الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 41/قصيدة منثورة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 41/قصيدة منثورة

بتاريخ: 1 - 4 - 1918


بقلم حضرة الأديب الشاعر الكاتب الشريف السيد حسن القاياتي

جعلت فداك أيها الخليل الرغيب، إن نفسي وقيت شكاتها، وعدتك بلواها.

هذه قصيدة كنت عملتها في هذا الغرض الخلقي ولا مر ما بدالي أن ألبسها هذا الثوب النثري فإن نالت رضى فذاك ما اعتمدت وإن كانت الأخرى فلعل من المعذرة لصاحبها أن هذا الضرب من الشعر المنثور طراز حديث لم نحسنه يعدوان أن الباكورة ربما جاءت فجة غير ناضجة.

تكاد تذوب مما تجد من لوعة، وتطوى عليه من جمر الأسى، حتى ليخيل إليّ أنها تسيل حسرة، وتتحدر حرقة، بل يخيل إلى أن هذه الدموع الحمراء التي تستنزلها الفجيعة، وتساقطها الشكوى، إنما هي ذوب تلك النفس الآسية، وقطرات تلك الكبد المتفطرة، وفي سبيل المجد والسؤدد، ما تلقين أيتها النفس:

ضلالاً لنفسي، بل رحمة لها من نفس سرية ماجدة، كيف سرت إليها خدع الأماني، وتمشّت نحوها أباطيل الأمل الخلوب الكاذب، فجعلت تمنيها الحياة الشهية، والمنزلة الشماء، أجل إن من خدع الأماني، وأباطيل الأمل، أن تسمو نفس حرة إلى مستعذب من الحياة، وشهيّ من العيش، وإن فيما تشكوه تلك النفس الحرة هماتها الكبيرة، وعزائمها الناهضة المتوثبة، هيهات منها ذلك:

ليست نفسي الطموح البعيدة الهمّ بدعا من النفوس الكريمة حين تلبس ثوب الليل مسهدة الجفن، نابية المضجع، حتى يتفرّى دجاه عن مستنير الفجر، وتشيع في نواحيه ثقوب الضوء، وينصل صبغه بلون الصباح المشهر، فكم أنفس سامية طماحة يؤرقها أسى برح، وهمة مترامية، فتبيت ترعى النجوم، وتناجي ساهرة الكواكب، كأنما تتلمس منزلها المسلوب بين تلك النظائر، وتسمو بنفسها إلى مكانتها بين تلك الأخوات من الكواكب:

ليل يصادفني ومرهفة الحشد ... ضدين أسهره لها وتنامه

واكبدي للمجد، وحر قلبي على كل فتي نبيل سباق إلى الحمد، سريع إلى الكرامة، يحتوي المجد من أطرافه، وينزل في بحبوحة الشرف الصميم أين - لا أين - العلى من مثل هذا المتحبب النبيل الذي غزا القلوب بوده وإحسانه، فأنزلها على حكمه، ورادها بلباقته حتى نزل في حياتها، وحلّ في الصميم منها، أنه لخليق بمثل ذلك المعشّق الطلعة، ال الحاشية، المحبب إلى كل القلوب حتى كأنه خلق منها، أن تدنيه القلوب، وتقر بمرآة العيون، حتى كأنه الزهرة التي رفت حلاوة، وندت غضارة، وغضاضة، فراحت تحملها صدور كل رقيق من الفتيان، ورشيق من الحسان:

