مجلة البيان للبرقوقي/العدد 37/صور هزلية
→ مذكرات عن مراكش | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 37 صور هزلية [[مؤلف:|]] |
من جوامع الكلم ← |
بتاريخ: 1 - 12 - 1917 |
من أخلاق الناس
القلوب السوداء
استطاع الجغرافيون أن يقسموا الناس على ألوان وجوههم، وتبعاً لمناطق الكرة الأرضية التي احتوتهم، إذ كانت الشمس هي التي لونت الناس، وأنضجت جلود فريق، وتركت جلود الفريق الآخر نيئة، وجلود الباقين نصف سوا على اصطلاح أصحاب المطاعم، ولعل الشعراء يحبون القمر، والعشاق يترنمون بجمال البدر، لأن القمر - أطال الله بقاءه، ومتع أهل الشعر والحب به - لا قدرة له على التلوين، ولا يستطيع أن يحدث أثراً في وجوه الحسان، بل إنه ليرسل أشعته الفضية - وهذه الاستعارة تعجب ولا ريب البخلاء والماديين - فتنعكس فوق صفحة الوجه النضير، والوجنة المشرقة، والطلعة الحلوة، التي هي أشبه بطلعة المحمل أو بطلعة رجب فتزيدها جمالاً وفتنة ونضارة، وتجعل نصف كتب الدنيا شعراً، والنصف الآخر نثراً، ولذلك نستطيع أن نقول أن القمر هو أستاذ الشعراء أو هو ناظر مدرسة الشعر الأرضي كله.
على أن هذا التقسيم قد يكون ظلماً في بعض الأحيان، ومخالفاً للحقيقة في كثير من الظروف، لأنه تقسيم لا يتعدى الظاهر، والظاهر قد يعارض الباطن، وقد يغلبه على حقه، أو يوهم الناس به وما هو به، فكثيرون يطالعونك بوجوه المنطقة المعتدلة ووراء وجوههم قلوب تشترك في لون وجوه جزيرة تاهيتي وآخرون ضربت عليهم الشمس جزية التلقب باسم العبيد والبرابرة، وهم قوم أخيار، بيض الأفئدة، من الطراز الأول.
ولو أردنا إذ ذاك أن نصلح خطأ الجغرافيين لكنا خلفاء بأن نسمى الأولين برابرة بيض على رأي العامة، ولكنهم وا أسفاه لا يزالون يتمتعون بحقوق الرجل الأبيض، وهم أحق بأن يعيشوا في جوار سكنة الأحراش، وآهلة الغاب والأجم، وأهل نم نم لأن قلوبهم السوداء ليست إلا مقابر تضم الجثث والرفات والأشلاء وهي صحراء قفر، ومفازة مخوفة، لا يؤنس إليها، ولا يدنى منها، وحشة وظلمة، وهولاً ونكراً.
وعندما يكون القلب أسود مظلماً، يترك في صفحة الوجه ظلاً قاتماً، لأن النور الخارجي ينعكس عليه فيرسل صورته في معارف الوجه، ولهذا أول علائم صاحب القلب الأسود أن مقلوب السحنة، ثم لا يزال يبدو في الحديث واللهجة، مهما حاول ذو القلب الأسود أن يكذب على طبيعته، ويغالب لؤمه ودناءته، ويضاحك الناس ليأكلهم، ويلاعبهم ليعضهم، كما تفعل الهرة بالفأرة قبل أن يكتب اسمها في سجل الجرذ التي غابت في أجواف السنانير، وأصحاب القلوب المظلمة يرسلون دائماً في المجلس عدوى مرضهم، لأنهم يخفون حقدهم على العالم وسخطهم على القدر - في طي الفلسفة السوداء - والناس يستمعون مع هذا لهم وينصتون إلى لغة حقدهم مندهشين مذهولين لأن من خصائص الفلسفة السوداء أن لها طعماً مراً ولكنه لا يزال لذيذاً مثيراً للشهية، وليس في سرر أهل القلوب السوداء إذا احتوى الظلام الأرض، وليس فوق وسائدهم إذا ابتعث الليل من مكمنه إلا خطط للثورة على العالم لا تعد الثورة الفرنسية الكبرى شيئاً بجانب ما يجول في رأس رجل منهم فوق وسادته، وليس في قلب كل واحد منهم إلا مجموعة من أبدع ما ابتكر من أساليب اللعنة، وأغرب ما ذهب إليه من عبارات السخط، وكل قلب أسود يموت ويقف عن ضرباته، تنطفئ به ثورة، ويطوى كتاب من كتب الحقد، ويموت أسلوب من أساليب دلائل الخيرات.
من هؤلاء رجل طوال مشذب العود، ولد على الحدود القائمة بين دولة البيض والسود، وهو نسخة متأخرة من العمالقة، يمشي في أمطار عصرية، لو رآها استين لأثارت فيه ذكرى أول عهده بفتح دكانته الصغيرة في صميم الموسكى، وهو أبدا يشكو المرض لأنه دائماً يأكل بعضه، حقداً على الدنيا، ونظراً لما في أيدي الناس، وبكاء على سقوط نجمه في الأرض، ولا تراه يئن إلا من داخله، لأن أحشاءه لا تستطيع هضم جثمانه لأنه من نوع اللحم الخشن على رأي الجزارين، فلذلك لا يجد قلبه إلا أن يتأكل أطرافه، وإذا مشى إليك يحدثك فكأنه لفرط طوله يكلمك من الطابق الأعلى، أو يطل عليك من البلكون، وإذا جلس إليك فلنحول ساقيه وامتدادهما ألفيت قدمه فوق ركبتك.
