها ألف ألف وجه وعلى كل وجه يبدو وجه حبيبته. وكنت فرحاً مسروراً طرباً أحس كأن كل مخلوقات الله أخوة لي وأكاد أهم باعتناق كل من رأيته يبتسم. وكانت حبيبتي قد وعدتني اللقاء في تلك الليلة بعد؟؟؟؟؟ الحفلة. فرفعت شفة الكأس إلى شفتي أرتشف ريقتها، وفي تلك اللحظة نظ إليها وفي أثناء ذلك التفت أتناول صفحة من يد الخادم فسقطت شوكتي فانحنيت التقطها. ولما لم أجدها رفعت ذيل غطاء المائدة لأبحث عنها. فأبصرت تحت الخوان قدم حبيبتي مستقراً على قدم شاب كان جالساً إلى جانبها وقد التفت الساق بالساق وهما من آن لي آخر يتغامزان بالأكف ويتضاغطان بالأرجل والأقدام ثم استويت جالساً وطلبت شوكة أهرى واسترسلت في الأكل والشرب على غاية نم السكون والطمأنينة. وكذلك كان شأن حبيبتي وجارها - ساكتين صامتين لا يتنابسان شفة ولا يتبادلان النظرات ولا اللمحات - لا علناً ولا اختلاساً. وكان جارها قد ارتفق على المائدة وأقبل على امرأة أخرى حياله يمازحها ويداعبها وهي ترية أسوارها ودمالجها، وكانت حبيبتي ساكتة الأوصال لا تبدي حراكاً، ترنو بلحظ فاتر وطرف مريض. وجعلت أراقبها أثناء الطعام فلم يبدر من أيهما أدنى ما يدعو إلى ريبة أو تهمة. لما وضع الآخر الألوان أسقطت فوطتي عمداً ثم انحنيت لآخذها فألفيتهما على مثل حالتهما الأولى لم يتحولا عنها مثقال ذرة.
وقد كنت واعدت حبيبتي على أن أرافقها إلى دارها بعد الوليمة. فأقضي معها هزيعاً من الليل. وكانت أرملة، فكان لا قيد عليها ولا بأس أن تستقبل الضيوف في دارها ولا سيما إذا كان لها قريبة عجوز كانت لا تزال ترافقها وتنزل منها منزلة الحارسة والرقيبة. فلما رفع الخوان ونهضت للانصراف نادتني قائلة أوكتاف! أوكتاف! هلم إليّ! أما آن أن نذهب إلى الدار؟ أني متأهبة للذهاب فلم التفت إليها ولكني أخذت في الضحك ثم غادرت إلى حجر في الطريق فقعدت عليه ولم أدر فيما كنت أفكر وبماذا اشتغل بالي إذ ذاك وماذا جال بخاطري. فلقد كنت يعلم الله قد راعني وهالني ما شهدت نم خيانة حبيبتي، وبهرني وغمرني ما رأيت من غدرها حتى رحت كما قال القائل:
ترى الجلد مغموراً يميد مرنحا ... كان به سكراً وإن كان صاحياً
وكان الذي أبصرته بعيني رأسي من عملها الآنف الذكر لم يدع للشك أدنى مجال عندي. فأحسست كأنما شج رأسي بصخرة أو سقط عليّ حائط. فلست أدري ماذا كان يمر بخاطري ساعة كنت جالساً على ذلك الحجر سوى أني كنت أرفع طرفي بلا تفكير نحو السماء حيث أبصرت شهاباً ينقض، فنزعت قبعتي أحيي ذلك البارق المارق الذي يبصر فيه الشعراء آية على خراب عالم من العوالم.
ثم عدت إلى منزلي على مهل وأنا لا أحس ولا أشعر ولا أعقل ولا أفكر كمن قد ذهب فلبه وطاح لبه. ثم أني نزعت ثيابي ومضيت إلى مضجعي ولكني لم أكد أضع رأسي على الوسادة حتى تملكني حب الانتقام والأخذ بالثأر وجاش بقلبي جيشة حفزتني من فراشي حفزاً، فلم أشعر إلا وأنا قائم على الجدار منتصباً كأني الرمح أو الجذع وقد خنقني البكاء ثم انطلقت عيني بوابل من الدمع هطال، وذراعاي ممدودتان وقد ارتفع مشطا قدمي عن الأرض لتشنج أعصابي فلم أطأ أديمها إل بعقبي. ومضت عليّ ساعة وأنا على هذه الحال من الجنون التام يابس المفاصل جامد الأوصال كالهيكل العظمي. وهذه كانت أول ما أصابني نم الثورات الغضبية والنوبات العصبية.
كان الرجل الذي فاجأته يغمز حبيبتي ويجمشها أحد أصدقائي المقربين. فجئته في الغد يصحبني رفيق لي من فئة المحامين اسمه ديزينيه ثم أخذنا مسدسين ومضينا إلى غابة فينسين وجعلت أثناء الطريق أتحاشى النظر إلى خصمي والدنو منه فمنعت نفسي بذلك من الاعتداء عليه بالنسب أو الضرب. ومثل هذا الاعتداء يعد شيئاً وعبثاً ما دام القانون يجيز المبارزة القائمة على أساس منظم غير أني لم أملك مع ذلك أن صوبت إليه طرفي خلسةً وكان رفيق صباي منذ الطفولة وقد قضينا معاً حقبة من الدهر كأحسن ما يكون صديقان ونحن من الألفة بحال هي المصافاة بين الماء والراح. وامتزاج الأبدان بالأرواح. وكان عليماً بحبي لعشيقتي وفد أفهمني مراراً أن مثل هذه الروابط الغرامية مقدسة في مذهبه وأن يؤثر الانتحار على أن يكون لعهدي غادراً - ويفضل أن يحثى فوقه تراب القبر على أن يحاول خلعي من منزلتي في فؤاد حبيبتي ليحتلها بدلي ويقوم فيها مقامي فوثقت به الثقة العمياء ولعلي لم أخلص لإنسان قط إخلاصي له ولم أختص رفيقاً ولا خلا بمثل مكانته في صدري.
فجعلت أنظر نظرة المندهش المستغرب إلى ذلك الرجل الذي ما برح يصف لي فرائض الصدقة وواجبات الإخاء كما كان يصفها أبطال الأزمان الغابرة ثم قد أبصرته بعد ذلك يداعب حبيبتي - نظرت إليه بعين شاخصة ذالهة. ونفس من لوعة الجوى متساقطة ذابلة. نظرت إليه أتأمل كيف صاغه الله وكيف صوره وركبه، ومن أي جوهر صنعه ومن أي طينة عجنه، وهل هو من معشر الأنس منذ الطفولة، وعاشرته عشرة الأصفياء الأولياء.
والخلان الأوفياء. قد بدا لي الآن كأنه مخلوق عجيب لم أره قط ولم تقع عليه عيني إلا في تلك اللحظة.
ثم وصلنا إلى مكان البارزة وبعد إجراء التمهيدات الأولية وقف كل منها موقفه وأخذ يدنو من الثاني على مهل وكان وهو أول مطلق فأصابني في ذراعي اليمين فحولت المسدس إلى يساري ولكن خارت قواي فوقعت إلى ركبتي.
وهنا رأيت خصمي يهرع نحوي أصفر الوجه مضطرباً. وهرع إليّ شاهدي أيضاً إذ رأياني جريحاً. فأومأ إليهما بالتنحي وقبض على يدي المجروحة واصطكت أسنانه وأعياه النطق ورأيت عليه آية الكرب الحازب، والبرح الأليم. وكأنه كان إذ كان يقاسي من الكمد والبلاء أشد ما قاساه إنسان.
فقلت له إليك عني! اذهب فاغسل يديك الملطختين بدمي في فراش -! عند ذلك خنقته العبرة - وخنقتني
ثم حملت إلى مركبة وأتيت بطبيب ولم يكن الجرح بليغاً ولا خطراً. إذ كانت الرصاصة لم تبلغ العظم. ولكني كنت من الهياج العصبي بحالة منعت من تضميد الجراحة! فلما همت المركبة بالمسير بصرت على بابها بيد مرتعشة - يد خصمي قد مدها للمصافحة فكان جوابه مني هزة الرأس إباء ورفضاً.
ولقد كان بي من حدة الغيظ ووقدة الحنق ما أغلق باب العفو والغفران وإن كانت شواهد حالته دلتني إذ ذاك إن ندمه كان صادقاً وكانت توبته نصوحاً.
ولما بلغت منزلي كان جريان الدم من جرحي قد نفعني كثيراً بإضعاف قوتي لأن هذا الضعف الحادث كسر شوكة غضبي وأنقذني من سورة ذلك الحنق والهياج الذي كان أشد بلاء على من جرحي. فذهبت مسروراً إلى فراشي. وقدمت إلى كوبة ماء، فما أظن أني ترشفت في حياتي شراباً كان أبرد على كبدي وأندى وأطيب في فمي واحلي من تلك الكوبة.
