الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 5/أخبار الخوارج

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 5/أخبار الخوارج

بتاريخ: 17 - 2 - 1912


للإستاذ الشيخ أحمد سليمان العبد

أحد خريجي مدرسة الفضاء الشرعي

بسم الله الرحمن الرحيم

والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله أجمعين

مقدمة

إن ماجاء به هذا الدين من نبذ الحال التي كان عليها كثير من الأمم في ذلك العهد من تقديس شخص من أفرادها وتغاليها في الخضوع لمليكها ورفعها إياه إلى منزلة الأله الواحد القاهر وما نشره هذا الدين المحكم من المساواة بين الناس لأفضل لأحد على غيره في الحقوق العامة - لا يعظم شريف أمام هذا الدين فيميل معه في اغتصاب ضعيف ما له ويعينه على انتهاك عرض ذليل ضئيل.

إن كل هذا قد بث في الأمة الإسلامية روح الصراحة في القول وجملها بثوب الشجاعة الأدبية - وجعل أفرادها يستعذبون الموت الزؤام. إذا حال بينهم وبين الجهر بخطل ما يرونه خطأ. سواء أخطأوا في الواقع أم أصابوا. وكأني بهذا المبدأ (مبدأ المساواة) وهو ناصر النفس وعضدها القوي الذي يزيل عنها الخور والخمول ويخرج بها إلى واد فسيح من الحياة الشريفة تجديه رقيها ورفعتها ويقذف بها في ميدان شاسع من الشجاعة الأدبية فيشيد الإنسان لنفسه ولأمته بذلك صرحاً من الشرف باذجاً يهرم الدهر وهو يتريع شباباً وتنفد الأيام وهو يتجدد ذكراً وثناء.

ومن هنا يظهر السبب الذي دفع كثيراً من أفراد المسلمين في الصدر الأول من الإسلام إلى إظهار رأيهم في المواقف الحرجة والمآزق الضنكة.

فلا غرو بعد هذا أن ينظر الإنسان في التاريخ الإسلامي فيرى العباس ابن مرداس السلمي يخاطب النبي ﷺ عقيب تفضيله رجالاً من المؤلفة قلوبهم من المسلمين بزيادة عطائهم من غنائم (حنين) فيقول في شعره.

وكانت نهاباً تلافيتها ... بكرى على أطهر في الأجرع

وإيقاظي القوم أن يرقدوا ... إذا هجع الناس لم أهجع أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينه والأقرع

وقد كنت في الحرب ذا تدرأ ... فلم أعط شيئاً ولم أمنع

إلا افائل أعطيتها ... عديد قوائمه الأربع

وما كان حصن ولا حابس ... يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهمو ... ومن تضع اليوم لا يرفع

فأعطاه رسول الله ﷺ حتى رضي بالعطاء.

ولا عجب أن يغضب عمر بن الخطاب من أبي بكر رضي الله عنهما لأنه لم يجبه إلى القود من خالد بن الوليد لما قتل هذا مالك بن نويرة في حروب الردة - وأن يقوم عمر إلى خالد إبان دخوله المسجد وينزع اسهماً كانت حلية عمامة خالد ويحطمها بحضور أبي بكر الصديق وهو خليفة الرسول ﷺ وصاحبه في الغار وأول من آمن به من الرجال وإن كان قتل خالد مالكاً ناشئاً عن سوء تفاهم لاختلاف اللغات في جزيرة العرب كما تواتر هذا في أساطير المؤرخين ولا غرابة من أن عمر بن الخطاب (ض) مع شدته وارجافه قلوب العرب لم تمنع درته ذلك الأعرابي الذي جاء إليه عصر خلافته يستفتيه في أمر عرض له فلما أخبره بحكم الله صرح ذلك الأعرابي بما أخذه على أمير المؤمنين (ض) وكان من خبر هذه الواقعة أن رجلاً أعرابياً واسمه قبيصة بن هانئ أتى عمر بن الخطاب (ض) فقال أني أصبت ظبياً وأنا محرم فالتفت عمر إلى عبد الرحمن بن عوف وقال قل - فقال عبد الرحمن يهدى شاة - فقال عمر للأعرابي اهد شاة.

