مجلة البيان للبرقوقي/العدد 47/الحياء
→ محمد رسول الله | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 47 الحياء [[مؤلف:|]] |
مسألة تحتاج إلى رأي الأزواج ← |
بتاريخ: 1 - 3 - 1919 |
وصف الحيي - الفرق بين الحياء والخجل - تأثير الحياء في الإدراك والإحساس والحركة - تحليل الحياء تحليلاً بسيكولوجياً - الاحتفاظ بالكرامة - دقة الشعور - الحياء ليس بحالة نفسية مستمرة - وصف نوبة الحياء - هل الحياء فضيلة أم رذيلة - حب الحيي للكمال - الشفاء من الحياء
يرى الناظر في أحوال الناس وما يبدو عليهم من آثار الغرائز والملكات امرئ عليه سيماء الجد والوقار ومخايل الاحتشام والانقباض، يميل إلى العزلة وينفر من رؤية الناس فإذا اجتمع بأحد ولو كان من الذين طابت نفوسهم وزكت أرواحهم وتجملوا برقة الحاشية ولطف الجانب ألم به شيء من الوجل والقلق وضرب من الخوف والاضطراب بلا سبب معقول يدعو إلى استثارة هذه الحالات النفسية من مكامنها.
وإذا ضمه مجلس حافل ظل مطرقاً صامتاً لا يستطيع أن يزج بنفسه في غمار الحديث الذي يتجاذب الحضور أطرافه، تتولد الآراء السديدة في ذهنه ولكنه يبقى معقول اللسان لا يستطيع إلى إرسال الكلام سبيلاً. يريد النهوض والانصراف ولكنه لا يبرح قاعداً متململاً كأنما قد سمر إلى كرسيه أو كأن قدميه جمدتا فلا تستطيعان حمله.
فهذا المرء من المصابين بخلق الحياء، فالحياء هو الخوف من الناس وهو غير الخجل الذي هو شعور المرء بعار يلحقه منم جراء إتيانه فعلة ينكرها العرف.
وللحياء أسوأ الآثار على قوى النفس الثلاثة فيعدو عليها ويعرقل سيرها ويعطل وظائفها تعطيلاً، وبيان ذلك أنه يؤثر على إدراك المصاب فيجعله بطيئاً عاجزاً عن التفكير العميق والمضي مع سلسلة طويلة من المقدمات والنتائج. وإذا بوغت بقول تجده قد غص بريقه وتعذر عليه استحضار الجواب السديد في وقته حتى إذا خلا بنفسه تفجرت لديه ينابيع الأفكار وألفى مجال القول والأخذ والرد بعيد المدى متسع الجوانب جم المسالك والمذاهب.
ويؤثر الحياء على إحساس المصاب به فيجعله خليطاً مشوشاً من العواطف والمشاعر والانفعالات المتضاربة المتناقضة فلا يكاد يولد في سويداء نفسه إحساس حتى يزول سراعاً ليحل محله وهيهات أن يستقر على حال من القلق فما أسرع تقلب الحيي بين الحب والبغض والرضا والسخط، وما أقرب نقلته من الرجاء إلى اليأس ومن الفرح إلى الحزن. وإذا لقي في بعض المواقف ما يعد إهانة لم تتحرك في نفسه شهوة الغضب ولا تثور عاطفة الانتقام إلا شيئاً فشيئاً ورويداً رويداً ولعلها لا تبلغ أقصى مداها إلا بعد زوال البواعث التي اهتاجتها.
وكذلك تأثير الحياء في الحركة فإنه يرميها بالخطل والزلل فلا يحس الحيي الإتيان بأية حركة على وجهه ما دامت عيون الناس ترمقه حتى ولا إيماءة السلام أو قضم الطعام ولا يعمل الشيء إلا بيد عسراء شلاء تنبيء عن دخيلة أمره وتفصح عما انطوت عليه نفسه من الخجل والاضطراب.
وجملة القول أن الحياء يصيب قوى النفس في مقاتلها فيرمي الإدراك بالبله والإحساس بالبلادة والحركة بالخبل.
