الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 46/حضارة العرب في الأندلس

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 46/حضارة العرب في الأندلس

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 46
حضارة العرب في الأندلس
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 2 - 1919


الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى مرية

(تابع)

مقامي في مسيني

ولقد أقمت في مسيني ثلاثة أيام بلياليها أنساني فيها أبو عبد الله الصقلي الفيلسوف بأدبه وظرفه ورقة حاشيته ما يعرو الغريب في البلد النازح من الوحشة والانقباض. ثم علمنا في اليوم الرابع لمقامنا أن قد أرست على ميناء هذا البلد سفينة كبيرة قادمة من القسطنطينية العظمى قاصدة إلى بر الأندلس، فاعتزمت أنا وأبو عبد الله أن نسافر فيها، وكان هذا العزم من تمام فضل الله علينا وحسن توفيقه إذ أصبنا في هذا المركب عند نزولنا فيه منية النفس ومطمح الروح فضل المدنية التي ضرب الدهر بيني وبينها أياماً كانت على قلتها كأنها شهور بل أعوام، وكان معها صاحبتاها علم المدنية وقلم الرومية. وهن كما علمت ممن حذقن الغناء ونبغن فيه بعد أن تعلمنه في المدنية المشرفة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهذه قلم كما أخبرتني أندلسية الأصل رومية من سبي البشكنس وحملت صغيرة إلى المشرق فوقعت بالمدينة المنورة ولقنت هنالك الغناء، ثم اشترين مع فضل وعلم لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر.

وقد أخبرني فضل أن المراكب الذي كانت فيه لما أرسى على مسيني بعد إرسائه على ريو لشراء ما يحتاج إليه من الميرة والطعام أُلفي في روعها هي ومن معها أن ينزلن في مسيني ويتركن هذا المركب - وهو للأمير عبد الرحمن الناصر - خشية أن يأسره ومن فيه عمال المعز لدين الله الفاطمي لأن بلاد صقلية إحدى ولايات المعز، وقد علمت أن هذا المركب كان قد تحرش وهو ذاهب إلى المشرق بمركب للمعز، فأحفظ المعز هذا الأمر وأخذه منه المقيم المقعد، وحمله على أن يطوي كشحه على الثار من الناصر - ثم أقامت فضل هذه المديدة في فندق من فنادقها، في ربض من أرباضها، فقلت يا عجباً كل العجب:

أليس غريباً أن نكون ببلدة ... كلانا بها ثاو ولا نتكلم

أما نبأ هذه السفينة الرومية فذلك أن قسطنطين بن ليون أنبرور الروم (إمبراطور دولة الرمان الشرقية) كان قد أهدى منذ ثمان حجج إلى أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر ه ذات قدر عظيم يتقرب بها إليه ويبصبص بذنبه لديه، واستدفاعاً لمكره وكيه، واستجلاباً لعطفه ووده، واستظهاراً به على آخذ بلاده (بلاد قسطنطين) المعز لدين الله وكان من هذه الهدايا كتاب ديسقوريدس الطبيبي مصور الحشائش العجيب وكتاب هيروسيس (هيرودتس) المؤرخ الرمي العظيم، وكان الكتاب الأول مكتوباً بالإغريقي، وهو اليوناني القديم والكتاب الثاني كان مكتوباً باللسان اللطيني وكتب قسطنطين فيما كتب إذ ذاك للناصر أن كتاب ديسقوريدس لا تجتنى فائدته إلا برجل يحسن العبارة باللسان اليوناني ويعرف أشخاص تلك الأدوية، فإن كان في بلدك من يحسن ذلك فزت أيها الملك بفائدة الكتاب. وأما كتاب هروسيس فعندك في بلدك من اللطينيين من يقرؤه باللسان اللطيني وإن كشفتهم عنه نقلوه إليك من اللطيني إلى اللسان العربي. ولم يكن يومئذ بقرطبة من نصارى الأندلس من يعرف الإغريقي فبقي كتاب ديسقوريدس في خزانة الناصر كما هو لم يترجم إلى العربي، فلما ولى أمر الروم أرمانيوس بن قسطنطين تقدم إليه الناصر بأن يبعث رجلاً يعرف الإغريقي واللطيني ليعلم له عبيداً يكونون مترجمين فأرسل أرمانيوس في هذا المركب راهباً عظيماً يسمى نقولا. وقد أزلفت لك أن أبا عبد الله الصقلي يحسن الإغريقي إحسانه للطب والفلسفة والنجوم. وقد كان أخبرني أن الناصر أرسل إليه يستحثه على الوفود إليه ليكون في خدمته فكان ذلك سبباً في انعقاد الصحبة بيننا وبين هذا الراهب. وقد أصبنا منه رجلاً حديثاً ظريف المحاضرة له مشاركة في كثير من العلوم والآداب.

