مجلة البيان للبرقوقي/العدد 45/هل
→ ../ | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 45 هل [[مؤلف:|]] |
الإسبريتيوالزم ← |
بتاريخ: 1 - 1 - 1919 |
(1) هل من سبيل إلى قتل شبح الحرب في الأرض واستقرار السلام إلى الأبد؟
(2) هل من وسيلة إلى إبطال الشراب في العالم؟
(3) هل يجوز للأزواج أن يتكلموا في المجالس عن زوجاتهم
(4) هل ثمة شيء مما أفسدته هذه الحرب هو أولى بأن يبادر بإصلاحه قبل غيره؟ وما هو ذلك الشيء؟
(1) هل من سبيل إلى قتل شبح الحرب في الأرض
في هذه الأيام - ونحن على أبواب سلم بين الأمم، ومستهل صلح بين الشعوب. بعد جنة هذه الحرب النكراء، ولوثة هذا القتال العنيف الذي لبث بضع سنين - لا نجد فرصة أطيب، ولا سانحة خيراً من هذه، لنشر آراء طائفة من العظماء، كتاباً وشعراء وساسة وقساوسة ومتدينين، ومؤرخين وعقليين، عن هذا السؤال الذي وضعته مجلة من كبريات مجلات الغرب منذ أيام قلائل.
رأي جيروم. ك. جيروم
الكاتب المفكر الطائر الصيت، صاحب كتاب (أفكار بليدة لمفكر بليد) الذي نشرنا من قبل عدة من مقالاته المختارة
لا سبيل إلى السلام العام المقيم إلا إذا انتزع حب الحرب من روح الفرد. ولعل من بين الوسائل المهذبة التي قد تؤدي إلى هذا الغرض، وتحدث هذه الخاتمة، عصبة الأمم، واللاتجنيد، أو إبطال إكراه الناس على الجندية، فلعل فيها بعض الفائدة، ولعلها قد تجدي شيئاً من الجدوى، على انه ينبغي بجانب عصبة الأمم أن ننشئ عصبة أخرى، هي عصبة الصحف، تأخذ على نفسها إثارة الكراهية في قلوب الشعوب للحرب، وتنفيرهم من الاستماع لحكامهم وآلهتهم الأرضيين، وتبغيضهم في التنازع بين الأمم والأمم، والتقاتل بين الشعوب والشعوب.
رأي الأب برنارد فوغان
من أكبر خطباء إنجلترة على قدر مبلغ علمي، أظن أن لا وسيلة لاستتباب سلم أبدي عام إلا بتجربة المسيحية، فقد جربت جميع الوسائل إلا هذه فلم يفكر فيها أحد، وكانت نتيجة جميع تلك التجاريب الخيبة، وكان مآلها الفشل، فلماذا لا نجعل المسيحية سبيلاً من سبل التجربة، ونضعها تحت الاختبار.
رأي سير كونان دويل
لا أرى سبيلاً ميسورة، ولا أجد طريقة معبدة، وأود لو أنني استطعت، وليتني أجد، أن عصبة من الأمم ننضم إليها ستحدث عصبة أخرى من الأمم تضادها وترى غير ما ترى الأولى، ومن هذا تعود الحرب إلى الدنيا.
رأي اللورد أولفرهولم
من كبار المهندسين
في رأيي أنه لا إبطال التسليح العام ولا عصبة الأمم ولا احتكار الحكومات عمل الذخائر ولا إلغاء الجيوش الحاضرة ولا إبطال التجنيد، ولا وسيلة أخرى من تلك الوسائل التي فكر الناس فيها لإحداث سلم عام في الأرض، تساوي جميعاً ثمن المداد الذي كتبت به في الورق.
فنحن الآن نعيش في حياة وتطور غريب في الطبيعة البشرية من شأنه أن لا يعبأ بالمحالفات. ولا يكترث بالمعاهدات، ولا يعتد بالقوانين والشرائع، إذن فما الجدوى اليوم من البحث في إنشاء عصبة أمم، ومحالفات عديدة، والإكثار من وضع المعاهدات. ونحن رأينا أن المعاهدات السابقة لم تعتبر إلا قصاصات ورق ولكن كما شاهدنا أمراء الإقطاعيات القديمة في التاريخ كفوا عن الإغارة على جيرانهم وأعدائهم، إذ اكتشفت طريقة عمل البارود، لأن الغارة على الأعداء أصبحت لا تجلب ربحاً، وتؤدي إلى الخسار، كذلك قد أظهرت الحرب الحاضرة أن الحروب حمقاء، والقتال بين الأمم طائش وأن الرابح فيها والخاسر سواسية، كما قال المستر نورمان أنجل واضع هذا المذهب.
إن الاهتداء إلى هذه الحقيقة والإسراف العظيم الذي تجره الحرب والنفقات الهائلة التي تضيع هباء منثوراً، والخسارة الكبرى في الأموال والأنفس والحياة، ستعمل على إبطال الحروب في المستقبل وتجعل الحرب بعد اليوم مستحيلة صعبة جموحاً لا تذل لطالب. وهذه الحقيقة خير ولا ريب من جميع المعاهدات وتقليب وجوه الرأي في النيات وإيجاد الوسائل والطرق العديدة، وأجدى من المنافسات والأبحاث والنظريات.
رأي سير وليام كروكس
العالم الطائر الصيت
ستقتل الحرب على مدى الزمن بالبارود الذي صنع لأجلها، وستلغم بالقذائف التي أعدت لها، فإن هذا العلم الذي أخرج جميع هذه المخاوف والمهالك وأدوات التدمير، وقتل النفوس، وإبادة الحياة، سيؤدي بنفسه من جراء إكثاره من الابتكار من تلك المدمرات، وحشد ألوان كثيرة من تلك المخترعات، إلى بغض الإنسانية العامة ويثير في الدنيا مقتاً شديداً وكراهية ملعونة نحوه، ويحدث في نفوس البقية الباقية من سكان الأرض اشمئزازاً منه وأنفة واحتقاراً له، فيجمعوا بينهم فيما بينهم على أن يعتبروا هذا الضرب الخطر من العلم جر ما يعقب عليه في قوانينهم، ويعيشوا في وئام وتحاب وصفاء، مؤثرين ذلك على أن يدعوا قوماً منهم يخترعون أداة حاصدة جديدة لقتل صفوف الفريقين المتخاصمين معاً.