وقد أصاب هذا الرجل شيئاً ضئيلاً من العلم ولكنه يظنه علم السماوات، فلا يرضيه أن يرى في الدنيا عالماً، لأنه يخشى أن ينازعه على كرسي رئاسة جمهورية العلم، ولكن العلم الذي أوتيه أشبه به أن يكون جهلاً، لأنه ليس على قاعدة، ولا ينهض على أساس، وإنما هو مجموعة متضاربة مبعثرة جمعها من السوق، وأخذها من فهارس الكتب وكتالوجات المكاتب، ولا يعجبه من كتب الأرض قديمها وحديثها شيء، ويعتقد أن جميع كتاب الدنيا من أبعد العصور إلى اليوم لم توجدهم الطبيعة إلا ليكونوا التجارب الأولية الخائبة ارتقاباً لظهوره هو ونبوغه.
وهو مثال الخيبة في الحياة لأنه مثال الغلظة في نفسه، فهو إذا اشتغل في عمل لم يلبث أن يعد صاحب العمل أجيراً عنده، ويطالبه بالاحترام الشديد الذي يعتبر إرهاقاً إذا طالب به السيد خادمه، بل قد يكاد يسأله أن يتنازل له عن حصة فيه أو يكتب له جزءاً منه في الوقفية، وإذ التمس إلى أحد من الناس ما لا على سبيل القرض أو الهبة، فكأنما هو في جرأة السؤال وقحة الطلب يسأله وفاء دين عليه، أو يطالبه بالعوايد أو الخفر وقد لا يتأخر عن إنذاره بالحجز في مدة محدودة إذا هو لم ينزل عن منحه الهبة أو القرض، وإن كانت لفظة القرض لديه يراد بها، السلفة المستديمة إذ أقسم أن لا يدفعها إلا على يد الملك المكلف بجرد تركات المفلسين في الآخرة!
وغريبة الغرائب أن يكون ذلك الرجل شاعراً. . . ولكن لا يستطيع أحد أن يفهم شعره سواه، ولعله من بخله وشحه يضن على الناس حتى بمعانيه، وهو يحاول أن يجيء بالشعر الذي لا يفهم، لأنه يأبى إلا أن تكون المعاني في بطنه ولذلك يوفر عليه الإكثار من الطعام، لأنه لا يستطيع أن يكفل الكثير منه، لفاقته ورقة حاله، وهو يدعي أن شعره هذا يرقص الهزاز فوق أيكه، والبلبل الصداح في وكنه، وإن كان شعره البربري لا يصلح أن يتغنى به على (الدلوكة) في مجالس شراب العبيد، وهو مع ذلك يقول إن الله إنما ذم الشعراء في كتابه، إذ علم أنه سيخرج في الأرض إبان القرن العشرين إله الشعر، وأن هذه الألوهية الشعرية ستقع من نصيبه فذم الشعراء جميعاً غيرة منه مقدماً وخشية من أن يتبع الناس إبليس الشعر فيسكنوا في أبياته وينسوا مقاصير الجنة.
ولشعره أوزان غير أوزان الشعر المعروفة للناس، ولعله رأى أن كل نبي يخرج للناس ينسخ السنن والشرائع التي جاءت قبله، وعلم أن نبوة الشعر قد نزلت عليه فاضطر إلى أن يحاول إظهار شيء من المعجزات، حتى يدينوا له ويؤمنوا به، فأوحى إلى صحابته والحواريين من أنصاره أن ينشروا الدعوة بين الناس، ويدعوهم إلى الأوزان الجديدة، فأخذ كل منهم وزناً منها وطاف بها على الشعراء يعرضها عليهم ويدعوهم إليها، ولكنهم ضحكوا منه ساخرين، لأنهم علموا أن الوزنة من هذه الأوزان لا تساوي (وزنة) من الجميز وأنها لا توازي لذلك فتيلاً!
ومن أكبر المذاهب التي يؤمن صاحبنا بصلاحها ويرجو أن يسارع العالم إلى تحقيقها، مبدأ الاشتراكية ولكنه لما رأى أن المجتمع الإنساني قد تأخر عن تنفيذها مع أنها مبدأ مستعجل يجب البت فيه، اضطر هو إلى تنفيذه على الأغنياء الذين يتصل بهم أو الذين يستطيع أن يصل إليهم من غيرهم، وبهذا أصبح له الفضل بأنه الاشتراكي (العملي) الأول في الحياة الإنسانية كلها، وهو في صميم فؤاده ولا شك يشكر (كارل ماركس) مؤسس الاشتراكية أن اهتدى إلى هذه الفكرة (الذهبية) لأنها وفرت عليه متاعب سؤال الناس رأساً بدون واسطة العلم والكتب. . . .
هذا هو الرجل، وتلك صورته، ولكن أعجب منها ولا ريب صورة كاتم أسراره، وصديقه الذي لا يفارقه، وأنا أترك القراء الآن لكي أوافيهم بها في العدد القادم، فإلى الملتقى.
عباس حافظ