مجلة البيان للبرقوقي/العدد 4/عبرة وذكرى
→ ../ | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 4 عبرة وذكرى [[مؤلف:|]] |
مقدمة تاريخ أداب العرب ← |
بتاريخ: 20 - 12 - 1911 |
حديث الهجرة
طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ... ما دعا لله داعى
أيها المبعوث فينا ... جئت بالأمر المطاع
بهذه البيوت الشعرية العذبة التي يترقرق فيها ماء الإخلاص فكأنها السيل المنحدر لسهولتها وخلوصها رفع النساء والولائد والصبيان أصواتهم على تلول المدينة في رونق الضحى عند شروق شمس النبوة عليهم ووفدة خاتم النبيين محمد بن عبد الله إليهم كما ترفع البلابل والأطيار والعصافير والديكة أصواتها عندما يغمر نور الفجر هذه الحياة: فما أليق بنا الآن وبعد الآن أن نستشعر إخلاص أولئك الأصفياء ونستظهر شعرهم هذا السهل الصافي من كدر التعمل والرياء ونترنم به في مثل هذا اليوم من كل عام ونعلم أن الإخلاص هو لب التقى وروح الإسلام.
في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول عام 622 لميلاد السيد المسيح هاجر السيد السند والرسول الامجد فخر ولد عدنان وصفوة بني الإنسان سيدنا ومولانا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي عليه صلوات الله وتسليماته من مسقط رأسه وريحانة نفسه البلد الأمين (مكة) إلى بلد آخر أجنبي يسمى يثرب في سبيل إعلاء كلمة الدين وبث روح اليقين بعد أن كشرت له الشدائد عن أنيابها ومدت له المنايا بأسبابها وتألبت قريش وسائر قرابته عليه وأجمعوا على قتله والاستراحة منه قبل أن يبلغ رسالات ربه ويتمم هدايته - فصدق بذلك فعله قوله لعمه أبي طالب يا عم والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته وأقام لنا بذلك أنصع برهان على صدقه وإخلاصه وأنه على الحق الابلج الوضاح وألقى علينا درساً من أعود الدروس وأردها وأفيدها لمن يعنيه الفوز والظفر ببغيته ذلك هو الثبات والصبر على (المبدأ) ما دام الإنسان يعتقده حقاً مهما لاقى في طريقه من الصعاب والشدائد ومهما طغا الباطل على حقه فإن الباطل عمره قصير وإن الله ليقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
حديث الهجرة مأخوذاً من أوثق المصادر
أقام رسول الله ﷺ بمكة ثلاث سنين من أول نبوته مستخفياً ثم أعلن في الرابعة فدعا الناس إلى الإسلام عشر سنين وجد في أثنائها الأمرّين (الشدائد) حتى إذا ماتت زوجه السيدة خديجة وعمه أبو طالب نالت منه قريش من الأذى مالم تكن تنال منه في حياة زوجه وعمه فخرج رسول الله إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به عن الله فردوا عليه أقبح الرد وآذوه وأغروا به سفهاءهم - ثم صار النبي يوافي الموسم كل عام يتبع الحاج في منازلهم وفي المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ رسالات ربه ولهم الجنة فلا يجد أحداً ينصره ويجيبه حتى أنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة ويقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتملكوا بها العرب وتدين لكم بها العجم فإذا آمنتم كنتم ملوكاً في الجنة وأبو لهب وراءه يقول لا تطيعوه فإنه صابيء كذاب فيردون على رسول الله أقبح الرد ويؤذونه ويقولون أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك وهو يدعو إلى الله ويقول اللهم لو شئت لم يكونوا هكذا.