فتوى اللورد روبرتسون
وزير التجارة فيما سبق
لا تطمئن الشعوب إلى السلام إلا إذا اجتمعت كلها على تخفيض تسليحها إلى الحد الأدنى الذي يكفيها مؤونة حفظ قواها الداخلية ونظامها في صميم مملكتها وضد العالم الخارجي، وذلك بإنشاء قانون دولي يسري على الإنسانية أجمع، وهذا العهد الدولي الذي يستطيع أن يكره الأمة الثائرة إلى تهديد السلام على أن ترضخ لإبطال التسلح فإذا أبطل التسليح قل ولا ريب الاعتداء، وإنما لكي يتم الأمان، ويسود الاطمئنان، يجب إنشاء عرف دولي ونظام عام لكي يكون ألباً واحداً على أي معتد يريد أن ينفض يده من العهد، ولعل مصادرة التجارة وقطع سبيل مواردها عن الأمة المعتدية وسيلة صالحة كافية، هذا رأيي في عصبة الأمم.
(2) هل من وسيلة إلى إبطال الشراب في العالم وطائفة من فتاوى الكتاب والفلاسفة في ذلك
من بين المسائل الاجتماعية التي أحدثت المناقشات الكبرى، وجرت فيها الأبحاث، وتشعبت الآراء، وتضاربت الأحكام مسألة الشراب، وإمكان إبطال الخمر في العالم بأسره، وقد اشتدت المنافسة فيها في بلاد الفرنجة أبان الحرب، وخلال أيامها وأعوامها، ولا ريب في أن وطيس الجدال سيحتدم، وحرارة البحث ستشتد، بعد أن أصبح السلام على قاب قوسين وأدنى، وأوشكت عهود السكينة تستقر، وأيام الهدوء والوئام تستتب، ولعل هذه المسألة الحيوية الكبرى، إنما أقامت الكتاب والاجتماعيين وأقعدتهم، ولفتت إليها الأنظار، وأصابت المكان العظيم من الأذهان، لأنها تتعلق نفوس ألوف من الناس، وأكباد جموع عظيمة من الإنساني، ولأنها تفتح أبواباً كثيرة من القول، وتتباين فيها الآراء، وتصطدم فيها الأحكام.
وقد وضعت إحدى المجلات الكبرى في الغرب هذه المسألة على بساط البحث، واستنزلت آراء كثيرين من كتاب الفرنجة وأقطاب فلسفتهم ومفكريهم، فجاء من نواحيهم طائفة طيبة من الخواطر، لا تزال مختلفة جد الاختلاف، وقد أثارت الخواطر والأذهان تلك الحقيقة الجديدة الغريبة، وهي أن كندا وأمريكا استطاعتا أن تبطلا الشراب بتاتاً في بلادهما ومدائنهما فضجت ضجة الغرب وأرادت إلا أن تجد لها سبيلاً على أن تحتذي حذوهما، وأن تبتكر الوسائل لقتل هذا الشبح الذي اشتدت أذاته بالناس.
وستجد أيها القاريء أن الفتاوى التي نسوقها إلك فيما يلي إنما جاءت من الكتاب والمفكرين، ولا ترى أثر للساسة وأقطاب الحكوميين، ولذلك نقول أن جميع الوزراء والسياسيين الذين طلب إليهم الإدلاء بآرائهم، رفضوا أن يصدعوا بها ويجاهروا إشفاقاً على مراكزهم السياسية، ومكانهم في الحكومة.
وإليك هذه الفتاوى وأسماء أصحابها:
رأي برنارد شو
الفيلسوف العظيم
إن الرأي الذي أدلى برنارد شو رأي قاطع، وحكم لا تردد فيه ولا زعزعة ولا اضطراب، إذ أجاب وقد سئل رأيه:
يجب أن يمنع بيع المشروبات الكحولية الشديدة طلباً للربح، وطمعاً في الكسب الوفر، منعاً باتاً، في العالم كله، وفي مدائن الدنيا بأسرها، وإلى البد، وآخر الدهر، ولا حل لهذه المسألة ولا سبيل إلى ابتكار وسيلة لإبادة الشراب، حتى يكره عصارو الخمر وتجارها ومنتجوها على أن يتحملوا نفقات الأمراض والجرائم والخمول وقتل النشاط والمواهب والكفاءات التي تحدثها خمورهم، فإذا تيسر ذلك، وضربت عليهم الضريبة الفادحة، وتحملوا إصر جرمهم، انحلت مسألة الخمر من نفسها، وابتهج دعاة إبطال الشراب بتة، وغلغاء الخمر دفعة واحدة.
فتوى الكاتب المشهور هيلير بيلوك
لا يعجب الإنسان أن يرى هيلير بيلوك ينتحي منحى مخالفاً لبرنارد شو، ويرمي بفكرة متباينة مع فكرته. لأن هيلير بيلوك كثيراً ما اصطدمت آراؤه بآراء زميله، وتعارض الرجلان، ولا غرو أن يشذ بيلوك ويخرج على هذه الفكرة، وهو يحبذ الشراب في جميع قصائده، وتبين رائحة الخمر في عرض كتبه وأشعاره:
قال المستر هيلير بيلوك: لا أجد ما أقول غير أن هذه الضجة الكبرى التي قامت تناويء الشراب، وتحارب استخدام المشروبات الكحولية تلوح لي ضجة مجنونة في نهايتها، وحركة حمقاء في بدايتها، ولا أعتقد أن هناك رأياً مذكوراً أو حجة رجيحة تؤيدها وتشد أركانها، وما أحسب إلا أن جموعاً عظيمة من الناس تدعي أنها تعارض في فائدة الشراب، لأنها ممتزجة في أذهانهم بالآداب، وتثير خواطرهم المسؤولية الأدبية، كما ترى كثيرين من الناس يدعون أنهم ضد لعب الورق، أو الرهان على الخيل في السباق، بل وشرب التبغ، إذ يرى الناس أن المودة تحكم عليهم بإظهار آرائهم، لا ينون يدلون بها سواء اعتقدوا صحتها أم لم يعتقدوا، وإذا أنت نظرت إلى السواد الأعظم من أهل الأمم البيضاء في العالم الجديد أو في أوروبا، علمت لأأنهم جميعاً يشربون الخمر ويبتهجون بشرابها، ويسمنون ويتقدمون على احتسائها وقد كان هذا رأيهم من قديم الزمان، وسابق العهد والأوان.
فإذا سعى قوم إلى منع الإنكليزي من الاستطراد في عاداته التي نشأ عليها فستكون النتائج مخيفة، والعقبى مرعبة، أما إذا ذكرت هذه النية أمام الفرنسي أو الطلياني، فإنه ولا ريب ضاحك في وجهك ساخر منك ومن نيتك.
