مجلة البيان للبرقوقي/العدد 38/الحرب
→ كلمات العظماء | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 38 الحرب [[مؤلف:|]] |
كتّاب العصر ← |
بتاريخ: 1 - 1 - 1918 |
بقلم شاعر لفائي ملكة البلجيك
في معتزل بعيد قصى عن العالم المصطخب، يلوح هذا المنتبذ الذي اتخذته هذه المليكة المعذبة نجوة وملجأ، ولا أعلم كم لبثت في السيارة وهي تعدو في الطريق إليه، وقد ضرب المطر الغزير المنهمل حجاباً أشهب ناصعاً فوق نافذتها، ونحن نسير على مطلع الظلام، وفي أول مرحلة من عمر الليل، وإذا بالضابط الذي يجلس إلى جانب السائق يشير إلينا بأننا قد وصلنا.
وكانت جلالة الملكة اليصابات أميرة البلجيك قد تفضلت فأذنت لي بلقائها في منتصف السابعة من المساء، فخشيت إذ ذاك أن أكون قد تأخرت ولكننا كنا لا نزال في حدود المتّعد، وإن بدا الظلام أحلك شديد السواد، ولكن الوقت كان مارس، وفي مثل هذا الموعد، تحت تلك السحائب الوطفاء، والغمائم المتكاثفة، يكون الليل قد سقط فعم الأرض.
ووقفت السيارة، فوثبت منها إلى رمال ذلك الساحل، وأنا أستمع إلى خرير الاوقيانوس عن كثب مني، وأكاد أتبين بحر الشمال معتلجاً مزبداً، هذا والأمطار والرياح القرة، تعزف وتترامى من حولنا، وهناك تلوح ثلاثة بيوت لا مصابيح فيها، ولا أضواء تبدو من خلال نوافذها، وشبح يحمل مصباحاً زجاجياً ساطع النور في عجلة يعدو نحونا للقائنا، وإذا به ضابطاً في خدمة جلالة الملكة في يده مشعل من تلك المشاعل الكهربائية لا تستطيع الرياح أن تخنق أنفاسها.
فلما دخلت البيت الأول من تلك البيوت الثلاث على هدى ذلك الضابط، أسرعت أهم بخلع معطفي في البهو، استعداداً للقاء الملكة، وإذ به يقول: كلا، كلا، بل أمسك عليك معطفك إننا سنخرج من هذا البيت حتى نصل إلى حجرات صاحبة الجلالة.
وكان هذا البيت الأول معداً لوصيفات الملكة وضباط بلاطها الذي أصبح خلواً من البهجة، مقلاً من الآداب والرسميات، يعيش إذا عم الظلام الكون في حلكة دائمة حيطة من غرة القنابل، وحذراً من مباغتة المطارات، ولم نلبث لحظة حتى بلغنا حجرات الملكة وقد تبينت ثمة أرضاً براحاً رملية مترامية كالصحراء لا حدود لها.
قال دليلي وهو يجتذبني إلى الحديث، ألا يخيل إليك هذا المكان بقعة في صحراء أنك إذ أرسلت إلينا خادمك العربي وهو ممتط صهوة جواده لبعثتنا على أن نتصور هذه الصورة.
ودخلنا حجرة دافئة ساطعة النور، تثير بأثاثها الأحمر اللون، ورياشها الناضرة روح البهجة في النفس والأنس في بهرة هذه الوحشة الصامتة.
ومكثت إذ ذاك أرقب مطلع الملكة، فلم أكد أجلس في الحجرة مجلسي حتى لمحت هناك على مقعدين صندوقاً طويلاً صغير الحجم، وقرأت فوقه بعض أحرف يابانية.
وكان الضابط يتبع بنظراته نظراتي، ويلمح مني دهشتي، فلم ين أن قال إن هذا الذي ترى أمامك سيف قديم أرسلته اليابان منذ قليل إلى جلالة الملك!.
وقد كنت قد نسيت اليابان واليابانيين، أولئك الحلفاء الرابضين في أقصى الشرق، ولكني الآن ذكرت أنهم حقاً في صفنا، ويدهم في أيدينا، ما أغرب ذلك وما أعجب، وعلمت الآن أن النكبة التي وقعت بالملك وزوجه، والأحزان التي نزلت بساحة هذا البلاط، قد وصلت أنباؤها إلى مسمع ذلك البلد الأقصى، والمملكة المتباعدة، فلم يسعها إلا أن تظهر إعجابها للملك المحزون الأبي فأرسلت إليه سيفاً!!
وكان الضابط يوشك أن يقوم للصندوقة فيخرج منها السيف ليريني غراره، ويطلعني على صنعه ودقة الفن الياباني الذي ركب به، ولكن دخلت في تلك اللحظة سيدة من الوصائف، فأعلنت مقدم الملكة.
ولم أكن رأيت هذه الملكة من قبل وقد أكبرتها الآلام في خاطري، وعظم جلالها من أثر الأحزان التي نالتها، فجلست أرتقب مطلعها بلهف شديد، واضطراب عظيم، وأنا واقف هناك أمام الموقدة بينا الرياح والجليد والأمطار تعزف خارج الدار في بهرة ذلك الليل الصامت، وجعلت أسائل نفسي من أي الأبواب ستدخل، ثم لم ألبث أن أجبت نفسي بأنها ولا ريب ستقدم من ذلك الباب الذي أمامي في نهاية الحجرة، فاستقرت عيناي عليه لا تبرحانه.
