مجلة البيان للبرقوقي/العدد 36/ماجدولين الجديدة
→ كتاب تربية الإرادة | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 36 ماجدولين الجديدة [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 20 - 5 - 1917 |
الجزء الثاني
في إنجلترة
الفصل السادس
وصيفة اللادي جانيت
الفصل شتاء، والسماء مصحية، والجو مشرق جميل ونحن ندخل بالقارئ دار مابلثورب بلندن، فنجاوز الحديقة إلى حجرة الطعام، وليس في عشاق الفنون، والمفتونين بالجمال من أهل لندن من لم يسمع بالنقوش الجميلة التي ازدانت بها حجرات ذلك المغنى، ولهذه الحجرة مدخل حافل بالأزهار، ومستغرب النبات، وعلى يمينك باب يؤدي إلى حجرة الكتب، قاعة كبيرة تتصل بحجرات البيت، وعلى يسارك، قاعة البليارد تتجاوزها إلى قاعة التدخين.
هذا والساعة قد دقت اثنتين، وقد بسطت المائدة لطعام الغداء. وكان الجلوس ثلاثة، وفي الصدر جلست اللادي جانيت روي، وبجانبها وصيفتها ومقرئتها، وأما الثالث فضيف نزل بالدار، لا يزال قراء هذه الرواية يذكرون اسمه - وهو هوراس لمكروفت - الملتحق بالجيش الألماني مكاتباً حربياً لإحدى صحف لندن.
واللادي جانيت روي، لا تحتاج إلى التعريف، فهي نجم متألق في المجتمعات الإنكليزية.
من الذي لم يسمع بيواقيتها وحرائرها، ومن ذا الذي لم يفتن باعتدال قوامها وشعرها الأشيب الوقور الجميل وعينيها السوداوين اللتين لا تزالان تحتفظان بلمعة الشباب، ورنوة الصبا، ومن الذي لم يطرب لسماع حديثها الفياض الندي، ومحاضرتها الرطبة الشهية. . .، من هذا العابد المتمسك الذي لم ينته إليه طرف من غرابة آرائها وشذوذ أفكارها، كل إنسان قد سمع بالسيدة العجوز، أرملة لورد طال العهد بموته، كل إنسان يعرف اللادي جانيت روي.
ولكن من الذي يعرف المرأة الشابة الحسناء الجالسة عن يمينها. تلعب بالطعام ولا تأكله. لا إنسان يعرفها ولا ريب.
إنك لتراها الآن في لباس رمادي جميل، تكاد تداني اللادي روي في طول قامتها، تحمل ف وجهها مفاتن من الحسن قلما توجد في مشذبات القوام. ممشوقات القدود. وإنك لتحس إذ تنظر إليها أنها ليست إلا سيدة نبيلة تشارك اللادي روي في الشرف وجلال الأصل. ولكن. واآسفاه. ليست هي بعد إلا القارئة والوصيفة،. . . . وهي تقابل حديث سيدتها بإطراقة من رأسها اللطيف. ولكن ما بالها حزينة صامتة الحزن، ألا يزال ضميرها يعذبها؟؟
لم تلبث أن نهضت فجأة وهي تقول بحزن، هل تأذنين لي يا مولاتي أن أذهب إلى قاعة الزهر؟. . فأجابت اللادي جانيت. بلا ريب يا عزيزتي.
فحنت رأسها لسيدتها ونظرت إلى هوراس نظرة رحمة وإشفاق ثم تولت ذاهبة، وعينا هوراس تتبعانها.
فلما اختفت، ظل صامتاً لا يأكل، والشوكة في يده يلعب بها، قالت اللادي - ألا تأخذ شيئاً من الفطائر؟
فأجاب هوراس. كلا. وأشكرك.
فعادت اللادي تقول. ألا تتناول شيئاً آخر.
فأجاب هوراس. إذن فآخذ قدحاً آخر من النبيذ إذا كنت تسمحين.
وإذ ذاك ملئ القدح وجرعه مرة واحدة في سكوت واللادي جانيت تلاحظه. قالت اللادي. يلوح لي أن جو داري لا يوافقك يا صديقي الشاب فإنك منذ نزلت ضيفاً عليا لا تفتأ تلح على الكاس، وتملأ الأقداح إثر الأقداح، وتشعل اللفافة بعد اللفافة، إن هذه الأعراض غير محمودة في الفتيان. لقد جئت بيتي يوم وصولك مريضاً من أثر جرح أصابك في ميدان الحرب، ولو كنت أنا في مكانك ما عرضت نفسي للرصاص، ولا غرض هناك إلا وصف موقعة في الصحف، ولكني أظن الأذواق تختلف، أراك مريضاً، ألا يزال جرحك يؤلمك.
فأجاب هوراس. كلا.
فعادت تسأله. وهل أنت ضيق الصدر.
وعند ذلك وضع هوراس الشوكة في يده واعتمد بذراعه على المائدة ثم أجاب. أشد الضيق!