وقدعقبت المجلة على آرء هذا الكاتب بقولها: إن في آراء مستر هيلير بيلوك شيئاً كثيراً من الحق، فإن الإنكليز والطليان والفرنسيين مولعون بألحان، ولا نظن إلا أن الألمان سيحتجون إذا كان إبطال الشراب سيهدد جعتهم وحدائق البيرة التي أنشأوها في جميع مدنهم.
فتاوى أخرى
وقد كتب الأميرال السير برسي سكوت في أسطر قلائل فقال: لا أرى أن في الاعتدال شيئاًُ من الأذى، فإن شرب الجعة أو النبيذ أو الكحول على المائدة، أو في ثنايا الأكل، وخلال الطعام، لا يحدث أي ضرر.
ويقول الأميرال سمث، وهو من بحرية الولايات المتحدة:
إن المسألة هي من كثير من الوجوه سياسية بحتة، ويلوح لي أن أمثال هذه المسألة يجب أن تبت فيها كل أمة بنفسها بما يبوافق طبائع أهلها وعاداتهم ومشاعرهم.
ولعل الرجل مصيب فإن مطالب ساكن لابلند أو البلاد القصية في القطبين المتجمدين لا تشابه مطالب سكنة المناطق الحارة أو المعتدلة، ولهذا كان حقاً على كل أمة أن يكون لها من ناحية هذه المسألة الاجتماعية تشريع خاص، وسنة منفردة، تصلح لها ولجوها عادات أهلها.
رأي كونان دويل
أما الروائي المشهور كونان دويل: فلم يرض لنفسه أن يكون متطرفاً في الرأي، بل آثر أن يبكون وسطاً بين الطرفين، ويصلح بين النهايتين، فلم يوافق طلاب إبطال الشراب دفعة واحدة، ولم يسكن إلى دعاة الإكثار منه والإدمان عليه، بل أوجز يقول:
إنني أميل شخصياً إلى إنقاص قوة الكحول، وشدة الشراب، حتى تكون المشروبات الخفيفة من نبيذ وجعة مباحة مشروعة، ولا أستطيع أن أقول بإباحة شراب المشروبات الكحولية بأية حال.
رأي المستر والتر باروت
وقد جاء والتر باروت برأي مزجه بالفكاهة، وخلطه بشيء من المجون، ولكن لا يزال يشتم من رأيه الفكاهي رائحة تحبيذه الكاتب هيلير بيلوك إذ قال: هؤلاء المنهجيون المتسخطون إنما يغضبون ويلعنون ذنوباً لا يعرفونها ولم يذوقوا لها طعماً، لكي تتفشى في العالم ذنوبهم التي يجنحون إليها ويميلون، بعض الناس يشربون كثيراً، وفريقاً آخر يأكلون كثيراً، وهؤلاء نفراً من الآخرين، وألوف من الأطباء يثولون أن الين يموتون من كثرة الأكل أكثر من أولئك الذين يقضون نحبهم من كثرة الشرب، وقد قال سدني سميث إذ كان في السبعين من عمره أنه أكل وشرب أكثر مما يلزمه، وأن حجم شرابه وطعامه في ذلك العمر الطويل كان يستلزم أربعين مركبة - ذات أربعة جياد مطهمة - ومع ذلك كان بعد أن حطم تلك السن المتقدمة قوياً نشيطاً إلى النهاية، وكان كثيرون غيره في المائة ويشربون في كل يوم زجاجة من النبيذ، وهذا رأيي ولبك أن تستنبط منه ما تريد.
رأي مستر ميار
وبسط المستر ميار رأيه - وهو من رجال الدين - فقال بفائدة إبطال الشراب وإليك ما كتب:
لا أتردد هينهة واحدة في القول بأن منع شاربي الخمر إثني عشر شهراً بعد الحرب منعاً باتاً مطلقاً سيكون ولا ريب أنجع الأدوية، وأنفع وسائل الإصلاح التي يستطيع الذهن أن يبتكرها، فلو أننا فعلنا ذلك لامتلأت خزائننا من المال بما لا تستطيعه القروض واليانصيبات، ويكون الوسيلة الحسنى لإبادة الفساد والنتائج الطبيعية والعواقب البدنية التي تحدثها الخمرة، وبذلك نستطيع أن نوفر كثيراً مما يذهب من طفولتنا من الوفيات، والمراض، وما يحصدهم من جراء الإدمان على الخمر حصداً، وليس الأمر قاصراً على هذه النتائج، بل ثمت نتائج أخرى، وفوائد جلى، لو أن في استطاعة الساسة والحكام أن ينفذوا هذا القانون في بلاد لا زال الرأي فيها مقسماً والناس مختلفين خواطر وأذهاناً، على أن كثيرين من قواد الأمم، وعظماء الممالك يرون الأرض الجميلة الطاهرة فيما وراء البحار ولكنهم لا يستطيعون إليها وصولاً، لأن مزارها قريب ولكن دون ذلك أهوال.
فتوى سميتر
وهي الموسيقية الذائعة الذكر
ومن بين السيدات المشهورات اللائي صدعن بآرائهن في مسألة الشراب الدكتورة إيتل سميتر، وهي من أنبغ نوابغ فن الموسيقى وأكبر وضاع الألحان، قالت:
لا أعتقد أن الذين لم تكن لهم علاقة بالمسألة التي سألتموني أن أدلي برأيي فيها، يستطيعون أن يدعوا أن لهم حق الإدلاء بآرائهم، وهذا أمري، وتلك حالي، على أنني أقول أن لي حاسة قوية ضد إبطال أمر لا ضير منه إلا إذا أكثر الناس منه وتغالوا فيه، وطلبوا المزيد والغاية منه، لأنني أرى أن ذلك يبعث على تشجيع التحبب إلى الشيء الذي يمنع، والأمر الذي يبطل، ويقتل الإرادة ويودي بفضيلة ضبط النفس، ومغالبة الشهوات.
رأي الشاعر دويسون
ولعل أغرب الآراء التي جاءت في هذه المسألة، وأحسن ما نختم به هذا البحث كلمة الشاعر دويسون، وهو رجل يسند اليوم في حدود الشيخوخة، وإن كان قد قصر البحث على نفسه ونظر إلى الأمر من ناحيته، ولم يوغل في الموضوع، ويتناوله من جميع أطرافه قال:
أنا رجل شريب ماء منذ أعوام عديدة، ولهذا أميل بالطبع إلى تعميم شرب الماء، قبل غيره من ألوان الشراب.
