الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 39/رسائل النساء

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 39/رسائل النساء

بتاريخ: 1 - 2 - 1918


وخزات الضمير

كلما راجعت في نفسي الماضي وإحداثه، وما جرى على ضفافيه، أحاول جهدي أن أبتعث ضميري من مرقده، وآخذ نفسي بالحكم القاسي والمعتبة الأليمة، ورحت أقول لنفسي ليس لي حق في أن ألمس بكفي الهناء، وأحس متعة السعادة، أنني استرقت الهناء من المجتمع الإنساني استراقاً، واستلبته من الشرائع، واغتصبته من الواجب، لم أكن امرأة وفية شريفة، ها قد مضت أربعة عشر عاماً وأنا أخون زوجي وأخادعه. . .

وكذلك أنطلق أريد نفسي على أن تشمئز وتأنف من نفسي، إذ يتراءى لي أنني إذا استشعرت في ضميري وخزاً، وأحسست في فؤادي تأنيباً، خففت من نكر جريمتي وكفرت قليلاً عن فظاعة إثمي، وكلما تاملت ملياً في وجه زوجي وهو جالس في مقعد كبير، يغيب في قراءة صحيفة الأنباء في دقة وسكون، لا أني أخاطب نفسي قائلة هاك رجلاً طيب القلب، سليم الطوية، ركن إليك وألقى حياته بين يديك، وحمّلَك اسمه، وعهد إليك هناءه وهدوء باله، فماذا صنعت بكل ذلك مدى الأربعة عشر عاماً. . . . ضلة لك، لو علم هذا الرجل الأبله الفؤاد، هذا الموظف الساذج الذي يدأب على كسب حياته وحياتك وحياة طفلتك، هل تظنين اللذائذ والمسرات والمباهج التي نعمت بها وازدهيت ذلك الدهر الطويل تستطيع أن تعدل الآلام التي سيعانيها، لو تهتكت الحجب المسدولة على الحقيقة. . . . .

ولكنه لن يعرف الحقيقة، وإن يعرفها أبد الدهر، لأنه لم يشهد يوماً الرجل الذي من أجله أطرحته، وتوليت عنه، ولكنني أؤمن الآن بأن هدوء زوجي ورقدة باله وسكون نفسه هي التي بعثتني على تأنيب ضميري وزجر خاطري، ولما لم أكن أشعر له بالحب في قلبي، ولا أحس بدني مجتذباً إليه، بل كنت أحمل له تلك العاطفة العادية التي تخلقها الألفة الطويلة، ويثيرها المقام المستمر عن كثب منه، وارتباط المصلحة، وامتزاج العيش، فلم أر له من حق على إلا أن أجعل حياته تجري في ذلك الهدوء الجميل، والسكون العذب وإلا أن أهتم بمصالحه، وأشاركه رعاية شؤونه، وعبثاً حاولت أن أستمسك بعرى الشريعة والفضيلة والواجب، لأن المرأة لا تحس سلطان الإخلاص إلا نحو الرجل الذي تحبه.

هذا ما حدثت به النفس ليلة الأمس، وها أنا اليوم أعرف الجرح الذي تحدثه وخزات الضمير، بل لقد بلغ هذا الجرح من أعشار فؤادي حتى لقد أصبحت لا أدري كيف أعيش بعد اليوم وفي قلبي ذلك السرطان الأليم، ولكن بضع كلمات سقطت من شفتي ابنتي - فتاني اليانعة هيلين ذات الربيع السادس عشر - كانت كافية لكي تنتاشني من حمأة تلك الجريمة التي ارتكبتها. . . .