يقولون مثر طويل الذيل، تنزل المني على حكمه، ولا يناله الدهر إلا بما يريد، أجل إنه لكما يذكرون، ولكن ليس الثراء كل ما تنزع إليه همة طالب المجد، إن وراء ذلك لغرض ضخم، وآمالاً كبار، يقض لها المضجع، وتذهب عليها نفسه حسرات وماذا يغني الثراء عن ذلك وهل يستخفّ ثكلى محزونة تألق الحليّ في لباتها، وتزدهي بإشراق اللآلئ عليها، وفي صدرها داء دخيل، وغلة هي ما هي، أهلاً بما يهدي إلينا الدهر، وتنفحنا به أيامنا من عطاء سني، ونعمة مبتدأة ومستأنفة، إن كانت العلياء والمجد بين تلك الهبات، وفي جملة تلك العطايا، ولا أهلا بها إن لم يكونا فيها، ولا أبعد الله إلا هبات لا تكسب مجداً، ولا تسمع حمداً، بعدا لطالب المجد يقنع في طلبه بالدون، ويرضي في مسعاه بما دون السماء، إن الحر الكريم النفس، الحمي الأنف، لا يزال ينزع إلى كل عمل جسام، ويسمو للجميل من المسعاة كما يسمو ورد الخدود فيحل في الوجنات الرقاق، ويرتفع رمان النهود فينزل في صدور الحسان، واسوأتاه من أن الرجل السري النابه لا يأبه إلا لأمر طعامه وشرابه، ولا يعمل إلا على نيل حاجته من مطعم شهيّ، وشراب لذّ، وشهوة ممتعة، ثم لا يبالي بعد ذلك أثلم عرضه أم سلم، وخمل ذكره أم نبه، تلك حياة إنما نالها بذلة وخسة كما تبذل البغيّ نفسها، وتبتذل شرفها، لحفظ حياتها، وإمساك حشاشتها، ولخير من تلك الحياة موت مريح، وهلاك شريف:

يعيبون عليّ وقاري، ويستنكرون مني أخذ نفسي بالسكون، وحملها على عزة الجلال، والعزوف عن الطيش، ويقولون إنما هو شاب ناشئ، ماله وما للوقار والجلال، هلّا أرسل نفسه على سجيتها، ومضي مع الصبا والصبوة، مطلق العنان، خليع الرسن، وليس الوقار بهجنة ولا عار على ناشئ حميد السيرة، رقيق الأدب، تطيب سجاياه على علاتها، وترضي خلائقه كلها:

إن في الناس لفريقاً استخفهم سكر الشباب، وسكر الشراب، يحسبون أن السمو كله، والرفعة بجملتها، إنما هي في احتساء العقار، وكأس تدار، فإن كل ما تخيل أولئك حقاً - ولن يكون - هتفنا مثلهم بإخوان الأنس، وندامى الكأس، هاك أيها النديم، وهات أيها الساقي الجميل، ولو كان الرقيّ في غزال يتصبى الحسناء، ويمكن من صعب المخبأة الجموح، وفي أن يكون الفتى زير نساء، وقيد ظباء، فإن لي من نفثات السحر، ورقيّ الشعر، ما ينبت مضجع الخريدة الحيية العفيفة شوكاً، ويصيد البكر عن رقودها حنيناً إلى بلبله الغرد، وطائره الصائح، لو شئت - لا شئت - أن أذهب مع السفاهة والطيش، وأجرى مع أسباب الغواية واللهو، لم أبت ليلة إلا ثاني قمر أو شمس، ولم تزل كل مليحة تهدي إليّ زورتها، وتتحفني بمواعيدها، ولكنت كمن يقول:

رعى الله دهراً لم أبت فيه ليلة ... خليّاً ولكن من حبيب على وعد

أجل بصرك فيمن ترى من الناس، وأنا الضمين لك ألّا يزال يصادف سوءة، وتقع به على مخزاة فاشية، وفعلة فاضحة، يروح ويغدو بها أولئك الذين يخيلون إليك أنهم الفضيلة حية، والخلال الحميدة، تطالعك في زيّ الأناسيّ، فلو أن كريه هذه السير، ومساوئ تلك الخلال، يمزج به طيب الثغور لصد العاشق المهجور عن قبلات الحسان، أو يخلط به العذب القراح لثنى عن الري الظمآن، آداب ناشئتنا متكلفة مصنوعة، تخلق لا خلق، ورياء لاحق، إذا أعطاك أحدهم بعضه فلكي يأخذ كلك، كما يصنع الصائد الدرب بتلك الحبات التي يغر بها الطائر حتى يسقط بأجرامه في حبائله، وما أشبه أخلاق نشأتنا المكذوبة المزورة هذه بخدود نسوتنا المصبوغة بصبغ الحقاق لا صبغة الخلاق، لا يغرك ممن تصطفيه منهم وجه يفيض بالبشر، وثغر بسام يزوّر لك القول، ويخلبك بسحر الحديث، فإن وراء ذلك صدراً يغص بأفانين الخداع، ويفتن في ضروب الحيل والكيد، وضلوعاً تنطوي لك على دخيلة شر، ومضمر غلّ، وحذار أن يزدهيك ذلك الوجه المشرق فيودي بك، فإنما هو كالزهر الأنيق يروعك منه مرآة وحسنه حتى إذا أدني من الأنف بعث بجرثومته إلى صدر حامله فلم تخرج إلا في صحبة روحه، همّ الشباب منهم ووكده أن يروح ويغدو آية الحسن، وفتنة القلوب، وأن يشار إليه بكل بنان مخضب، وينزل من الحسن في كل قلب، حتى لقد أزرت البراعة في ملابس الفتيان على البراعة في ملابس الحسان.

