مجلة البيان للبرقوقي/العدد 37/كتاب العصر
→ الإسلام في انجلترا | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 37 كتاب العصر [[مؤلف:|]] |
الحرب ← |
بتاريخ: 1 - 12 - 1917 |
أحمد لطفي بك
في الصف الأول من صفوف الكتاب العصريين ينهض هذا الرجل الخصيب الذهن، القوي الأثر، ولعله كان محدثاً في الآداب المصرية تغييراً خطير الشأن، ومرسلاً في أرواح الشباب والمنحدرين إلى المستقبل تطوراً شديد السلطان، لو أنه أمسك على نفسه بعض النشاط الذي كان يثب في جوانحه يوم كان في الحياة العمومية قائداً يمشي في أثره كثيرون من المتطلعين إلى التهذيب، النازعين إلى مناهضة المبادئ القديمة التي لا يزال يعض عليها بنواجذه سواد طبقات الشعب، ولو أنه غالب الحب الذي يتغلغل في نفوس أكثر الناس لروعة المنصب الحكومي وفخامة مقاعد الإدارة، أو لو أنه إذ جلس مجلسه، وتولى منصبه، لم ينس الناس ولم ينصرف عن الجمهور، ويرضى بعمل هين ليس فيه من متعبة إلا كثرة الإمضاءات والتوقيعات، ومراجعة القوائم والكشوفات.
وما أظن الجلوس في مقاعد الحكومة يمنع الرجل المفكر من أن يطل على الشعب الحين بعد الحين، أو يترك الذهن صدئاً منطفئاً مفلول العزيمة، بل لقد رأينا كثيرين من أهل الفكر قعدوا مقاعد الحكومات، وتولوا الوزارات والرئاسات، فلم يحل ذلك بينهم وبين عرض الصور التي تلوح في أذهانهم على الجمهور، وإخراج ثمرات قرائحهم كلما رأوا الفرصة سانحة، والزمن مواتياً، فقد كان لو رد بيكو نسفيلد على رأس الوزارة الانكليزية فلم يمنعه منصبه على خطورته أن يضع ذهنه في كل مكتبة ويعيش في خزانة كل قارئ فبيناهو ينشئ المحالفات، ويوقع على المعاهدات، ويرأس البرلمانات، إذ هو طرح عنه كل ذلك، عائد إلى حجرته، ليغيب في تفكيره، ويأخذ في وضع رواياته، حتى لقد كان على رأس الحكومة، ثم هو بعد ذلك في رأس كل إنسان يعيش تحت الحكومة وكان كبير الوزراء وكبير الروائيين في آن واحد، ولعل روايته فيفان جراي تقوم في التاريخ الإنساني بكل ما أنشأ من عهود وأنظمة، واستن من شرائع وقوانين وهو في وزارته ومكان رئاسته.
ثم نحن لا ننسى أيضاً أن جوت كان وزيراً ورئيس بلاط دوق ويمر، ورئاسة بلاط الملوك مضيعة للزمن، مشغلة عن الحياة، صارفة عن كل شأن، لأن صاحبها ملزم بأن يظل عند عين الملك وسمعه، وأبدا في ندوته وسمره، فما كان ذلك ليقتل في جوث الروح المضطرمة في جانحته، والنزعة الفكرية التي تتقد في فؤاده، فكان يفلت حيناً من سلطان ملكه ليطيع سلطان عقله، ولو كان سلطان الحكومات مستطيعاً أن يسود في المفكرين على أذهانهم، لما انحدر إلينا ولآخر إنسان سيبقى على الأرض كتابه أحزان ورثر وهو الكتاب البديع الرائع، كتاب الحزن الإنساني كله.
ثم لا ننسى كذلك أدباء العرب الذين عاشوا في قصور الخلفاء، وولوا الولايات، وعهدت إليهم المقاطعات، فأبوا إلا أن يظلوا مع ذلك أدباء وكتاباً أكثر منهم ولاة وعمالاً وحكوميين.
على أنا نقول أنه ما كان أبدع ذوق الحكومة، وأعطف فؤادها على الفكر والأدب، إذ اختارته لوظيفة ليعيش فيها بين الكتب وتركت إليه أذهان ألف سنة أو تزيد تحوطه وتشارفه، ولم تحرمه من الجو الذي لا يموت فيه الذهن، لا تصدأ فيه القريحة، ولم تختطف منه قلمه فتحطمه وتقذف به تحت مكتبه، وكان هذا ولا ريب عزاء الناس يوم اعتزاله إياهم، وكان فيه بعض التخفيف من ألم المهذبين يوم اختارته الحكومة لنفسها، إذ كان الجميع يتوقعون أن تصبح دار الكتب النبعة التي سيخرج منها ذهن قائدهم أصفى من قبل وأكثر فيضاً وأنضج فكراً، وكان أملهم في ذلك أمل صاحب العمل الذي يعهد إلى عماله المقام في مشارف مناجم الذهب، واحتفار أرض هي مظنة المعدن والجوهر.