ولما استلقيت على الفراش أخذتني الحمى. فأخذت اسكب العبرات. وجعلت أقول لنفسي لو أن حبيبتي كان أمرها مقصوراً على الصد والهجر بل على الجفاء ولا أتصور. وإني والله لا أستطيع أن أتخيل كيف أن امرأة تخدع الرجل وتكذب عليه بيننا هي تحب غيره وماذا يدعوها إلى ذلك وليس يضطرها إليه دافع من واجب أو مصلحة. ثم جعلت أسأل صاحبي ديزينيه عشرين مرة في اليوم كيف يتفق ذلك وكيف يحدث؟ أما لو كنت زوجاً لها أو مستأجراً لفهمت علة خيانتها لي. فما بالها إذ زال حبها لي لا تصارحني بذلك ولا تكاشفني فما بالها تكذبني وتخدعني؟
والواقع أنني لم أكن أتصور أن أمر الحب مما يجوز فيه الكذب. ولا جرم فإنما كنت يومذاك طفلاً، وأعجب من ذلك أي لا أزال ف هذا الباب طفلاً ولا أزال لا أستطيع أن أتصور أن أمر الحب مما يجوز فيه الخداع والكذب. فكلما أحببت امرأة خبرتها أني أحبها وكلما زال حبي خبرتها بزواله. إذ كنت اعلم أن أمر الحب هو اضطراري قهري يسير فيه الإنسان ولا يخير ولا يكون له فيه رأى ولا حيلة - فهو في كل أطواره آلة بريئة - فإن كانت فيه جريمة فتلك هي الكذب والخديعة.
فكان لا يزال جواب ديزينيه على كل أسئلتي هو أنها لمجرمة شقية فعدني أن لا تراها البتة
فأقسمت له على ذلك. ثم نصح إليّ أيضاً أن لا أكتب إليها ولا على سبيل التوبيخ والتأنيب وأن لا أرد عليها إذا بدأتني بالكتابة فوعدته الطاعة في كل ذلك وجعلت أغضب كلما أبدى لي شكة في صحة نيتي على هذا.
ولكن أول ما عملته بالرغم من كل ذلك أني ذهبت عقب خروجه من عندي إلى دار حبيبتي لألقاها فألفيتها منفردة قد جلست على كرسي بزاوية حجرتها مطرقة الرأس عليها شواهد الاضطراب والحيرة. فأنحيت عليها بأشنع التعنيف والتوبيخ وكنت من اليأس في سكرة وغمرة. وجعلت أصيح بأرفع صوت وكانت العبرة ربما اعترضتني حتى تحول بيني وبين الإبانة فكنت راكب على السرير لأطلق العنان لدموعي وأطرح منها عبأ عن مهجتي ثقيلاً.
وكان مما قلت لها الويل لك أيتها الخائنة الغادرة الفاجرة! إنك لتعلمين إن في ماجئته هلاكي وحتفي وهذا لعمري بغيتك ومناك، ومرادك ومشتهاك خبريني ماذا كلن مني يستوجب ذلك وماذا صنعت وما ذنبي
فطوقتني بذراعيها وقالت أنه فخ نصب لها وشرك أتيح لها الوقوع فيه. وأنه القضاء المحتوم والقدر المحموم ابتلاها بالماكر المحتال الخلاب المنطق الذلق اللسان ما زال بها يغريها ويغويها وينصب لها من مصايد كيده حتى نشبت في الحبالة. وأنه استعان على لذك بإضعاف عقلها يحميها الشراب وعصفة الكأس على أنه لم يبلغ منها وطراً سوى ما كان من ذلك الغمز والتجميش على الخوان فكل ما أتته هو هفوة بسيطة في بعض فترات الغفلة والغرة وليست بسقطة ولا جريمة. وأنها على هذه الهفوة النادمة ندامة غيرها على الإثم والجناية - فهي قاتلة نفسها حسرة لا محالة وهي قاضية نحبها وكمداً ولوعة - حتى ولو غفرت لها وعفوت عنها.
وكانت في أثناء ذلك يبكي بكاء مراً وقد استنفدت دموع الندامة الصريحة والتوبة الصحيحة ونفضت جعبة اللفظ الخلاب والكلم الجذاب في سبيل استمالتي وتعزيتي واستعطافي وتسليتي. ولم أر أجمل منظراً منها ساعة ركعت لي وسط الحجرة وقد علاها شحوب واصفراراً واضطربت هيئتها وتشوشت ثيابها وانتفش شعرها واسندل على منكبيها - أجل لم أر أحسن منها بهجة وأملح رواء وهي على هذه الحال.
فلقد والله هاج المنظر حواسي فارتجفت ورهبة من هذا الهياج وعاقبته.
ثم خرجت متعباً مكدوداً منهوك القوى لا أكاد أبصر أو أسمي وعزمت على أن لا أراها ثانية ولكني عدت إليها قبل اقضاء ربع ساعة. وما أدري أي قوة خفية كاتن تدفع بي إليها. ولقد قامت بنفسي في رغبة شديدة في حيازتها مرة أخرى لأشرب على نحرها المشرق وترائبها المصقولة دموعها ودموعي ثم أقتلها وانتحر.
والواقع أني كنت أمقتها وأعبدها. وكنت أشعر أن حبها مضيعتي ومتلفتي ولكني كنت أشعر أيضاً أن حياتي من دونها إحدى المستحيلات فأسرعت إلى غرفتها كالبرق الخاطف ولم أقف! أكلم أحداً من الخدم ولكني دخلت بلا تردد ففتحت عليها باب حجرتها.
فألفيتها جالسة إلى المرآة تتجمل وتتبرح وقد تكللت بالجواهر وتجللت بالدرر واللآل. وإن خادمتها؟؟؟؟ شعرها وترجله، وتضفره وتعقصه والغانية ممسكة في يدها قطعة من مادة حمراء كانت تدلك بها وجنتيها دلكاً رفيقاً ليناً. عند ذلك أحسست كأني في حلم إذ لم أستطع أتصور أن هذه هي عين المرأة التي رأيتها منذ ربع ساعة منطرحةً على الأرض في غمرة من الحزن والكمد. فمثلت ثابتاً مكاني كالنصب جامد الحركة شاخص البصر. وكانت هي لما سمعت الباب يفتح لفتت رأسها مبتسمة وقالت أهذا أنت؟ وكانت تريد الذهاب إلى بعض المراقص وهي في انتظار من كان سيصحبها إلى هنالك. فلما رأتني - وغيري كانت تنتظر - ضمت شفتيها وقطبت جبينها.
فتقدمت خطوة نحو الباب. ثم نظرت إلى جيدها لاحسان المعطر يزينه شعرها المسلسل مشبوكاً بمشط من الماس. فخيل إلى أن هذا الجيد - مركز القوة الحيوية - كان أسود من الجحيم. وكان ملتفاً فوقه ضفيرتان لماعتان مزدانتان بحلي من اللجين وما كان أعجب التباين يبن بياض جيدها وكتفيها وبين لون ذلك الشعر المتكاثف. ولكن جمال هذا المنظر كان مشوباً بمعنى من معاني الدعاة والفجور. فما أكدت أتبين هذا المعنى حتى استفقت مما كان غشيني من الحيرة والارتباك منذ دقيقة فتقدمت خطوة نحوها فجأة وضربت هذا الجيد بجمع كفي. فصاحت حبيبتي صيحة منكرة وخرت على الأرض صريعة وانطلقت من المكان في الحال.
ولما عدت إلى غرفتي عاودتني الحمى بما لا أستطع معه التهالك على الفراش ونكأ جرحي بعد اندماله فأصابني منه عذاب الأليم. وجاء ديزينيه يعودني فأخبرته بالذي كان! فأصغى إلى في صمت وإطراق. ثم أقبل يتمشى في الحجرة جيئة وذهاباً برهة من الوقت كالمتردد الحائر الذي لا يدري كيف يصنع. وأخيراً وقف أمامي. وقهقه ضاحكاً.
وقال أهي حبيبتك الأولى؟
قلت كلا. بل الأخيرة
وقرب منتصف الليل وأني لفي سنة من النوم القلق المضطرب أريت فيما يرى النائم كأني أسمع صوت زفرة ففتحت عيني فإذا حبيبتي واقفة إلى جانب فراشي مضمومة الذراعين على صدرها كأنها شبح أو خيال. فلم أملك أن صحت صيحة عالية وقد حسبت أن هذا اللطيف من خيالات ذهني المختل المشوش. فوثبت من فراشي وهربت إلى الركن المقابل من الحجرة فأقبلت إليّ تقول لي:
إنه أنا ثم طوقت خاصرتي بيمينها وسحبتني نحو الفراش.