هذه آصال مصر وعشياتها، ألست تنظر إلى متنزهاتها، ومسارح ظباءها، كيف تطلع كل مخبّأة، وتبرز كل كريمة مصونة فلا تزال تهدى إلى شبه الظبي ملاحة من فتيانها، شبه المهاة حسناً ورشاقة من فتياتها من كل فتانة المحاسن، ساحرة الجمال، زهراء القناع رقيقة تخالها من ذلك القناع المهلهل الذي يصف وجهها، ويحكي محيّاها، قد أشرفت على مرآتها بعد طول تعهد بالصقل والجلاء، من تلك الحسناء التي تخطر في العشيات فتكاد تتوثب إليها القلوب من صدورها، وتثبت في محاسنها الأحداق والنظرات، تلك التي توحي إليّ خطراتها خطرات شعري وينفث سحر طرفها سحر قوافيّ، أجل من تلك التي يغرى بحركاتها الدل كله، ويكمن في لفتاتها الموت، وينزل في نظراتها السحر، ولمن في الفواتن من الغيد تلك النهود المسددات كالرماح إلى صدور العشاق، يطيح عنها الثوب ويتكشف الملبس، فإذا هي كالثمرة اليانعة تساقط عنها كمها وبدت من غلافها، قامت تتأود كالغصن الأغيد، وأقبلت تصف لنا الغصون النواعم في طيب نشرها، وضائع أريجها، واهاً لها من طفلة غريرة غضة السن صغيرتها في مثل سن البدر، بل في حسنه وإشراقه، تقوم مقام البدر إن نام ضوءه عن ليالي وصالها، وساعات ازديارها، فهي ملء القلب حسناً وحباً، ملء العين إشراقاً وقرة، وما أنس من شيء فلا أنس هذه الدرة الزهراء، واللؤلؤة المتخيرة، لم يزل بها دعاة العهر والفحش، ورواد الريبة والخنى، يرقونها بكل رقية من رقي الفسوق، وينفثون لها في كل عقدة من عقد السحر، حتى أخرجوها عن صدفتها، وأنزلوها من سماء عفافها وعزتها، رحمتا لتلك الفتاة العذراء الغريرة، وحرّ قلباه لهذه الفريسة المغتصبة، فلعهدي بها كبعض الملائكة طاهرة الذيل، عفيفة الإزار، آمنة كبعض حمامات الحرم، يطوي ضميرها على نقاء، ويكشف صدرها عن صفاء، كما تتكشف الصدفة عن درتها، وتنم المزنة الشفوف على الشمس دونها، بل عهدي بتلك الخفرة الحيية أيام كان وجهها بحيائه ومحياها يشرق بمائه، تكاد النظرة تدمي وجنتها الرقيقة، وتستنزل عبرتها حياءً وخفراً، صب عليها نكد الدهر، وتعس الجد، ظبياً من الظباء الآنسة، لا الظباء الكانسة، معشّق الحسن، فتان المحيا يرتقي جب القلوب، لا نوّار الكثيب، ويتشهى من الأفئدة منهوباتها دون موهوباتها، فلم تزل بها ضحكات ذلك الثغر الخائن، وابتسامات هذا المستهتر الفاتك، حتى استتزاتها عن عرش كرامتها، وألقت بها بين يديه محترقة بجمر تلك الضحكات الخائنة، كما تهوي الفراشة على جمرة الشهاب المحرقة، بنفسي هي، ما أشرف نفسها وأسمى همامتها، لم تسلم قلبها لمهاجمه إلا بعد طول مغالبة وفضل مصاولة ومدافعة، فلشد ما جاذبته فؤادها، ونازعته قيادها، حتى أدركها الضعف - والفتيات ضعيفات - فسقطت تتخبط في حبالته كتخبط الطائر في شبكة الصائد، تجاذبه حيناً، وتقر حيناً، فإذا هي أخيذته، كم ظلت لدى ذلك الوحش المفترس محبوسة به عن أهلها - ممنوعة من ذويها، وهو يتلهى بها، ويتعلل بمحاسنها، قبل أن يصل إلى فؤادها، وينفذ إلى قلبها، كحامل الكأس يحبسها طويلاً في يده ليلتذ بمرآها الأنيق، ويتعلل بمنظرها الشائق.