وقد أصاب الشاعر مقطع الحق، بعد جميع هذا البحث والتحكيم
(3) هل يجوز للأزواج أن يتكلموا في المجالس عن زوجاتهم
وضعت مجلة من كبريات المجلات في إنجلترا هذا السؤال الغريب، على مائدة البحث وساقت الكتاب إلى الإجابة عليه والإفصاح عن رأيهم فيه، فكان من بين الذين أنشأوا الأبحاث المستفيضة عنه كاتب من كبار الكتاب، آثرنا أن ننقل رأيه لقراء البيان، قال:
هناك وسيلتان راجحتان للفرار من متاعب الزوجية، وإغناء النفس عن هموم الأسرة، والعيش في نجوة من آلام الزيجات وهي إما أن لا يتزوج الإنسان مطلقاً وإما أن لا ويلد ولا يخرج إلى نور الدنيا.
ومن العبث أن نكسر جرة اللبن، ونسقي الأرض شراباً، ونبكي عليه، ونندب ما سال منه، ونقول يا ليتنا كنا تراباً، ومن السخف أن نجر علينا الهموم بأيدينا، ثم نبكي من أثقرها ونعول ونأسف ونتلهف، بل لا فائدة مطلقاً من وراء التسخط على زوجة غير صالحة، وذك شريكة لا خير منها، فإن ذلك لا عدل فيه ولا طائل تحته ولا يليق بك ولا بزوجك، والرجل الذي يطيل الشكوى من زوجه، ويكثر الأنين منها، ولا يفتأ يصدر الأنات والزفرات من عدم صلاحها، لا يصيب في المجالس إلا سخرية، ولا يجد في الناس إلا تهافتاً وهزؤاً، ويضيق القوم به ذرعاً، ويبرمون بحديثه وشكواه، بل لعله مثير في النفوس الرحمة لزوجه التي يلعنها، مكسبها من القلوب شفقة، غير ظافر من السامعين بسخط عليها أو غضب منها أو مشاركة معه في التبرم بها.
والقول السائر: وهو أن الرجال مختلفون، ولكن الأزواج سواسية لا بد أن يكون مصدره امرأة، ولا ريب في أنه أول ما قيل في الدنيا إنما خرج من فم زوجة، فإن النسوة المتزوجات إنما يعتبرن جميع الأزواج في نطرهن طائفة واحدة، هي آفة لا بد منها، وأما النساء فثلاث عند الرجال:
المرأة التي لا يتكلم عنها زوجها في المجامع مطلقاً.
والمرأة التي لا يفتأ زوجها يتمدحها في المجالس ويغالي في وصف محاسنها ومفاتنها.
والمرأت التي يذمها رجلها ويعيبها وينتقدها ويحدث الناس أسوأ الحديث عنها.
أما النوع الأول من الأزواج فلا نجد عاباً نسوقه إليهم ولا ذاماً نلحقه بهم، بل نوصيهم بالدأب على عادتهم والجمود على شيمتهم تلك، وأما الفريق الثاني والطائفة الثالثة فأحق بالذم، وأدعى إلى النقد، وأخلق بالتأنيب، وإني لا أجد شيئاً يستحق الذم أن أسمع رجلاً لا يفتأ يحدث الناس عن زوجه فيقول أنها طاهية صناع أو مربية صالحة التأديب، أو حائكة تجيد الزركشة والتطريز. فإن للناس أن يذكروا كلما تجاذبوا أطراف الحديث شيئاً عن هذه التفاهات والسخافات وإلا انتفى الحديث وبطل السمر، وذهبت لذة المحادثة والحوار، وإنما أشد ما أكره من المتزوجين ذلكم الرجل الذي يختلي بعد الاستراحة في الفصل الأول أو الثاني من الرواية في دار التمثيل أو الملهى، فيقول لك: إن جميع أولئك الممثلات المليحات، وهؤلاء الراقصات والفتيات لا يدانين امرأته في جمالها، ويمضي يحدثك عن جمال قامتها، وسمو كتفها وأن ذراعيها أجمل ما في الدنيا وما في العالم النسائي كله من أذرع وساعد. ولو أنك اطلعت إلى بيته وشهدت زوجته لعلمت أن كتفيها موضوع سخرية لداتها وأترابها، وملتقى استهزاء الجيران وهدف لتهانف الأقرباء والمليحات، ولو علمت بعله بهذا الكذب الذي يكذبه زوجها على الله وعلى الناس لخجلت وراحت منه غضبى نافرة.
أما الرجل الذي يسلق امرأته في المجالس بألسنة حداد ويشتد في نقدها ويتعسف في تأنيبها وإظهار مساوئها فأحق بالسخرية، وأجدر بالاحتقار، لأنه امرؤ ضئيل، ورجل صغير غير حازم، ولا عاقل، ومن هذا الفريق معشر كثر لا نستطيع أن نقول عنهم أنهم يميلون إلى نقد بعولاتهم وإظهار مساوئهن، وأنهم يتحدثون فيما بينهم عن أمور تتعلق بهن، ولا يصح إظهارها أو التحدث بها، ولهذا يقعون تحت هذا الضرب من الأزواج، فمنهم من يقول مثلاً لصاحبه وهو يحاوره، إن زوجتي يا صاح لا تدعني أستطيع مغازلة السيدة التي تسكن الطابق المقابل لنوافذنا، ولا أجد من غيرتها سبيلاً إلى - البصبصة - فهي (غيرى - موت) ولا أستطيع أن افلت من مراقبتها، يا لله من هذا الزواج، لعنة الله عليه، إنه احتكار فظيع، واستعباد مرذول، بل إذا رأتني يوماً وأنا في سبيل التحبب إلى الفتاة التي أمامنا من الشرفة أرعدت وأزبدت ولبثت في السرير تؤنبني وأمست إلى منتصف الليل يقظى لا تغمض لها جفن، تبكي وتعول، لأنها غيرى تكاد هذه الحاسة تأكل قلبها أكلاً، نبئني أيها الولي كيف السبيل إلى تهريب الغزل من هذا الجمرك الرقيب العتيد، وكيف الوصول إلى تجمش الحسان؟ مغازلتهن.
وهذه الذنوب التي يقع فيها الرجال ينبغي أن تزول وتبطل من عالم المتزوجين، ويجب أن يعلم المتزوجون أن الرجل ينبغي أن يرضى ببعله على كل حال، ويتذكر أنها امرأة وأنه رجل، وعليه أن يحميها ويظلها برعايته ويرفعها فوق تمثال وينصبها فوق دمية أمام الناس وبين الجماعات، وإن علم في قرارة نفسه أن هذا المعبود الذي رفعه وأقام له التمثال لا يزال ينهض على ساقين من الفخار.