وكان مما صنع الله لرسوله أن الأوس والخزرج كانوا يسمعون من يهود المدينة أن نبياً من الأنبياء مبعوث في هذا الزمان سيخرج فنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وارم وكان الأنصار يحجون البيت كما كانت العرب تحجه دون اليهود فلما رأى الأنصار رسول الله يدعو الناس إلى الله عز وجل وتأملوا أحواله قال بعضهم لبعض تعلمون والله يا قوم إن هذا الذي توعدكم به يهود المدينة فلا يسبقنكم إليه وكان سويد بن الصامت من الأوس قد قدم مكة فدعاه رسول الله فلم يبعد ولم يجب حتى قدم أنس بن رافع أبو الحيسر في فتية من قومه من بني عبد الأشهل يطلبون الحلف في قريش فجاءهم رسول الله وقال هل لكم في خير مما جئتم له أن تؤمنوا بالله وحده ولا تشركوا به شيئاً فقال إياس بن معاذ وكان شاباً حدثاً يا قوم هذا والله خير مما جئنا له فضربه أبو الحيسر وانتهره فسكت ثم لم يتم لهم الحلف وانصرفوا إلى المدينة - ولما جاء الموسم تعرض رسول الله عند العقبة لستة نفر من الأنصار كلهم من الخزرج وهم أبو إمامة أسعد بن زرارة وعوف ابن الحارث ورافع بن مالك وقطبة بن عامر وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله فدعاهم إلى الإسلام وإلى معاونته في تبليغ رسالة ربه فآمنوا به وصدقوه وقالوا إنا تركنا قومنا بينهم من العداوة ما بينهم فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك ووعدوه المقابلة في الموسم المقبل وهذا هو بدء الإسلام لأهل المدينة فلما كان العام المقبل جاء منهم اثنا عشر رجلاً الستة الأول خلا جابر بن عبد الله ومعهم معاذ بن الحارث بن رفاعة أخو عوف المتقدم وذكوان بن عبد القيس - وقد أقام ذكوان بمكة حتى هاجر إلى المدينة فيقال انه مهاجري أنصاري - وعبادة بن الصامت ويزيد بن ثعلبة وأبو الهيثم بن التيهان وعويم بن ساعدة والعباس بن عبادة فاجتمعوا برسول الله عند العقبة قال عبادة بن الصامت فبايعناه بيعة النساء - وذلك قبل أن يفترض علينا الحرب - على أن لا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيه في معروف فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأمركم إلى الله عز وجل إن شاء غفر وإن شاء عذب وهذه هي العقبة الأولى فلما انصرف القوم عن رسول الله بعث إليهم مصعب بن عمير وعمرو بن أم كلثوم وأمرهما أن يقرآنهم القرآن ويعلمانهم الإسلام ويفقهانهم في الدين فنزلا على أسعد بن زرارة وطفقا يدعوان بقية الأوس والخزرج إلى الإسلام فأسلم على يديهما بشر كثير منهم أسيد بن الحضير وسعد بن معاذ وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع بني عبد الأشهل وذاع الإسلام في المدينة وانتشر ثم رجع مصعب إلى مكة ووافى الموسم ذلك العام خلق كثير من الأوس والخزرج من المسلمين والمشركين وزعيم القوم البراء بن معرور فلما كانت ليلة العقبة وقد انقضى هزيع من الليل تسلل إلى رسول الله ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان قال كعب ابن مالك - وكان أحد هؤلاء - فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله حتى جاءنا معه العباس بن عبد المطلب وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويتوثق له فلما جلس كان العباس أول متكلم فقال يا معشر الخزرج - وكانت العرب تسمي الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها - أن محمداً منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وأنه قد أبي إلا الانحياز اليكم واللحوق بكم إن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما علمتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد بعد الخروج به اليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده قال فقلنا له قد سمعنا ما قلت فتلكم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت قال فتكلم رسول الله فتلا القرآن ودعا إلى الله ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فأخد البراء بن معرور بيده ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك ممن نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر فاعترض القول: والبراء يكلم الرسول: أبو الهيثم بن التيهان فقال يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها - يعني اليهود - فهل عسيت أن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله وقال بل الدم الدم والهدم والهدم أنا منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم فاخرجوا منهم اثني عشر نقيباً تسعة من الخرزج وثلاثة من الأوس فقال لهم رسول الله أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسي بن مريم وأنا كفيل على قومي يعني المسلمين قالوا نعم - ثم قال لهم رسول الله ارفضوا إلى رحالكم فقال له العباس بن عبادة بن فضلة والله الذي بعثك بالحق إن شئت لنميلن على أهل مني غدا بأسيافنا فقال رسول الله لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم قال فرجعنا إلى مضاجعنا فنمنا عليها فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتي جاؤنا في منازلنا فقالوا يا معشر الخزرج إنه قد بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا وإنه والله ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون بالله ما كان من هذا شيء وما علمناه قال وقد صدقوا لم يعلموه.
