مجلة البيان للبرقوقي/العدد 44/أحداث الشهر
→ تفاريق | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 44 أحداث الشهر [[مؤلف:|]] |
مطبوعات جديدة ← |
بتاريخ: 1 - 10 - 1918 |
مسألة آدم
حدث في هذا الشهر حادث دوَّى صداه في المجتمع المصري تدوية بعيدة يتضاءل إزاءها دوى المدافع الضخمة، مدافع لياج وانفرس. . . وأحدث في أنفس الطبقات المهذبة المستنيرة أثراً سيئاً أعقبه سخط عام وتذمر شديد متميز يدل على نفسية هذا العصر ومزاجه العصبي الحساس الذي يهيجه إلى ما به ويستثير مقته وغضبه أهون الشيء من الحماقة والسخف وفساد الذوق، إلى غيرها من المعاني التي لا تتمشى مع روح العصر ومطالب الأمم الناهضة الوثابة، ولا تتكافأ مع حاجات الاجتماع وتكاليف الحياة الإنسانية العالية.
لا يزال في الناس ناس كأن عيونهم في أقفائهم فتأبى طبيعة النظر فيهم إلا أن تمتد إلى وراء وتخالف سبيل الحياة في الأحياء، فهم يعيشون بأرواح ماضية قد فرغ الموت منها ويبتعثون سنن الأعصر الخالية التي أفاض عليها تاريخ الإنسانية سيولاً من دمائه ودموعه، ويحتذون حذو من قبلهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع فيزرون على سماحة الإسلام ويغضون من بهجته ويضيقون من رحبه ويرسلون في لجته الصافية من لهبات محاكم التفتيش الإسبانية في القرن الخامس عشر وإن كان اللهب لا يحرق الماء ولا يغور إلى أعماقه.
والحادث الذي نحن بصدده هو أن (الشيخ محمد أبو زيد) وهو أحد خريجي مدرسة دار الدعوة والإرشاد رجل فيما بلغنا صالح تقى غيور على دينه، فارتأى أن هناك حاجة ماسة إلى الإصلاح الديني غير أنا نلاحظ عليه أنه احتذى في ذلك حذو زعيمه الشيخ رشيد رضا صاحب صحيفة المنار، وأنه ظن أن كل ما هنالك هو مسائل الزار وكرامات الأولياء وهل الأنبياء معصومون أم غير معصومين وهل آدم نبي أم غير نبي إلى أمثال هذه الموضوعات التافهة العقيمة التي لا طائل وراءها، والتي يعد الفائز فيها والمهزوم سواء في السخف، والتي أنبأنا التاريخ أن أمة من الأمم لا تأبه لمثلها وتكثر من الجدل والمناظرة فيها ألا في دور انحطاطها كما كان من زعماء النصرانية البيزنطيين إذ كان كل بحثهم في اللاهوت المسيحي والأتراك على أبواب القسطنطينية، وكما كان من علماء الشيعة وأهل السنة من الخلاف في بغداد أواخر الدولة العباسية والتتر على أبواب دار السلام.
فاتفق للشيخ محمد أبي زيد أن أقام في بلده ومسقط رأسه دمنهور ينشر دعوته ويبث تعاليمه، وفي دمنهور هذه يقيم عالم أزهري من العلماء الغيورين كذلك يسمى الشيخ عبد الباقي سرور وطائفة أخرى من العلماء، ولعل قراءنا قد سمعوا بتلك الحرب الدينية القلمية التي نشبت على صفحات إحدى الجرائد اليومية بين الشيخ عبد الباقي سرور هذا وبين الشيخ رشيد رضا والتي أفضت إلى أن رفع الشيخ رشيد قضية على صاحبه ثم انتهت بأن صالحتهما المحكمة، فكان ذلك مضافاً إلى كثرة تشنيع الشيخ رشيد على علماء الأزهر وتشهيره بهم واستطالته عليهم في كل عدد تقريباً من أعداد مجلته سبباً في حقد الأزهريين جميعاً على الشيخ رشيد هذا وعلى كل من يمتّ إليه بسبب.