وقد ألقينا في هذا المركب طبيبين أندلسيين كانا قد رحلا إلى المشرق منذ سنين وأقاما هنالك نيفاً وعشرين سنة ودخلا دار السلام (بغداد) وقرآ فيها على ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة كتب جالينوس ثم قفلا راجعين إلى الأندلس مسقط رأسهما، ونزلا في هذا المركب من أحد الثغور وهما أخوان يسمى أحدهما عمر والثاني أحمد وهما أبناء يونس بن أحمد الحراني الطبيبي المشهور، وقد أخبراني أن كتاب ديسقوريدس هذا كان قد ترجمه بدار السلام أيام جعفر المتوكل الخليفة العباسي اصطفن بن بسيل المترجم - من الإغريقي إلى العربي، وتصفحه حنين بن إسحاق فصحح الترجمة وأجازها - قالا: وقد ورد هذا الكتاب إلى بلادنا (الأندلس) وهو على ترجمة اصطفن، وقد قرأناه وصححنا كثيراً من أسماء العقاقير التي لم يعرف لها اصطفن اسما في العربية، وقد انتفع كثير من أهل المشرق وأهل الأندلس بالمعروف منه - وفي الأندلس اليوم من أخواننا الأطباء نفر توفروا على هذا الكتاب يصححون أسماء عقاقيره ويعينون أشخاصها، ومنهم أخونا البسباسي والشجار وأبو عثمان اليابسة ومحمد بن سعيد الطبيب وكأنا بسيدنا الناصر أدام الله تأييده وقد أبى إلا أن يقر الأمر في نصابه، ويغمد السيف في قرابه، ويتم أمر هذا الكتاب على ما به، فطلب من أرمانيوس ما طلب، وكل ذلك من سيدنا فضل عناية منه بكل ما يجدي على بلاده ويسمو بها صعداً إلى أبعد مراتب العظمة الذهنية كما أبعدت به وبأسلافه في سائر ضروب الحضارة، وذلك لما فطره الله عليه من العزيمة النافذة والهمة الطموح البعيدة المرمى فلا يتعاظمه أمر، ولا تقف همته دون غاية. وحتى لا يحيك في صدر إنسان أن خلفاء بني العباس في المشرق، أو منافسيه الفاطميين في أفريقية قد سبقوه إلى شيء لم يسبقهم هو إليه، وأنت تعلم أن هذه الدول الإسلامية الثلاث هي أعظم دول الأرض اليوم شأناً، وأضخمها سلطاناً والقابضة على أزمة الأمور والمالكة أخصب البلاد من هذا المعمور، والمستبحر عمران بلادها إلى أكثر من المتوقع المنظور. والتي تعد سائر دول الأرض من هذه الأمم الحمراء كأنها تبع لها وعيال عليها، فتراها لذلك تتهالك في كل آونة على الازدلاف إليها، وتستنزل رضاها بالهدايا والتحف، وغريب النفائس والطرف، وتستصرخها بعض على بعض فتكون الحتوف، أسبق إلى المغضوب عليهم من السيوف

أنا إذا ما أتانا صارخٌ فزِعٌ ... كان الصراخ له قرع الظنابيب

ومن ثم ترى أن هذه الدول العظمى تتسامى في كل ما يكسبها حسن الأثر، وجميل الذكر، ويملأ مسامع الدهر حمداً وثناءً، وينبض له قلب الدنيا فخراً وعلاء، فتراها لذلك آخذ بيد العلم والعلماء، مالئة بأعطياتها أيدي الشعر والشعراء، حتى العلوم الفلسفية بجميع ضروبها من إلهية وطبيعية ورياضية وطبية وفلكية تعضدها وتغري القائمين عليها بالاستزادة منها والتقضي في البحث عن غوامضها، وتظهر الرغبة في الحصول على مآخذها من ملوك الروم الذين حشدت في خزائن كتبهم تواليف فلاسفة اليونان الأقدمين.