فقال الأعرابي والله مادرى أمير المؤمنين ما فيها حتى استفتى غيره فخفقه عمر بالدرة وقال أتقتل في الحرم وتفحص الفتيا ان الله عز وجل قال {يحكم به ذوا عدل منكم} فأنا عمر بن الخطاب وهذا عبد الرحمن بن عوف. وما حديث هذا المعنى في عهد عثمان بن عفان بالأمر المستور خبره أو المعفى أثره.

هذا وإن نتائج هذا المبدأ (مبدأ المساواة) قد أينعت ثمارها وظهرت بأجلى صورها في عصر ذلك الرجل الورع التقى الطاهر القلب السليم الطوية الحسن النية النبيل الذكر الشريف النفس الصابر على البلاء المتجنب الكبرياء اعلم أهل دهره بكتاب ربه وسنة نبيه وصى النبي المصطفى وابن عمه سيدنا علي كرم الله وجهه.

فقد خرج عليه قوم كثير عددهم شديد بأسهم لأمر أخذوه عليه ورأوه غير مرضى لديهم ودافعوا عن رأيهم ذلك بالسيف والرمح واللسان أشد دفاع حتى أكلتهم الحروب وذهبت شوكتهم وفنى سوادهم ولم ينج منهم إلا من لا يرفع الناس به رأساً ولا يشغل أمرهم رأي أحد - وهؤلاء هم (الخوارج) الذين عزمنا على ذكر أخبارهم وحروبهم إن شاء الله.

أخبار الخوارج

كان من خبر هذه الطائفة أنهم لما رأوا ما فعله عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان في وقعة (صفين) من رفع المصاحف على أطرا الرماح وقتما أحسا بالهزيمة - حملو سيدنا علياً (ض) على ترك القتال فأبى ذلك عليهم وتردد كثيراً وأبان لهم أن هذه خدعة فلم يقبلوا ذلك منه فطاوعهم مكرهاً.

ثم تخابر الجيشان في الأمر فعينا حكمين ليفصلا في شأن إمارة المؤمنين وهما عمرو بن العاص من قبل معاوية وأبو موسى الأشعري من جهة على وذلك في شهر صفر سنة 37 فسكن الهرج على أن يكون حكم الحكمين في رمضان من تلك السنة ولما اجتمع الحكمان وختل عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري فخلع هذا عليا وأثبت عمرو صاحبه عاد سيدنا علي إلى مطاولة معاوية ومقاومته لخطأ الحكمين وتركهما مراعاة السنة والكتاب وما سجل عليهما في كتاب عقد الصلح.

وعند ذلك قام هؤلاء القوم الذين أكرهوا علياً كرم الله وجهه أولاً على ترك القتال وقبول التحكيم - وثانياً - على تعيين أبي موسى حكماً واجتمعوا في دار زيد بن حصين الطائي وبايعوا عبد الله بن وهب الراسي ثم الازدي وذلك لعشر خلون من شوال سنة 37هـ -.

فلما بلغ أمرهم علياً كرم الله وجهه بعث إليهم ابن عباس (ض) مرات لمناظرتهم وكذلك توجه إليهم بنفسه.

فمن مناظرة ابن عباس لهم أنه قال لهم ما الذي نقمتم على أمير المؤمنين - قالوا قد كان للمؤمنين أميراً فلما حكم في دين الله خرج من الإيمان فليتب بعد أقراره بالكفر نعد له فقال ابن عباس لا ينبغي لمؤمن لم يَثُب إيمانه شك أن يقر على نفسه بالكفر - قالوا إنه قد حكم قال ابن عباس إن الله عز وجل قد أمر بالتحكيم في قتل صيد فقال عز وجل: {يحكم به ذوا عدل منكم} فكيف في إمامة قد أشكلت على المسلمين - فقالوا أنه قد حكم عليه فلم يرض فقال أن الحكومة كالإمامة ومتى فسق الإمام وجبت معصيته وكذلك الحكمان لما خالفا نبذت أقاويلهما - فقالوا له إذا كان على حق لم يشكك فيه وحكم مضطراً فما باله حين ظفر (في واقعة الجمل) لم يسب فقال ابن عباس (ض) أفكنتم سابين أمكم عائشة فوضعوا أصابعهم في آذانهم وقالوا أمسك عنا غرب لسانك يابن عباس فأنه طلقٌ زلقٌ غواص على موضع الحاجة.

