مجلة البيان للبرقوقي/العدد 41/صفحة من تاريخ الأندلس
→ ../ | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 41 صفحة من تاريخ الأندلس [[مؤلف:|]] |
معبد هيبس ← |
بتاريخ: 1 - 4 - 1918 |
الشهامة الإسلامية والفتوة العربية
كتبها خصيصاً لمجلة البيان العالم البحاثة المحقق حضرة صاحب السعادة
أحمد زكي باشا سكرتير مجلس الوزراء
لما انقسمت كلمة المسلمين بالأندلس آذنهم الله بزوال ملكهم وذهاب ريحهم فتقمم الولاة والقضاة والعمال والثوار بقايا ذلك الملك الطويل العريض وادعى كل منهم المملكة لنفسه في البقعة الصغيرة التي احتازها.
بل نرى بعضهم قد ألف أول جمهورية إسلامية (كما حدث في قرطبة مع بني جهور) والبعض الآخر ألف حكومة ثنائية على الشكل الذي كان معروفاً عند الرومان باسم (كما حدث في بلنسية ما بين مبارك ومظفر العامريين) وكان من العجائب اشتراكهما في الملك ولا تنافس بينهما حتى أنهما لم يمتازا إلا في الحرم خاصة وقد ذكر ابن دراج القسطلي شاعر الأندلس هذين الرجلين في قصيدة له بقوله:
وأظفرت آمالي بقصد مظفر ... وبورك لي في حسن رأي مبارك
ولكن اشتد أمرهما وحرصهما في الجباية وأضرا بالناس فاستغاثوا إلى الله فهلك مبارك متردّياً عن فرسه، وضعف مظفر بعده فأخرجه أهل بلنسية فانتزا بشاطبه.
أولئك هم ملوك الطوائف، كان كل واحد منهم يطمح في أن يتغلب على جميع أقرانه ويجمع الملك كله في يده ليجعل نفسه خليفة الله في أرضه وليورث الخلافة بنيه من بعده، فكانوا مع ضعفهم وضآلة ملكهم في خصام وعراك لا يكاد أن ينقطعان، هذا إلى انغماسهم في حمأة الترف وهويهم إلى الحضيض الأوهد من الشهوات.
نعم وقد كان ملوك الإسبانيين في جهات الشمال كذلك منقسمين بعضهم على بعض ولكنهم استفادوا من تشاحن العرب وتطاحنهم، فكانوا يجمعون كلمتهم عند الحاجة لإضعاف العرب ثم يعودون على خصوماتهم ومنازعاتهم إلى أن تتجدد الحاجة فيجتمعوا لسحق العرب وإذلالهم، وبهذه الوسيلة تمكنوا من استخلاص طليطلة التي هي مفتاح الأندلس الإسلامية.
ذلك أنه عند انقراض الخلافة الأموية من قرطبة، كان القاضي في مدينة طليطلة رجلاً اسمه ابن يعيش فاستبد بالأمر فيها ونادى بنفسه ملكاً عليها ولكنه لم يلبث إلا قليلاً حتى ق عليه بنو ذي النون - وكان لهم شوكة وعصبية في شرق الأندلس - فانتزعوا الملك منه وقاموا بشأنه خير قيام، وفي أيامهم تقدمت المدينة وبلغت من السعادة المادية والأدبية درجة تغبط عليها.
(1) هذه البيانات لم يطلع عليها أحد من الباحثين والمنقبين قبل الآن، ولم يذكرها مؤرخ عربي أو غربي، وقد ظفرت بها في كتاب المغرب بأخبار المغرب لابن سعيد الأندلسي الشهير وكتابه بخط يده محفوظة بقاياه القليلة بدار الكتب السلطانية، وفي خزانتي الزكية نسخة مأخوذة عنها.
وكان واسطة ملوك هذا البيت هو المأمون بن ذي النون فإنه تغلب على كثير من ملوك الطوائف وأضاف من أملاكهم إلى ملكه وصنع بطليطلة من العجائب ما تكفل به التاريخ وبسطناه في موضع آخر من محاضراتنا على حضارة الإسلام في الأندلس.