ولقد أقلعت بنا السفينة باسم الله مجراها من ميناء مسيني، وبكرت مع البازي عليه سواد، في فجر يوم الجمعة سلخ ربيع الأول، وذلك لثلاث عشر ليلة خلت من شهر جونيو الرومي سنة ست وخمسين وتسعمائة من مولد السيد المسيح عليه الصلاة والسلام. وكان البحر هادئاً والنسيم فاتراً عليلاً، وكانت قبة فضل ومن معها بمرأى منا ومسمع وكان معنا أديب من أدباء صقلية لم نكن ندري أين وجهته ولكنه نزل بعد ذلك في جزيرة ميورقة، وكان قد ندّ منه عقيب إقلاعنا من مسيني أمر أفضى إلى حديث لا علينا إذا نحن أوردناه في هذه الرسالة تطرية للقول، وذلك أنا بعد أن صلينا الصبح حاضرة وصلى معنا هذا الأديب الصقلي رأيناه وقد انتحى ناحية وأخذ يططبح ويلح على ابنة العنب يشربها صرفاً لا يقتلها بالماء فأنكرت عليه ذلك إنكاراً شديداً وقلت له: ما تصنع الخمر، وإن أولها لمر وإن آخر لسكر، فقال: لا أقول لك إلا ما قال الأخطل لعبد الملك بن مروان إذ قال له عبد الملك مثل قولك هذا فقال الأخطل: ولكن بين هاتين المنزلتين ما ملك أمير المؤمنين فيها إلا كعلقة ماء من الفرات بالإصبع ثم أنشد الأخطل:

إذا ما نديمي علني ثم علني ... ثلاث زجاجات لهن هدير

خرجت أجر الذيل تيهاً كأنني ... عليك أمير المؤمنين أمير

ولله ذلك الطائر الفردوسي البديع الذي كأنه روح هبط على هذه الغبراء من المحل الأرفع ومعه تلك الهدية التي لا هدية مثلها، تلك البذور الثلاث التي ما أظنه إلا اختلسها من عنب الجنة ليطرفنا بها فنزدرعها ونفزع إلى عصيرها في هذه الحياة المحزونة المفعمة آلاماً ليسرى عنا ويجلو منا صدأ الحس، وينفي الهم عن ساحة النفس.

إن الذي جعل الهموم عقاربا ... جعل المدام حقيقة درياقها

أقتلا همي بصرف عقار ... واتركا الدهر فما شاء كانا

إن للمكروه لذعة هم ... فإذا دام المرء على المرء هانا

فقلت له ولكنها قبحها الله تسيء من المرء أخلاقه، وتخمل النابه، وترفعه كما قيل إلى أسفل، وتهوي بالشرف الرفيق إلى الحضيض الأوهد، ولله ذلك القرشي حين يقول:

من تقرع الكأس اللئيمة سنه ... فلا بد يوماً أن يسيء ويجهلا

ولم أر مطلوباً أخس غنيمة ... وأوضع للأشراف منها وأخملا

فسرعان ما أنشد:

إذا صدمتني الكأس أبدت محاسني ... ولم يخش ندماني أذاتي ولا بخلي

ولست بفاحش عليه وإن أسا ... وما شكل من آذى نداماه من شكلي ثم قال: والخمر لذلك خليقة أن لا يشربها إلا الملوك وأشباه الملوك أما السوقة والحمقى والغوغاء ومن إليهم فيجب أن يصلبوا أو يقتلوا أو تقطع أيديهم وارجلهم إذا هم شربوها.

والخمر قد يشربها معشر ... ليسوا إذا عدوا بأكفائها

  • *

وجدت أقل الناس عقلاً إذا انتشى ... أقلهم عقلاً إذا كان صاحيا

تزيد حمياها السفيه سفاهة ... وتترك أخلاق الكريم كما هيا

فقلك له أما تخشى الله يوم الحساب فقال:

إذا صليت خمساً كل يوم ... فإن الله يغفر لي فسوقي

ولم أشرك برب الناس شيئاً ... فقد أمسكت بالدين الوثيق

فهذا الدين ليس به خفاء ... دعوني من بنيات الطريق

فقال أبو عبد الله الفيلسوف: الشراب ضار ونافع أما أنه نافع فللبدن بإشراقه وتقوية الحرارة الغريزية وإنعاشها وإنضاج الرطوبات وتنقيح المجاري وإزالة سددها وتقوية الهضم وإنارة الدم وإدرار الصفراء وترطيبها - وللنفس بانبساطها وتفتيح آمالها وتشجيعها وقتل الهم والفكر الفاسد ومن ثم كان أنفع الأشياء للماليخوليا ثم هو يؤدم بين القلب والقلب ويبعث الشوق القديم الذي قد ضل في الأحشاء - وكل أولئك إذا استعمل على الوجه الذي ينبغي وإلا استحالت هذه المنافع مضار فترى عوض السرور هماً وغماً وضجراً وسوء خلق، وعوض الصحة مرضاً مزمناً أو موتاً فجائياً وإن إدامة الشراب تبلد الذهن وترخي العصب وتوهن قوى الدماغ وتورث الرعشة والتشنج، وقد أجمع الحكماء قاطبة على أن مدمن الخمر لا ينجب وإن أنجب كان الولد أحمق.

وبعد: فإن أصدق ما جاء في الخمر قول الله جل شأنه: يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما: ثم قال سبحانه يصف خمر الجنة: {لا فيها غول ولا عم عنها ينزفون} فكأن السر في تحريمها هو أنها تغتال عقولنا وتشربها وتورثها الخبل والصداع كما قال الأول:

وما زالت الخمر تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول

وما ألطف قول بعض الظرفاء وقد ترك النبيذ فقيل له كيف تتركه وهو رسول السرور إلى القلب فقال نهم ولكنه بئس الرسول يبعث إلى القلب فيذهب إلى الرأس ويشبه ذلك قول المجنون لملك من الملوك وقد استظرفه واختار أن يكون نديماً له وعرض عليه الشراب فقال المجنو: أيها الملك أنت تشرب هذا لتصير مثلي وأنا أشربه لأصير مثل من! وأنا لفي ذلك إذا اندفعت فضل المدينة تغني على عودها هذه الأبيات:

بيد الذي شغف الفؤاد بكم ... تفريج ما ألقى من الهم

فاستبقني إن قد كلفت بكم ... ثم افعلي ما شئت عن علم

قد كان صرم في الممات لنا ... فعجلت قبل الموت بالصرم

فاستخف غناؤها أبا عبد الله حتى كاد أن يخرج من جلده فرحاً وتحرك الراهب واهتز كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب، وغمغم كلمات ترجمها لنا أبو عبد الله بما يقارب قول الطائي حبيب بن أوس:

ولم أفهم معانيها ولكن ... ورت قلبي أجهل شجاها

فصرت كأنني أعمى معنى ... يحب الغانيات ولا يراه

ثم اندفعت تغني:

آها على بغدادها وعراقها ... وظبائها والسحر في أحداقها

ومجالها عند الفرات بأوجه ... تبدو أهلتها على أطواقها

متبخترات في النعيم كأنما ... خلق الهوى العذارى من أخلاقها

نفسي الفداء لها فأي محاسن ... في الدهر تشرق من سنى إشراقها

فأخذ العلج ينشج نشيجاً حاراً ويبكي بكاءً عالياً حتى إذا سكت عنه البكاء قال ما معناه: لقد هاجت لي داء دفيناً. ثم سكت وسكتت فضل وسكتنا ومضت السفينة لطيتها.

قال معاوية بن أبي سفيان: النساء يغلبن الكرام، ويغلبن اللئام. وقال يزيد ابن المهلب بن أبي صفرة: وددت لو أن كأساً بألف دينار، وأن كل منكح في جهة أسد، فلا يشرب الأجواد، ولا ينكح إلا شجاع. وقال عمر بن عبد العزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما. وقال المأمون: النساء شر كلهن ومن شر ما فيهن قلة الاستغناء عنهن. وقال: إن النفس لتمل الراحة كما تمل التعب. وقال: إنما تطلب الدنيا لتملك فإذا ملكت فلتوهب. وقال عبد الله بن طاهر: سمن الكيس ونبل الذكر لا يجتمعان. وقال المنتصر بالله: ما ذل ذو حق وإن أطفق العالم عليه، ولا عز ذو باطل وإن طلع في جبينه القمر.