فصحت ماذا تريدين؟ دعيني وشأني. فإني والله لا أكاد أهم بقتلك الآن! فقالت إذن اقتلني. لقد خدعتك وكذبت عليك. وإني لمجرمة أثيمة وشقية تعسة. ولكني أحبك ولا سيبل إلى تركك وقطيعتك فنظرت إليها. فما كان أجملها وأحلاها! لقد كانت كل أوصالها ترتجف وترتعد. وطوفان الدمع يفيض وينهمل من عينيها المحورين الممتلئتين حباً وشغفاً وغراماً. ونحرها عار وشفتاها تلتهبان وجداً وهياماً. فاحتملتها بين ذراعي وقلت فليكن كما تقولين. إني أشهد الله المطلع العليم وأقسم بروح أبي لأقتلنك ونفسي معاً ثم تناولت سكيناً من الرف ووضعته تحت الوسادة.
فمالت عليّ فقبلتني وقالت مبتسمة هلم يا أوكتاف. لا تكن أبله - هلم يا ولدي. إن هذه الأوهام تمرضك. وإنك محموم. فأعطني السكين
فعلمت أنها تريد أن تأخذ السكين. فقلت لها أصغي إلي. أنا لا أعرف من أنت. ولا أي رواية هزلية تمثلين. ولكني أعرف من نفسي أني لا أهزل ولا أمزح. لقد أحببتك كما لم يجب امرأة إنسان. ولا أزال - لسوء حظي ومن بلائي وسبب حتفي - أحبك حباً يدخل معي قبري. ولقد جثتني الآن تعرفينني أنك تحبينني. وهذا يسرني. ولكني أعرفك مع كل هذا أن في الحياة شيئاً مقدساً. فإذا كنت أنا حبيبك الليلة فلن يكون لك حبيب غداً. إني أشهد الله أني لن أجعلك حبيبتي من الغد لأني أبغضك بقدر ما أحبك. وإني أشهد الله أني لا أمتنع من قتلك غداة إذا شئت وهنا بدأت أهذي هذيان الحمى. فألقت رداءها على كتفيها وانطلقت من حجرتي تعدو عدواً.
ولما علم ديزينيه بهذا الحادث قال لي:
(لماذا رفضتها وصددت عنها؟ أنك لتمقتها أشد المقت. وأنها والله لمليحة حسناء.)
قلت له أتمزح؟ أنحسب أني أرتضي مثل هذه المرأة حبيبة لي وعشيقة؟ أم تحسب أني أقبل الشريك في الرفيقة؟ ألا تذكر أنها اعترفت بأنها ملكت نفسها رجلاً سواي. وهل نسيت أن بي من الوجد بها ما أرفض معه إلا امتلاكها أيضاً. إذا كان هذا مذهبك في الحب فأني لك راث وعليك باك)
فقال ديزينيه أنه لا يغالي في الحب إلى مثل هذا الحد. ولا يتطرف لمثل هذه الغاية.
ثم استرسل في هذا المعنى فقال (عزيزي أوكتاف. أنك لا تزال صبياً. فأنت مولع بها لا يكون في هذه الحياة، مشغوف بما لا يتفق مع أخلاق الزمان وطبائع الدهر. وأنت لا تؤمن إلا بمذهب واحد في الحب لعلك قد انفردت به من بين الملأ فلن تجد لك فيه شريكاً. على أنك لا تحسد على هذا ولا تغبط. وأراك ستتخذ من هذه المرأة أبدالاً وأعواضاً ولكني أراك أيضاً ستندم يوماً ما على ما كان منك هذه الليلة:
ورب يوم بكيت فيه فلما ... صرت في غيره بكيت عليه
إلا فاعلمن أن هذه المرأة كانت إذ طرقتك تلك الساعة وأنت نائم عاشقة لك لا محالة. ولعلها ليست عاشقة لك الآن إذ ربما تكون في حضن غيرك. ولكنها كانت تحبك في ذلك الأوان بذلك المكان وماذا يهمك غير ذلك؟ فلقد سنحت لك إذ ذاك فرصة من أسعد فرص الهر فأضعتها وما هي وربك بعائدة
كم من مؤخر فرصة قد أمكنت ... لغد وليس غد هلا بمؤات
حتى إذا فاتت وفات طلابها ... ذهبت عليها نفسها حسرت
أجل والله أن هذه المرأة لن تعود إليك. فإن المرأة لتغفر لكل إنسان إلا الذي زهد فيها. واحسب أن وجدها بك قد كان عظيماً هائل العظم إذ رفع بها إلى أن تلتمسك وتطلبك مع اعترافها لك بالجريمة وتوقعها منك الإباء والرفض إلا فاعلمن علم اليقين لتند من والله على إضاعتك هذه الفرصة فما أحسب أن الحظ بمثلها جواد الدهر يشبهها سخى.
لقد كان في كل ما قاله ديرينيه لهجة اعتقاد راسخ هدوء عميق وثقة تامة مما أزعج خاطري وراع قلبي وارتعدت له فرائضي أثناء إصغائي إليه. حتى لقد هممت وهو يتكلم أن أذهب ثانياً إلى دارها أو أكتب إليها لتأتيني. ولكني لم أستطع أن أنهض لتنفيذ هذه الرغبة - وبذلك سلمت من تعريض نفسي ثانياً لغضاضة مصادفتي إياها مع خصمي أو في انتظاره. ولكني كنت أملك القدرة على الكتابة إليها ثم سألت نفسي على الرغم مني هل هي مجيبتي إذا دعوتها.
ولما انصرف ديزينيه عراني من فرط الكرب والوجد ما عزمت معه على حسم الأمر بأية طريقة وعلى أية وجه. وبعد كفاح شديد بين إحساسي الحب والبغض في صدري تغلب الثاني على الأول فكتبت إليّ حبيبتي أني لن أراها بعد اليوم البتة. وسألتها أن لا تأتيني حتى لا تتحمل مضاضة إغلاق الباب في وجهها. ثم أعطيت الخادم الرسالة ليوصلها إليها. ولكنه ما كاد يغلق الباب خلفه حتى ناديته فلم يسمع ثم لم أجرؤ على ندائه مرة أخرى، فدفنت وجهي من بين يدي واستسلمت لليأس.
- * *
الفصل الرابع
في فجر اليوم التالي كان أول - سؤال وجهته إلى نفسي هو ماذا أنا فاعل؟ وكنت خالياً من الأعمال والأشغال. وكنت قد درست الحقوق والطب ولكن ميلي كان موزعاً بينهما ولم أقرر أي هاتين الصناعتين أتخذها عملاً ومرتزقاً. وكان سبق لي التوظف في مصرف رجل مالي ولكن تتابع أغلاطي في الحساب اضطرني إلى تقديم استقالتي تفادياً من سبة الرفت وعاره. وكنت قد أكثرت من الدراسة ولكنها سطحية إذ كتن سريع الحفظ ولكني كنت أسرع نسياناً.
وكانت اللذة الباقية لي بعد ذهاب لذة الحب هي الحرية والاستقلال. وكنت ما زلت منذ حداثتي أغرس الوصول هذه المزية الغالية في صدري وأربها وأنميها حتى أضحت ولها في فؤادي محراب مطهر ومن جوانحي هيكل مقدس. وكانت أبي ذات يوم فكر في أمر مستقبلي فعدد لي جملة صناعات وأعمال وأطلق لي أن أختار أحبها إلى قلبي وأشهاها إلى نفسي لتكون مهنتي في المستقبل. فأشرفت من نافذتي فنظرت إلى شجرة نحيفة عالية وأخذت أتأمل هذه الصناعات واحدة بعد واحدة فلم تمل نفسي إلى شيء منها البتة ثم شرد ذهني. فأحسست كأن الأرض تتحرك حتى لكأنما تلك القوة الخفية الكامنة الموكلة بتصريفها في الفضاء قد عادت ظاهرة لحسي فأبصرت الأرض تنهض في الفضاء. وخيل إلي كأني على ظهر سفينة وأن شجرة التي أمامي هي السارية (الصاري). فنهضت من مجلسي وتمطيت ثم صحت: هذه السفينة السابحة في الأثير! ما أبخس أن لا يظل بها المرء إلا برهة ثم يتركها. وما أبخس أن لا يكون أحدنا إنساناً حقيراً وشبحاً ضئيلاً ونقطة سوداء على هذه السفينة. أفتراني أزيد نفسي بخساً وغبناً. لقد رضيت بما لا بد منه أن بكوني إنساناً مطلقاً ولن أتسفل بنفسي إلى ما دون ذلك فأكون إنسان مقيد بحرفة أو مهنة
وهذا كان أول قسم أقسمته وأنا لم أعد الرابعة عشرة بمشهد الطبيعة الهائلة على أن لا أتقيد بحرفة فإن أك قد حنثت فيه فإنما ذاك مجاراة لأميال أبي ومساوقة لأهوائه على الكرة مني وبالرغم من أنفي.