قال: ونفر الناس من منى وذهب الأنصار إلى المدينة وأذاعوا فيها الإسلام.
بدء الهجرة
قال محمد بن إسحاق المطلبي كان رسول الله ﷺ قبل بيعة العقبة لم يؤذن له في الحرب ولم تحلل له الدماء إنما يؤمر بالدعاء إلى الله والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل وكانت قريش قد اضطهدت على من اتبعه من قومه من المهاجرين حتى فتنوهم عن دينهم ونفوهم من بلادهم فهم من بين مفتون في دينه ومن بين معذب في أيديهم وبين هارب في البلاد فراراً منهم: منهم من بارض الحبشة ومنهم من بالمدينة وفي كل وجه فلما عتت قريش على الله وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة وكذبوا نبيه وعذبوا ونفوا من عبده ووحده وصدق نبيه واعتصم بدينه اذن الله لرسوله في القتال والامتناع والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم فكانت أول آية أنزلت في أذنه له في الحرب قول الله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور - ثم أنزل الله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة - أي حتى لا يفتن مؤمن عن دينه - ويكون الدين لله} - أي حتى يعبد الله لا يعبد معه غيره - فلما أذن الله للنبي في الحرب وتابعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام والنصرة له ولمن اتبعه وأوى إليهم من المسلمين أمر رسول الله أصحابه من المهاجرين من قومه ومن معه بمكة من المسلمين بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها واللحوق بإخوانهم من الأنصار فخرجوا أرسالا ثم أقام رسول الله بمكة ينتظر أن يأذن له ربه في الخروج من مكة والهجرة إلى المدينة ولم يتخلف معه بمكة أحد إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق رضي الله عنهما وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله في الهجرة فيقول له الرسول لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً فيطمع أبو بكر أن يكونه.
خبر دار الندوة
ولما رأت قريش أن رسول الله قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا داراً وأصابوا منهم منعة فحذروا خروج رسول الله إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا له في دار الندوة. وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها: يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله حين خافوه وقد اجتمع فيها أشراف قريش مثل عتبة بن ربيعة وأبو سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف وغيرهم ممن لا يعد من قريش فقال بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم فإنا والله ما نأمنه علي الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأينا ثم تشاوروا فقال فقال قائل منهم احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيراً والنابغة ومن مضى منهم من الموت حتى يصيبه ما أصابهم - وقال آخر نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا أخرج عن فو الله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت - فقال أبو جهل إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم قال أرى أن نأخذ من كل قبيلة شاباً فتي جليداً نسيباً وسيطاً فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدون إليه فيضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم - فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله مكانهم قال لعلي بن أبي طالب نم على فراشي وتسجّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله ينام في برده ذلك إذا نام - وكان بين المجتمعين أبو جهل فقال وهم على الباب إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم جنان كجنان الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها - ثم خرج عليهم رسول الله فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال نعم أنا أقول ذلك أنت أحدهم وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات من يس والقرآن والحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم إلى قوله فأغشيناهم فهم لا يبصرون حتى فرغ رسول الله من هؤلاء الآيات ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه تراباً ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب فأتاهم آت ممن لم يكن معهم فقال ما تنظرون ههنا قالوا محمداً قال خيبكم الله قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً وانطلق لحاجته أفما ترون مابكم فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله فيقولون والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا - وكان مما أنزل الله من القرآن في ذلك اليوم وما كانوا أجمعوا له: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين - أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين} - ثم أذن الله لنبيه عند ذلك في الهجرة.
