الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 38/تشخيص الأمراض

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 38/تشخيص الأمراض

بتاريخ: 1 - 1 - 1918


بواسطة الأحلام

في هذا المقال الذي سنبسطه للقراء أمل للضعفاء الذين يعانون آلاماً من أمراض النفس ويشعرون أنهم يعيشون أقل من الحياة الصحية الكاملة، وذلك أن العلم الحديث عمد الآن إلى ما سموه تحليل النفس، وهو لا يحتاج إلى شيء من الأدوية والعقاقير، ولا يبحث فقط عن أعراض الأمراض، بل عن مسببات هذه الأعراض وأول مبادئ هذا التشخيص أن الأعراض ليست ناشئة عن سبب جثماني، والخطوة الثانية أن مبعثها الأول في النظام النفساني للشخص، وأن استقصاء هذه البواعث يجب أن يكون بدرس أحلام المريض، وجملة القول إن هذه النظرية الحديثة تذهب إلى أن الحاسة الشهوانية هي سبب كثير من أمراضنا الخطيرة الحاضرة.

وهي تقسم الأمراض إلى عدة أقسام، أولها الأمراض الذهنية أو العصبية التي مبعثها البدن، كالفالج ووجع المفاصل أو تصلب الشرايين وما إليها من تلك الأمراض التي تدل على تهدم الأنسجة العصبية والتي ترجع مباشرة إلى أصل جثماني، وهذه لا يتداخل فيها الطبيب الحديث الذي يعالج الأمراض من ناحية الأحلام إذ لا شأن له بالأمراض التي ترجع إلى أصل بدني على أن كثيراً من هذه الأمراض لا يزال يرجع إلى سبب نفساني، وإن كان السبب البدني حقيقياً ولكن أصلها لا يزال نفسانياً، فقد تجد مريضاً طريح الفراش دهراً طويلاً من أثر الفالج، والحقيقة أن هذا الفالج الوهمي يرجع إلى الهستيريا وقد تعاني إحدى السيدات الألم من وجع المفاصل أو الربو، ولا سبب هناك لذلك إلا الهستيريا، وهذه لا باعث لها إلا حالة من حالات النفس.

وإليكم تفاصيل حادثة نشرها طبيب من هؤلاء الأطباء تمت إلى هذا التحليل الجديد بسبب:

المريض سيدة مكتملة الحياة كانت مصابة بالفالج في ذراعها منذ ثلاث سنين حتى لقد كان الأطباء يغرزون الدبابيس في تلك الذراع فلا تحس المريضة أدنى ألم، ولكنهم إذا حاولوا مد هذه الذراع صرخت المريضة وشعرت بأشد الألم وحار الأطباء في كنه هذا الألم ولكن المريضة كانت تعرف أنها منذ اثنين وعشرين عاماً تعاني آلام الهستيريا.

وأوجب الواجبات في هذا التشخيص النفسي هو اشتراك المريض والطبيب في الع للوصول إلى النتيجة المطلوبة، وتأسيس رابطة بينهما وثيقة.

فلما رأى طبيبها أن هذه الرابطة قد بدأت تستحكم بينهما قال وهو يقترح عليها بكل لطف نبئيني بجميع أحلامك.

على أن المرأة لم تكن تؤمن كثيراً بالأحلام، بل كانت كذلك تظن أنها لا تحلم إلا قليلاً، بل لا تحلم مطلقاً ولكن لم تكد تمضي بضعة أسابيع حتى بدأت تكتشف صوراً من الأحلام تمر بخاطرها فجعلت إذ تفيق من نومها تدونها في كتاب ليقرأها الطبيب وكانت ترى هذه الأحلام تافهة فارغة طائشة حتى أنها لم تكن تود أن تتذكرها ولكن كانت تخشى أن تسيء إلى طبيبها، وما كان أشد دهشتها إذ تراه يرضى بهذه الأحلام، ويفهم منها أشياء لا تفهمها، ثم لم يلبث أن انطلق يذكر لها أشياء عن حياتها كانت تعلم أن ليس هناك إنسان يعرفها، وحوادث دفينة في أعماق نفسها حتى لقد نسيت أنها وقعت لها يوماً ولم يلبث الطبيب أن راح يلتمس أثر الضربة التي أفلجت ذراعها في ماضي حياتها، وعاد يذكرها بخيانة زوجها لها، وإغضائها عن هذه الخيانة، وتجاهلها مع أنها كانت بينة ظاهرة أمام الجميع وعاد بها إلى مصدر تلك الاضطرابات العصبية التي كانت تثيرها الحالة النفسية.

وهكذا كان ذلك هو تشخيص مرضها، وكان أيضاً العلاج، لأن التحليل في هذه النظرية الجديدة هو التشخيص والدواء معاً، وهذه هي فضيلة هذا التشخيص، فلم يكد ذهن هذه المريضة ينفتح على ذكرى حادثة وقعت لها وهي في الخامسة من عمرها حتى ذهب عنها المرض كما جاء.