فلما أخذ الشيخ أبو زيد يصدع بتعاليم دار الدعوة والإرشاد في دمنهور بين هؤلاء الواجدين على أستاذه مدوا عليه أعينهم وأحاطوه بأبصارهم فكان منه أنه جعل يعظ بكلام أستاذه ويخوض فيما رده الشيخ عبد الباقي عليه ومن ذلك نبوة آدم عليه السلام فقطع بأنها ظنية، ولم يحسن أن يعرض على الناس رأياً أكبر الإحسان فيه أن يخرج منه لا عليه ولا له، فأخذه بها القوم واحتسب أحدهم فرفع إلى المحكمة الشرعية دعوى تفريق بين الرجل وزوجه لأنه فيما زعموا قد مرق من دينه بإنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وكان خليقاً بالمحكمة أن تكون فوق العواطف والأهواء وإن تستصلح الرجل إذا تبين لها فساده وتستتبه إذا قامت الأدلة على ذنبه وأن لا تقطع بكفره وارتداده قبل أن تيأس منه وتستفرغ جهدها فيه فإن الحكم بالكفر ليس كالحكم بالنفقة وإخراج الدين ليس كإخراج الدَّين، غير أن المحكمة قضت بالتفريق وأثبتت فسق الرجل من دينه فلم يكن منه - فيما نقل إلينا - إلا أن بعث بزوجه إلى أهلها حتى لا تكون التفرقة قهراً وإرغاماً وحتى لا يذهب رجال الشرطة إذ يذهبون لتنفيذ الحكم فينادون بكفره على باب داره فإن ذلك كفر آخر للدار بين جيرانها من مطلع الدرب إلى مقطعه. . . ثم رفع الشيخ أبو زيد استئنافاً عن الحكم تنظر فيه محكمة اسكندرية في اليوم الأول من شهر ديسمبر.
وليس من شأن البيان كما يعرف القراء أن يخوض في مثل هذه الأمور غير أن لنا كلمة في الردة وأمرها في الإسلام سنأتي بها كأنها تعليق على هذا الحادث الغريب ولعل فيها بياناً لشيء من الرأي إن شاء الله.
الجائزة الواصفية
نحن نعلم أن الجوائز من شأنها تنشيط الفنون، وتشجيع الصناعات، وتزكية العلوم، ورفع مستوى الآداب، وهذا هو سبيلها في البلاد المتحضرة، وهذا شأنها في ممالك الغرب، ولكن الجوائز في بلدنا هذا أبعث على الفتور، وأدعى إلى الخمول والتراخي والاستيئاس، وأجنح إلى سقوط الخلق، والذهاب بالحياء، وأخلاق ديباجة الوجوه، لأن الذين يستحقونها ويعلمون أنهم مليئون بالظفر بها، وإنها إنما وضعت لهم، ورتبت لفنونهم وآدابهم، يضيعون بجانب الذين لا يصلحون لها ولا حق لهم فيها، ولا قدر يجيز لهم نوالها، لأن الأدعياء والواغلين على الآداب، والدخلاء بين أهل الفنون، لا يعدمون وسيلة تمكنهم من الحصول عليها، ولا تعز عليهم سبيل من تلك السبل الدنيا الحقيرة لأجل التمتع بها واحتكارها وقصرها على أنفسهم، ومن عمركم الله من العلماء والسادة الأجلاء في الأدب يرى هذه الحالة النكراء من سيادة الوسائط والأحابيل والخدائع والوسائل المذمومة، على الفضل والنبل والأدب الناضج، والفن الذي لا يمازجه سقم، ولا يخالطه علة أو مرض، وتنهض همته للإسهام لنوال الجوائز مع المسهمين، ويثب نشاطه لابتكار الشيء الطريف البديع الذي يظفر بالجائزة، ويأخذ بضبع المنحة أو الهبة ولذلك ترك الأدعياء وشأنهم يتوسلون ويمسحون الجوخ ويتشفعون ويبذلون ماء الوجوه ويتحككون بأصحاب الجوائز والذين قرروا المنح ورتبوا الأعطيات والهبات، ففاز بالجوائز من لا يجوز لها، وظفر بالمنحة من لم يمنح من مواهب الله ونعمه على عباده ما يجعل له حقاً في نوال أو عطية، ولذلك لم تحدث الجوائز في مصر إلا سوءاً وشناعة ولم يكن منها إلا أن استعلى الأدعياء على أهل الفضل، وكثرت جنود السوء على جنود الخير، وراجت البضائع المزجاة والتجارات العفنة الخاسرة، وكسدت الصالحة ونامت الطيبة الممتعة.