وكذلك نهجت منهج الاستقلال لا كلاً ولكن بمحض إرادتي. وآثرت بحبي كل ما كان من صنع الله والنزر القليل من مصنوعات البشر. ولم أك قد عرفت من الحياة سوى الحب ولا من الدنيا سوى حبيبتي وبهذا وهذه قد اكتفيت وأصبت فيها مقنعاً من كل ما عداهما. فلا جرم حين عشقت لدى خروجي من المدرسة إن كان هذا العشق باقياً لا محالة أبد الدهر وإني ممتع به في هذه الحياة وفي الآخرة ولا بدع أن أصبحت فكرة الحب قد نفت عن ساحة خاطري كل ما عداها من الأفكار والخواطر.
وهكذا نعمت بعيشة رخوة كسلي إذ كنت أقضي اليوم مع حبيبتي أذهب بها إلى المروج الخضر أيام الصيف وإلى الغابات والرياض فأستلقي على العشب جانبها وكان منظر الطبيعة لا يزال من أقوى المؤثرات في نفسي. أما في الشتاء فكنت إتباعاً لأميالها أمضي بها إلى حفلات الرقص والغناء. وكذلك انسجم بنا زورق الحياة الذهبي في تيار من اللذة لا يعرف نهاية ولا يقف عند غاية. أما الآن وقد أصبحت لا أفكر في شيء سواها بعد ما بدا لي من خيانتها فقد أصبحت لا أحد لي في الحياة رأياً ولا فكرة.
ولا أعرف صورة تسف بقارئ حالتي النفسانية إذ ذاك أبلغ من تشبيه هذه الحالة بغرفة جمعت أنواعاً من الأثاث من كل جيل وعصر وأصنافاً من الأمتعة من كل أرض وإقليم في هيئة مضطربة وخليط مشوش. إن جيلنا هذا لم يتميز بشكل خاص ولا صورة مميزة. فنحن لم نطبع طابع العصر على مساكننا ولا حدائقنا ولا منتزهاتنا ولا ملاهينا. فإذا سرت في الطرقات صادفك ذوو اللحى المقصوصة على هيئة اللحى التي كانت في عهد هنري الثالث وصادفك أيضاً المحلوقو اللحى وصادفك ذوو الشعور المجعولة على هيئة المنظورة في صور الرسام الكبير روفائيل وآخرون قد جعلت شعورهم على نحو ما كان يرى في عهد يسوع المسيح. وكذلك غرف المترفين قد ملئت بالطرائف والعجائب - بين يونانية وغوطية ومنسوبة إلى عهد الرينيسانس (أحياء الفنون والمعارف) ومعزوة إلى عهد لويز الثالث عشر، كلها مخلوطة لا يتميز بعضها من بعض. وهكذا ترانا قد أحرزنا أشياء القرون المختلفة والأجيال المتنوعة وحزناً من الأمتعة والأدوات ما يتصل بجميع العصور إلا عصرنا - وتلك لعمري حالة لم تقع في أي عصر آخر. فمذهبنا في ذلك مذهب احتيار لا ابتكار نأخذ كل ما وجدنا وأصبنا - هذا لفائدته وهذا لقدمه وهذا لحسنه بل ربما كان لقبحه. فنحن نعيش بين آثار حتى لكأن قد اقتربت الساعة وأزفت الآزفة.
وعلى هذا النحو كانت حالتي النفسانية. وذلك أني كنت قد أكثرت من الإطلاع وتعلمت فن التصوير. وحفظت غيباً أشياء عديدة بلا نظام ولا ترتيب فكنت ترى رأسي تارة خالياً وتارةً مفعماً مكتظاً كالإسفنجة. وجعلت أولع بالشعراء واحداً أثر واحد. وإذ كنت بطبيعتي حساساً سريع التأثر كان لا يزال الشاعر الأخير يبغض إلى كل من سبقه. وهكذا صيرت مع نفسي محزناً حافلاً بالأطلال القديمة حتى إذا آل بي الأمر إلى العجز عن الازدياد من المقتنيات الجديدة أصبح انا نفسي طللاً.
ولكن هذا الطلل كان عليه شيء حديث فتى - وذاك هو آمال قلبي الذي كان لا يزال طفلاً.
فهذا الأمل الذي كان لم بفسده طارئ ولم يبله والذي كان الحب قد أنمى غرسه وأنضر عوده قد أصابته الطعنة النجلاء من خيانة حبيبتي فأصبح مهيض الجناح دامي الجراح. وأصبح منه فؤادي كأنه
قطاة عزها شرك فباتت ... تغالبه وقد علق الجناح
إن المجتمع - ذلك الجم الأذى الكثير الضرر - ليشبه الأفعوان الهندي الذي يكن في أوراق النبات هو الشفاء من سمه والترياق من عضته - وكذلك المجتمع أبداً يجعل الدواء إلى جانب الداء الذي يحدثه.
مثال ذلك أن الرجل المنغمس في المجتمع العائش عيشاً منظماً مطرداً - المقسم أوقاته بين أعمال وواجبات أسرته وزيارة أقاربه وتعهد إخوانه والتمتع بحبيبته (كقسم من أقسام أعماله وبعض من كل) إذا أصيب بفقد حبيبته لم يكن في ذلك عليه خطر ولا يناله منه قاصمة الظهر ولا موهنة العظم. إذ أنه لن يلبث أن يجد في سائر واجباته وأعماله ملهاة ومسلاة ومندوحة عن إقضاء النهار بالفكر المقلق. والليل بالهم المؤرق. فيوشك أن يهون بلاؤه ويزول عناؤه. فمثل هذا يكون له من مجموع أعماله وجملة خواطره وأفكاره كالجيش الململم والخميس العرموم فإذا رمته يد القضاء بسهم مسدد فأصاب أحد هذا العسكر الذي تتكون من أفراده مجموع أعماله وأفكاره. فخر المصاب صريعاً أسرع إلى يد فراغه والقيام مقامه فلا يشعر بفقدانه.
ولكني كان يعوزني مثل هذا العزاء والسلوى إذ كنت منفرداً وحيداً. وكنت إذا لجأت إلى الطبيعة - أمي المحبوبة - أحاول التسلي بها والترفه بها ألفيتها قاعاً صفصفاً مفعمة بالوحشة خالية من الأنس. فلو أني استطعت إذ ذاك أن أسلو حبيبتي وأنساها لنجوت وسلمت.
وكم من صب أضناه الهوى وأضواه الجوى لغدر الأليف وخيانة الحبيب فراح من كاس الغرام مقهوراً وفي لجة الهيام مغموراً، وفي غل الذلة والهوان مأسوراً. ثم كان عليّ أهون سبب شفاؤه، وبأيسر دية خلاصه وافتداؤه. ذلك لأن أمثال هؤلاء تأبى طباعهم الاستمرار على حب الغادرة الفاجرة والاسترسال في هوى الخافرة للعهد الخاترة.
هنيئاً لهؤلاء ما أوتوا من ثبات عزيمة، ونفاذ صريمة. لكن غير هذا شأن المحبين في التاسعة عشرة من العمر لا عزم ولا حزم - فهم أغرار أغمار يجهلون من أمور الدنيا وأحوالها كل شيء ويتطلبون من متاعها ولذتها كل شيء وأينما التفتوا - يساراً أو يميناً وخلفاً أو أماماً - تتراءى لهم عروس الدنيا في أبهى زخرف وأبهر زينة تناديهم وتستدعيهم، وتستميلهم وتستهويهم. وصوتها الفاتن الخلاب يلج إسماعهم في مهب كل ريح خاطرة. وشبحها الساحر الجذاب يطالع أبصارهم قي مدب كل لحظة باردة. فكل شيء شهوة خلوب، وكل شيء حلم كذوب. وإذا كان القلب فتياً فالحقيقة معدومة. كذلك خيال الشباب يتراءى له أن الحجر الأصم ينفطر وهمه عن الكنوز الذهبية. والسلمة الصلبة تنشق له عن أملح حورية.
ولو أن للعاشق في هذه السن الخيالية ألف ذراع لما خشى أن يفتحها جميعاً إذ ما عليه إلا أن يعتنق بها حبيبته حتى يجد كل ذلك الفراغ قد انسد.