كنت قد أدبت ابنتي أحسن التأديب، واجتهدت في أن أراعيها وأحضنها أفضل الرعاية والحضانة إذ أردت أن لا أستوجب الملامة أن أكون أمّاً سيئة، وأن كنت زوجاً مرذولة، ولعل قليلات من الفتيات نعمن في الحياة بما نعمت به هيلين على يدي من التهذيب والتأديب والرعاية، حتى لقد كنت إذا جن جنوني في حب لوسيان وذهبت فيه المذاهب، وتابعت النفس مستسلمة، لا ألبث حتى أعود إلى هدوئي وأرجع إلى نفسي، إذا رأيت ابنتي وشغلني شاغل صحتها وهنائها وبهجتها، وكذلك مضيت أرعاها، وهي تكبر وتخرج عن كمها، وتزدهي وتتفتح وردتها، ولقد استخدمت لكي أخدع يقظة عينيها الصافيتين الساجيتين، تينكما العينين الطفلتين الرانيتين، من الحيل والوسائل أكثر مما استخدمت منها لكي أخدع زوجي وأخفي عنه الحقيقة، ولقد كان يلذلي - وأنا الأثيمة الملوثة الروح - أن اعمل على نماء طهر تلك الروح الناصعة البريئة البيضاء الأديم، فما أوشكت تناهز العاشرة حتى نزعتها من أحضاني وأسلمتها إلى حضانة المدرسة في معهد ساكن تحف الفضيلة به، وكانت لا تخرج من المدرسة إلا مرة في كل شهر، وكانت تقيم بيننا في كل عام خمسة عشر يوماً في إجازتها السنوية، ثم تنثني عنا فتشخص إلى الريف لترويح النفس عند جدتها، ولا ريب أن العلاقة بيني وبين لوسيان في خلال تلك الفترة تهن وييبس ثراها، وكنت أبتهج ويطير الفرح بفؤادي إذ أراها تجري إلى النماء عذبة جميلة طاهرة، لا تعرف شيئاً من مناكر الحياة ومفاسدها، ولعل هذا الفرح هو الذي منعني من قبل، وشغلني عن أعرف وخز الضمير ولذعاته. . . . . .

كان على هيلين أن تعود ضحى أمس إلى المعهد وكان بيني وبين لوسيان متعد في مغربه، وأنا لا أنكر أنني قد أدركت الآن الفظاعة الشنعاء وهو أن أخلط في حياتي الأمومة بالخنا ولكنني لم أتألم حتى الآن بل كنت أنظر بغيرة وشغف إلى هيلين، ولو اقتضت الحال أن أضحي كل علاقة بيني وبين لوسيان في سبيلها، لما ونيت أن فعلت، ولكنني إذ كنت أراها في مأمن، لا سوء يبلغ إليها، كنت أعمد إلى عشيقي فأهبط بين ذراعيه في ذهول وجنّة رائعة.

وكان المتعد بيننا أن يرتقب لوسيان حضوري إليه في منزله عند الساعة الثالثة من الأصيل، ولكنني تلقيت ضحى رسالة من رئيسة المعهد تنبئني فيها بأن جدران المدرسة قد دهنت وأن الدهان لم يجف بعد، وأن إجازة البنات قد أطيلت يومين.

فلم تكد تسمع هيلين الخبر حتى رقصت جذلاً، وانكمش فؤادي أنا حيرة وغماً، واسترسلت أهيم في أودية التفكير وشعابه، فخطر لي أولاً أن أكتب إليه أنبئه بأمر هذا الحائل العارض، وكدت أنفذ النية، لولا أن هيلين ظلت طول الصباح بجانبي لا تفارقني، فأجمعت على الصبر واستسلمت للسكوت وجعلت أقول لنفسي، أن لوسيان سيرتقب مطلعي ولن يشك في أنه قد حال حائل بيني وبين ملقاه.

وقد انتظر حقاً ساعة فساعة ونصفاً ثم ساعتين، وإذ ذاك اشتد قلقه إذ كان يعرف دقة احتفاظي بموعده، وقد أنهكت الثمانية أيام التي غاب فيها عن مشاهدتي كل عاطفته، وكان حقاً يحبني أشد الحب، فلم يستطع إذ ذاك صبراً، فخرج من منزله ووثب إلى أول مركبة عرضت له في الطريق وعدا إلى منزلي يطلب رؤيتي.

وكانت وصيفتي لا تعرفه وقد جاءت تنبئني بأن سيداً يلتمس لقائي وهو يقول أنه تاجر نبيذ يريد أن يعرض عليّ ألواناً من خمره وأنبذته وهو يلح في التماس مقابلتي فلم تشأ الوصيفة أن تخالفه فلم يسعني إلا أن أدخل حجرة زوجي، ولما يعد من محل عمله، وظلت هيلين في الحجرة المجاورة تنتظرني.

فلما وقع بصري على لوسيان تصورت الرعب كله وتخيلت الحقيقة مكشوفة مهتوكة الحجاب ووهمت الجريمة مفتضحة متجلية للعيان، فصرخت صرخة مرعبة، وحاول هو أن يهدئ من ثائرة جزعي، ويزيل عني روعي، ومضى يقول: إنني سأنصرف في التو والساعة ولكن نبئيني ماذا أمسكك عن اللقاء ولا أعلم الآن بماذا أجبته، وبماذا حدثته، بل لا أدري إلا أنني صرفته في عجلة وخوف، وعاد هو مطمئن اللب، إذ علم أن لا خطر.