فتملك اللادي جانيت الغضب وقالت، إن مائدتي يا سيدتي ليست من موائد الأندية والأسمار وأنا لا أسمح إنسان أن يكون ضيق الصدر في بيتي. إني أعد ذلك إهانة موجهة لشخصي، فإذا كانت حياتنا الهادئة لا تلائمك فقل ذلك وانظر موطناً آخر تتحمل إليه، وعلى ذكر ذلك، هل وجدت لك عملاً جديداً تزاوله.
فأجاب هوراس بهدوء، أجل، إن الحرب لا تزال قائمة وقد طلب إلي أن أكون مكاتباً حربياً لصحيفة أخرى.
قالت اللادي بغضب شديد لا تتكلم عن الصحف والحرب يا سيدي، إني أمقت الصحف، ولا أسمح لها بدخول بيتي، بل إني ألقي تبعة هذه الحرب الموحشة وهذه الدماء المسفوحة، عليها وحدها.
فتملكت هوراس الدهشة وقال، ماذا تعنين، هل الصحف هي المسؤولة عن الحرب؟
فأجابت اللادي بهدوء، كل المسئولية. إنك لا تفهم العصر الذي نعيش فيه، هل ترى أحداً منا يعمل شيئاً اليوم إلا ودلو رآه مكتوباً في الصحف، أنا أكتتب لجمعية من الجمعيات، وأنت تحرز شهادة من الشهادات، وهو يخطب خطبة عصماء، وهي تؤلف ندوة من الندوات، وهم يذهبون إلى الكنيسة، وأنا وأنت ونحن وهو وهي وهم نريد شيئاً واحداً، نريد أن نرى ذلك منشوراً في الصحف، فهل تظن الملوك والساسة والقواد والشعراء شواذ عن بقية الناس، كلا، إني أقول لك لو كانت صحف الغرب أجمعت على أن لا تحتفل بالكتابة عن الحرب بين فرنسا وألمانيا، إذاً لكانت الحرب قد انتهت منذ زمن بعيد، دع القلم يكف عن تذكية السيف، وأنا أقول لك لا حرب يومذاك ولا قتال!
قال هوراس بتهكم إن أراءك عليها طلاوة الجديد يا سيدتي، فهل تمانعين في رؤيتها منشورة في الصحف؟
فهاجمته اللادي بأسلحته. إذ قالت، ألست أعيش في القرن التاسع عشر أجل بل! اكتبها يا سيدي، واكتبها بالقلم العريض.
فعمد هوراس إلى تغيير الموضوع فقال، أنت تلومينني على أنني ضيق الصدر وتظنين أن ذلك لأنني سأمت هذه العيشة البهيجة في دار ما بلثورب، ولكن كلا يا سيدتي اللادي فإنني لم أمل العيشة ولم أسأم - وهنا التفتت صوب قاعة الزهر ثم عاد فاسترسل في حديثه - وإنما الحق أقول إنني غير مسرور من جريس روزبري.
قالت اللادي وماذا صنعت جريس؟ قال هوراس إنها تصر على تأجيل الزواج، وتأبى كل الإباء أن تحدد يوم عقد القران.
فسألته اللادي، وهل تعرف لذلك سبباً.
فأجاب هوراس، أخشى أن يكون هناك باعث لها على هذا التأجيل، باعث لا تستطيع أن تبوح به لكي أو لي.
قالت اللادي باستغراب، وماذا يجعلك تظن هذا الظن؟
فأجاب هوراس، لقد باغتها مرة أو مرتين وهي تبكي، ثم لا أفتأ أراها ترتجف حيناً، وحيناً تقطب، وتارةً تبدو مبتهجة، وأخرى حزينة مضطربة، فما معنى كل هذه الحركات.
فلم يكن من اللادي إلا أن ابتسمت قائلة، إن المعنى واضح أيها الأبله كل الوضوح، إن جريس منحرفة المزاج في هذه الأيام وقت وصف الطبيب لها السفر وترويح النفس، وسأسافر بها إلى مصطاف جميل.
فقال هوراس بل الأوفق أن أسافر أنا بها ولعلها ستوافق بتأثيرك ونفوذك، فهل ترينني أسألك أمراً كبيراً إذا أنا توسلت إليك أن تعملي على حضها وإغرائها، لقد كتبت والدتي وشقيقتاي إليها فلم يفلحن، فاصنعي لي أكبر جميل كلميها اليوم!
وإذ ذاك أخذ يد اللادي جانيت فطبع عليها قبله حارة وعاد يقول لقد كنت أبداً حنوناً علي عاطفة حادية.
وإذ ذاك أدركت اللادي جانيت الرحمة له فأجابت بلطف إذن فهل أكلم جريس حقاً.