هجرة النبي إلى المدينة
قال ابن اسحق وكان أبو بكر رجلاً ذا مال فكان حين أستأذن رسول الله في الهجرة فقال له الرسول لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً قد طمع بأن يكون رسول الله إنما يعني نفسه حين قال له ذلك فابتاع راحلتين واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك: حدثت عائشة أم المؤمنين قالت كان لايخطيء رسول الله أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار أما بكرة وأما عشية حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسول الله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهر اني قومه أتانا رسول الله بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها فلما رآه أبو بكر قال ماجاء رسول الله هذه الساعة إلا لأمر حدث فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره فجلس رسول الله عليه وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر فقال رسول الله اخرج عني من عندك فقال يا رسول الله إنما هما ابنتاي وما ذاك فداك أبي وأمي فقال إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله قال الصحبة قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ ثم قال يا نبي الله إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا فاستأجرا عبد الله بن أرقط: رجلاً من بني الديل بن بكرو كان مشركاً: يدلهما على الطريق فدفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما قال ابن اسحق ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله أحد حين خرج إلا علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق وآل أبي بكر أما علي فإن رسول الله فيما بلغني أخبره بخروجه وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس وكان رسول الله ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته ﷺ - فلما أجمع رسول الله الخروج أتى أبا بكر فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ثم عمدا إلى غار بثور: جبل بأسفل مكة: فدخلاه وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر وأمر عامر ابن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاراً ثم يريحها عليهما يأتيهما إذا أمسى في الغار وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما - فأقام رسول الله في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة لمن يرده عليهم وكان عبد الله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله وأبي بكر ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر وكان عامر بن فهيرة يرعى في رعيان أهل مكة فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا فإذا عبد الله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفى عليه حتى إذا مضت الثلاث وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيرهما وبعير له وأتتها أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاماً فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة فإذا ليس فيها عصام فتحل نطاقها فتجعله عصاماً ثم علقتها به فكان يقال لأسماء ذات النطاق بذلك قال ابن اسحق فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله قدم له أفضلهما ثم قال إركب فداك أبي وأمي فقال رسول الله إني لا أركب بعيراً ليس لي فقال فهي لك يا رسول الله بأبي أنت وأمي قال لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به قال كذا وكذا قال قد أخذتها به قال هي لك يا رسول الله فركبا وانطلقا وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة مولاه خلفه ليخدمهما في الطريق - حدثت أسماء قالت لما خرج رسول الله وأبو بكر أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل فوقفوا على باب أبي بكر فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك يا بنت أبي بكر قلت لا أدري والله أين أبي فرفع أبو جهل يده وكان فاحشاً خبيثاً فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي ثم انصرفوا - وحدثت أسماء قالت لما خرج رسول الله وخرج أبو بكر معه احتمل أبو بكر ماله كله