ولعل قلة الزواج الآن وكساد سوقه ونفار الشباب منه. من المسائل الاجتماعية الخطيرة التي تهدد الحياة. وتنذر الجيل الحاضر بالسوء والويل، وإذا لم تبتكر الوسائل الصالحة لدرء هذا الخطر وإزالة هذا الضرر فإنه يخشى أن تزداد الحال سوءاً ويتفاقم الخطب إذ يوجد اليوم نفور عام بين فتيان اليوم من تحمل أعباء الحياة الزوجية والاضطلاع بأوزار المعيشة العائلية: والسبب الأكبر الذي بعث هذا النفور وأقام هذه الخشية هو أن الزواج قد فقد روح الخيال، وانتزع منه العنصر الروحاني، فإن ابن اليوم، وفتى العصر، يختلط بالمتزوجين ويجلس في مجالس الكهول من الأزواج، ويسمر مع العجائز والشايخين ويشربهم نخبهم، ويشاطرهم الكؤوس ولذة السمر والمحاضرة، فيلاحظ منهم السخط الذي يبدونه من أمر الزواج، والآلام التي لا يفتأون يبالغون في صوفها ورسماه في أشنع تصوير، وتركيبها في أشعث صورة، ويشهد الأنات والزفرات واللعنات التي تتصاعد منهم إذا جاءت سيرة الزواج، فلا يني الفتى يقول في نفسه:
مالي ولهذه الغمة، وما أنا وهذه الأحمال الثقيلة، وقد رأيت الذين جربوا قبلي باؤا من التجربة بالويل والحرب.
فلكي نرغب العزاب والفتيان في الزواج، ونجعله جميل المنظر، فتان المحيا، يجب أن نعطيه لون الإيديال وينبغي أن نلبسه لبوس الكمال والروحانية، ونغدق عليه من مفاتن المثل الأعلى، ولا ننظر إليه من الناحية المادية، وإذا نظر إليه من الناحية الروحانية الكمالية التي تفتن العواطف، وتجتذب النفوس، فلا نلبث أن نرى أمثلة طيبة من الزواج الكامل، ويظل فيه الزوجان حبيبين راضيين بعضهما عن بعض إلى النهاية.
(4) هل هناك شيء مما أفسدته هذه الحرب هو أولى بأن يبادر
بإصلاحه قبل غيره
رأي الليدي روندة
وهي من كبار المفكرات وزوج اللورد روندة مراقب التموين
الصحة
إن أول أمر ينبغي النظر فيه لبناء ما تهدم من أنظمتنا الاجتماعية والأهلية في العصر المقبل هو أن نهتم بأن يكون الأساس الذي ينهض عليه ما نبني متيناً قوياً صحيحاً، ولا ريب مطلقاً في أن الأمر الواجب الأول للظفر بهذه البغية هو العناية بالصحة فلنحشد اليوم جميع قوانا ولنبذل الجهد كله ونتضافر على أن يكون كل فرد يرد في هذه الدنيا مستطيعاً بما يعد له من الفرص، ويهيأ له من السباب أن يظفر ويتنعم بالصحة التامة الكاملة فإذا فعلنا ذلك وتمت لنا هذه النية الأولى استطعنا أن نأخذ في سبيلنا من ترميم ما تهدم من بناء الحياة ونحن مطمئنون عليمون بأننا نرفعه فوق أساس طيب متماسك.
رأي كونان دويل
إصلاح قوانين الطلاق
السير كونان دويل - هذا الروائي العظيم - أقدر المفكرين على تناول مسائل الزواج بالإصلاح، وأعلم الكتاب بمطالبه وما يستلزمه من الإصلاح، وإليك الرأي الذي ذهب إليه، وهو رأي جديد سديد لا تردد فيه، ولا باعث عليه إلا الرغبة في كثرة المواليد، وتوفير الزيجات لتنمية السكان والتعويض عن الجماهير العديدة من فتيان الأمم وأقويائها الذين طاحت بنفوسهم الحرب الماضية. قال:
البحث الأول الذي ينبغي أن نهبه جميع قوانا هو موضوع الخسارة التي لحقت الجماعات من ناحية عدد السكان فلكي نملأ الفراغ الذي أحدثته الحرب ونسد الثلمات والفرجات التي فغرت فاها من جراء القتال، يجب أن نشرع شرعة جديدة، ونصدر قانوناً طريفاً يقضيه بأن يذلل السبيل إلى الطلاق لتلك الجموع العظيمة من أمم الغرب من أولئك المتزوجين المفصولين عن زوجاتهم بحكم الخصومات والفشل الواقع بينهم، حتى يتسنى لهم بعد ذلك الزواج ثانية وتأسيس الأسرات، وستنتفع الآداب العامة من هذا القانون وتستفيد الأخلاق الاجتماعية من هذه السنة، وهي الآن متقهقرة راجعة فاسدة من جراء الوساوس الدينية وما غليها من المنازعات والآراء المتضاربة من ناحية الكنيسة.
رأي برنارد شو
الشنق
لا يزال برنارد شو رجلاً قاسياً في حكمه، قاطع الرأي، لا يتلجلج ولا يتجمجم ولا يضطرب، وهو يميل إلى المجون، ويجنح إلى العبث، فقد كتب إلى صاحب المجلة التي دعته إلى إرسال رأيه في أوجب طرائق الإصلاح، ما يلي:
لا ريب في أن تقصدون من هذا السؤال الذي أرسلتموه إلى أن أكتب إليكم كشفاً ببيان أسماء الأشخاص الذين يجب أن نشنقهم، قبل أن نأخذ الطريق إلى الإصلاح، فلهذا لا أميل إلى أن أرد عليكم.
ولعل برنارد شو يريد بهذا الشنق طائفة من الساسة وقواد الحروب، وليته وضع القائمة حتى نعلم رأيه البديع في المجرمين الذين يجب أن تثأر الإنسانية منهم.
فتوى محافظ لندن
التضحية
وقد جنح السير هوريس مارشال إلى الاعتقاد بأن تلك المشاعر التي استثارت الإنسانية إلى الحرب، وتلك الوجدانات الحية التي بدت على الأمم في هذا النواع التي أسهمت فيه الدنيا، يجب أن تعاد ثانية ويعض عليها بالنواجذ في أيام السلم، إذا كانت الإنسانية تريد أن تظفر بالنجاح والترقي قال: أول الواجبات التي ينبغي أن نضعها في البرنامج الذي نسير عليه في عهود السلام، وبعد هدأة الحرب، هو ذلك الاستعداد العظيم للتضامن والتضحية الوطنية، والمشاعر الطبيعية نحو الدفاع عن الأمة، أولئك جميعاً التي ظهرت في أيام الحرب، وهذه تتطلب الشجاعة وإنكار الذات، واحتمال المصاعب والمشقات، وتبعث الناس كما ابتعثتهم في أيام الحرب منذ أربعة أعوام، على تغيير حياتهم وتهذيب وجوه عيشتهم التي اعتادوا على سلوكها والأخذ بها من قبل.