لكن كلا، فإنني لم أنِ أن التفتّ ورائي على حفيف ثوب ناعم صوب الجانب الآخر من القاعة، وإذ بحجاب من الحرير الأحمر يخفي وراءه باباً صغيراً قد هتك، ومن خلاله بدت الملكة عن كثب مني حتى لم أجد الوقت الكافي لأقدم لتحيتها الانحناءة البلاطية.
وكان الأثر الأول الذي وقع في فؤادي من رؤيتها ليس إلا تأثيراً مضطرباً، أو إن شئت فقل تأثيراً لونياً، منظر ثوب أزرق، وعينين زرقاوين تسطعان كنجمين متألقين، ثم إذ هدأ اضطرابي وزال زيغ بصري، تبينت أمامي مظهراً رائعاً من مظاهر الشباب، وكأنها لما تتجاوز الرابعة والعشرين وقد كنت أعلم من الصور العديدة التي شهدتها، تلك الصور التي قلما تصدق الخبر عن الصورة الحية، إن الملكة ممشوقة القذ مشذبته، ولكن الملكة على العكس ربعة القوام، ذات وجه صغير مستدير، وتقاطيع نهاية في الرقة، وجه أثيري، من الرقة واللطف بحيث لا يكاد يبين ضوءه بجانب تلك العينين الصافيتي الزجاجة، كفيروزتين شفافتين تنمان عما وراءهما، حتى لكأنك إذ ترى الملكة وأنت تجهل أمرها وحقيقتها والعظائم التي قامت بها، ستصبح في نفسك من ترى تكون هذه المرأة صاحبة هاتين العينين إنها ولا ريب امرأة سامية المكانة تحلق في جواء الرفعة تنظر بهما لا وجل ولا خوف إلى وجه الحتوف، وإزاء الأخطار والموت!. .
وأنت تعلم أن حديثاً مع ملكة لا يجري إلا مع رغبتها وفي المناحي التي تنبعث هي فيها، ولذلك انطلقت الملكة في أول الحديث تجاذبني أطراف الحديث كثيرة وموضوعات متعددة، آية رقة المحضر، وعذوبة الخاطر، كأنما لم يكن يجري في العالم تلك الأحداث المخيفة، والنكبات المفزعة.
فتحدثنا عن الشرق، وكان كل منا قد جاب بلاده، وأكثر فيه التطواف ثم تكلمنا عن الكتب التي قرأتها، كأننا قد نسينا المأساة الكبرى القائمة في الكون، أو كأننا قد غاب عنا أن وادي الخوف يحف بنا، وأن الأرض التي في جوارنا أصبحت مغطاة بالأطلال والموتى.
وكأن الملكة قد استشعرت شيئاً من الثقة بعد هذه الأحاديث، فطفقت تكلمني عن تخريب ايبرس وفرني وغيرها، وهي البلاد التي جزتها في طريقي إلى الملكة وإذا بي أرى غمامة صغيرة قد بدت في تينكم العينين الزرقاوين، على الرغم من المغالبة الشديدة.
قلت. . ولكن يا سيدتي، لا تزال هناك منها جدران باقية لم تنقض، وقد نستطيع أن نقيم هذه الجدر ونكمل المنهدم منها، فتعود سيرتها الأولى، وسيسهل ذلك في الأيام البيضاء التي سيجيء بها المستقبل.
فأجابت: آه، أتعني أننا مستطيعون أن نعيد بناءها، أجل بلا ريب نستطيع أن نعيد البناء ولكنها ستروح تقليداً لا غير، وإذ ذاك تفقد الروح الأثرية التي كانت لها، وسألتمس جلالها القديم فلا أقع عليه.
ومال بنا الحديث إلى موضوعات أقل أهمية، وإذ بنا بغتة نجدنا في الحديث عن ألمانيا، ولعل العاطفة الأولى السائدة في جوانحها هي الدهشة، دهشة أليمة تامة كبرى.
قالت في صوت متهدج: إنهم قد تغيروا ولا ريب، واستحال خلقهم القديم إلى خلق جديد، إنهم لم يكونوا كذلك من قبل، لقد كان ولي العهد - وأنا أعرفه منذ عهد الطفولة - شاباً رقيق العاطفة، ولم يكن في خلقه ما يبعث الإنسان على توقع. . . . . وهناك أمسكت عن الحديث ثم عادت تقول:
ولقد حاولت أن أجد السبب، وأنا أفكر الليل والنهار، فلا أستطيع لهذا فهما كلا، كلا، لم يكونوا كذلك من قبل، هذا لا ريب عندي فيه.
ولكني كنت أعلم أنهم كذلك أولاً وآخراً، وقديماً وحديثاً، على أنني لم أشأ أن أعارض الملكة وهي قد نشأت بين ظهرانيهم، كالزهرة الحسناء بين العوسج.
وساد السكون بيننا لحظة، ثم تذكرت أن الملكة أميرة بافارية فاجترأت على أن أذكرها بأن البافاريين في الجيش الألماني محزونون عليها متألمون لألمها، ولكن الملكة رفعت يدها عن ثوبها وأشارت إليّ إشارة نهائية خاتمة، وقالت في صوت منخفض، الجملة الآتية وقد وقعت في صميم ذلك السكون كأنها كلمة لا نقض فيه ولا إبرام:
لقد انتهى بيننا كل شيء، لقد ضربت بيني وبينهم أستار من حديد لن ترفع آخر الحياة!.
ولعل الذكرى أهاجت بفؤادها ذكريات أخرى، عن عهود طفولتها وأيام شبيبتها والزمن الناضر الذي قضته بينهم، وإذا بالعينين الزرقاوين قد تحدرت منهما دمعة فأشحت بوجهي جانباً حتى لا يلوح لها أنني قد لمحت بكاءها. . . بيرلوتي