ورأى هوراس أنه قد تحقق رجاؤه فنهض وألقى ببصره ناحية حجرة الزهر ووجهه مشرق بالفرح وأما اللادي جانيت - ولا تزال ذكرى والده الحلوة في ذهنها - فاختلست النظر إليه. ثم تنهدت من ذكرى أيام الشباب الضائعة ولكنها لم تن أن تمالكت نفسها.
قالت وهي تدفعه صوب الباب، اذهب إلى قاعة التدخين، اذهب وخذ في سيئة القرن التاسع عشر، فحاول هوراس أن يشكرها ولكنها دفعته ثانية وهي تقول اذهب ودخن. اذهب ودخن.
فلما بقيت اللادي جانيت وحدها دارت دورة في القاعة ثم فكرت قليلاً.
لم يكن غضب هوراس غير معقول إذ ليس هناك عذر لهذا التأجيل الذي يشكوه، وسواء أكان للفتات باعث أم لم يكن فلا بد من تلمس ما يجول بخاطرها، ولكن كيف تهجم اللادي جانيت على الموضوع دون أن تغضب فتاتها وإذ ذاك جعلت العجوز تقول يا لله من بنات هذا العصر إني لا أستطيع فهمهن، لقد كنا في زمننا إذا أحببنا رجلاً اندفعنا إلى الزواج به في أقرب فرصة، ولكن هذا العصر عصر التقدم والرقي. فواهاً لنسائه ثم واهاً.
وأجمعت على مفاتحتها بالموضوع وتركت الكلام للظروف ثم دنت من باب حجرة الزهر فنادت جريس. . . .!
وفي الحال جاءت الفتات الهيفاء تخطر نحوها فوقفت عن كثب ثم قالت هل ناديتني يا مولاتي.
فأجابت السيدة نعم فإني أريد أن أكلمك، تعالي واجلسي بجانبي.
وانثنت اللادي جانيت إلى منضدة في القاعة فجلست عندها وإلى جانبها وصيفتها.
الفصل السابع
جوليان جراي
وافتتحت اللادي جانيت الكلام فقالت أنت تلوحين هذا الصباح شاحبة يا ابنتي.
فتنهدت مرسى تنهدة راجعة وأجابت إني مريضة. وأقل ضوضاء تزعجني.
فوضعت اللادي جانيت يدها فوق كتفها بلطف وإشفاق وقالت إذن فلنجرب السفر يا عزيزتي وترويح النفس. فأي ناحية تشائين يا فتاتي. هل القارة تريدين أم ساحل البحر؟
فقالت مرسى. أنت تعطفين علي كثيراً يا مولاتي فأجابت هذه ومن ذا الذي يستطيع أن لا يعطف عليك يا عزيزتي.
فتوردت وجنتاها الذابلتان وقالت وهي ترتجف أواه يا مولاتي أعيدي علي كلمتك.
فنظرت إليها اللادي جانيت متعجبة واسترسلت مرسى تقول في رنة صوت محزن أجش نعم يا مولاتي لا تظنيني جاحدة. هل يطيب لك حقاً أن أكون في بيتك. هل أحسنت سلوكاً منذ نزلت دارك يا مولاتي.
فتأثرت اللادي جانيت من هذه الكلمات ولكنها ظنت أن فتاتها تتلطف لها فقالت وهي تبتسم أنت تتكلمين يا عزيزتي كما تتكلم الأطفال الصغار ثم ألقت يدها فوق ذراع مرسى برفق واسترسلت بلهجة أكثر جداً، بل إني أحمد اليوم الذي جئت إلي فيه يا جريس. ولا أظن أنني أكون أكثر حباً لك لو كنت ابنتي.
فمالت مرسى برأسها كأنما لتخفي وجهها وشعرت اللادي جانيت أن ذراع الفتات ترتجف تحت راحتها فقالت ماذا بك يا عزيزتي. فأجابت مرسى في صوت متقطع خافت. لا شيء يا مولاتي إلا أنني شاكرة لك جميلك.
وكان وجهها لا يزال منزوياً عنها.
فقالت اللادي جانيت في نفسها عجباً ماذا قلت لها حتى أخذت في هذا القول هل هي اليوم متفتحة القلب. إذا كان ذلك فلأكلمها عن هوراس. . . .
وانطلقت تدنو بها من الموضوع فقالت ما أطيب الحياة اليوم وما أنضر العيش. لقد عشنا على محض المودة والهناء ولكن ماذا أصنع يا عزيزتي جريس إذا جاء اليوم الذي أضطر فيه إلى أن أفترق عن ابنتي.
فارتجفت مرسى ثانية وفاضت عيناها بالدموع وقالت في لهجة الخوف ولماذا أتركك يا مولاتي.
فأجابت اللادي جانيت أنت ولا ريب تحذرين
فقالت مرسى منذعرة. كلا. إني لا أستطيع أن أفهم. أنبئيني يا مولاتي لماذا،. . . - فأجابتها إذن فسلي هوراس ينبئك.