فلما ذهب أويت إلى حجرتي، فحاولت أن أستعيد صوابي وأراجع سكينتي قبل أن أعود إلى هيلين.

ولم تسألني هيلين كلمة واحدة عن تاجر النبيذ، ولم أجد لدي من الشجاعة ما يبعثني على القول والكذب إزاء تينكما العينين الزرقاوين النافذتي البصر، ومضى اليوم في سكون دون حادث وعاد زوجي وجلسنا حول المائدة للعشاء، وكان مشرق الوجه، متهلل المعارف، فرحاً برؤية فتاته بجانبه، وكان يظنها قد انطلقت إلى المدرسة.

فما بلغنا من العشاء إلى صحاف النقل والفاكهة، أنشأ يقول وهو يقشر قطعة من الكمثرى: ألم يحضر أحد هذا المساء في غيابي

وإذ ذاك اصفر لوني وتراخت قوتي وأردت الكلام فاحتبست الألفاظ بين شفتي واختنق صوتي فلم أستطع تلفظاً، ولكنني لم ألبث أن أفقت من الغشية على صوت هيلين وهي تقول لأبيها، في أتم الهدوء.

كلا، يا أبت لم يحضر أحد

فنظرت إليها وإذ ذاك تلاقت العينان بالعينين، وإذا بي ألمح عينيها يبتسمان لي، وتبينت فيهما هذا المعنى لا تخشي يا أماه شيئاً إنني معك.

لم يأخذ النوم عيني طوال الليل، ولم يغمض لي جفن، وثار الاشمئزاز بنفسي من نفسي، وعلمت أنني قد عوقبت أشد العقاب، إذ رأيت هذه الطفلة قد حذرت، ولا ريب أنها قد حذرت منذ زمن - عار أمها، وأنها قد تعلمت الخداع أسوة بوالدتها وأجادت الكذب لأجلي، بل أصبحت فيه أمهر مني وأوسع فطنة وحذقاً. . . . .! إلى طلاب الفلسفة

فلسفة التحول وعلاقة الفلسفة بالحياة

خلاصة مبادئ الفيلسوف العصري هنري برجسون

هنري برجسون اسم ذائع الذكر في فرنسا خفاق البنود في مدائن الغرب كله، ولعل القراء قد مروا في مطالعتهم الأنباء البرقية التي وردت في الصحف أخيراً بخبر احتفال الأكاديمية الفرنسية بهذا الرجل، تمجيداً لشأنه، وإكباراً لنبوغه، وهو الآن أستاذ في جامعة فرنسا وعضو في المجمع العلمي، وقد اشتهر اسمه أخيراً في العالم المتحضر ونقلت جميع تواليفه إلى جميع لغات الغرب، وأهم هذه التواليف الثلاثة، وضعها على فترات من الزمن، مستقلة بعضها عن بعض، خص كلاً منها بنظرية قائمة بذاتها، وأول هذه التواليف كتابه الموسوم بعنوان الزمن وحرية الإرادة وهذا المؤلف يرجع تاريخه إلى عام 1888 والثاني المادة والذاكرة وقد كان أول ظهوره عام 1896 وثالثها وأشهرها وأحفلها بالفلسفة الناضجة كتابه التطور المنتج عام 1907 ولعل هذه هي رؤوس كتبه، لأن ما جاء بعدها لم يأت بشيء جديد، بل كان شرحاً لنظريات الفيلسوف وتوسعاً في بيان دقائقها والمستغلق المستعصي على أذهان الناس منها.

ونحن المصريين الذين نريد أن نؤلف لنا مجموعة جديدة من الآداب، ونحدث نهضة عصرية في الفكر والفلسفة، خلقاء بأن نشارك الغرب في اهتمامهم بنظريات هذا الفيلسوف وآرائه لأنها تفتح مغاليق الذهن، وتكشف ما استسر من حقائق الحياة ومكنونات هذا الكون ولهذا رأينا أن نشرح للجمهور المهذب شيئاً من مبادئ هذا الفيلسوف ونلخص أساس قواعده الفلسفية كلما رأينا الزمن لذلك مواتياً، والفرص مطاوعة، ونحن الآن بادئون الشرح ليكون عوناً لطلاب التعمق في الدرس، وسبيلاً موطئة للذين يريدون أن يمعنوا في بحث حقائق هذه الفلسفة الجديدة.