ثم لا تنس بعد ذلك أن الحكومة لم تأخذه إليها إلا يوم نشبت الحرب، وطارت شرارة المجزرة، وخمد صوت الفكر متبدداً في تضاعيف صوت القنبلة، وانكمش المفكرون متضائلين أمام أهل السيف، فلم يكن ثمة سبيل إلى هذا الرجل المفكر أن يرسل قلمه في تفاسير السياسة، وينطلق في شرح أعاصير الدول، والخوض في نبوءات الحرب، وكان الرجل لا يزال مهيب الفكر عند الحكومة، محترم الذهن عند كبارها، فلم يسع الحكومة إلا أن تذهب إليه فتهمس في أذنه أيها الرجل المفكر، ليس لك محل في الحرب، إن زملاءك اليوم في دول الحرب قد سكتوا، إذن فتعال عش بجانب أساتذتك مفكري العصور الذاهبة، تعال اخرج لنا من هذه المطمورات تمثالاً للفكر منسياً.
حتى إذا استرسلت الحرب في عزيفها وصريخها ونكرها، لم يلبث أن ملها الناس واعتادوها، ورضوا بالآلام التي تجيئهم من ناحيتها، وراحوا يتلمسون عنها العزاء، ويتفقدون السلوى، وليسوا بحاجة إلى شيء مثل القراءة، ولا أذهب لأحزانهم من الكتب لأنها تضمد جراحات النفوس، وتسكن آلام الأذهان، ولو خرج للجمهور اليوم كتاب بديع طلي خفيف الظل لالتهموه لساعتهم، لأن أذهان القراء أصبحت تحس بحاجتها إلى الغذاء، إذ كانت مواد التسعيرات جعلت مطالب المعد تسود على مطلب العقول، وقد تعب الناس الآن من كثرة التفكير في الأكل، إذ علموا أن الحرب ستأكل الجزء الإنساني فيهم وتدعهم نوعاً جديداً من الحيوانات المتكلمة إذ لم يحتفظوا بقلوبهم وأذهانهم.
وكان هذا الرجل المفكر يستطيع في هذا الزمن الأحمر القاني من دماء الأبرياء أن يكون بلسماً، وكان فكره الخصيب خليفاً بأن يكون معزياً مواسياً، ولكنه ترك الناس لآلامهم، وجعل نفوس القراء المتلهفين على قراءة البديع من الفكر في سكون أشبه بسكون الموت، ولم يخرج للجمهور في ثلاثة أعوام أثر فكره إلا مرتين، في يوم عيد شكسبير، وكلمة عن قاسم أمين، وهذان المقالان وإن لم يكونا في شيء من روعة الذهن الذي كان يطل علينا قبل ركوده قد وقعا إذ ذاك من نفوس القراء، وأذكرا الجمهور السحر الأول الذي كان يبين في كتابته، والفتنة التي كانت تفعل في القلوب من أثر طلاوة موضوعاته.
وقد يتعزى كثيرون اليوم عن سكوته بأنهم سيرونه بعد حين طالعاً عليهم يحمل أرسطو في يده وخارجاً إليهم بفلسفة قديمة كان لها الأثر الأكبر في تهذيب الإنسانية وتنويرها، وعليها قامت الفلسفات التي جاءت بعدها، على أننا نقول لهم ما قلناه من قبل وهو أن مقالاً واحداً من قلمه الساحر في شأن من شؤون حياتنا الحاضرة أجدى علينا من أرسطو وكتبه، لأنه إذا كان تمت فائدة من فلسفة أرسطو وتواليفه فهي لطلاب دراسة الفلسفة القديمة والراغبين في أن يحملوا الحياة على طرف دبلوماتهم وشهاداتهم ويعيشوا بهذه الرقعات الجميلة المختلفة الألوان التي لا تفيد في معركة الحياة شيئاً، ثم ليس كل القراء طلاب دبلومات، وليسوا جميعاً في مجالس المدارس، بل هم أحوج أن يغتذوا من روح المفكر العصري الذي يعيش بينهم ويشاركهم في عواطفهم، ويكشف لهم عن كنه الحياة، ويفتح أعينهم الزائغة القلقة إلى أسرار الوجود، من ألف كتاب قديم لألف فيلسوف عظيم، فلو مضى الآن أناتول فرانس وهو من أكبر كتاب فرنسا المعاصرين، فنبش كتاباً قديماً من كتب الفلسفة العتيقة فترجمه لشعبه، لاحتفلت به المدارس ورحبت به الجامعات، ولكنه لا يستطيع أن يظفر في قلب القارئ الفرنسي العادي البعيد عن المدارس وأهلها بما يظفر به من التأثير كتاب صغير واحد من ثمرات ذهن أناتول فرانس نفسه وليست المدارس هي كل ما يمد الحياة بل ليست إلا حظائر لتربية العاديين، وتهذيب القطيع الإنساني وإعداده للحياة العمومية الهادئة.