ولتعليل هذه الأعراض الغريبة نذكر طرفاً من تحليل نفسية الحيي لمعرفة أسرارها فنقول:
إنما يتولد الحياء من شعور المرء بعدم الإلفة بين قلبه وقلوب الناس وبعد ما بينهما من وجوه المشابهة والاتفاق فكأنما قلبه خلق في هذا العالم غريباً لا قرين له ولا أليف ولا أنيس، فكلما اشتد هذا الشعور ازداد الحيي خوفاً ووجلاً من الناس واشتط في طلب الفرار منهم والبعد عن وجوههم حتى إذا أتاحت له الأقدار قلوباً رحيمة مشفقة تشابهت وإياه في أساليب التفكير وخفقت بالعواطف والمشاعر الواحدة ألفها ووثق بها وركن إليها ولم يجد عند اجتماع بهم ذلك المضض والقلق الذين يشعر بهما عند اجتماعه بغيرهم، وهذه الحالة هي التي لمحها الشاعر في ثنايا نفسه فوصفها بقوله:
فيّ انقباض وحشمة فإذا ... صادفت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وقلت ما قلت غير محتشم
فأهل الوفاء والكرم الذين يعنيهم الشاعر إنما هم أهل مودته ومن ارتبط قلبه بقلوبهم برباط من الإلفة والثقة والولاء. فإذا فارقهم وعاشر غيرهم عاد إلى سيرته الأولى من الانقباض والاستحياء.
فأنت ترى مما تقدم أن الحيي امرؤ شديد الخيال يرى نفسه فوق نفوس الناس جميعاً ولذلك لا ترضيه أحوالهم وأطوارهم ومذاهبهم وطرائقهم في الحياة وكيف ترضيه وهو لا يعجبه إلا الكمال المطلق في كل شيء ويصور له يخاله أسلوباً للحياة لن تصل إليه الإنسانية قط. ثم أنه يحب ذاته حباً جماً ويحتفظ بكرامته وكل ما يتعلق بشخصيته أيما احتفاظ ويضن بها أن ينال منها حاسد أو جاهل ويطير لبه شعاعاً وتأخذه نوبة الحياء كلما خشي شيئاً من ذلك. فهذا هو سر نفاره من الناس اللهم إلا من أولئك الذين لا يتناولون أفكاره وأقواله وعواطفه وأعماله بالنقد والتجريح والنعي عليها بالتصريح أو بالتلويح من خاصته وأهل مودته ممن تقدمت الإشارة إليهم.
حكى جان جاك روسو الكاتب والفيلسوف المعروف - وكان من أهل الحياء الشديد - فيما حكاه عن نفسه في كتابه (اعترافات) انه مر ذات يوم بحانوت فطائر وحلوى فاشتهى شيئاً منها وحدثته نفسه بالدخول في ذلك الحانوت لابتياع ما يريد ثم أحجم عن ذلك حياء إذ خيل إليه أن الفتيات البائعات تنظرن إليه بلحظات ملؤها السخرية وخشي أن يرمقنه وهو يقضم من تلك الفطائر بالنهم والتهالك في حب الحلوى، وهي خلة معروفة لدى الصبية والأطفال فأبت نفسه أن يلتاث بهذه اللوثة الشنعاء في نظره ورجع أدراجه ونفسه تكاد تذهب حسرات.
الحيي دقيق الشعور حتى كأن نفسه نفسان نفس تعمل ونفس تراقبه وتحاسبه على ما يأتي وما يذر، وهذا الشعور الملازم هو الذي ينبه لديه الأوهام والخيالات التي أشرنا إليها فتنبعث تبعاً لها العواطف المرتبطة بها من مراقدها بسرعة البرق فتؤثر على أعصابه فيبدو الخطل والاضطراب جلياً في حركاته وسكناته. وما زالت دقة الشعور قضية أهل الأدب والفضل وأرباب الوقار والحشمة فإنهم يحملون بين جوانحهم رقيباً عتيداً يميز بينهم وبين السوقة من ذوي الوجه الوقاح الذين لا يبالون لما يفعلون.
وكثيراً مت يخرج الحيي من حيائه ويخلع من عنقه ربقته ويقصي أحكامه الجائرة فتراه يأنس أحياناً بمن لا عهد له بمعرفتهم ولا مكانه لهم في نفسه فيفضي إليهم ببنات صدره ويبثهم آراءه وأفكاره وأمانيه ويندفع في الحديث فتنفجر المعاني في ذهنه وتجري على لسانه الكلم العذاب المتضمنة لطائف الحكم وروائع الإشارات وبدائع النكت. فإذا رأيته ساعتئذ حسبت أن ليس للحياء عليه من سلطان.
ذلك أن الحياء ليس حالة نفسية مستمرة فكلما غفل الشعور عن صاحبه صار إلى الحالة التي وصفناها فإذا استيقظ لأدنى سبب بدأت نوبة الحياء تدب في نفسه، وتمشي الاستحياء فيها تمشي الحميا في جسم الشارب.