رأي مستر هري لاندر
الصناعة الأهلية
يجب أولاً أن لا تسمح الأمة بقبول المصنوعات الأجنبية في بلادها فإذا صنعت الأمة حاجياتها من المصنوعات، واستغنت عن غيرها ولم تشتر شيئاً من ذلك من جيرانها، تم الإصلاح الأولـ، ووجد العمال في البلاد العمل الذي يغنيهم ويكفل لهم تكاليف الحياة، فإذا كان لا بد من أن يرد إلى المملكة من المواد الخام التي لم تصنع في المصانع فيجب أن تدفع المملكة الموردة من الضرائب ما يغني عن الصناعة كثيراً من النفقات، ويغري المورد بالرغبة عن التزاحم في التوريد.
رأي اللور هاملتون
المنازل
الموضوعان الخليقان بالعناية قبل كل شيء، الجديران بأن نتضافر على إنقاذهما بعد الحرب، هما تهذيب المنازل التي نسكنها وتهذيب صحة الأمم، والحرب كما تعلمون أبعث على التساوي بين أفراد الأمم، وهي التي تنفذ المساواة في الجماعات، فقد كان الفتية على اختلاف المراتب والطبقات التي أخذوا منها إلى ميادين الحرب على مساواة واحدة في الحرب من ناحية النظام والطعام والميرة والإخطار والنجاح، ولهذا يجب أن سنتمسك بهذه المساواة التي منحتنا إياها الحرب، وينبغي أن لا نعود إلى عدم المساواة، كما قلنا قبلها، فإن الطبقات العاملة الفقيرة، التي تعيش من أجورها وجزاء عملها لا تبتغي من الحياة إلا أن يكون لها نصيب أطيب وحظ أوفر من مباهج الدنيا وطيباتها، ولا مناص لنا من أن نكفل لهم هذه الحاجة، ونغني عنهم مطالب هذه الأمنية.
خواطر الطفولة
عاد السير كونان دويل، الروائي الطائر الصيت، إلى تلك الصورة الجميلة التي ينشئها عن الأطفال، وتلك اللوحات الرائعة التي يرسمها لخلق الصبية، وعجائب ما يخرج من أذهانهم الصغيرة، وغرائب ما يصدر من أعمالهم وحركاتهم، ونعود نحن إلى نشر تلك الصور كلما رأينا شيئاً منها في الصحف، وننقل الآن الصورة الأخيرة التي ظهرت في هذا الشهر في عرض المجلة الإنكليزية الكبرى التي آثر كونان دويل أن يخصها بصوره، وقد رسم هذه بعنوان الشقاوة وبحث عن الضفادع والصور التاريخية.
يوجد من أنواع شقاوات الأطفال ألف صنف وصنف، ولشقاوتهم أعرا وحالات وظواهر يعرفها كل والد محنق وأم متعفرتة من أصبيتهما، وشقاوات الأطفال الثلاثة الذين صورتهم في القطع الماضية شقاوة ممتازة، متبانية، ولكل منهم شخصية ممتازة في هذه الخاصية، ولكل ماركة مسجلة منها، فأما الطفل الأكبر لادي فقلما يظهر شقاوته فإذا أظهرها فإنما دون إرادته، كأن شقاوته تحدث الكبار فتقول: لا أستطيع إمساك نفسي. إني متأسفة ولكن ما عليكم إلا الصبر والاستسلام ولا جلد لأحد إذ ذاك على مغالبتها ومناوءتها، أما دمبلس الأوسط فشقي بارد الإحساس، صارم الإرادة، شعاره الآن سأتملعن وأتشاقى يوخرج بعدها القول فعلاً، وللطفلة شقاوة صخابة عالية، تحوطها الضوضاء واللجب والبكاء والأعوال، كأنما شقاوتها تقول، لا أكترث مطلقاً بأحد، وسأرمي بشرابي إلى السقف ولا يستطيع امرؤ أن يضبط هذه الحمى الصاخبة، فلا يسع الوالدة المتألمة المغتاظة والوالد وهو يبتسم خفية وتبين نواجذه سرقة مسروراً من هذه الإرادة الأنانية الملعونة، إلا أن يصبرا حتى تنقشع العاصفة وتهدأ الزوبعة.
وقد كانت شقاوة دمبلس الأوسط قد ظهرت بأجلى مظاهرها في اليوم الذي أكتب فيه هذه الصورة، والحقيقة أنه كان منحرف المزاج معكنن وعندما يكون كذلك، لا يهدأ حتى يقذف به على الناس، ويطلعه على دماغهم، ويطلعه على دماغهم، ويتشفى من الناس الذين حوله، وقد حدث له في اليوم المنصرم حادث أقلق أعصابه، وأثار نفسه، وهي مأساة تراجيدي ذات ثلاث فصول، فالفصل الأول منها أنه في بعض جولاته الحشرية، في البستان. اكتشف عشاً من أعشاش الزنابير فحركه وأهاجه، والفصل الثاني أن الزنابير اكتشفته وحركته وأهاجته، والفصل الفاجع الأخير سمع في جميع أنحاء الحديقة وتردد صداه في حجرات الدار، ودوى دويه في القرية الصغيرة لأن لهذا الطفل حنجرة كل ركن فيها يتسع أجهر الأصوات. ولذلك، بعد هذه الرواية المحزنة التي مثلها وكان فيها خاسراً، لا يزال له شفيع للغضب وانحراف المزاج وطلب الانتقام من الإنسانية، وقد اتخذت هذه كلها منحى غريباً، شأنه في جميع غرائبه وأطواره، لأنه لا يزال طفلاً مبتكراً، فبدأت أولاً تظهر في بضع ملاحظات جعل يضعها في صلواته ويهذب بها النصوص التي اعتاد تلاوتها، إذا أكرهته أمه على الترنيم والوقوف أمام الله، واعلم أن صلواته لا رائحة فيها للصلاة، ولا دليل فيها على الخشوع، بل تمتزج بالكبر، ويبين في أضعافها الإباء والعظمة والزهو، فقد قال تشفياً وحنقاً في ذلك اليوم وقد دعي إلى الصلاة مخاطباً الخالق عز وجل من فضلك اجعلني طفلاً طيباً - وإني لكذلك. . . .!، فلما أرادت أمه تنقيح هذه التلاوة وتهذيب هذه الصلاة المبتكرة، وأملت عليه فقال: اللهم علمني ضبط نفسي نحو الناس لم يشأ أن يدع هذه الصلاة تمر دون أن يردف عليها وعلم الناس ضبط أنفسهم نحوي! وخرج من الصلاة فأظهر حاجته إلى ضبط النفس، إذ تولاه الغضب وبلغ به الحنق أشده، فجرى وهو يبكي حانقاً مفترساً، وهو يصرف بأسنانه، ويرفع قبضة يده، نحو أخيه الأكبر لادي يردي أن يهوي عليه بألوان مبتكرة من ضرب البوكس، على أن لادي وقف مكانه لم يبرحه، وجعل ينظر إلى هذا الغاضب باحتقار وازدراء ولم يزد عن أن قال بكل برود إتلهي على عينك فحطمت غضب الصغير تحطيماً، وسكنت روعه، وعاد مخذولاً مدحوراً، وكذلك ترى من الطفل الأكبر تلك الروح الفارسية العالية والفخار والتكبر والزهو والسكينة والثبات أمام التهديد والوعيد كما تجد الحب إزاء النعومة واللطف والميل والاستسلام.