ولم تفهم مرسى من هذه الكلمات ما كانت تقصد اللادي جانيت، بل انطلق ذهنها إلى حادثة الكوخ، فتراخت ذراعاها ومال رأسها، فرمقتها اللادي جانيت بنظرة عجب وانذهال قالت وهل حدث بينك وبين هوراس منافرة؟
قالت كلا.
قالت ولكنك تعرفين قلبك يا طفلتي - أنت ولا ريب لم تشجعي هوراس على الحب دون أن تشعري له بشيء منه؟
قالت وهي ترتعد. كلا. كلا.
فقالت اللادي جانيت. . ولكن. . . .
وللمرة الأولى اجترأت مرسى على أن تقاطع سيدتها فقالت في رفق يا سيدتي اللادي جانيت إني لست في عجلة من أمر الزواج وإن في المستقبل متسعاً للكلام فيه. إن لديك حديثاً كنت تريدين أن تطارحيني إياه. فما هو. .
فلم تجد اللادي جانيت غير الصمت. . جعلت تقول لنفسها عجباً لبنات هذا العصر. أي تركيب ركبن. وأي قلوب يحملن.
ولبثت مرسى تنتظر حديث سيدتها وساد السكون بينهما وكاد يكون سكوتاً مزعجاً لو لم ينفتح الباب المؤدي إلى المكتبة وإذ ذاك ظهر أحد الخدم يحمل صينية من الفضة فدخل القاعة فازداد غضب اللادي جانيت فمضت تصب على الخادم جام سخطها فقالت بحدة ماذا تريد وهل دققت لك الجرس حتى تأتي.
قال الخادم جاء خطاب يا مولاتي. والرسول ينتظر الجواب ثم قدم الصينية إلى سيدته وفوقها الخطاب وعاد أدراجه. فعرفت اللادي جانيت خط العنوان بنظرة استغراب ودهشة فالتفتت إلى وصيفتها وقالت قبل أن تفض غلاف الكتاب اسمحي لي يا عزيزتي فانحنت مرسى لها انحناءة الاحترام وابتعدت إلى الناحية الأخرى من القاعة.
فأرسلت اللادي منظاريها إلى عينيها وجعلت تسائل نفسها وهي تضع الغلاف المفضوض فوق المائدة عجيب أن يعود بهذه السرعة.
وكان الخطاب يحتوي هذه السطور:
يا خالتي العزيزة
قد عدت ثانيةً إلى لندن على غير موعد لأن صديقي القسيس قد قصر من أمد إجازته وواصل عمله في الريف. إني مشفق أن تعذليني إذا اعترفت لك بالأسباب التي حملت صديقي القسيس على المبادرة إلى العودة. ثم إن لي غرضاً شخصياً من مقابلتك قريباً. فهل تسمحين بأن أتبع خطابي هذا إلى دار مابلثورب. ثم هل تسمحين لي بأن أقدم إليك سيدة أنت لا تعرفينها - وأنا بها شديد الإهتمام. أنشدك الله إلا ما قلت نعم لحامل هذه الرسالة فتصنعي بذلك جميلاً حلواً لابن أختك البار.
جوليان جراي
فلما انتهت من تلاوة الرسالة لم تتمالك أن كررت العبارة التي تشير إلى سيدة.
وكان جوليان جراي ابن أخت لها فقدتها منذ أمد بعيد، ولو لم يكن جوليان قريب الشبه بوالدته، لما كان بلغ ماكن الحب والعطف من قلب خالته، لأنها كانت تكره منه آراءه في الدين ومنازعاته في السياسة. وكانت هناك مزية أخرى لجوليان كانت تحتج له عند خالته وتعطف عليه فؤادها وهي الفخر الذي كانت تحسه اللادي جانيت للذكر المتطاول الذي أحرزه ابن أختها الشاب في عالم الكتابة والوعظ الديني، وكان جوليان بعد ذلك لطيف الدعابة فياض الحديث حلو الأماليح حتى لقد كان ذلك ينسيها إذا لقيته كرهها مبادئه.
لذلك لا عجب إذا كانت اللادي جانيت قد اندهشت وبدا عليها الإهتمام من أمر السيدة الغريبة التي ذكرها ابن أختها في كتابه. إذن فهل أجمع على تغيير حياته. وهل تخير له عروساً. وإذا كان ذلك فهل يكون اختياره يلائم مكانة الأسرة.
فلما خطر هذا السؤال الأخير بذهنها ظهر على وجهها المشرق إمارات الشك إذ ذكرت أن آراء جوليان الحرة المتطرفة قد تؤدي به إلى الغلو والخروج عن حدود الأسرة وآدابها ونهضت اللادي جانيت عن المنضدة وهي تهز رأسها عن ريب وتشاؤم وتقدمت إلى باب المكتبة ولكنها لم تكد تخطو خطوتين حتى عادت إلى وصيفتها وقالت إنني ذاهبة لأكتب كلمة إلى ابن أختي وسأعود قريباً يا عزيزتي فدنت مرسى منها متعجبة وهي تقول ابن أختك إن مولاتي لم تذكر يوماً أن لها ابن أخت.