وفي أيام المأمون هذا كان معاصره فردينند الأول قد تمكن من التملك على ثلاثة من ممالك الإسبانيين وهي قشتالة وجليقية وليون، فاستفحل أمره وقويت شوكته وحينئذ توجهت أنظاره إلى غزو ملوك الطوائف وتوسيع مملكته على حسابهم فتقدم بجيوشه نحو قلعة هنارس الكائنة بالقرب من مدينة وادي الحجارة فاستغاث أهلها بالمأمون بن ذي النون لأنه أقوى ملوك الطوائف، غير أنه كان في خصام مستمر مع مناظره المعتمد بن عباد فلم يشأ أن يزيد فوق أكتافه عدواً جديداً بل رأى من السياسة أن يستميله ليتمكن من إذلال ابن عباد والقضاء على دولته، لذلك لم يعبأ المأمون بتقدم فردينند الأول وفتوحه في بلاد الأندلسيين من جيرانه بل ذهب بنفسه إلى معسكره وسأله الصلح وأرضاه بكل ما طلب، ثم تقدم إليه في أن يشن الغارة على ابن عباد ليقتلع دولته من إشبيلية، فلما رأى ابن عباد هذا الخطر الداهم، مع علمه بعجزه عن مقاومة هذه الجيوش، بادر هو أيضاً إلى الدخول في صلح فردينند وفرض على نفسه إتاوة سنوية يؤديها إليه وقدم له هدايا جليلة، فأنعم عليه فردينند بما طلب.
ولقد بلغ من انقسام ملوك الطوائف بعضهم على بعض أن المأمون وضع جيوشه تحت تصرف فردينند هذا فذهب بها وبجنوده يشن الغارات عليهم حتى بلغ أبواب بلنسية، فاستفحل أمره وأمر دولته إلى أن كان سبباً في سقوط طليطلة نفسها.
ومن العجائب أن سقوطها كان بسب أكرومة فعلها المأمون بن دي النون مع ابن فردينند هذا فعادت هذه الأكرومة عليه وعلى دولته بالو بال وكانت سبباً في زوال ملكه وضياع الأندلس كلها من يد المسلمين، ذلك أن فردينند لما أحس بدنو أجله في سنة 1065 م (458هـ -) قسّم مملكته وهي قشتالة وجليقية وليون بين أولاده الثلاثة: دون شانجه ودون غرسيه والأذفنش، غير أن الأول اغتصب نصيب أخويه وحاز المملكة كلها لنفسه ففر غرسيه ولاذ بابن عباد في إشبيلية فأمده بالمال والرجال لاسترجاع نصيبه، وأما الاذفنش فقد هرب من الدير الذي حبسه فيه أخوه بمدينة برغش واستجار بالمأمون ابن ذي النون فأكرم مثواه وخصص له قصراً فاخراً في أرباض طليطلة خلف النهر، ولا تزال خرائبه موجودة للآن بقرب محطة السكة الحديد ناطقة بما كان فيه من عظمة وجلال.
مضت الأيام والشهور وهذا الأمير الإسباني في ضياف ملك المسلمين على أحسن حال، وقد روى مؤرخو الافرنج أن المأمون ذهب في يوم من الأيام مع رجالاته وكبار قواده إلى زيارة هذا الضيف الكريم فأخذوا في المسامرة والمنادمة في روضة القصر ثم جلسوا تحت الأشجار الوارفة الظلال وهبّ عليهم النسيم العليل، فنام الأمير الإسباني أو تناوم بينما كان سادات العرب يتجاذبون أطراف الحديث حتى انساقوا إلى الكلام على حصانة المدينة واستحالة أخذها مهما كانت قوة الجيش الذي يهاجمها، ففرطت عند ذلك كلمة من أحد القواد كانت هي القاضية! فقد قال إن العدو مهما فعل بالمدينة فلن يتأتى له أن ينال منها شيئاً اللهم إلا إذا عول على طرقها سبع سنوات متواليات لإفساد ما حولها من الزروع والغلات، فحينئذ يكون من أهون الأشياء عليه اقتحامها إذ يكون الجوع قد فعل بها أفاعيله.