ومن مناظراتهم مع علي كرم الله وجهه أنه قال لهم ألا تعلمون أن هؤلاء القوم لم رفعوا المصاحف قلت لكم إن هذه مكيدة ووهن وأنهم لو قصدوا إلى حكم المصاحف لم يأتوني ثم سألوني التحكيم أفعلمتم أنه كان منكم أحد أكره لذلك مني قالوا اللهم نعم. قال فهل علمتم أنكم استكرهتموني على ذلك حتى أجبتكم إليه فاشترطت أن حكمهما نافذ ما حكما بحكم الله عز وجل فإن خالفاه فأنا وأنتم من ذلك براء أو أنتم تعلمون أن حكم الله لا يعدوني قالوا اللهم نعم ثم قالوا الله نعم ثم قالوا قد حكمت في دين الله برأينا ونحن مقرون بأنا قد كفرنا ونحن تائبون فأقرر بمثل ما أقررنا وتب ننهض معك إلى الشام - فقال علي (ض) أما تعلمون أن الله جل ثناؤه قد أمر بالتحكيم في شقاق بين رجل وامرأة فقال تبارك وتعالى {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} وفي صيد أصيب في الحرم كأرنب يساوي ربع دينار فقال عز وجل {يحكم به ذوا عدل منكم} فقالوا إن عمراً لما أبى عليك أن تقول في كتابك: هذا ما كتبه عبد الله على أمير المؤمنين: محوت اسمك من الخلافة فقلت عليُّ بن أبي طالب فقال لهم رضي الله عنه لي برسول الله ﷺ اسوة حسنة حيث أبى عليه سهيل بن عمرو ان يكتب هذا كتاب كتبه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو فقال له لو أقررنا بأنك رسول الله ما خالفناك ولكن أقدمك لفضلك ثم قال اكتب محمد بن عبد الله فقال لي يا علي أمحُ رسول الله فقلت يا رسول الله لا تسخو نفسي بمحو اسمك من النبوة فقال عليه الصلاة والسلام قفني عليه فمحاه بيده عليه السلام ثم قال اكتب محمد بن عبد الله. ثم تبسم إلي فقال ياعلي أما أنك ستسام مثلها فتعطي - فرجع معه منهم ألفان.

ثم ظهروا بعد ذلك بحروراء: بناحية الكوفة: ولذلك أطلق عليهم الحرورية وكانوا إذ ذاك في جيش عظيم وجمع كبير فتوجه إليهم علي كرم الله وجهه فقاتلهم قتالاً شديداً حتى أبادهم إلا تسعة رجال منهم فأنهم أفلتوا من الحرب.

فذهب اثنان منهم إلى عمان والتجأ اثنان آخران إلى كرمان وفر اثنان كذلك إلى سجستان وقصد اثنان آخران الجزيرة وذهب تاسعهم إلى (تل مورون) ياليمن وانبثوا بين ظهراني أصحاب تلك البلاد يرغبون الناس في مقالتهم ومذاهبهم حتى اتبعهم خلق كثير عددهم.

هذا - ولم يمنعهم انقسامهم على أنفسهم ومحاربة بعضهم بعضاً لاختلاف بينهم في بعض الفروع - عن أن يشغلوا بال أمراء الإسلام من الدولة الأموية في الشام والدولة الزبيرية في الحجاز فقد أشعلوا نار الحرب الزبون مدة مديدة على الدولتين وأخافوا القواد والشجعان وهم في منازلهم واستولوا على كثير من البلاد العظيمة الإسلامية مثل كرمان - ومكران - وكازون - وفارس والمدائن - وأرجان ورام هرمز وسلا وسليرا وغير ذلك.

وقد أحاطوا بالبصرة حتى ترحل أكثر أهلها منها وكان الباقون على الترحل - ولم يكسر شوكتهم ويفلل حدهم إلا الملهب بن أبي صفرة فأنه لما تولى قيادة جيش الأمويين هزم الخوارج إلى الفرات ثم إلى الأهواز ثم إلى فارس ثم إلى كرمان ولم يفلت منهم بعد أن لبث يحاربهم مدة تتجاوز العشرين عاماً إلا بعض قليل ذهب فريق منهم إلى المغرب الأقصى وأسس مذهب الاباضية هناك وهي إحدى فرق الخوارج - ولها ذنب دقيق إلى الآن لا يكاد يظهر.

واختفى فريق آخر في الصوامع والجبال يتزهد ويعبد الله فمنهم من ظفر أمراء الأمويين به كعروة بن أدية فقتلوه ومنهم من مات حتف أنفه.