وهنا ضحكت اللادي جانيت وقالت: ولكن لا ريب في اسمه كثيراً على لساني وكنت ولا شك كثيراً ما أردت أن أنبئك به. ولكن كانت تنسينيه شجون الأحاديث التي كنا نأخذ فيها. ثم الحق أقول أن ابن أختي ليس من الموضوعات التي أحبها. لا أريد بذلك أني أكرهه. كلا. يا طفلتي وإنما أمقت مبادئه فقط ومع ذلك سترين فيه رأيك بنفسك فهو قادم اليوم لزيارتنا. . . انتظري هنا ريثما أعود فإن عندي ما أقوله لك عن هوراس.
ففتحت لها مرسى باب المكتبة ثم أغلقته وراءها وعادت تخطر في الغرفة ذهاباً وجيئةً وهي تفكر.
هل كانت في ابن أخت اللادي جانيت. كلا. إن مولاتها لم تذكر اسمه. إنها لا تزال على جهلها بأن ذلك الواعظ الذي وعظهن في الملجأ وابن أخت المرأة المحسنة إليها هما رجل واحد. وإنما كانت تفكر في الكلمات التي طلعت بها عليها مولاتها في أول الحديث إني أحمد اليوم الذي جئتني فيه يا جريس كانت هذه الكلمات بلسماً لفؤادها الجريح. إن جريس الحقيقية ما كانت لتحرز أكثر من هذا المديح الحلو المغسول لو أنها جاءت، ولكنها لم تلبث أن تولاها رعب مخيف لذكرى خدعتها التي نجحت. ولم تشعر من قبل بما شعرت به في تلك اللحظة من الإحتقار والضعة والتأنيب، يالله لو أنها استطاعت أن تفوح بالحقيقة. . . وآطرباه لو أنها استطاعت أن تعيش على حقيقتها في دار مابلثورب. ما كان يومذاك أسعدها. وأبهج حياتها. . هل يحتج لها إخلاصها إذا هي اعترفت. هل ترى حسن سلوكها يتشفع لها إذا هي باحت. كلا. واحزناه. إنها لم تنل مكانها من عطف مولاتها وحبها إلا بخدعة. إذن فلا شفاعة للخدعة ولا معاذير.
وهنا أخرجت منديلها فكفكفت به عبرتين انحدرتا على وجنتيها وحاولت أن تعود بذهنها إلى ناحية أخرى.
ماذا قالت اللادي جانيت عندما خرجت إلى المكتبة قالت أنها ستعود لتكلمها عن هوراس، ويلاه. كيف تستطيع أن تواجه هذه النكبة الأخرى، بحق السموات كيف تخرج منها. أتدع الرجل الذي أحبها يندفع معصوب العين إلى الزواج بامرأة مثلها. كلا. إن الواجب يقضي عليها أن تنبئه ولكن كيف؟ أتجرح فؤاده وتمر عليه عيشه وترسل الأسى في ثنايا روحه إذا هي قالت له عن حقيقتها، وإذ ذاك صاحت باكية. كلا. لا أستطيع أن أنبئه. لا أستطيع.
ومضت فجلست فوق المنضدة ودفنت وجهها في راحتيها وقد تولاها اليأس ثم ختمت نزاع ضميرها كما ختمته من قبل فقالت. ضلة لي. ليتني مت قبل أن تطأ قدمي وصيد هذه الدار. وليتني أموت الآن فيموت معي كل شيء،
وفتح الباب المؤدي إلى قاعة البليارد برفق. وكان هوراس منتظراً هناك ليسمع ما يكون من شفاعة اللادي جانيت ولكن أضناه الإنتظار فلم يستطع أن يمكث أكثر مما مكث.
فأطل من الباب بكل لطف وهدوء. متهيئاً للرجوع إذا وجدهما لا يزالان يتحدثان ودله انصراف اللادي جانيت على أن الحديث قد انتهى. إذن فلماذا لبثت خطيبته وحدها؟ أتنتظره أتكلمه عند عودته؟
فتقدم بضع خطوات. وكانت هي في مكانها لم تتحرك. تائهة اللب شاردة الخاطر. ممعنة في تفكيرها. أتراها تفكر فيه، فتقدم خطوة أخرى ثم ناداها جريس!
فاستوت واقفة وقد خرجت من بين شفتيها صحية خافتة وقالت مغضبة وهي تسقط ثانيةً في مقعدها إني أود أن لا تزعجني. إن أقل إزعاجة تقتلني.