لعل أكبر ما لفت أذهان الناس إلى فلسفة برجسون هي سهولة الحقائق التي بنيت عليها، وبساطة العناصر الأولية التي تألفت منها، على أن أكبر المكتشفات العلمية كانت بسيطة للغاية في مصدرها وأصلها التي تفرعت عنه، وليست الدهشة التي تعتري العالم عند وثوب المكتشف إليهم بها هي تساؤلهم كيف تأخرت الإنسانية كل هذا الزمن عن الاهتداء إليها، بل لعل تلك المكتشفات كانت مختفية في طي حقيقة ظاهرة للعيان، يلمسها الناس كل يوم، ولكنهم لا يفهمون كنهها حتى يحين الوقت لظهورها فيعثر عليها ذهن من الأذهان الحاضرة البديهة فيعلنها للناس.

نقول أن فلسفة برجسون سهلة للغاية ولا تحتاج إلى كبير عناء في تفهمها، والسبيل الأول لإدراكها هو أن نعلم أننا إذا أردنا أن نفهم حقائق الكون فعلينا أولاً أن نفهم معنى الحياة وهذا هو الذي يميز فلسفة برجسون عن جميع المبادئ الفلسفية القديمة والحديثة والمعاصرة لأن الذهن أو العقل إنما وجد لخدمة أغراض هذه الحركة المستمرة التي نسميها الحياة وكذلك وجد العلم لأجل الحياة، ولم توجد الحياة لأجل العلم، ولسنا نستطيع سبيلاً إلى فهم أسرار المعلوم والمجهول بعقولنا كما يقول الإيدياليون أو طلاب الكمال الإنساني ولا في العالم الخارجي الذي يحوطنا كما يقول الطبيعيون ولكن سبيلنا إلى فهم تلك الأسرار هي الحياة.

إن برجسون يعتقد أن أكبر واجبات الفلسفة هو أن تفعل ما لا يستطيعه العلم الطبيعي، وهو فهم الحياة، فإن تحول الحياة الذي لا ينقطع وتطور حركاتها ومظاهرها هو الذي بعث العقل إلى معرفة الجامدات وجعل لهذه الجامدات أو إن شئت فقل المادة مظهر الوجود الجامد الباقي على حالته في الكون ولكن الكون ليس مادة جامدة ولا عقلاً حياً مفكراً، ولكن تطوراً منتجاً متحولاً.

ويلوح لنا كأن هناك حركة دائمة تدفعنا جميعاً في تيارها الجارف، ومعنى الوجود هو الاندفاع مع ذلك التيار كاندفاع الشيء فوق صدر الأمواج فإن الحاضر وهو الذي يضم بين جوانبه جميع سلسلة الوجود هو نفس هذه الحركة وهي سائرة في طريق إتمام نفسها، وهو أي الحاضر يضم الماضي في طيه ويسير به معه، منطلقاً إلى المستقبل وهذا المستقبل لا يلبث أن يكون حاضراً، وهذا هو الحياة، أي هي تحول مستمر لا انقطاع له يحتفظ بالماضي وينشئ المستقبل.

والصعوبة في فهم هذه الصورة هي كيف يمكن أن يكون هناك حركة مطلقة وتحول مطلق وصيرورة مطلقة، إذ لا بد أن يكون هناك غرض باعث يحرك ويحول ويصير، ولا بد أن يكون هذا أكثر حقيقة من الحركة نفسها، وهي - أي الحركة - ليست إلا تحولاً عن مكانه، وأكثر حقيقة كذلك من صيرورته، وهذه ليست إلا تحولاً عن صورته، وهذه الصعوبة هي لب الأمر وهي أكبر دقائقه، وهي ليست الصعوبة التي يجدها علماء المادة وعلماء الروح فيما إذا كانت طبيعة الوجود مادية أو روحانية، ولكن الفكرة الاعتيادية التي نذهب إليها هو أن الدليل على وجود الأشياء في الحقيقة، هو كونها أشياء جامدة ثابتة في الفضاء، وهذا هو المبدأ الأول في العلوم الطبيعية، وكذلك يعتقد العلم الطبيعي أن الزمن ليس جزءاً من الجامدات، فنحن عند ما نرى أي شيء عادي من الجامدات الأولية - كالماء والهواء والبلورة والمعدن - نعتقد أن للزمن أي جزء في حقيقتها، لأنه مهما تعرض لها أي تغير، فلا تزال في ماديتها على حالها، فإن الماء إذا حللناه إلى عناصره، فإن ذلك يستغرق شيئاً من الزمن ولكن جوهر هذا الماء لم يتغير ولم يتحول فإن الغازات التي يتألف منها الماء منها لا تزال موجودة، ومن المستطاع إعادة تركيبها وتأليفها، ونحن بلا ريب لا نستطيع أن نتصور الأشياء خارجة منفصلة عن الزمن ولكن هذا لا يستلزم أن يكون الزمن لازماً لوجود الكائنات وعليه فليس الزمن إلا صورة من صور الوجود، ومن هذه الصورة نعرف الأشياء ولكن الزمن كانت ضعف ما هي الآن، فإن ذلك لم يكن ليحدث أي تغيير في جوهر الكائنات.