تنبه المأمون بن ذي النون لهذه الفلتة وتفطن سادات العرب لما فرط من صاحبهم وأوجسوا خيفة أن يكون ضيفهم الإسباني متناوماً لا نائماً فيكون قد وعي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها للإسبانيين امتلاك هذه المدينة الحصينة المنيعة، فأخذوا يستخبرون النائم ولكنه أغرق في الغطيط وزاد في التناوم وبالغ في التماوت حتى اطمأن بالهم وظنوا أنه لم يدر ما دار بينهم من الحديث، ولقد بالغ الافرنج في رواية هذا التماوت إلى درجة لا تقبلها العقول فقد زعموا أن العرب تخيلوا أنه وقف على أسرارهم فأرادوا أن يقتلوه ولكن شهامتهم أبت عليهم أن يسفكوا الدم الحرام ولاسيما دم الضيف بغير الحق.
فأرادوا أن يختبروا حالته فتقدم أحد السادات وهزّه بعنف شديد فلم يستيقظ، فجاء آخر وصبّ في يده الرصاص المذاب فلم يتحرك الأمير الإسباني أدنى حركة، قالوا: فكان في هذا البرهان المحسوس على هذا النوم العميق منجاة له من القتل فقد خرق الرصاص يده ولم يتمامل مطلقاً ولذلك لقبه قومه بالملك المخروق الكف، نعم إن فريقاً آخر من مؤرخيهم يقولون أنه إنما لقب بذلك لتبذيره وإسرافه في بذل الدارهم والدنانير.
هذا وما زال الأمير الإسباني في ضيافة ملك المسلمين حتى دعاه الأعيان بلاده لتقلد زمام الحكم بعد وفاة أخيه، فتوقف في إجابتهم وعلق قبوله دعوتهم على الاستئذان من ضيفه ووليّ نعمته وحافظ مهجته، فشكره المأمون على هذه المجاملة وقال له ما معناه أنت طليق، وأنا لك نصير! ولقد وجب حقك عليّ منذ لذت بجواري ودخلت في حماي! فلك عليّ أن أزوّدك بما تشتهي من المال وأمدك بمن تريد من صناديد الرجال! عهد أقطعه على نفسي حتى تسترجع عرش أبيك، ولست أطلب منك سوى خصلة واحدة: هي أن تحلف لي بأنك تبقى محافظاً على عهدي فتحترم مملكتي ولا تؤذيني في أهلي وبيتي.
فشكره الأمير الإسباني وأقسم له بأغلظ الإيمان على ما أراد، ثم ذهب بجيش العرب وبمال العرب نحو بلاده فتقلد زمام الأحكام باسم ألفونس السادس، وقد لاقى العرب من بعد ما لاقى سنمار، لما سنراه من أفاعيله عما قريب.
مازال ألفونس محافظاً على عهده مع المأمون، بل إنه أمده بجنوده في حروبه مع ابن عباد سلطان إشبيلية، فكان ابن عباد ووزيره ابن عمار (الشاعر الأكبر والداهية الأشهر) يواصلان الحيلة والدسيسة حتى أغريا ألفونس السادس بطليطلة وكان بها مغرماً هائماً ولاسيما بعد معرفته التامة بها وبقيمتها الحربية، فقد كان يهجس في ليله ونهاره بطليطلة وبحب طليطلة ولكنه كان يكبح نفسه عن أمانيه وأحلامه إذ كان يذكر عرفان الجميل ووجوب الوفاء بالوعد وضرورة البر بالقسم العظيم، فصار يتربص الفرص وهو يتقلب على أحر من الجمر، حتى وافاه الدهر بما يشتهي، فقد كان من حظّه أن مات المأمون وخلفه ولده هشام فأساء السيرة، على ما يقال، والأرجح أن دسائس ابن عباد وابن عمار من جهة، ومكايد الفونس نفسه من جهة أخرى، فعلتا فعلهما بين أهل البلد حتى جاهروا هشاماً بالعدوان واقتحموا عليه قصره وقتلوا حراسه وحاولوا اغتياله، غير أنه تمكن من الفرار، فلجأ إلى الفونس السادس، صنيعة أبيه منذ عهد قريب، فأكرم وفادة هشام وأمده بجيش ساعده حقيقة على الرجوع إلى كرسي مملكته، ولكن هذه المعاونة لم تكن صادرة عن أريحية كاملة كما فعل المأمون مع الفونس بل إن الفونس أخذ من ابن المأمون ثمن هذه المساعدة إذ ألزمه أن يتنازل له عن حصنين منيعين متاخمين لبلاده، على أن هشاماً لم يتمتع بهذا الملك إلا قليلاً من الأيام، ولذلك لم يرد ذكره فيما وصل إلينا من كتب العرب وفي بعض تواريخ الافرنج، وخلفه القادر بالله يحيي: وهو أخوه على قول الافرنج، وابنه على قول العرب، وكان غبياً بخيلاً منحط الطباع فاسد الأخلاق فاغتنم الفونس هذه الفرصة وهاجم المدينة الجميلة التي كان يحلم بامتلاكها، وكان من أعرف الناس بعوراتها وطريقة الاستيلاء عليها نظراً للمدة الطويلة التي أقامها بها في ضيافة المأمون بن ذي النون، ونظراً لما علمه أثناء ما كان متظاهر بالنوم في روضة القصر.