فاعتذر هوراس متذللاً ذلة المحب المتدله ولكن اعتذاره لم يستطع أن يسكن ثائر غضبها، فأشاحت عنه بوجهها في سكوت وصمت. فجلس بجانبها وسألها بكل رقة ولطف عما إذا كانت رأت اللادي جانيت
فأطرقت برأسها إطراقة الإيجاب دون أن تنبس ببنت شفة. وكان هوراس فتى في حرارة الشبيبة فلم يطق احتمال الإنتظار ولذلك عاد يسألها دون أن يدرك شيئاً من اضطرابها وهل ذكرت اللادي جانيت اسمي أمامك؟
فالتفتت إليه بغضب فقالت بحدة قبل أن يزيد على ما قاله كلمة واحدة لقد حاولت أن تجعلها تحثني على الزواج بك. إني أرى ذلك في وجهك.
ولو كان هوراس رجلاً دقيق البصر لأدرك أن الوقت لا يلائم التحدث إلى خ
خطيبته، لكنه لم يدرك ذلك فاستطرد يقول بلطف لا تغضبي وهل يعد ذنباً دون المغفرة إذا أنا وسطت اللادي جانيت؟ لقد حاولت أنا أن حضك فلم أفلح ثم حاولت والدتي وشقيقتاي أن يقنعنك فما أعطيتهن إلا أذناً غير واعية. . . .
وإلى هنا لم تستطع أن تحتمل فضربت برجلها الأرض ضربة هستيرية وصاحت قائلة بحدة وخشونة لقد سئمت من طول ذكرك والدتك وشقيقتيك وما فتئت تتكلم عن شيء روح غيرته ذكرتهن.
فأغضب ذلك هوراس فنهض عن المتكأ وكانت والدته وشقيقتاه في أكبر منزلة في قلبه بل لقد كن لديه المثل الأعلى لنساء الأرض جميعاً ومشى مبتعداً فوقف في الناحية المقابلة من القاعة وراح يرسل إلى حبيبته أكبر تأنيب استطاعه في ذلك الموطن.
قال: لكان يحسن بك يا جريس لو أنت استطعت أن تقتدي بوالدتي وشقيقتي فإنهن لم يعتدن أن يخاطبن من يحببن بخشونة وقسوة.
ولكن هذا التأنيب لم يحدث في الفتاة المنزعجة شيئاً من التأثير أو الإهتمام وظلت كأنما لم تبلغ كلماته مسمعيها. كان يثور فيها الآن روح محزونة تترد وتغضب كلما عمد هوراس إلى تمجيد نسوة عشيرته. جعلت تناجي نفسها فتقول يغضبني أن أسمع بفضائل النساء اللاتي لم يسقطن. أي فضيلة للعيش في ظل الشرف إذا كانت الحياة تبتسم لهن وتحبوهن بسلسلة متلاحقة غير منقطعة من المناعم والمباهج ومطارف الدنيا ومتاعها؟ هل عرؤفت أمه مرارة المسغية والجوع؟ وهل تركت شقيقتاه منبوذتين في الشوارع طريدتين؟ وأقسى قلبها أنه عد نسوة أسرته قوالب لها تحتذيها ألم يفهم بعد أن النساء يكرهن أن ينصح لهن بأن يقتدين بنسوة غيرهن.
وهنا نظرت إليه عن جزع ودهشة. وشعرت الآن أنه لو حاول أن يجالسها لما استطاعت إلا أن ترده عن مداناتها، بل لو حاول أن يكلمها إذن للقيته بجواب فظ حاد. وكان جالساً إلى مائدة الطعام وظهره إلى ناحيتها وقد اعتمد رأسه بيديه.
جلس صامتاً يتكلم وساد بينهما سكون، والسكون أكبر سلاح يهزم المرأة. إن المرأة تستطيع أن تحتمل ممن تحب القول الغليظ والكلمة المتجافية، واللغة النافرة لأنها تستطيع أن ترد عليها بمثلها وأما سكون من تحب فاحتجاج لا طاقة لها باحتماله.
فبعد تردد قليل نهضت مرسى عن المتكأ فتقدمت متذللة طائعة نحو المائدة.
لقد أهانته. وهي وحدها الأثيمة.
الله للمسكين كيف يستطيع أن يعلم باضطرابها عندما كان يضايقها بأسئلته عن براءة وحسن نية.
ودنت منه خطوة فخطوة وظل هو لا يتحرك ولا يلتفت وجاءت فوضعت يدها بجبن فوق كتفه وهمست في أذنه: هوراس أصفح عني إني مريضة اليوم. إني متعبة لم أكن أقصد شيئاً بما قلت: رحمتك يا هوراس ومغفرتك.
فلم يستطع هوراس أن يغالب هذا الحنان الذي فاض في صوتها وكلماتها فرفع رأسه وأخذ يدها في يده وانحنت هي فلمست جبينه بشفتيها وقالت هل صفحت عني؟ فأجاب آه يا عزيزتي لو تعلمين كم أنا أحبك.
فأجابت في رفق وهي تلوي قطعة من شعره حول إصبعها إني أعلم ذلك.