في ذلك العهد لم أك أستطيع أن أتصور أن للإنسان في الحياة وظيفة سوى الحب وإنه يقدر أن يصنع شيئاً سوى أنه يحب. فإذا ذكر لي الناس صناعة أخرى حرت وبهت فلم أحر جواباً. وقد كان غرامي بحبيبتي غراماً وحشياً وكانت روحي تشعر من وقع هذا الغرام بمعنى شيطاني جهنمي. وسأضرب لك مثلاً يشراح هذا. وذلك أنها أعطتني يوماً صورة صغيرة لها فحملتها على قلبي شأن المحبين. فإني ذات يوم سائر في طرقات المدينة إذ رأيت في بعض حوانيت التحف والنوادر آلة التعذيب حديدية في طرفها صفيحة ذات أسنة وأبر فشددت الصورة إلى هذه الصفيحة ولبستها على جلدي فكانت الأسنة والإبر تنغرز في صدري لدي كل حركة فتحدث لي بذلك لذة كبرى حتى لقد كنت أحياناً أضغط بيدي على الصفيحة استزادة من اللذة. وكنت أعلم أنها حماقة ولكن الحب مصدر الحماقات.
فمنذ خانتني هذه المرأة نزعت الصورة الأليمة، ولا تستطيع أيها القارئ أن تتصور أي لوعة وكمد شف قلبي إذ أفض مغلاق تلك الصفيحة. واى زفرة ملتهبة لفحت جوانحي وضاقت بها أضلعي حين تخلصت من ألم لذة تلك الصورة وصوبت نظري إلى ما بصدري من ندوب الإبر والأسنة فخاطبتها قائلاً:
أيتها الندوب المسكينة! عما قريب تزولين. ألا أيها الجرح العزيز على آسوك بأي مرهم؟ وأداويك بأي بلسم؟
ثم حاولت أن أبغض هذه المرأة - ولكن عبثاً إذ كانت كأنها في دم عروقي. فكنت ألعنها ولكني أحلم بها. فقل لي كيف أملك هذا؟ ومن لي بأن أصرف الأحلام وأسيرها. وأحرك رؤى المنام وأدبرها؟ أما ترى ماكبث قال بعد ما قتل دنكين إن ماء الأقيانوس بأسره ما كان ليمحو الدم البريء من يدي
وإني لا ضيف إلى ذلك ولا هذه الجراح والندوب الظاهرة والباطنة، وقلت لصاحبي ديزينيه بالله خبرني ما أنا صانع؟ وكيف السبيل إلى الخروج من هذه الغمة؟ أني والله لا أكاد أضع رأسي على وسادتي إلا وجدت رأسها إلى جانبيي!
لقد عشت في الحياة بروح هذه المرأة انظر إلى الدنيا بعينيها. وأنصت إلى الدنيا بأذنيها. فزوال ثقتي بها هي زوال ثقتي بالعالم أجمع. وبراءتي منها هي براءتي من العالم أجمع وخسارتي إياها هي خسارتي العالم أجمع! ومن ثم استترت في داري لا أغادرها إذ خيل إليّ أن الدنيا مملوءة بالوحوش الضارية. والسباع العادية. وبالجان والمردة والأغوال والسعال وكان لي جواب وأحد على كل ما كان يلقى على من كلمات الإرشاد والنصيحة وهو لا أنكر أنه رأي صواب ولكني سأصر على مخالفته
وجلست إلى النافذة وناجيت نفسيأنا واثق أنها آتية. أحل إنها في الطريق لقد اقتربت من منزلي وأنها لتزداد دنوا فهي والله لا تحيا بدوني كمالا أحيا بدونها فماذا أقول لها وبأية هيئة ألقاها؟ أني أتذكر خيانتها فأقول أولي لها أن لا تحيي أليس من الصواب أن أبعث إليها أن لا تحضر خشية أن أثور بها فأقتلها؟
وبعد رسالتي الأخيرة إليها لم أسمع عنها نبأ. فجعلت أناجي نفسي ترى ماذا تصنع الغادة الآن؟ وبماذا هي مشغولة؟ أنها تعشق رجلاً غيري. فلا عشقن فتاة سواها ولكن من؟
وجعلت كلما فكرت وبحثت ونقبت عن مليحة أهواها أحسست كان هاتفاً يهتف بي أتحب امرأة غيري! أيمكن أن أراك تهوى امرأة وتشعقها ثم تكون هذه المرأة إنسانة سواي أذلك ممكن! أمجنون أنت
وقال لي ديزينيه ويحك أيها النذل الخسيس! أما تفتأ تذكر هذه المرأة؟ فمتى أنت ناسيها أو متناسيها؟ أو قد بلغ من عظم قدرها وضخامة شأنها عندك أنت لا تعدل بها شيئاً سواها؟ لقد والله عظمت من شأنها صغيراً. وأجللت من أمرها حقيراً. ثب إلى رشدك والتقف أول غادرة ترميك بها يد القدر.
فأجبته: كلا إنما مصيبتي فيها بالطامة الكبرى والآفة الجلى. أو لم أصنع الواجب؟ أو لم تطردها من منزلي؟ فماذا عساك تنكر عليّ وتنقم مني؟ لقد فعلت ما يقتضيه الواجب. فإما ما دون؟؟؟؟ فمن خاص شؤون وشخصي أحوالي وخارج عن نطاق عتبك ومجال نقدك أن الأسد الذي يجرح في معترك الأسود والظباء خليق أن يحمل السهم في جنبه ثم يأوى إلى زاوية مستترة فيقضي بها نحبه بمعزل عن أعين الشامتين. وبمأمن من السن اللائمين. فخبرني ماذا أصنع؟ وأين فتياتك التي سترميني بها يد القدر؟ قصاراك والله أن تريني أرضاً وسماءً ودوراً وقصوراً ورياضاً وغياضاً. ورجالاً صلاباً. وكواعب أتراباً. وتقول لي دونك فهذه هي الحياة وبهجتها. والدنيا وزينتها. وما هي بالحياة ولكنها لجب الحياة وجلبتها. وصخبها وضجتها. فاكفف عني غرب لسانك فما في كلامك من ثمرة ولا فائدة وأمض عني وجعني وشأني.
- * *
الفصل الخامس
ولما رأى ديزينيه أن دائي عضال وما ليأسي من دواء وإني عن العذال في صمم وعن اللوام في ذهول وإني قد حبست نفسي في حجرتي إلى أمد غير محدود على أن الأمر خطير والخطب جليل فجاءني ذات ليلة مطرقاً كئيباً فذكر لي حبيبتي وأقبل يهيجني ويستثيرني بسرد الجم الكثير من سوءات النساء وعوراتهن وبينما كان يتكلم كنت متكئاً على مرفقي ثم استويت جالساً في فراشي وأنعمت الإصغاء إليه.
وكانت ليلة حالكة الظلام وعزيف الرياح يخيل إليك أنات المحتضرين في سكرة الموت. وأقواس الغمام تضرب زجاج النوافذ بسهام القطر. وجيوش السحاب تزدحم وتلتطم.؟؟؟؟؟ الربق تحتدم وتضطرم وقطع الصبير شهب بسلاسل البرق ملجمة. وبذهبية خيوطه ملاحف المزن مسداة ملحمة. وللرعد خلال ذاك قروم هدارة الشقاشق وخضوم هرت الاشداق مفوهة المناطق. وقد؟؟؟؟؟ طيور الجو ففزعت إلى الدوح والأشجار. وأوت إلى الوكنات والأوكار. فخلت السيل من الأنيس وصفرت. وخويت الطرقات من الخيط وأقفرت. وكان جرحي قد تحرك عليّ ساكنه ودائى قد ثار على كامنه.
لقد كان لي آنفاً حبيبة وصاحب. فقد خانتني حبيبتي. وأرقدني صاحبي على فراش المرض. فكنت في تلك الساعة لا أستطيع أن أميز بالضبط ما كان يتتابع في خاطري من الهواجس. ويتواتر على بالي من البلابل والوساوس. فأحياناً يخيل إلي أني كنت في حلم مزعج فليس علي إلا ن أغمض فأنام فأستيقظ في صبيحة الغد سعيداً ضاحكاً فرحاً وأحياناً يخيل إلي أن حياتي الماضية لم تكن إلا حلماً صبيانياً مهزأ سخيفاً وأني قد صحوت منه وانقشعت عني ضبابته. وظهر لي بطلانه وضلالته.
وكان ديزينيه جالساً حيالي قرب المصباح وكان رزيناً ركيناً وقور الجلسة لا يطيش ركنه ولا تستطار حيوته. وهو لا يزال يفتر عن ابتسامة يقين بحقائق الأمور واستهزاء بالظواهر الكاذبة والزخارف الخداعة. وكان له قلب كبير لكنه صلب الحصاة جلمد لا يبض حجره ولا تندى صفاته. وقد كان له سابقة في الحب والغرام أسفرت عن خيانة المحبوب. فهذه الحادثة أجدبت روضته قبل أوانها. وصوحت زهرته قبل ابانها. فصحا من سكرة الهوى وأترابه منغمسون في أنهارها. ونجا من حومة الصبا ولداته غرقون في غمارها. وأضحى ينشد وأنداده ينشدون؟؟؟؟؟ والنسيب.