فلم يكن من الشقي الصغير إلا أن خرج على وجهه يطلب الحديقة لكي يخفي خجله وخزيه، وكان ذلك عقاب له حتى يستشعر جريرة ذنبه، على أن الأبوين لم يلبثا أن ندما وأحسا الحنان، فمشيا إلى الحديقة لرؤية الأزهار، أو لتنسم الرياح واستنشاق علائل الهواء، أو لتفقد البطاطس أو لأي عذر من الأعذار، يستطيعان ادعاءه ليخفي كل عن صاحبه غرضه الحقيقي، ومقصده الأول من الذهاب إلى الحديقة، وكو لكي يرى ما إذا كان من المنفي وما كان من علامه، فلما تقدما خطوات في البستان، لم يشهدا أثراً للمذنب الصغيرـ، ولكنهما لم يكادا يقتربان من التعريشة الدانية الأغصان إلى البحيرة حتى سمعا صوتاً طفولياً عالياً صخاباً عميقاً، فأصاخا إلى تلك الأغنية التي كان يترنم بها الطفل، فأشار الوالد إلى زوجته أن تسكت وتستخفي وتخف الخطى، وتقتدي به في حركاته الخافتة، ففعلت كما أشار وكان الوالدان أشبه في ذلك بالأطفال إذ يلعبون لعبة الاستخفاء، وقد أطلا من خلال الأغصان ينظران خلسة إلى الطفل وكان منظر لا ينساه كل منهما آخر الحياة، إذ ألفيا الطفل يلوح بيده مطرقاً برأسه وهو منطلق في غناء تعلمه من مرضعه وأنشودة أخذها عن مربيته، وأمامه بضع ضفادع، رافعات الرؤوس محلقات الأبصار، جالسات فوق حافة البركة أشبه شيء بصف من الحضور النقادين جالسين في المقاعد الأول من التياتر وينقدون الممثلين ويرقبون حركاتهم.
فلم يستطع الوالد أن يمسك نفسه عن البقاء في مكانه بل انطلق من مكمنه فظهر أمام الطفل وهو يصرخ هالو! فلم يكن من الضفادع إلا أن هربت إلى الماء فغابت فيه.
فأجاب دمبلس عليها بصرخة مثلها، وهو فرح مسرور ونسي حزنه الأول. فسأله أبوه: أتغني للضفادع يا بني؟
قال الطفل وهو يعلم أن له رقابة شديدة على الحيوانات والحشرات، نعم ولخنفساوين اثنتين، وكان هنا الساعة ضب ولكنه لم يشأ البقاء.
فقالت الأم وهي تحتضن عظيمها: وهل تظن يا بني أنها تستلطف غناءك؟
فقال الطفل: إني أعتقد ذلك وأؤكد أتنها تحب الغناء فإنها عندما يروقها شيء تنفخ برقابها وأنوفها، ولقد غنيتها دورين فظهر السرور عليها بكل معالمه.
وإذ ذاك أقبلت الطفلة وأخوها الأكبر، وكانت الطفلة تمشي منتفخة زهو وخيلاء لأنها ذهبت بالأمس إلى لندن لأجل فحص عينيها، وعادت بنظارة فوق عينيها، وقد ظلت طول يومها تضع المنظار فوق عيني عروستها الخشبية وتنظر إليها نظر الطبيب إلى العليل، وكانت قد أصرت على أن تصطحب العروسة معها إلى لندن ولكن لما نبئت أنه لا يليق أن تأخذها مكشوفة ظاهرة للعيان، أبت إلا أن تكون في سفرها، ولو توضع في صندوق، فكان ما أرادت، ولكنها عندما عادت من سفرها، وسئلت رأيهما في لذة السفر قالت لأمها: لقد كان والله سفراً لذيذاً، وإن كانت عروستي محبوسة داخل الصندوق، ولم تشم الهواء مطلقاً وقد تخيلت الطفلة منذ زمن أقارب وأنسباء وسلالة وعشيرة للعروسة، وابتكرت لها عائلة وأسرة، حتى لقد أخبرت أمها أنها قد تزوجت، فارتعبت الأم وسألتها أن تشرح معنى ما قالت، فلم تزد الطفلة عن أن قالت نهم يا أماه لقد تزوجت شقيق ريجلي عروستي وظلت بعد ذلك تمشي الخيلاء مراحاً وبهجة، مشي الفتاة العروس في الأيام الأولى من زواجها.
وقد لمحت في الصور السابقة إلى آثار الطبيعة انسانية الأولى التي تنم عنها هذه الأخلاق التي ظهرت في هذه الطفلة والأدوار التي تقلب فيها الجنس البشري، وهنا أزيد عليها دوراً آخر يزيد حيرة العلماء ويثير فيهم الدهشة، وهو دور التقليد والمحاكاة والتمثيل ذ ترى الطفل في ذلك الدور من حياته يقلد أشياء كثيرة ويدعي مظهر حيوانات مختلفة ويجد في ذلك ويؤديه برزانة ويقوم به لا عن هزل أو مجون، وإنما حقيقة وجداً ويحب التمثيل ويتقن الدور الذي يلبسه، فتجد دمبلس يقول: أنا الكلب كروسو! فيأخذ أخوه عنه قضية مسلمة ويصدقها منه فيقول: جر العصا يا كلب! ثم لا يلبث كل منهما أن يفهم روح صاحبه، فيعارضه في أمره وينتقد وجوهها من ضعف تمثيلية، إذ يقول لادي الأكبر: أنا ثعبان ثم يظل على شخصيته هذه ساعات طوالاً، فلما عسعس الليل، وحان موعد النوم، سأله أخوه: كيف إذن تنام في الفراش يجب ان تنكمش وتلتف وتستدير.