وانطلقت روحاهما في عالم الحب وظلا تائهي الخاطر، ولو أنهما انتبها إذ ذاك لسمعا صوت باب المكتبة وهو يفتح.
وكانت اللادي جانيت قد فرغت من الكتابة إلى ابن أختها فعادت لتبر بوعدها لهوراس فتشفع له عند حبيبته. فلما فتحت الباب بكل هدوء إذ بها ترى العاشق الصب يتشفع لنفسه بنفسه فقالت لنفسها لا حاجة إذن إلي ثم أقفلت الباب ثانيةً بخفة وسكون وتركت المحبين في خلوتهما.
وعاد هوراس إلى إلحاحه ففتح موضوع التأجيل فلم يكد يتكلم حتى تراجعت الفتاة منصرفة بحزن هذه المرة لا عن غضب.
قالت لا تلح علي اليوم. إني مريضة.
فنهض ونظر إليها نظرة شغف وصبابة وقال إذن فهل نتكلم غداً؟
فرجعت إلى مجلسها عند المتكأ ثم قالت: نعم غداً. وعمدت إلى تغيير شعاب الحديث وقالت: أي شيء آخر اللادي جانيت. لقد طال غيابها. فحاول هوراس أن يظهر اهتمامه بسؤالها عن غياب اللادي جانيت فقال وقد أخذ له مكاناً وراء المتكأ وهو يحنو عليها.
وما الذي جعلها تتركك؟
فأجابت أنها ذهبت إلى حجرة المكتبة لتكتب كلمة إلى ابن أختها. وعلى ذكر ذلك من هو ابن أختها؟
فأخذت هوراس الدهشة فقال. ماذا؟ ألا تعرفينه. فأجابت - كلا. ومن يكون.
قال هوراس. ولكنك سمعت ولا ريب أن ابن أخت اللادي جانيت ذائع الصيت.
وهنا تمهل قليلاً ثم انحنى فرفع خصلة من شعرها وأدناها إلى شفتيه واستطرد يقول في رفق إن ابن أخت اللادي جانيت هو جوليان جراي!!.
فنظرت إليه عن رعب شديد كأنها لم تصدق أذنها فتملك هوراس العجب وقال. ما هذا الإنزعاج يا عزيزتي. فأشارت إليه بالصمت وراحت تكرر لنفسها في خفوت جوليان جراي هو ابن اللادي جانيت وأنا لا أعرف ذلك إلى الآن.
فسألها هوراس وقد ازدادت حيرته وماذا يزعجك يا عزيزتي من معرفته.
فاستجمعت قواها بجهد شديد، وتضاحكت ضحكة خشنة قلقة جوفاء، وأسكنته بأن وضعت راحتها فوق فمه، وانطلقت تقول بمجون أي حماقة منك وأي جنون، كأن المستر جوليان جراي دخلا في نظراتي. أنظر ها أنا قد تعافيت. وهنا نظرت إليه ثانية في ابتهاج مضطرب وعادت إلى الحديث قائلة أجل. إني ولا ريب قد سمعت عن الرجل. ولكن هل تعلم أنه قادم اليوم.
إني لا أستطيع أن أكلمك وأنت في موقفك هذا. تعال واجلس.
فأطاع - ولكنه لا يزال غير مقتنع بما قالت، ولم تفارق وجهه بعد إمارات القلق والدهشة، وأصرت هي في نفسها أن ترقد في خاطره كل ريبة أو تهمة، فقالت وهي تضع ذراعها في ذراعه والآن أنبئيني بأمر هذا الرجل الذائع الصيت، كيف هو؟.
فأحدثت هذه الملاطفة تأثيرها في هوراس، فأشرقت صفحة وجهه وزالت الدهشة من معارفه وأجابها بخفة وابتهاج إذن فاستعدي لرؤية رجل هو أغرب أهل السكينة أجمعين. إن جوليان جراي لهو النعجة البيضاء في القطيع الأسود. هو الرجل العجيب الذي لا يدانيه في الغرابة رجل يخطب في كل مكان. حتى البيع والصوامع والمحاريب، بين المؤمنين وغير المؤمنين، بين الكفرة والملاحدة والمارقين، لا يعترف للسكينة ولا لأهلها بسلطان، بل يهزأ بهم جميعاً يمشي في منافس الأرض يفعل الخير على أسلوبه هو وهواه. لا يريد أن يرقى مدارج صناعته، حسبه - كما يقول - أن يكون كردينال المنكوبين. وأسقف الجائعين، وقسيس المساكين، وهو على غرابته حلو المحضر. رقيق القلب فياض الحديث، وهو بين النساء معروف مشهور، وهن يذهبن إليه طلباً للنصيحة والهداية، فلو أنك تذهبين!.