ولم يتأت هذا التحليل النفساني العميق في لحظة أو جلسة واحدة، بل كان علاجاً استغرق زمناً طويلاً ولم يكن إلا على شكل أحاديث ومحاضرات يلتقط منها الطبيب قطعاً من أحلامها فيربطها بعضها ببعض، وكذلك جعل يتوغل أسبوعاً فأسبوعاً وشهراً فشهراً في صميم حياتها المنسية البعيدة، حتى تبين له أولاً أحداث حياتها المحزنة، ثم بدت لها هي كذلك بعده، بواسطة الطبيب، إذ بدأ يريها بصيصاً ضعيفاً من معنى أحلامها، ثم لم تلبث بعد حين أن تربط هي هذه المعاني بعضها ببعض وأخيراً جعلت هي تقوم بتحليل نفسها، وهذا مبدأ هذا العلاج الجديد، إذ ينبغي أن يشترك الطبيب والمريض في التحليل النفساني، فما كان ذلك، لم يلبث أن زال عن ذاكرتها النقطة السوداء التي كانت غائبة عنها، فكأنما كانت هذه الحادثة خثرة متجمعة في ذهنها، فلما زالت، زال الفالج.

وهذه المرأة هي مثال من الأمثلة التي يستحيل فيها المرض إلى الهستيريا فإن ذكريات ذهنها الفظيعة المؤلمة التي زالت عن الذاكرة بقوة الإرادة تحولت فيها إلى هستيريا وأصابت الجسم بالآلام التي تحصن ذهنها منها وكذلك ترى الهستيريا تحول الألم من الذهن إلى ألم جثماني.

والنوع الثاني من الأمراض التي يختص بها الطبيب الذي يعالج النفس هو النروستانيا، وهو لا يعتبرها ناشئة عن حالة ذهنية، ولكنه يرجعها إلى العادات الشخصية التي يسلكها المريض المصاب بها في الحياة.

والخلاصة أن الأطباء الأخصائيين في هذا النوع من العلاج يذهبون إلى أن أحلامنا هي قصص رغباتنا وللاقتناع بصحة ذلك يجب أن ننظر إلى الأماني اليومية التي يشعر بها الأطفال فإن الطفل يود لو ظفر بالقمر وتدانت النجوم إليه ويجب أن تكون له الخيول التي تمر في الطريق، وكل ما يرى أو يسمع، ولما كان أكثر رغباته غير مستطاع التحقيق، اضطر إلى أن يخلق أشياء في ذهنه، ومن ذلك نشأت اللعب والعفاريت والأمراء والملكات والقواد.

فإذا انتقلنا من رغبات الأطفال في يومهم إلى أحلامنا نحن الكبار ونحن نيام، فلا نلبث أن نجد أننا إنما نكبر تلك الأحلام الصبيانية التي كنا نشعر بها في طفولتنا، فالفقراء منا يحلمون بالثروة والمرضى بالعافية والمهاجرون بالأوطان والجائعون بالشبع والأطباء النفسانيون يؤمنون بأن لكل حلم معنى وأن الأحلام هي مدلولات حوادث معينة وقد استطاعوا في علاجهم النقائض والعلل الأخلاقية الوصول إلى نتائج مدهشة، ومن ذلك أن محامياً شاباً جاء إلى استشارة طبيب مشهور في مدينة كبرى من المدائن وكان في حالة عصبية مزعجة وهو يشكو أنه لا يستطيع عملاً البتة وأنه قد ذهب أياماً إلى مكتبه وحاول بنشاطه المعتاد أن يؤدي عمله فلم يستطع إنجاز شيء منه، وعدا هذا العجز الفجائي إلى حياته الأدبية بل إلى أحاديثه وجملة القول كان يشعر بأنه قد تحطم كلية، فلما استطاع تذكر بعض أحلامه، خفّ ما كان به.

وتفصيل الأمر أنه كان يشتغل عند محام شيخ طويل العهد بصناعة المحاماة، وكان هذا الشيخ يشرف على بعض تركات وأوقاف طائلة، وكان قد رفع العمل الخاص بها إلى مساعده الشاب، ولم يلبث أن توفى المحامي الشيخ، فلم يبق إنسان يعرف دخائل تلك الأوقاف إلى المحامي الشاب، فدلت أحلامه على منشأ اضطرابه العصبي، إذ كان كل حلم منها يدل على نزاع حاد قائم بينه وبين نفسه.

فلما أتم طبيبه تشخيص مرضه قال له، إن بك نزعة إلى استلاب هذه الأوقاف أن نفسك تحدثك بوضع يدك عليها، ولكن ضميرك قذف جانباً هذه الإغراء، لأنك رجل شريف عدل، ولكنك تريد أن تقدم على ذلك، وأنت لا تشعر وهذه الحرب الناشبة في دخيلة نفسك قد حطمت جهازك العصبي.

فتبين للمحامي أن تلك هي الحقيقة وشكر للطبيب هدايته.

ولهذا العلاج الجديد مزية كبرى وهي تحصين الفرد من الخطر القادم فهو يقول لكل شخص أيها الإنسان، عليك نفسك احتفظ بها، إنك تشغل ذهنك بأمور تؤثر في نشاطك الحيوي، وإذا وقع لك اضطراب عصبي، فالتمس إيجاد السبب في نفسك وهو يقول للآباء احتفظوا بأبنائكم وحصنوهم ولا سيما من أنفسكم، من الإكثار من حبهم وتدليلهم أو تأنيبهم ومن الصدمات النفسانية ومن المشاهد التي تؤثر على شعورهم الغائب في وقت يكون فيه هذا الشعور هو أشد ما يكون في الطفل وأكبر العناصر المؤلفة لخلقهم في الحياة.