صحا القلب عن ليلى وأقصر باطله ... وعرى أفراس الصبا ورواحه
وكان بالحياة عليماً بصيرا. وبصروفها وتقلباتها خبيرا. وقد مر به زمن وقف على الربوع والديار وساءل الدمن والآثار. ولاعب المها وغازل الدمى. وساهر؟؟؟؟؟ وزجر القطا. وضرب الحمقى. وقال متمثلا.
أبيت أهتف بالشكوى وأشرب من ... دمعي وانشق ريا ذكرك العطر ثم أفاق وصحا. وعاد جلمد الفؤاد متحجر الحشا. وقال لقلبه مالك وللهيام والصبا. إنما شأنك الدورة الدموية وتدبير مجراها. وتصريف مسراها. وقال لذهنه مالك ولعالم الخيالات والأوهام. والأباطيل والأحلام. الذي يسمونه الهوى. ويدعونه الصبا. فدعك من هذا وخذ في المحسوسات والملموسات. وانعم بطعمة شهية. ورشفة هنية. وغادة بضة طرية. واغتنم اللذة اغتناماً. والتهم المسرة التهاماً وانتهب من قيضة الحظ من المناعم ما استطعت انتهاباً.؟؟؟؟؟ من حوزة الدهر من المطارب ما وجدت إلى ذلك السبيل انتهاباً.
خذ من زمانك ما أعطاك مغنما ... وأنت ناه لهذا الدهر آمره
فالعيش كالكاس تستحلي أوائله ... لكنه ربما مجت أواخره
وكذلك أصبح ومذهبه في الحياة إنها وليمة يجلس الحي على خوانها ساعة ثم يخرج إلى العدم. فهو أبداً على خوان الحياة يخطف ما وصلت إليه يده، وعينه أثناء ذلك ترتقب شيخ الغول المخوف المسرع إليه في ظلم الغيب وحجب القضاء - الموت.
وقال لي هذا الصاحب يوماً أي أوكتاف: يلوح لي من شواهد أحوالك أنك ترى في الحب رأي الشعراء والروائيين كما وصفوه في تصانيفهم. فأنت على الأقوال لا الفعال تعوّ ل وتعتمد. ومنشأ هذه السفسطة والقياس الفاسد وهذا يجلب عليك شراً كبيرا.
فاعلم رعاك الله أن الشاعر يصور الحب كما يصور النحات الجمال، وكما يبتدع الموسيقار النغم، أعني أن هؤلاء الثلاثة لما كانت الطبيعة قد وهبتهم جهازاً عصبياً دقيقاً حساساً تراهم ينتقون ويختارون بحذق وتحمس أصفى وأنقى عناصر الحياة وأجمل وأبدع أصناف المواد التي منها يؤلفون ملحهم وتحفهم، وأشجى وأرخم أصوات الطبيعة. يروى أنه كان في أثينا عدد جم من الفتيات الحسان. فقام المصور بركسيتيل فصورهن جميعاً واحدة بعد أخرى. وكانت كل حسناء من هؤلاء مهما أفرط جمالها لا تخلو من عيب واو في منتهى الغموض والدقة.
فعمد ذلك المصور إلى هذه المجموعة العجيبة فاختار من كل واحدة أملح ما فيها وكوّن من هذه المختارات صورة القصوى في الحسن الإحسان. والمثل الأعلى في الإبداع والإتقان - وسماها فيناس الزهرة ربة الجمال. وكذلك لأول من ابتدع آلة الموسيقى وضع لهذا الفن قواعده وقوانينه كان امرأ قد طالما أصغى إلى وسوسة النسيم عذبات الأغصان. وسجع الحمام على منابر القضبان. وكذلك الشعراء الذين عرفوا الحياة لما رأوا الجم الكثير من غدرات العشاق. وفجرات من كانوا يظهرون الصبابات والأشواق. وأبصروا الملائكية. فصلوا عن الطبيعة الإنسانية كل ما يدنس أردانها ويشوه محاسنها من الخبائث والخسائس فخلقوا تلك الأسماء الغريبة الخفية التي ما برحت تتنقل على السنة الخلق من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل - دافنيس وشلو وهيرو ولياندار وبراميس وثسبي
فالدي يفتش في الحقيقة الواقعية عن مثل ما كان لتلك الأسماء الخيالية من الحب والصادق والهوى العذري كالذي يفتش في الشوارع العمومية عن نساء في مثل محاسن فيناس أو كالذي يشتهي أن يسمع من الحمام والبلابل ألحان الموسيقا البديع بيتهوفن
الكمال لا يوجد فتفهم معانيه هو أقصى ما يبلغه الذهن البشري من ذوي النبوغ والعظمة. ولكن الرغبة في امتلاك الكمال هو أقصى درجات الحمق والسخافة
افتح نافذتك يا أوكتاف - ألا ترى أمامك اللانهاية؟ ألا تشعر أن الجو لا حد له ولا غاية؟
ألا ترى أن عقلك يوحي إليك بهذا؟ ولكن هل تستطيع إدراك معنى هذه اللانهاية؟ وهل في مقدورك وأنت الفاني ابن الفاني والمحدود بن المحدود والمولود بالأمس والهالك غداً - هل في مقدور من هذا شأنه وهذه حاله أن يتصور أن شيئاً يكون بلا غاية ولا نهاية؟ إلا فاعلمن أن هذا المشهد الهائل - مشهد اللانهاية مازال أعظم داع إلى الجنون في كل قطر من أقطار العالم. وهذا المشهد مشهد اللانهاية هو المصدر الذي نبعث منه الأديان والعقائد.
ولقد روي أن البطل الروماني العظيم كاتو قد انتحر ليخرج من العالم المحدود إلى العالم العديم الحدود، أعني أنه ألقى ما يملك من عالم الفناء ليملك عالم الخلود واستغنى عن هذه الحياة المحصورة ليحرز تلك اللانهاية. ومن أجل إحراز هذه اللانهاية ألقى القديسون من طوائف عيسى والمتقون والأبرار والصالحون والمصطفون والأخيار بأنفسهم على ألسنة النيران الحامية. وفي لهوات الوحوش الضارية وقذفت شيعة الهيوجينوت في يوم القديس بارثيلوميوس وغيره أنفسهم أسنة رماح الكاثوليك وظبي سيوفهم. وكل شعوب الدنيا وأمم الأرض قد مدوا أذرعهم إلى هذه اللانهاية وودوا لو يقذفون بأنفسهم في أعماقها وكم ترى المجنون يود لو يملك السماء ولكن العاقل الحكيم يعجب بها وطرب فيخر لها ويركع وبذلك يرضى ويقنع.
فالكمال كاللانهاية كلاهما لا ينل ولا يدرك. وما لنا خلق ولا جد. وما كان لنا أن نرجو الكمال في أي كائن أو نبتغيه في أي شيء - من حب أو جمال أو سعادة أو فضيلة. ولكن على المرء أن يتمادى ويغرق ما استطاع في حب الكمال ليكون فاضلاً طاهراً سعيداً.
فهبك أنك تملك صورة من صنع المصور الخالد روفائيل وأنك تبصر في هذه الصورة آية الكمال. ثم هبك أنك بينما تتأملها ذات يوم وتدقق النظر في أجزائها وتفاصيلها عثرت في بعض أركانها على عيب - عضو مكسور أو عضلة غير طبيعية كالذي يرى في إحدى ذراعي (المصارع القديم) فإن ذلك سيحزنك بلا شك ولكنه لا يحملك على إلقاء الصورة في النار. بل أقصى ما تقوله إذ ذاك هو إن الصورة لم تبلغ حد الكمال ولكن فيها من المحاسن الجم العديد.
(إن من النساء ما يكون لهن من كرم الطباع وحسن الوفاء ما يمنعهن من اتخاذ حبيبين في وقت واحد. وعساك ظننت خليلتك من هذا الصنف وحبذا لو كانت ولكنك علت أنها خدعتك. أفكان ذلك موجباً لأن تحتقرها وتسيء معاملتها وتراها أهلاً لبغضك ومقتك!
(فهب يا أوكتاف إن هذه المرأة لم تخدعك ولم تخن عهدك ولم تشرك بك حبيباً آخر. أفكان حبها إياك مع هذا كله بالغاً حد الكمال أو قرابه. كلا فما كان أبعده من الكمال من كل ذلك وما كان أقله وأضأله وأشده تقيداً بأوضاع من بعدك.