معه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف فدخل علينا جدى أبو قحافة وقد ذهب بصره فقال والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه قلت كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً قالت فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيه ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده فقلت يا أبت ضع يدك على هذا المال فوضع يده عليه فقال لا بأس إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن وفي هذا بلاغ لكم - ولا والله ما ترك لنا شيئاً ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك - قال ابن اسحق حدثنا سراقة بن مالك قال لما خرج رسول الله من مكة مهاجراً إلى المدينة جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم قال فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا حتى وقف علينا فقال والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مرّوا عليّ آنفاً إني لأراهم محمداً وأصحابه فأومأت إليه بعيني إن أسكت ثم قلت إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم قال لعله ثم سكت قال ثم مكثت قليلاً ثم قمت فدخلت بيتي ثم أمرت بفرسي فقيد لي إلى بطن الوادي وأمرب بسلاحي فأخرج لي من دبر حجرتي ثم أخذت قداحي التي استقسم بها ثم انطلقت فلبست لأمتي ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره وكنت أرجو أن أرده على قريش فآخذ المائة الناقة فركبت على أثره فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فبينا فرسي يشتد بي عثر بي فسقطت عنه فقلت ما هذا ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها فخرج السهم الذي أكره لا يضره فأبيت إلا أن أتبعه فركبت في أثره فلما بدا القوم ورأيتهم عثر بي فرسي فذهبت يداه في الأرض وسقطت عنه ثم أنتزع يديه من الأرض وتبعهما دخان كالإعصار فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد منع مني فناديت القوم وقلت أنا سراقة بن مالك انظروني أكلمكم فو الله لا أريبكم ولا يأتيكم من شيء تكرهونه فقال رسول الله لأبي بكر قل له وما تبتغي منا فقال لي ذلك أبو بكر قلت تكتب لي كتاباً يكون آية بيني وبينك قال اكتب له يا أبا بكر فكتب لي كتاباً في عظم أو في رقعة أو في خزفة ثم ألقاه إليّ فأخذته فجعلته في كنانتي ثم رجعت فسكت فلم أذكر شيئاً مما كان حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله وفرغ من حنين والطائف خرجت ومعي الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت في كتيبة من خيل الانصار فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون إليك إليك ماذا تريد؟ فدنوت من رسول الله وهو على ناقته والله لكأني أنر إلى ساقه كأنها جمارة فرفعت يدي بالكتاب ثم قلت يا رسول الله هذا كتابك لي أنا سراقة بن مالك فقال رسول الله يوم وفاء وبر ادنه فدنوت منه فأسلمت ثم تذكرت شيئاً أسأل رسول الله عنه فما أذكره إلا أني قلت يا رسول الله الضالة من الأبل تغشي جياضي وقد ملأتها لأبلى هل لي من أجر في أن أسقيها قال نعم في كل ذات كبد حرى أجر ثم رجعت إلى قومي فسقت إلى رسول الله صدقتي - قال ابن اسحق فلما خرج بهما دليلهما عبد الله بن أرقط سلك بهما أسفل مكة ثم مضى بهما على الساحل حتى عارض الطريق أسفل من عسفان ثم سلك بهما على أسفل أمج ثم استجاز بهما حتى عارض الطريق أسفل من عسفان ثم سلك بهما على أسفل أمج ثم استجاز بهما حتى عارض بهما الطريق بعد أن أجاز قُديداً ثم أجاز بهما من مكانه ذلك فسلك بهما الخرار ثم سلك بها ثنية المرة ثم سلك بهما لقفاً ثم أجاز بهما مدلجة لقف ثم استبطن بهما مدلجة محاج ثم سلك بهما مرجح مجاج ثم تبطن بهما مرجح ذي العضوين ثم بطن ذي كشر ثم أخذ بهما على الجداجد ثم على الأجرد ثم ذا سلم من بطن أعداثم مدلجة تعهن ثم على العبابيد ثم أجاز بهما القاحة وقيل الفاجة ثم هبط بهما العرج وهي من منازل الجادة بين مكة والمدينة ثم سلك بهما من العرج إلى ثنية العائر عن يمين ركوبة حتى هبط بهما بطن رئم ثم قدم بهما قُباء على بني عمرو بن عوف وذلك حين اشتد الضحاء وكادت الشمس تعتدل يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول كما أسلفنا.