وليس هناك مقياس محسوس نستطيع به مقياس تيار الزمن وكل هذه المقاييس الزمنية كدوران الأرض حول محورها ودورانها حول الشمس أو حركات بندول الساعة ليست إلا مقاييس نسبية ولوظلت نسب الزمن ثابتة إزاء بعضها البعض فإن أي تغيير في سرعة الزمن، لا يحدث أي فرق أو أثر في جواهر الكائنات.

على أننا نجد الزمن بالنسبة إلى الكائنات الحية هو جوهر حياتها وكل معنى وجودها إذ للكائنات الحية مقياس زمني يقاس بنفس المقاييس النسبية التي نحدد بها الأطوار المتتابعة التي تمر بالكائنات الجامدة وهذا هو الذي يخطر بأذهاننا عندما نتكلم عن حياتنا المسرعة الذاهبة ونفكر في الأشياء التي تبقى بعدنا إذ يلوح لنا أن الحياة مؤلفة من أدوار معينة محدودة هي الطفولة والصبا والشباب والكهولة والشيخوخة، وهذه الأدوار هي التي نمر بها ونتصور أن لكل دور منها مدة يبقى فيها ثابتاً على حاله ثم بعد ذلك يبتدئ في التحول والتغير، ولكن التحول إنما هو مستمر في كل دور منها وليست هذه الأدوار إلا المنظر الظاهري للحياة، والجسم هو الذي يساعدنا على رؤية هذا المنظر لأن جسمنا هو كائن من الفضاء ولذلك نراه في هذا الشكل الظاهري، ولكن الحياة نفسها إذا نحن شهدناها من باطنها، من المركز الذي نشغله نحوها وهو أننا نحن والحياة شيء واحد لا تزال هي الزمن، فالحياة إذن هي تيار متدفع، هي تحول حقيقي وحركة مستمرة مطردة لا انقطاع لها، والكائن الحي هو كائن يبقى متحولاً متغيراً بلا ونى ولا فتور، ولا يظل مطلقاً على حاله.

ومن هذا نستنتج أن هناك صيغتين للزمن، إحداهما هي أن الزمن لا يحدث تأثيراً في جوهر الكائنات وثانيتهما هي أنه الجوهر نفسه وهذا يؤدي بنا إلى سؤال ذي وجهين، وهذا السؤال هو ما هو الجوهر، ومعنى ذلك ما هو الذي يوجد ويبقى بلا تحول، أو ما هو الذي يوجد وهو متغير متحول، والفرق بين هذين هو الفرق بين الكائنات الجامدة والكائنات الحية، فالزمن من ناحية الأولى لا أثر له وهو من ناحية الثانية كل الأثر.

ومن هنا نخرج إلى سؤال آخر وهو - هل الجوهر المختفي وراء كل هذه الظواهر مادة لا تتغير ولا تتحول أم هو كائن حي كل وجوده هو الزمن، والجواب الذي يجب أن تقوله الفلسفة هو أن الزمن هو جوهر تتألف منه الكائنات، ولكن العلم الطبيعي يختص بوجه واحد منه محدود ضيق الدائرة وهو المادة التي لا تتغير ولا تتطور، والعلم الطبيعي لا يدرك الحياة ولا يبحث في أسرارها، ولكن الشاغل الأكبر للفلسفة هو الحياة. . . .

هذا هو أساس فلسفة برجسون وهو كالتمهيد لما سنأخذ في شرحه من فلسفة هذا الفيلسوف مذ العدد القادم.