مجلة البيان للبرقوقي/العدد 45/الغازات الخانقة في عالم الحشرات
→ الإسبريتيوالزم | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 45 الغازات الخانقة في عالم الحشرات [[مؤلف:|]] |
روايات البيان ← |
بتاريخ: 1 - 1 - 1919 |
لا تحسبن أن العلم الحديث، بجميع ما ابتكر واستحدث وابتدع، من هذه المخترعات العديدة التي لا يكاد يحصيها العد، يستطيع أن يبز عظمة الطبيعة أو يغلبها على جلالها أو ينتقص من أطراف روعتها، ولا نظن أن العلماء وأهل الفنون والمبتكرين يدانون الحشرة الصغيرة في فنها، أو سيحاكون النملة في جلائل أعمالها، ولعل خير ما قال الحكماء في عظمة الإنسان والفارق بينها وبين عظمة الطبيعة ما قال المؤرخ جبيون إذ وصف في كتابه سقوط رومة روعة كنيسة أيا صوفيا في مدينة القسطنطينية وما كان من الفنون البيزنطية وبراعتها وسموها حتى لقد استغرق وصفه فيها بضع صفحات ثم ختمها بقوله على أن الكنيسة بجميع ما فيها من آثار الفن الإنساني لا تعادل في جلال صنعها العش الصغير الذي تنشئه حشرة العنكبوت في ركن من أركان قبابها العالية.
ولقد يتوهم القراء أن هذه الغازات الخانقة التي ظهرت على يد العلم في هذه الحرب مخترع عجيب، ومبتدع طريف، لم تشهده الدنيا، ولم تأت بمثله الطبيعة، ولكن هذا هو الخطأ وذلك هو الوهم، فقد وضع أحد العلماء الحشريين المشهورين مقاله في إحدى مجلات العرب التي ظهرت في هذا الشهر يثبت فيها أن فكرة صنع غازات خانقة للفتك بالعدو تحصين النفس من غارة المغير لا تزال فكرة منفذة في عالم الحشرات، ونحن ننشر هذا البحث لفائدته وغرابة ما جاء فيه من تلك الحكمة الطبيعية التي لا تخص القوة الإلهية به عالم الإنس وإنما يشترك فيها الحيوان والإنسان على السواء.
نحن نعلم أن الحشرة لا تفكر ولا تعيش على هدى فكر منظم ولكن أعمالها مع ذلك غريزية محضة فالغريزة هي التي تدفعها في ما استمدته من أدوار تطورها على مدى الزمن لحماية نفسها من شر أعدائها أو مخادعة خصومها أو لجلب كفافها من الغذاء وما تتوارثه عن بعضها البعض وما تهذب فيه من عادات آبائها ولهذا كثيراً ما نلتقي بأمثلة مدهشة فتتوهم لأول وهلة أنها حيل مدبرة وأخاديع منظمة أحدثها عقل كبير، دون أن ندري أنها من صنع الغريزة، وقد دلتني الأبحاث الأخيرة التي قمت بها في فحص بيض ضرب من الدود على أمور مدهشة يحار لها الفكر الإنساني وهذا النوع يسمى لدى الحشريين () وهو حشرات تتغذى بأوراق أشجار التوت والحور، وطريقتها في تغذية نفسها منها طريقة عجيبة خارقة للعادة، وذلك أنها قبل ان تتغذى على الورقة تبتدئ بشمروخها أو ساقها وتنفث فيه بض قطرات من لعابها، ولكما نفثت نقطة رفعت رأسها لكي يتسنى لها أن تجعل السائل الذي تنفثه من لعابها على خط مستقيم وخيط ضعيف وكذلك تضع عدة خيوط من لعابها كالشعرات فوق ساق الورقة ثم تحرك هذا الساق إلى الجزء الأخضر وتبتدئ في غذائها، وتنطلق من طرفها في طريقها إلى الورقة وكلما أكلت قطعة تحوطها بدوائر من لعابها، من الناحيتين العليا والسفلى من الورقة، حتى إذا تم لها ما أرادته من وضع متاريسها حول الورقة، اطمأنت وأخذت في طعامها ثم تسترسل في وضع دوائر من لعابها كلما تقدمت في الأكل.
ولا شك في أن الغر من ذلك هو لوضع خطوط دفاعية ولإنشاء متاريس تحصينية ولكن رب سائل يسأل وعلام الدفاع، ولم التحصين وإليك الشرح وهاك السر:
يعرف الحشريون أن الحيلة العامة التي تتخذها النباتات من شر الحشرات في أن تضع خطوطاً وشعرات وخيوطاً على سوقها وعيدانها وشماريخها وأوراق أغصانها ولا سيما ما يختص منها بثمارها وأرهارها، وذلك لترد غارة الحشرات الدابة إليها، ومنها النمال وهي أفظع الحشرات شراً على النباتات.
وقد كنت أعرف هذه الظاهرة الطبيعية. ولذلك استحضرت جملة من النمل الأسمر الموجود في حديقتي ووضعت واحدة منها على حافة الورقة التي أنشأت تلك الحشرة الأولى فيها متاريسها وخطوط دفاعها، فكان من اهتياج النملة أن انطلقت بسرعة فوق أديم الورقة واندفعت رأساً على تلك الخيوط السائلة، فتكسر خيط منها وتشبث برأس النملة، فبدأ هذه تتململ وتحاول التخلص وبعد أن عانت مشقة طويلة نجحت في الخلاص من أشراكها على أنه لم يصبها الرعب فقط من هذا الحادث، بل جعلت كذلك تلمس وجهها بمقدمة أرجلها ولاح لي أنها أخذت تعطس بكثرة إذا صح أن النملة تعطس وإذ ذاك وضعت نهاية بطنها تحت أقدامها وأطرقت برأسها وجعلت كذلك تتدحرج كالكرة ويحتمل أنها كانت تخرج إذ ذاك شيئاً من الحامض لتفسد مفعول ما تناولته من ذلك السائل الذي نفثته الحشرة الأولى، لأنها بعد لحظات أخذت تفيق وتنتعش ومضت تتحرك بكل احتراس حول الورقة، وما كادت تداني بقايا تلك الخيوط حتى ارتدت على أعقابها ويلوح لي أنها استطاعت أن تشم رائحة ذلك السائل، ولذلك أصبحت متنبهة يقظة.
فأعدت التجربة في نمال أخرى غيرها فوجدت أن هذه النمال في كل مرة تصاب بهذه الغازات الخانقة كلما لمست هذه النقط الدفاعية.