(فتأمل ذلك تدرك أن الذي يطيح بك الآن في مهواة اليأس هو معنى الكمال الذي أسندته إلى خليلتك ثم أتضح لك أنه زور وباطل فمتى علمت أن هذا المعنى - أي الكمال - لم يكن في ذاته إلا ضئيلاً بشرياً محدوداً علمت أن ارتفاعك أو هبوطك درجة في ذلك السلم العفن القذر - سلم النقص والعيب البشري إنما هو أمر حقير تافه.
(أنت لا تنكر أن خليلتك قد كانت تحب وسوف تحب أناساً غيرك. فعساك قائلاً لي إن هذا لا يهمك ما دامت تحبك ولا تشرك معك غيرك ولكني قائل لك إذا كنت توقن أنها قد أحبت سواك فسيان كان ذلل بالأمس أو منذ عامين وإذا كنت توقن أنها ستكون لها معشوقان فماذا يهمك إلا مرة واحدة فماذا يعنيك دام ذلك عامين أو ليلة واحدة.
أأنت رجل يا أوكتاف؟ أفلا ترى الأوراق عن شجرها تتساقط انتثاراً؟ والشمس تشرق ثم بالحجاب تتوراى؟ أفلا تسمع ساعة الحياة تدق لدى كل نبضة من فؤادك؟ فهل بين حب عام وحب ساعة كل ذلك الفرق العظيم في نظرنا نخن معشر السخفاء والحمقى وأننا لنبصر من هذه النافذة - وشبر عرضها - أعماق اللانهاية.
(أنت تسمى المرأة التي تمحضت الحب مدة عامين مختصة وفية. فلديك فيما يظهر إلى تقويم يبين لك كم مرة تجف لثمرات الرجال على شفاه النساء. وأنت ترى بوناً شاسعاً بين التي تهب نفسك نم أجل المال والتي تهب نفسها من أجل اللذة. وبين من تهب نفسها عن باعث كبرياء وزهو وبين من تهب نفسها عن وفاء وإخلاص.
وإن فيمن تشتري من النساء من هن أغلى ثمناً من غيرهن. فأما من تحوزهن عن باعث زهو وتعاظم فإنك تظهر من الأبهة والجلال لبعضهن أكثر مما تظهر لبعض الآخر. وأما من تخلص لهن الود وتمحضهن الوفاء فإلى بعضهن تهب نصف قلبك وإلى البعض ثلثه وإلى البعض ربعه حيث متفاوت أقدارهن في التربية بالأدب. وفي الحسب والنسب وفي الجمال والدلال والشيم والخصال. وحسب لظروف وأحياناً حسب الساعة وحالتها الجوية وما قد شربت من أصناف الخمر في غدائك.
(أنت تملك النساء اليوم يا أوكتاف بفضل زهرة صباك ونار شبابك وحسن صورتك وأنت ترجل لمتك وتسوي طرتك ولكنك لعين هذه الأسباب لا تعرف لبائع المرأة وكنه حقيقتها.
تناسل الخلائق أهم أغراض الطبيعة. فأينما طرحت بصرك من ذروة الجبل لي قرارة البحر وجدت الحياة ترهب الموت. فالله سبحانه وتعالى محافظة على مصنوعاته وضع هذا القانون الأعظم وهو أن أكبر ملاذ المخلوقات جميعاً محصورة بي العمل المؤدي إلى التناسل. فالفحل من النخيل حينما يرسل إلى أنثاه المادة اللقحة تراه يخفق غراماً ويرجف صبابة في الرياح اللافحة الملتهبة. ولو عل إذا أبت عليه أنثاه وتصعبت فربما مزق جلدها وهتك أديمها. ولحمامة تخف وترعش ت جناحي ذكرها كالعاشقة المغرمة. والرجل حين يعانق حبيبته يحس في قلبه الطابر ذلك الشرر المقدس الذي منه خلق.
فيا صديقي العزيز إذا عانقت يوماً مليحة حسناء فتية قوية فبكيت نم شرط اللذة وأحسست إيمان الوفاء والحفاظ تثب إلى شفتيك وأحسست السر الإلهي به على روحك إلى إخراج نفسك من هذه الغمرة الروحانية والنوبة الخيالية وأرسل من ثاقب بصيرتك شعاعاً من نور الحقيقة يبددما يلف شخص هذه المرأة من ضباب تلك الفضائل الوهمية والكمالات الخيالية ويجلوها لك على حقيقتها المجردة فأتخذ منها ومطية لذة مادية وأظفر منها بومس.
ولكن لا تخلط بين الخمرة والنشوة. لا تحسبن الكاس التي شربت منها الرحيق المقدس مقدسة. ولا يدهشنك أن تجدها في المساء فارغة مكسورة. فما هي امرأة أي قارورة من طين قد صنعها خزاف.
فاحمد الله إذا أراك السماء. وإذا رأيت لك أجنحة تصفق بها وترفرف فلا تحسبن أنك قد صرت بذلك طائراً. واعلم أن الطيور ذاتها لا تستطيع اختراق السموات وهتك حجاب السحاب. فإن في أعماق السماء طبقات لا تجد فيها الطرب هواء تحبي به. وإن القنبرة التي تطمع في ضباب الصباح تريد مطلع الشمس ربما سقطت إلى الأرض ميتة. فارتشف كاس الحب كما يرشف العاقل الرزين كاس الخمر وإياك أن تكون سكيراً مستهتراً. فإذا صادفت في معشوقاتك مخلصة أمينة فأحببها لهذا. فإذا وجدتها خلاف ذلك ولكن مليحة حسناء فأحببها لحسنها وملاحتها. وإذا ألقيتها فوق ذلك ظريفة لبيبة فزدها حباً. فإذا كانت من كل هذه المحاسن والمزايا عارية وكان كل ما فيها أنها تحبك فأحببها أيضاً. فإنك لن تظفر بمن هواك في كل آونة ولحظة.
ولا تحملنك الغيرة من النظير المزاحم على نتف شعرك وحثو التراب على رأسك وإرادة الانتحار. فإن الذي يتألم فيك إذ ذاك أنما روح الكبرياء والتعاظم. ولكن اقلب سياق الألفاظ وهب أنها تخون خصمك من أجلك تجد في عملها هذ - وإن كان لا يزال خيانة وغدر - منتهى السرور واللذة.
لا تسن لنفسك قوانين السلوك خاصة. ولا تردان إن تفردك المعشوقة بالحب وحدك وتؤثرك بالهوى على كل من عداك. لأنك لما كنت بشراً وقليل الوفاء فإن قانونك هذا يضطرك إلى أن تقيده بهذه العبارة على قدر الإمكان
أرض بالجو كيفما كان. وبالريح كيفما هبت. وبالمرأة كيفما بدت. إن الإسبانيوليات - خير النساء - يحببن بإخلاص. فلهن قلب صدق ملتهب ولكنهن يلبسن عليه خنجراً. والإيطاليات شهويات شيقات ولكنهن يخترن من الرجال أعرضهن مناكب وينتقين عشاقهن بمقياس الخياط. والإنكليزيات ميالات للكآبة متطرفات ولكنهن فاترات جامدات. والألمانيات لطاف ورقاق ولكنهن تافهات غير مفتنات. والفرنسيات لبقات متأنقات غنجات ولكنهن مجدبات.
وعلى كل حال فلا تتهمن النساء بمالهن من الصفات والأخلاق فنحن الذين ألبسناهن ما ترى لهن من الخلال إذ كنا لا تزال تخلع ما كستهن الطبيعة من الطباع ونعيرهن المتكلف المصطنع.
إن الطبيعة التي تعني بكل شيء قد خلقت العذراء ملحة للعاشق. فلما ولدت نبت شعرها وتغير شكل ثدييها ووسم بدنها بميسم القبح فخلقت المرأة لتكون أما فأصبحت بذلك جديرة أن يهجرها الرجل إذ كانت قد فقدت جمالها ولكن طفلة يتشبث به باكياً. وهذا قانون الأسرة البشري. وكل ما يرمي إلى خرقة يعد منكراً. وإن السبب الباعث طبقات الفلاحين إلى استشعار الصلاح والتقوى هو أن نساءهن لسن إلا آلات للولادة والرضاعة وما رجالهن سوى آلات للكد والكسب. فليس لنسائهن شعور مستعارة ولا في ثديهن لبن العذرة. ولكن حب هذه الطبقات صحيح الأديم صافيه غير نغل ولا أبرص. وهم إذا تعانقوا فعلوا ذلك وهم يجهلون البتة أن كولومباس اكتشف أمريكا. وإذا كانوا غير شهويين كانت نساؤهم صحيحات معافيات. وإذا كانت أيديهم صلاباً غلاطاً فما قلوبهم بالصلاب ولا الغلاط.