ولقد يخرج الحيي من انقباضه وانكماشه ويسترسل في الحديث ويذهب في كل مذهب حتى إذا حانت منه التفاتة فرأى خرقاً في بعض نواحي ثوبه لا تتبينه عين الرائي لتناهيه في الصغر خيل إليه أن عيون الجالسين ترقبه من كل صوب ومتوهم أنهم إنما يهزأون به ويسخرون من رقة حاله وفاقته ورثاته ثوبه فعندئذ تهب نوبة الحياء من غفلتها وتبدو بآثارها ومظاهرها.
وكثيراً ما يتفق لبعض الخطباء أو المحامين أو غيرهم ممن تقضي عليهم مهنتهم بالتكلم على ملأ من الناس أن ينظر إلى تلك النفوس التي ما عرفتها نفسه من قبل وما ألفها فيخشى من نقدها لما سيقول، واستصغارها له وعدم قدره حق قدره فيصعد الدم إلى رأسه ويحتقن في وجنتيه وترتعد فرائصه وتصطك أسنانه وتكاد رجلاه لا تقومان بحمله فتخور عزيمته ويصاب بالحصر، ثم يستعيد سكينته ورباطة جأشه شيئاً فشيئاً إلى أن تزول نوبة الحياء ويعود إلى حالته العادية وتنفتح أمامه أبواب القول.
أما الحكم على خلق الحياء هل هو عيب من العيوب الخلقية أم فضيلة يكرم صاحبها فقد اختلف فيه الكتاب والمفكرون والفلاسفة. ففريق يذهب إلى أنه مرض من الأمراض النفسية وأنه ضرب من ضروب الانحطاط وضعف الإرادة وفريق يرى أنه فضيلة من الفضائل وأنه يجري والعبقرية في مضمار واحد فما الحيي إلا شخص ساخط على حالة الكون ناقم على نظام الاجتماع متطلع إلى الكمال المطلق في كل شيء ففي باب العقليات لا يرضيه إلا العلم الغزير المترامي الأطراف المحيط بكل شيء الذي ينفذ من حجاب المادة الكثيفة إلى ما استتر وراءها من عالم الغيب. ومن وجهة الإحساسات لا يسبعه إلا اللذات الصافية من الشوائب التي لا يعقبها ألم أو تعب. والجمال الذي تعنو له الوجوه والأخلاق الفاضلة التي ليس للكذب والمخاتلة والطمع وما إلى ذلك من الدنايا الفاشية في الناس من سبيل إليها. ومن حيث المادة يشرئب إلى قوة جسدية دونها قوة الجبابرة وثروة طائلة يعد بجانبها قارون فقيراً معدماً. فإذا لم يكن في وسع الحيي أن يحقق تلك الأماني الكريمة التي تهجس في صدره فإن له على الأقل فضل التطلع إليهخا والتطاول نحوها.
وأكثر ما يصيب الحياء الإنسان وهو في مقتبل العمر وغضاضة الإهاب ثم تخف وطأته عنه شيئاً فشيئاً كلما تقدمت السن وازداد علماً بحقيقة الوجود وأمعن في تجاريب الحياة وعجم أعواد الحوادث.
محمد صادق
قال يحيى بن خالد البرمكي: ما رأيت باكياً أحسن تبسماً م القلم. وقال أبو جعفر وزير المستكفي: الأصاغر يهفون والأكابر يعفون. وقال: من عمل ما يحب لقي ما يكره. وقال مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية: كنزنا الكنوز فما وجدنا كنزاً أنفع من كنز معروف في قلب حر. وكتب إلى الخارجي الشيباني: أنا وإياك كالحجر والزجاجة إن وقع عليها رضها وإن وقعت عليه فضها. وعرض بظاهر الحيرة سبعين ألف فارس عربي ثم قال: إذا انقضت المدة لم تنفع العدة. وقال عبد الله بن المعتز: من لم يتعرض للنوائب تعرضت له. وقال: من أحب البقاء فليعد للنوائب قلباً صبوراً.
ومن بديع نوادر الشعراء المستملحة ما قاله الحمدوني في طيلسان بن خرب - وقد قال فيه قرابة أربعين مقطوعة لا تخلو واحدة منها على معنى نادر ومثل سائر فمن أطيبها قوله:
يا بن حرب كستني طيلساناً ... مل من صحبة الزمان وصدا
طال ترداده إلى الرفو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدى
وقوله:
كم رفوناه إذ تمزق حتى ... بقي الرفو انقضى الطيلسان