تتمة الحديث
قال ابن اسحق حدث رجال من الأنصار قالوا لما سمعنا بمخرج رسول الله من مكة وتوكفنا قدومه كنا نخرج إذا صلينا الصبح إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله فو الله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال فإذا لم نجد ظلاً دخلنا وذلك في أيام حارة حتى إذا كان اليوم الذي قدم رسول الله جلسنا كما كنا نجلس حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا وقدم رسول الله حين دخلنا البيوت فكان أول من رآه رجل من اليهود وقد رأى ما كنا نصنع وأنا ننتظر قدوم رسول الله علينا فصرخ بأعلى صوته يا بني قيلة هذا جدكم قد جاء فخرجنا إلى رسول الله وهو في ظل نخلة ومعه أبو بكر في مثل سنه وأكثرنا لم يكن رأى رسول قبل ذلك وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر حتى زال الظل عن رسول الله فقام أبو بكر فأظله بردائه فعرفناه عند ذلك - قال ابن اسحق فنزل رسول الله على كلثوم بن هدم أخي بني عمرو بن عوف ويقال بل نزل على سعد بن خيثمة ونزل أبو بكر على خبيب ابن اساف أحد بني الحرث بن الخزرج بالسنح - قال ابن اسحق وأقام عليّ ابن أبي طالب بمكة ثلاث ليال وأيامها حتى ادي عن رسول الله الودائع التي كانت عنده للناس حتى إذا فرغ منها لحق برسول الله فنزل معه على كلثوم ابن هدم فكان عليّ بن أبي طالب إنما كانت إقامته بقباء ليلة أو اثنتين: يقول كانت بقباء امرأة لا زوج لها مسلمة قرأيت إنساناً يأتيها من جوف الليل فيضرب عليها بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئاً معه فتأخذه فاستربت بشأنه فقلت لها يا أمة الله من هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كل ليلة فتخرجين إليه فيعطيك شيئاً لا أدرى ما هو وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك قالت هذا سهل بن حنيف بن واهب قد عرف أني امرأة لا أحد لي فإذا أمسى عدا علي أوثان قومه فكسرها ثم جاءني بها فقال احتطبي بهذا - قال ابن اسحق فأقام رسول الله بقباء في بني عمرو بن عوف يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الاربعاء ويوم الخميس وأسس مسجده ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة فأدركت رسول الله الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي وادي رانوناء فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة فأتاه عتبان بن مالك وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم بن عوف فقالوا يا رسول الله أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة قال خلوا سبيلها فإنها مأمورة: لناقته: فخلوا سبيلها فانطلقت - وهكذا صار كلما مر بقبيلة من قبائل العرب قال له رئيسها أقم عندنا يا رسول الله في العدد والعدة والمنعة فيقول لهم خلوا سبيلها فإنها مأمورة حتى إذا أتت دار بني مالك بن النجار بركت على باب مسجده وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين من بني النجار ثم من بني مالك بن النجار وهما في حجر معاذ بن عفراء: سهل وسهيل ابنى عمرو: فلما بركت ورسول الله عليها لم ينزل وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله واضع لها زمامها لا يثنيها به ثم التفتت إلى خلفها فرجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ثم تحلحلت ورزمت ووضعت جرانها فنزل عنها رسول الله وقال ههنا المنزل إن شاء الله فاحتمل أبو أيوب خالد بن زيد رحله ووضعه في بيته ونزل عليه رسول الله وسأل عن المربد لمن هو فقال معاذ ابن عفراء هو يا رسول الله لسهل وسهيل ابني عمرو وهما يتيمان لي وسأرضيهما منه فاتخذه مسجداً فأمر به رسول الله أن يبني مسجداً ونزل رسول الله على أبى أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه ثم انتقل من بيت أبي أيوب إليها.
ثم تلاحق المهاجرون فلم يبق بمكة منهم أحد إلا مفتون أو محبوس أما المدينة فعم أهلها الإسلام.
وبعد ذلك ابتدأت الأعمال العظيمة من التشريح والجهاد في سبيل إعلاء كلمة الدين مما نرجي الكلام عنه إلى موضعه ن تاريخ الإسلام الذي ينشر في البيان تباعاً إن شاء الله.