فمكث ثلاث سنوات وهو يشن الغارات على طليطلة مكتفياً بقطع الأشجار وإتلاف المزارع وإحراق الأنادر والبيادر بما فيها من الغلات والأرزاق حتى جعل المدينة أشبه بروضة أي واحة في وسط صحراء جرداء قحلاء، وكان يأسر الفلاحين وينقلهم إلى بلاده لكيلا يعودوا لغراسة الأرض وتعميرها حول طليطلة فتعود إليها القوة والحياة.
بهذه المثابتة وقعت في قبضته المدينتان المجاورتان لطليطلة وهما مجريط (مدريد الآن) ووادي الحجارة، فبقيت طليطلة منقطعة منعزلة، ولذلك تسرب إليها الضعف والوهن فأصبح الاستيلاء عليها من أسهل الأمور: وحينئذ استغاث صاحبها بابن الأفطس ملك بطليوس وبابن هود سلطان سرقسطة وتمكن بمعاونتهما من صد جيوش الفونس السادس، ولكن هذا الملك عاود المدينة بالتخريب وتقليع الشجر وإتلاف المزروعات حتى تأتت له الفرصة التي كان ينتظرها وحلت الساعة التي كان يترقبها، وحينئذ جاء بجنود لا عداد لها وحاصر المدينة ست سنين ففعل الجوع أفاعيله بأهلها ولذلك طلبوا المفاوضة معه على تقرير الصلح، فأراد القادر أن يكون تحت عهده وفي ذمته ولكن الفونس أبى إلا أن يتسلم المدينة ليجعلها كرسياً لمملكة قشتالة، فلما علم أكابر البلد وحماتها بذلك أجمعوا أمرهم على المدافعة عن وطنهم وأهلهم وتحالفوا على الموت في سبيل الجهاد، غير أن العامة واليهود والمستعربين (أي أهل الذمة من الإسبانيين) ألزموهم بأن ينزلوا على حكم الفونس وأن يقبلوا كل ما يريد مهما اشترط ومهما اشتط في الطلب.
حينئذ سلمت طليطلة إلى الفونس السادس في 24 مارس سنة 1085 (24 ذي القعدة سنة 477 هـ -) فدخل بجنوده وجيوشه في موكب حافل يوم 25 مايو من المذكورة (27 محرم سنة 478 هـ -) إلى تلك المدينة الجليلة: مدينة الرومان، عاصمة القوط، مصر العرب، وقد أمر بسد الباب العربي الذي دخل منه فهو لا يزال مسدوداً إلى اليوم، واسمه عند العرب باب شقرا ويسميه الإسبان إلى الآن باسمه العربي محرفاً هكذا بيساجرا.
وخرج القادر يحيى بن ذي النون منها على أقبح صورة وأفظع سيرة قاصداً عمالة بلنسية التي رضي الفونس بأن يبقيها له إلى حين، فقد بلغ من سخافته أنه بعد ضياع ملكه العظيم أراد أن لا يخرج من طليطلة إلا بعد أن يتخير بنفسه الطالع ويستخبر الكواكب لمعرفة الوقت الميمون المبارك فسار في الشوارع وبيده الاسطرلاب يحسب الدقائق والساعات ويرصد الطوالع والنوازل، فتعجب منه المسلمون وهم يبكون، وضحك منه الإسبانيون وهم به يستهزؤون.