إن المدينة لتجري على نقيض الطبيعة ففي مدائننا وحسب عادتنا ترى العذراء التي خلقت لتمرح في ضياء الشمس لتقر ناظرها برؤية المصارعين العراة كما كانت الحال في لاسيديمونيا ولتختار الخليل من بينهم وتنتقي. وتعشق كما تشاء وتهوى. تحجب في مقصورتها وتسجن. ولكنها تكتم تحت صليبها رواية غرامية فتجلس في سجنها صفراء فاترة كسلى تذوي نضرتها. وتذبل زهرتها أمام مرآتها. وكذلك تسهر الليل الطويل وفي فحمته تخبو جذوة جمالها الوقاد وتنطفئ جمرة حسنها المشبوب. وتصوح محاسنها فتذوي إذ لا تجد مجالاً للإزهار والإيناع ولا تصيب فضاء وهواء طلقاً ثم تخرج من سجنها بغتة وهي لا تعرف شيئاً ولا تحب شيئاً. ولكنها تشتهي كل شيء. فتتولي تعليمها عجوز ثم تهمس في إذنها كلمة منكرة وبعد ذلك تطرح على فراش رجل مجهول فيغتصبها اغتصاباً - وهذا يسمونه زواج نظام الأسرة المتمدينة. ثم تلد الفتاة المسكينة ويذهب جمال شعرها وثدييها وبدنها. وأهالها! لقد فقدت جمال عاشقة وما ذاقت عشقاً. لقد حملت وولدت وأنها لا تعرف لذلك علة ولا سببا. وكذلك ترزق صبياً ويقال لها قد أصبحت أمّاً. فتجيب (قائلاً لست أماً). أعطوا هذا الوليد لامرأة ذات لبن فإنه لا لبن في ثديي. وما كذلك يسرى اللبن إلى ثديي النساء ويقول زوجها (إنها لعلى حق. وإن هذا الطفل مسخطة لها ومضجرة. وكذلك تعالج الفتاة من داء الأمومة فتعافى. ولا يمضى شهر حتى تجدها في أحد المراقص أو دور الأوبرا. وطفلها في شايوت أو (زير) وزوجها في بيت من بيوت الفجور وترى حولها الرجال عشرات يغازلونها ويداعبونها ويعدونها الحب والإخلاص والوفاء يحلقون لها بأغلط الإيمان أنهم عبيدها وأسراها وأنهم فيها هائمون وبهواها متيمون. فتختار منهم واحداً وتضمه إلى صدرها. فيدنس عرضها ثم يدعها وشأنها. فتقضي ليلتها بكاء وانتحاباً ثم تنظر فإذا عيناها قد احمرتا من البكاء فتلتمس من يهون خطبها ويسرى كربها ويهبها العزاء والسلوى فتتخذه أنيساً وجليساً وصديقاً ورفيقاً. حتى إذا فقدته استبدلت به آخر ثم آخر وهكذا حتى تتجاوز الثلاثين من عمرها وأخيراً تمل وتسأم وتتسخط وتتبرم وتشتكي كظة السرف وفقدان الأمل ثم يمرض يقينها وتضمحل عقيدتها. ويخلو فؤادها من كل عاطفة إنسانية حتة من الاشمئزاز والتأفف. فيناهي كذلك إذ تصادف ليلة في بعض المراقص فتحب فتى جميلاً أسود الشعر متلألئ العينين فياض الأمل. فتعرف في وجهه نضرة الصبا ثم تتذكر آلامها وأوجاعها فتقبل عليه تعطيه عبراً ودروساً من تاريخ حياتها وتعلمه التشاؤم وتبرهن له على استحالة ما يسمونه الحب وتحذره من الهيام عبثاً وراء هذا السراب الخادع والبرق الخلب.
فهذه هي المرأة كما خلقتموها - كما صورتها يد المدنية. ومن هذا القبيل حبائبنا ومعشوقاتنا. ولكنهن على أية حال نساء ولهن محاسنهن كما لهن عيوبهن. وفيهن ملهى ومستمتع! وقد تصاب منهن أحياناً فرص النعيم وخلسات اللذة!
فإذا كنت يا صاحبي متين الخلق قوي العزيمة واثقاً من نفسك مستكمل الرجولة فإني أشير عليك بهذه النصيحة. ادفع بنفسك غير هياب ولا وجل في غمار الدنيا واركب متن لجهاً وعباب موجهاً! وأنعم من النساء بكل من حصلت لديك - من مومس وعاهرة ورقاصة وفلاحة وشريفة وكريمة. وكن تارة وفياً وطوراً غادراً. وآناً فرحاً وآونة حزيناً. وساعة منخدعاً وأخرى محترما ولكن إذا ظفرت من امرأة بحبها وهواها فضن بنعمة هذا الغرام أن تضيعها - ول يعينك صنف المرأة التي تهواك - فكل ما عدا نعمة الحب باطل لا قيمة له
وإذا كنت أمراً عادياً فأكبر ظني أنك تطيل الفكر والتدبر قبل عقد نيتك وإجماع أمرك. ولكنك تكون جديراً أن لا تعول على أدنى شيء مما تتوقع أن نجده في عشيقتك
وإن كنت ضعيفاً سخيفاً مليئاً أن ترسو وترسخ وترسل جذورك حيث تصادف قطعة من الطين مهما قلت - فإني أنصح إليك أن تتخذ درعاً حصداء نتقي بها كل شيء. فإنك إذا أذعنت لخلقك الضعيف وطبعك السخيف عيق نماؤك واكدى شبابك ولم تنتشر لك فروع وأغصان وراء مرسى أصولك ومغرس جذورك. فلا تلبث أن تذبل وتذوي كالنبات العقيم ثم لا تزهر ولا تثمر وينتقل ماء حياتك إلى شجرة أخرى. وتصير كل أعمالك ومجهوداتك أصغر من ورق الصفصاف. ثم لا تسقى إلا من ري مدامعك. ولا تغذي إلا من مادة قلبك
وإذا كنت متحمساً ملتهب الحمية تصدق بالخيالات والأحلام وتريد تحقيقها فليس لك عندي جواب سوي لا وجود للحب
لأني موافق على ما تراه من أن الحب إنما هوان يهب المرء نفسه روحاً وجسماً! وبعبارة أبلغ أن يجعل المرء من شخصين شخصاً - والحب هو التقلب في ضياء الشمس وفي الهواء النقي وبين الزهر والريحان بجسم ذي أربعة اذرع ورأسين وقلبين. والحب هو اليقين والإيمان. وهو دين السعادة الدنيوية والنعيم الأرضى. وهو مثلث مستنير في سقف هذا المعبد المسمى الدنيا. والحب هو أن يرتع المرء إرجاء هذا المعبد وإلى جانبه مخلوق يستطيع أن يفهم لماذا يستوقفك خاطرا أو كلمة أو زهرة أثناء سيرك فتدعوك إلى رفع رأسك إلى ذلك المثلث السماوي. هذا ولا ننسى أن أعمال المرء أشرف ملكاته نعمة كبرى ومن ثم كان للعبقرية. أتعرف من جمالها وروعتها. فما بالك إذن بمضاعفة هذه الملكات ويضم فؤاد إلى فؤاد وذهن إلى ذهن - إلا أن هذه لهي السعادة القصوى. والنعمة العليا. وما من الله على عبده بأكثر من هذا ولا أجزل. ومن ثم فضل الحب حتى على العبقرية. فبالله الا ما خبرتني - أكذلك رأى زوجاتنا في الحب؟ كلا! فغير ذلك في الحب رأيهن. وإنما الحب عندهن هو السير مقنعات وكتابة الرسائل الغامضة المبهمة والمشي على أمشاط أقدامهن. والنكيت والتبكيت والنظرات الفاترة والالجاظ المراض وإرسال الزفرات العفيفة الطاهرة ويدبرون المكايد وهن في الحلل البيض المنشاة ثم ينصبن الحبائل لأشجاء نظيره أو خديعة زوج أو تعذيب عاشق. والحب في رأي زوجاتنا هو أن يلعبن لعبة الغش والكذب كما يلعب الأطفال لعبة المراوغة وهو دعارة القلب وفسوق الروح وذلك حيث مما كان يحدث من دعارة نسوة الرومان في ساتورنالية بريايوس وهو صورة مموهة من الرذيلة والفضيلة وهو مهزلة باردة سخيفة - يظل كل الممثلين فيها يتهامسون ويؤودن أعمالهم بوجوه مزوية وأعين مغضوضة ويظل كل شيء فيها حقيراً مشوهاً على فرط التألق والتكلف - مثل ما تصدره إلينا الصين من تلك التحف الخزفية البشعة المنكرة. وهو خليط ممقوت من الحسن والقبح ومن عنصري الخير والشر والرحمة والنقمة والنعيم والجحيم في هذه الدنيا. وهو ظل لا جسم وخيال بلا حقيقة وهو هيكل عظمي لجملة مصنوعات الخالق. هذا ما قاله ديزينيه بصوت صارم في سكينة الليل وهدوئه.