تلك الرياض الناضرة المونقة في الجزيرة شهدت هذه الزهرة الذابلة تهصرها كف ذلك الجاني الآثم، هناك حيث لا ينفك تهتصر الغصون، وتجتني الأزهار، ومن لها بالجلادة والامتناع، وأنى لفتاة مثلها بالصبر والعصمة، وإن في صدرها لنارين متأججتين: نار أسى وشجو، ونار صبابة والتياع، ضرمهما الخائن الخادع، وأوقدهما على كبدها المتصدعة بما جنى على عفتها، وشب في قلبها من حب، وكم اعتمدت أن تبرّد من ناريها، وتطفئ من جمرتي فؤادها، بما تفيض من نيل دموعها الهامية، فما أطفأ ذلك وقداً، ولا أهدي لصدرها برداً، لقد ألحّ الحزن عليها وشرد من لبها فألقت بنفسها، وتساقطت بين تلك الرياض محزونة ذاهلة مقسمة اللب، حتى ليخيل إلى من يراها أنها إحدى زهرات الروض الساقطة الذابلة، ويحي على مصر وأواه من هذا البلد المحبوب المفدى بالنفوس ألا يبرح من خلائقه ودأب أهليه أن تظل ناشئته المرجوة، والشباب المرتقب من شبانه، حرباً عواناً على الغيد الملاح من فتياته الكرائم، وعقائله المصونات، بما يكدرون في كل آونة من ماء الحسن، ويدنسون من نقيّ الأعراض، بعض هذا أيها القوم ومهلاً قليلاً، فما هكذا يكون عهد الإصلاح، ولا هكذا تكون المدنية، والأخذ بأسباب الرقيّ والحضارة، ومتى كانت الأحرار تسترسل في سوءاتها وتذهب في مخازيها في كل مذهب، تساءلتم طويلاً وتناظرتم كثيراً في أي الأمرين من السفور والحجاب، أجدى على مصر، وأعود عليها بالفلاح والرفعة، وهذه مصر تشكو إليكم سافراتها ومحجوباتها وتبرأ إليكم من عصرياتها ورجعياتها، إن النساء قلوبنا التي نقيم دونها الصدور، وعقولنا التي تسددنا إلى كل عمل حميد، ومسعى كريم، ولطالما أرخينا الاعنة لهذه القلوب المحبوبة، فجعلت تتناهبها الأهواء، وتعبث بها الأضاليل ولشد ما شف القلب ركوبه الذلة، وأودى به غشيانه كل ملهاة شائنة لله أنتم فما أرجح أحلامكم، وأوفي عقولكم، وأكرم شمائلكم، أين يذهب بكم هداكم الله عن طريق الهداية وأين - لا أين - تبتغون الجدوى من غير متطلبها، إن الذي يسره أن يصلح من حال أمته وينشؤها نشأة فاضلة كريمة يعمل على أن يغرس الفضيلة في الأمهات اللواتي يربين شبان الغد في حجورهن، ويخلق التهذيب في تلك المدارس الأولى لنشأتنا المرجوة المخائل، هناك فلتقرّ عينه بأمة رشيدة عاقلة، وشعب سامٍ نبيل، والله المستعان.