ولقد يظن أحمد بك لطفي السيد أنه لا يزال إلى اليوم يذكر الناس ويحف بتهذيبهم ويفكر في شؤونهم ويعمل على ترقية آدابهم، بهذا المجمع اللغوي الذي ينتدى في دار الكتب الفينة بعد الفينة ليصل ما بين مبتكرات الحياة الجديدة وبين لغة العرب وينقذ الأساليب الكتابية من العجمة التي أبت مدنية اليوم إلا أن نرضى بها في الحياة وفي اللغة كارهين، ولكنا نعلم أن هذا المجمع اللغوي لم يحدث منذ تألف أثرا، وما نظنه محدثه، وأعجب من ذلك أن يأتي مبدأ المجمع اللغوي الآن فينسخ مبدأ المصرية في اللغة الذي كان يجري من قبل في ذهنه ويصر عليه، ويناضل عنه، ويفسد به أساليبه السلسة المائية العذبة ليبدي للقراء أنه قد أنفذ فكرته على رغم أنوفهم، ولعمري أن تغيير المبادئ بهذه السرعة أمر يبعث على الدهشة ويدعو إلى الريبة وما نعلم له شبيهاً في كتاب الغرب وعلمائه وفلاسفته، بل رأينا الكاتب منهم يطرد في مبدأ واحد، فلا يزال يجري به إلى الأبد، حتى يعرض به يوم يعرض الناس جميعاً.
ولكنا بعد نقول أن عدوله الآن عن مبدأ اللغة المصري أجدى عليه، وخير لقرائه الذين يتعشقون أسلوبه، لأنه كان يتخلل كتابته فيذهب بجمالها، وينغص على القارئ ويفسد الأثر الذي تحدثه الفكرة المبسوطة أمامه، إذ كانت تبدو عليها دلائل التكلف، وإنها جيء بها عمداً، وسيقت من الكاتب سوقاً، لتنفيذ مبدأ يحاول الإصرار عليه على فساده ويجتهد في التمادي فيه على باطله، وأنت تعلم أن لطفي بك كاتب شاعر تتدفق أفكار المثل الأعلى في جميع ما يكتب، وإنه من الكتاب الذين يبحثون عن الكمال الإنساني في الحياة، وهذا ولا ريب ينبغي له أسلوب فاتن وعبارة مونقة رائعة حتى يستأثر بالقلوب، ويستهوي الأذهان، وإذا أنت التمست ذلك من أساليب الشارع، وافتقدته في لغة السوق، وطلبت شيئاً منه من أفواه العجائز، فما أنت واقع إلا على أحط صورة من صور الأذهان، لأن لغة الحياة العمومية لا تزال تحمل جميع أعراض الحقارة التي لا يخلو منها عنصر واحد من العناصر الأولى المكونة لحياتنا الحاضرة، ولا بد مع ذلك أن يكون الكتاب والشعراء والمفكرون في طبقة أسمى من الحياة نفسها التي تحوطهم، بل يجب أن تكون لهم لغة غير لغة الناس، لأن لهم أذهاناً أصفى من أذهان الناس، وليس في لغة الحياة الحاضرة شيء يصح أن نأخذه عنها ونقتطفه ليكون تطرية لأساليب الأدب، وزينة للكتابة والشعر، وأكبر دليل على فساد لغة الأسواق ما نسمعه من الأغاني والألحان التي تجري اليوم على ألسنة الرجال والنساء والولدان في الأزقة والطرق، فهي لا تكاد ترتفع في معانيها وأصولها عن الأغاني الشائعة بين الزنوج سكنة الأحراش والجبال، وهي لا تمت إلى الشعر بسبب، مع أن الغناء في الجمعيات المهذبة المتحضرة لا يزال ضرباً من أرقى ضروب الشعر، وهو لديهم من أسمى فروع الأدب.
ونحن الكتاب والشعراء أخلق بأن نرتفع بالناس لا أن نسقط إليهم وننزل على حكمهم، لأن الطفل الذي تسمح له بأن تجارية وتكفل له جميع ما يريده حقاً وباطلاً لا تلبث أن تفسده عليك وتفسده على نفسه، فلا تستطيع له بعد ذلك إصلاحاً، ولا تجد لك إلى تهذيبه سبيلاً، ولا ترى لك عليه من سلطان.
هذا ولعل لطفي بك سيخرج بعد الآن من معتزله، وينطلق من ركوده، ولعل في هذا باعثاً له على الرجوع إلى تذكير الناس به قبل أن ينسوه كما نسيهم، وما نسيان الشعوب إلا أكبر عقوبة للذين يعتزلون الجهاد من أجلهم.
هذا ما نسوقه اليوم توطئة للكلام عن أسلوب أحمد مصطفى بك السيد وتحليل مبادئه الفلسفية وبسط رأينا في أدبه، وفي المجمع اللغوي، في العدد القادم إن شاء الله.