هذه هي الجائزة الواصفية، جائزة من الجوائز المقررة في كل عام - مقدارها عشرون جنيهاً - لخير كتاب يخرج للناس وأبدع سفر ينشر بين القوم، فهل تعلم من الذي ظفر بهذه الجائزة من يد سعادة حسين واصف باشا في هذا العام - ظفر بها عبد الحليم المصري، وبم استحقها - بديوانه - وهذه ولا ريب فضيحة من الفضائح الأدبية التي تسجل على تاريخ الآداب في مصر هذه السنة، وشناعة وإثم عظيم لأن الاعراف بأن ديوان المصري خير كتاب أخرج للناس في سنتنا هذه دليل قاطع على أن هذا البلد أخرس أصم لا أدب فيه ولا كتاب ولا شعراء ولا تفكير ولا نهضة ولا رقي، لأن شعر عبد الحليم المصري لا يزال شعراً فوق البيعة وشعراً أخلق أن يسمى نصف سوا إذ لا نضوج فيه ولا مادة مغذية، ولا يسمن ولا يغني من جوع، والشاعر عبد الحليم لم يظفر بالزعامة على الشعراء، ولم يقل أحد بأنه شاعر إلا مجازاً واستعارة وتسامحاً، وكان خيراً لنا أن لا نصرف هذه الجائزة في هذا العام ولا ينالها من نالها، ونقول جهرة بأن هذا العام كان مقفراً من الكتب خلواً من الأسفار الجديدة الممتعة، وإننا لم نفكر عاماً كاملاً، ولم نكتب ولم نؤلف ولم نعرب ولم تخطر لنا خواطر، ولم تتلجلج في صدورنا نزعات وآراء من أن نقول أن أحق بها فيه ديوان من الدواوين الإضافية المسكينة التي لا رائحة فيها للشعر المتين المفعم بالمعاني السرية والخواطر الطيبة النافعة، والأمة التي يظفر بإكليل الغار في تاريخ الآداب فيها لعام كامل مثل شاعرنا عبد الحليم، يجب أن تبكي نفسها وتأسى على أدبها وتفكيرها وكيف يكتب الكتاب الحقيقيون، وكيف يضعون التواليف الفاضلة والأسفار الطيبة، في بلد يظفر فيه بالمال الوفر والجوائز السنية، والأختام الماسية والذهبية مثل الشيخ القصرى وعبد الحليم المصري وإضرابهما، وتقام الحفلات الحافلة والأسمار الكبرى لسماع أدبهم وأشعارهم، لعمري أنها لمعرة للأدب العصري، وفضيحة من أكبر فضائحه.
ثم ألم يكف السيد عبد الحليم أن ديوانه هذا قد طبعه على نفقته أحد كبار المثرين ثم زاد على ذلك أن وزعه على جميع بيوت الأغنياء وقصور الذوات والأعيان وألقاه في كل مغنى من المغاني وفي كل دار من دور الأكابر والمترفين والأسامي النبيلة وأهل الألقاب الضخمة، وظفر بثمنه منهم أضعافاً مضاعفة ونال على أتعابه أموالاً طائلة، حتى يجري وراء الجائزة الواصفية، ويدحلب لأجلها ويوسط الناس في سبيل الحصول عليها، ويقنع الباشا الكريم أنه أحق إنسان بها، ويقبض على العشرين على عينك يا تاجر بلا خشية ولا خجل ولا اتقاء لله في هذه الأمة التي أعطته أكثر مما يستحق.
وعلى هذا القياس لا يسعنا إلا أن نعد حسين باشا واصف أكبر عليم بفنون الشعر، نقادة به بصير، فقد وضع نفسه موضع نابغة ذبيان في سوق عكاظ واستعرض جميع الشعر والقصيد الذي ظهر في هذه السنة فلم يجد غير ديوان المصري أحق بجائزته وأجدر بنوالها والتنعم بها، فهنيئاً للظافر بالجائزة، وتهنئة للباشا الهمام على تقلده وظيفة الحكم الأكبر في شعراء الأمة.
نحن لا نحسد عبد الحليم المصري على ما أوتي من براعة أساليبه العديدة، ولا نريد أن ننافسه فيه ونعارضه ونزاحمه، فتلك أرزاق يمنحها الله لمن لا يستحقونها، ولا شأن لنا في محاسبة الله، وإنما نخشى على هذه الأمة أن تتفشى فيها بعد الحمى الإسبانية حمى الملق ومسح الجوخ، فتذهب بأقدار الكفاءات وأهلها، ويصبح أشد الناس ملقا، أظفرهم بالخير وأملأهم بالذهب والمال جيوباً.
