مجلة البيان للبرقوقي/العدد 42/مطالعات
→ الأيدي القارئة | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 42 مطالعات [[مؤلف:|]] |
تفاريق ← |
بتاريخ: 1 - 6 - 1918 |
نوادر العميان
حدث بعضهم قال: نزلت في بعض القرى وخرجت بعد هدأة من الليل لأقضي حاجة فإذا أنا بأعمى على عاتقه جرة ومعه سراج فقلت له: يا هذا، أنت والليل والنهار عندك سواء، فما معنى السراج؟ فقال: يا فضولي، حملته معي لمن كان أعمى البصيرة مثلك، يستضيء به فلا يعثر بي فأقع أنا وتنكسر الجرة، وقال بعضهم: يقال أن أهل هيت يكون أكثرهم عوراً، فرأيت رجلاً منهم صحيح العينين، فقلت له: إن هذا لغريب! فقال: يا سيدي إن لي أخاً أعمى قد أخذ نصيبه ونصيبي، وتزوج رجل أعمى من امرأة قبيحة، فقالت له: رزقت أحسن الناس وأنت لا تدري فقال لها: يا بظراء أين كان البصراء عنك قبلي؟ وكان بحرم سيدنا الخليل عليه السلام شخصان أعميان أحدهما ناظر الحرم والآخر شيخه فأراد الناظر عزل الخطيب فعارضه الشيخ ومنعه فقال له الناظر كأنك قد شاركتني في النظر فقال له، لا بل في العمي فاستحى واستمر الخطيب، وجاء رجل بشار بن برد الشاعر الأعمى فسأله عن منزل رجل ذكره له فجعل بشار يفهمه ولا يفهم فأخذ بشار بيده وقام يقوده إلى منزل رجل وهو يقول:
أعمى يقود بصيراً لا أبالكم=قد ضل من كانت العميان تهديه
فلما وصل به إلى منزل الرجل قال له: هذا منزله يا أعمى، وإذ جر الحديث إلى ذكر بشار فلنورد شيئاً من نوادره عامة، أنشد بشار يوماً أبياته التي يقول فيها:
جفت عيني عن التغميض حتى ... كأنّ جفونها عنها قصار
إلى أن قال:
كأن فؤاده كرة تنزى ... حذار البين أن نفع الحذار
يروعه السرار بكل أمر ... مخافة أن يكون به السرار
فقال له رجل: أظنك أخذت هذا من قول أشعب، ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننت أنهما يأمران لي بشيء: فقال بشار: إن كنت أخذت هذا من قول أشعب فإنك أخذت ثقل الروح والمقت من الناس جميعاً فانفردت به دونهم، وحدث بعض الشعراء، قال: أتيت بشار الأعمى وبين يديه مائتا دينار فقال لي خذ منها ما شئت أو تدري ما سببها قلت لا، قال: جاء فتى فقال لي أنت بشار فقلت: نعم فقال إني آليت أن أدفع إليك مائتي دينار وذلك أنى أحببت امرأة فجئت إليها فكلمتها فلم تلتفت إليّ فهممت أن أتركها فذكرت قولك:
لا يؤيسنك من مخدرة ... قول تغلظه وإن جرحا
عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعد ما جمحا
فعدت إليها فلازمتها حتى بلغت منها حاجتي، ولولا أن الفسوق قد استشرى في عصرنا هذا، وأن شبابنا حرسهم الله قد سبقوا بشاراً في معنى بيتيه هذين وأمعنوا إلى ما لا يخطر على بال بشار وتكشفوا عن أقصى غايات الصفاقة ورقاعة الروح لكنا اختشينا ذكر مثل هذين البيتين في البيان، وإلا فإن المهدي الخليفة العباسي لما بلغه عن بشار هذا الشعر ثم قدم عليه بشار فاستنشده إيه فأنشده طار الغضب إلى رأسه - وكان المهدي غيوراً - وقال لبشار: تلك أمك يا عاض كذا وكذا من أمه؟ أتحض الناس على الفجور وتقذف المحصنات المخبآت والله لئن قلت بعد هذا بيتاً واحداً في النسيب لآتين على روحك، ثم إن بشاراً لم يحظ من المهدي بعد ذلك بشيء على الرغم من ائتماره بأمر المهدي وإقلاعه عن النسيب وإكثاره من تمداحه حتى أن بشاراً لما ضاقت عليه الدنيا من جراء ذلك هجا المهدي أقذع الهجاء فسعى به يعقوب بن داود وزير المهدي، وكان يعقوب هذا مضصغنا على بشار إذ هجاه بقوله:
بني أمية هبوا طال نومكم ... إن الخليفة يعقوب بن داود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزق والعود
فدخل يعقوب على المهدي فقال له يا أمير المؤمنين إن هذا الأعمى الملحد الزنديق قد هجاك فقال بأي شيء فقال بما لا ينطق به لساني ولا يتوهمه فكري فقال له بحياتي إلا أنشدتني فقال والله لو خيرتني بين إنشادي إياه وبين ضرب عنقي لاخترت ضرب عنقي فحلف عليه المهدي بالإيمان التي لا فسحة فيها أن يخبره فقال أما لفظاً فلا ولكني أكتب ذلك فكتبه ورفعه إليه فكاد ينشق غيظاً، وعمد على الانحدار إلى البصرة للنظر في أمرها فلما بلغ البطيحة سمع أذاناً في وقت ضحى النهار فقال انظروا ما هذا الأذان فإذا بشار يؤذن وهو سكران فقال له يا زنديق عجبت أن يكون هذا من غيرك أتلهو بالأذان في غير وقت صلاة وأنت سكران ثم دعا بابن نهيك فأمره بضربه بالسوط فضربه بين يديه على صدر الحراقة سبعين سوطاً أتلفه فيها فكان إذا أوجعه السوط يقول حس - وهي كلمة تقولها العرب للشيء إذا أوجع، فقال له بعضهم انظر إلى زندقته يا أمير المؤمنين يقول حس ولا يقول باسم الله فيقول بشار ويلك أطعام هو فأسمي الله عليه فقال آخر أفلا قلت الحمد لله قال أو نعمة هي حتى أحمد الله عليه فلما ضربه سبعين صوتاً بأن الموت فيه فألقى في السفينة حتى فاظ مات.