سقطت طليطلة في يد الإسبانيين فوجد الأندلسيون من ذلك ما لا يطاق وكانت هذه النازلة سبباً في احتراق قلوبهم وشدة تخوفهم من سوء العاقبة حتى قال شاعرهم العسال:
يا أهل أندلس، حثوا مطيكم ... فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه، وأرى ... ثوب الجزيرة منسولاً من الوسط
ونحن بين عدو لا يفارقنا ... كيف الحياة مع الحيّات في سفط
على أن النازحين من أهل طليطلة ما زالوا يستنفرون إخوانهم في بقية أمصار الأندلس ويستنجدون ملوك الطوائف لاستردادها، لذلك يحدثنا التاريخ بما حاولوه من استرجاعها المرة بعد المرة فكانت سراياهم تراوحها وتغاديها، وتصبحها وتماسيها، وتطرق أحوازها ومغانيها، وتحوم حول حماها وتشن الغارات عليها.
ومما يجب ذكره في هذا المقام أن الفونس السابع ملك طليطلة خرج لشن الغارة على بعض حصون المسلمين، واتفق في أثناء غيبته أن سرية من سرايا الأندلسيين ذهبت إلى طليطلة فهاجمتها وكادت تملكها، غير أن زوجة الفونس السابع وهي الدونة برنجويلا المسماة أيضاً بيرنجير أفلحت في إنقاذ المدينة منهم فلقد أقدمت هذه الملكة البارعة في الجمال على حيلة بلغت من الجراءة مبلغاً ليس له مثيل في التاريخ، فإنها حينما رأت العرب وقد أوشكوا على فتح المدينة عنوة راسلت أميرهم وطلبت منه الهدنة إذ كتبت إليه رسالة هذه ترجمتها:
ياوجوه العرب! بأي شرع من شرائع المروة والفتوة، تحاربون امرأة لا حول لها ولا قوة؟ لعمري أن هذا ليس من شمائل قومكم أهل الحمية والنخوة! أفما علمتم أن الملك زوجي قد ذهب لمحاربة إخوانكم في عقر داركم؟ وها أنا قد كاتبته بنزولكم علينا وهو بلا شك سيسارع إلينا، فإن كنتم كما أعهد من أهل النجدة والبأس، فما في انتظاركم ساعة من بأس! وإلا فاذهبوا إلى ملاقاته ومقارعته في جهة أوريجا هنالك يتاح لكم الظهور بمظهر الأنجاد المغاوير! أما إذا بقيتم في هذا المكان فليس لكم من فخار في قتال ربات الحجال! وإنما يحيق بكم الخزي المبين، إذا أقدمتم على امرأة عزلاء ليس لها من ناصر ولا معين.
وصلت هذه الرسالة إلى أمير العرب فدبت فيه النخوة العربية فسارع إلى التنصل والاعتذار على أشرف وجه وأنبل أسلوب، مؤكداً أنه لم يكن يعلم أن الملكة كنت وحدها في طليطلة وإلا فإنه ما كان يجيز لنفسه أن يطرق حماها لأنه لم يخطر على باله قط أن يحارب امرأة ولا أن ينتهك حرمتها.
ثم عرض عليها رفع الحصار في الحال بعد أن يتشرف بتقديم التحية إليها، حينئذ تقدمت الملكة فوق الأسوار وهي تتجلى كالعروس في أفخر ملابسها وحولها الوصيفات والضاربون بالآلات الموسيقية.
فبادر العرب كلهم من وراء الأسوار إلى تقديم مراسم التحية والإجلال، وهتفوا مهللين مكبرين أمام هذا الجمال الساحر ثم انصرفوا تحت جنح الليل، فالتقوا بالملك الفونس في طريقهم فانقض عليهم بجنود لا قبل لهم بها فأفناهم عن آخرهم وكان ذلك آخر العهد بهم.
وسنمحص هذه الرواية تمحيصاً تاريخياً علمياً في العدد الآتي، ونردفها بمسألة مشابهة لها من جهة الشهامة العربية، والله ولي التوفيق.