مصاب آل المهيلمي
كثرت الوفيات في بلدنا هذا منذ أيام، وذهب إلى مساكن الفناء فيمن ذهب من الناس أفراد من كبار الأمة وأعيانها، والنافعين من أهلها، واغتال الموت في وسط هذا التزاحم على الأبدية والتنافس على التلاحق إلى مضاجع الآخرة طائفة صالحة من القوم الذين كنا بهم أعزة، وكنا سعداء بوجودهم في وسطنا، وتألقهم في سماء الحياة المصرية، ومنهم التاجر النافع، والأريحي العظيم، وذو النفس الكريمة، والإحساس البار المحمود، والغني الممتلئ حياة ونشاطاً وفتوة ووجداناً، والكهل الناهض بعمل مفيد، والمؤدي الخدم الجليلة، وعميد العشيرة الكبيرة، ورب الأسرة التي لا نصير لها سواه ووالد إلا صبية الذين لا حول لهم في الحياة إلا حوله، ولا عزة لهم إلا به، والشيخ الصالح الذي كان رأس القبيل، وزين إلا كليل، ووقار المجالس، وهيبة الأسمار، حتى لم نكد نفرح بعقد الهدنة، ونبتهج بعود السلام إلى العالم، وقتل شبح الحرب الشنيعة، وتنفس الصعداء، والسكون إلى الحياة بعد ما شقت وصعبت وكاد المرء يتلمس منها خلاصاً، حتى دهمتنا هذه الداهمة العظيمة، والكارثة المرعبة، فأمسكنا عن الفرح، وراح في كل بيت بكاة يبكون حول مريض، وحادون يلبسون السواد على فرد نافع، والقوم مشيعون بعضهم بعضاً إلى المقابر، واجفون إذا وضعوا أيديهم في أيدي صحابهم مصافحين محيين، مرعبون إذا ألفوا رجلاً بينهم يسعل، أو أحداً منهم يرجف أو ساخن اليد دافئ الحرارة، وبات الناس على جزع، وأصبحوا على خشية وفرق، فقل الابتهاج بالسلام، والفرح للصلح، ومضى الناس في شغل بمرضاهم وموتاهم وهلكاهم عن الشؤون التي كانوا لا ينشغلون لحظة عنها، ولا يتركون التحدث بها والمناقشة في أسرارها وتكهناتها.
ولكن ليس في الفاجعات التي غشيت الناس اليوم فاجعة تستدر الشؤون وتبعث الأسى، وتقنع الإنسان بتفاهة الحياة، وغرائب الأقدار، من المصاب الذي نزل بآل المهيلمي فاختطف السيد الكبير، والرأس الجليل، والعميد الوطني الغيور، والشهم الأريحي المشهور، عبد المجيد المهيلمي بك فقد كان فرحاً بالحياة، رجل خبر يبذله لا طالباً جزاء ولا سائلاً شكوراً، وكان زعيماً من زعماء التجار، وبطلاً من أبطال المتجر، أراد قبل أن عاجلته المنية أن يفرح بفتاه ويغتبط بتزويجه، فزوجه وأقام له العرس الفخم، وأنشأ الزينة، ودعا الصحب والعشراء والخلطاء، وهو صحيح معافى، لا يخطر للقوم أنه على مقترب منيته وفي الطريق إلى مقبرته، فلم يلبثوا الأعشية أو ضحاها حتى اغتاله الموت، وفتاه لا يزال في فرحة العرس، وغبطة شهر العسل، ثم لم تكد تمضي أيام قلائل، حتى التحقت به قرينة أخيه عبد الغني بك، ثم اكتمل المصاب بأن انحدر العريس الفتي عبد الفتاح بأبيه في مساكنه، ووافاه في العالم الذي اختاره الله له، وكذلك قضي الوالد وابنه نحبهما على فترة صغيرة، كأنما كانا على موعد مضروب وكأنما أبى الوالد أن لا يهنأ له مضجع في الأبدية ويطمئن به المقام أو يزوره فتاه ويعيش ثمة على مقربة منه.
مصاب جليل، ونكبة عظمى، وقعت في عجلة، ودهمتنا بسرعة، فكان الأسى عظيماً، والحزن أليماً، ولا رد لقضاء الله، ولا حول ولا قوة إلا به.
ونحن نسوق العزاء إلى شقيق الفقيد عبد الغني بك ونسأل الله له السلوى وتخفيف وقع المصاب وأن يطيل حياته ويزيدها ما انتقص من الكريمين الراحلين.