وقد يتعب الطفلان من إطالة التمثيل والتقليد ويتبينان حماقة أمرهما ويدركان الروح المجونية فيها، فيضجان بالضحك، ويرتفع الصوت من كل منهما عالياً شديداً، ولكنها عادة أشبه في ذلك بالقضاة جداً ورزانة إذا أرادا التقليد.
وقد حدث ذات يوم في أوائل الحرب أن رأت الأم طفلها الأوسط واقفاً وقفة جلال وعظمة وأبهة وزهو وكان قد اعتاد في كل يوم أن يتخذ شخصية إنسان يختارها من بين الشخصيات المعروفة في التاريخ فلم يسع الأم إلا أن سألته قائلة: من أنت اليوم يا عزيزي. فأجابها الطفل على الفور: أنا الإمبراطور! فصاخت أمه مرعبة، لك الله. وكيف تقول ذلك يا بني فلو سمعك والدك الآن لغضب أشد الغضب، فلم يكن من هذا الإمبراطور إلا أن قال: أبي!. . . ليس أبي إلا رجلاً إنكليزياً من عامة الناس.
وكثيراً ما يغلب الأطفال الميل إلى انتقاد الكبار ويعتريهم الجنوح إلى التعريض بهم والقدح في أقدارهم. فقد سأل يوماً أحد الزوار الخلطاء دمبلس: ماذا تريد أن تصنع في الحياة عندما تكبر؟، فأجاب الطفل: لن أفعل شيئاً وسأكون في ذلك كأبي!!
فإذا أنت أردت أن تدرك الغرائب التي يحدثها ذهن الطفل، وتدرس عجائب خواطرهم، فعليك بكتاب حافل بالصور التي تهتاج الخيال ثم سل الأطفال عنها ورأيهم فيها، فإن لوالد هؤلاء الصبية تاريخاً مصوراً عن العالم القديم والأجيال الغابرة، وهذا الكتاب فرحة الأطفال وأستاذهم معاً، إذ يجلس ثلاثتهم في دائرة يحملقون الأبصار في الصور ويحاولون إدراك معانيها، على حين يجلس الولد وراءهم في مقعده، مدعياً أنه أعلم منهم بها، وأكثر معرفة بأسرارها من أطفاله.
وأنشأ أبوهم يسألهم: احزروا ما هذا! وكانت أمام أعينهم صورة قبر من القبور التي يصنعها أهل الأدوار الحجرية من عهد الإنسان الأول، فيب وسطها عظام وحولها أواني.
فظل الأطفال يمعنون في النظر إليها يوتفرسون في معارفها، وانبرى دمبلس فقال: هذا جوف فيل أكل إنساناً وهذه بقايا الجثة في أمعائه.
فرد أخوه عليه يعارضه فقال: الفيلة لا تأكل بني آدم إنما تأكل الأرانب. وقال الطفلة، وكانت قليلة الكلام، فإذا تكلمت فإنما تقول عن نية وقرار وتبت رأياً قاطعاً وقد يكون في أغلب الأحيان الحق والصواب: هذه أواني!
فلم يجد الوالد مناصاً من أن يشرح الأمر فيقول نعم هذه أواني يا بني هذا إنسان مات ودفن وهذه الأواني وضعت حوله لكي تكون معه في الآخرة لينتفع بها ويستخدمها إذا شاء، وكانت هذهفكرتهم في تلك الأيام! ثم قلب الأطفال الصفحات فاستقرت أنظارهم على صورة من صورها.
قال دمبلس: هذا طفل آدمي يرتضع ثدي أمه فقال الوالد أجل هذان روميولاس وريماس، مؤسسا مدينة رومة العظيمة، وكانا في طفولتهما قد فقدا ثدي الوالدة فجعلت ترضعهما ذئبة.
قال دمبلس: يا للذئبة من أم جميلة. تصوروا أن نقول صلواتنا في العشي إلى ذئبة! إنها لا تكون إلا صلاة وحشية. فاستطرد الوالد في شرحه فقال: ولكنهما مع ذلك نشآا قويين ولم يلبثا أن أسسا مدينة فتحت العالم بأسره.
قال دمبلس: إلا إنجلترة بالطبع
فأجاب الوالد: بل وإنجلترا كذلك.
فلم يكد يسمع الثلاثة هذه العبارة حتى صاحوا معها صيحة احتجاج قائلين أوه لا يتقل هذا يا أبي!.
وأردف لادي وهل كان هذا يليق يا أبي!
فأجابه أبوه: لقد كان في ذلك الخير كله لإنجلترة. لقد كنا يومذاك قوماً همجاً متوحشين فجاؤوا لتهذيبنا والآن ما هذه الصورة يا أولادي!
وكانت الصورة الأخيرة والحق يقال لغزاً من الألغاز إزاء هؤلاء الأطفال فقد كانت صورة عراف من قدماء المصريين وقف يتلو نبوءته أمام صف من الجند وهم وقوف رافعي الأذرع.
قال الطفل لادي: هذا رجل واحد يلاكم ستة!
وأصدر دمبلس قراره فقال: هذه امرأة وستة رجال يريدون الزواج بها!
ولم يكن من الطفلة إلا أن هزت رأسها المتجعد وقالت: عساكر!
وكذلك جعل الأطفال يحدسون ويخمنون، كلما قلبوا صفحات الكتاب بين أيديهم، وكانوا في ذلك أشبه شيء بآخر الأكمام الجديدة في نهاية أحدث الأغصان في شجرة الحياة العظيمة وكانوا في ذلك الكتاب ينظرون إلى ما صنعت تلك الأزاهر القديمة الغابرة التي طلعت فوق الأفنان الماضية التي أبلت وذوت منذ أقدم عهود الزمان، وستثمر أيضاً هذه الأكمام وستذوي وتذهب ويجيء بعدها غيرها يبعد عنها بعد بابل عنا فتحملق وتنظر إلى هذه الأكمام وتسخر منها وتضحك إذ تتراءى لها في كتب التاريخ وصوره ولوحاته رسوم طياراتنا وسفائننا وجوارينا والأدوات التي ابتكرناها للتغلب على الطبيعة. وكذلك كانت الإنسانية تصنع وتثمر وتبتكر، ولكن ما القصد، وما النهاية، وما الخاتمة، لقد كان أذى الحياة مخيفاً وصخاباً رائعاً، وكان يدفعهم جميعاً ويسوقهم أمامه إلى الساحل المجهول.