فتغير لونها وسألته بحدة، وماذا تعني بهذا؟
قال وهو يبتسم لقد اشتهر جوليان جراي بقوة إقناعه ونصحه، فلو كلمك يا عزيزتي جريس لاستطاع أن يحملك على تحديد اليوم الذي نريد. فماذا تقولين إذا أنا التمست إلى جوليان جراي أن يشفع لي لديك؟.
كان يقول ذلك عن مزاح، ولكن مرسى ظنته يجد في قوله. فقالت في نفسها خائفة، لعله يقدم على ما يقول إذا أنا لم أمنعه، وليس لمنعه من سبيل إلا أن أحقق الرجاء الذي كان يلح في طلبه قبل أن يدخل صديقه الدار.
وإذ ذاك ألقت يدها على كتفه، وحاولت أن تخفي القلق الذي يضطرم في فؤادها وراء ضروب الخلاعة واللين.
قالت بدلال لا تتكلم هكذا. ماذا كنا نقول قبل الآن. . . قبل أن نتكلم عن مستر جوليان جراي.
فأجاب هوراس، كنا نتساءل عن غياب اللادي جانيت. . . فضربته على كتفه بيدها في رفق وتيه وقالت كلا، كلا. هناك شيء قبل ذلك. . .
ورنت إليه رنوة دل وخلاعة. وفي الحال أدرك مرادها فطوق خصرها بذراعه.
قال وهو يهمس بالألفاظ همساً كنت أقول إنني أحبك؟!!
قالت: وهل ذلك فقط. . . .؟
قال: وهل سئمت من ذلك؟
فابتسمت ابتسامة حلوة فاتنة، وقالت وهل كنت حقاً تتكلم بجد عن. . . . عن. . . . وهنا تمهلت وأمسكت عن إتمام كلامها وأبعدت عينيها عنه.
قال. أعن زواجنا؟ قالت نعم.
فأجاب. بل إنه أكبر أماني في الحياة وعلالاتي.
قالت أحقاً تقول. قال. حقاً قلت؟
وكان سكوت
وظلت مرسى تلعب بإصبعها وهي مضطربة الذهن في سلسلة ساعتها وعادت تقول في رفق. وهي تنظر إلى سلسلة الساعة دون أن ترفع طرفها إليه - ومتى تريد أن يكون؟. .
فأدهش هوراس الآن حديثها ونظراتها. لأنها لم تنظر إليه بهذا العطف والدل من قبل. ولا حدثته يوماً بهذا الحديث الندي الرطب. فلم يستطع أن يصدق ما قالت.
قال. أواه يا عزيزتي. أتهزأين بي؟
قالت. ومن الذي يدعوك إلى أن تظن هذا الظن؟
قال بكل صراحة وطهارة ضمير. إنك لم تكوني تسمحين لي بأن أتكلم عن زواجنا أبداً. . . .
قالت. لنترك أمر ما كان. إن الناس يقولون أن النساء قلوبهن هواء. إن القلب إحدى نقائص الجنس النسائي. .
قال هوراس بلهجة حارة مخلصة. ما أطيب هذه النقيصة وما أحلى! فهل تتركين لي حقاً تحديد يوم الزواج؟
أجابت. إذا كنت تصر على ذلك
ففكر هوراس هنيهة ثم قال إذن فليعقد زواجنا بعد أسبوعين! رفعت يدها محتجة.
قال. ولم لا إن المحامي على أتم الأهبة. وليس هناك ما نعده لذلك اليوم. وقد قلت يوم قبلت خطبتي أن الزواج سيكون زواجاً عادياً. لاحفل في ولا عرس.
فأطرقت رأسها مجيبة
وعاد هو يقول. إذن فليكن بعد أسبوعين، ألا قولي نعم،، وضمها إليه.
وأما هي فظلت صامتة وقد سقط عنها قناع الذل الذي تقنعت به لتخفي حزنها واضطرابها واستقرت عيناها عليه في نظرة رحمة وحنين وإشفاق. ومضى هو يقول. لا تنظري إلي هكذا. لفظة واحدة يا جريس لا غيرها. . . . هي لفظة. . . نعم!!. .
فتنهدت ثم قالتها.
وعند ذلك قبلها قبلة حارة وتشبث بنحرها، فتململت وتخلصت منه بجهد شديد وقالت بخفوت. اتركني. إني أتوسل إليك أن تتركني لنفسي.
وكانت ترتجف.
فنهض هوراس ليتركها قائلاً سأجد اللادي جانيت روي، أني أريد أن أظهر للسيدة أني قد استرددت انشراحي الآن وبهجتي. وأقول لها السبب!. .
وعطف يريد باب المكتبة. ولكنه عاد يقول. وأنت هل تظلين هنا. هل تدعيني أراك ثانية إذا هدأ اضطرابك؟
قالت مرسى سأنتظر هنا.
وقنعه هذا الجواب فغادر الحجرة.
وعند ذلك تراخت ذراعاها فوق حجرها وترامى رأسها الجميل فوق وسائد المتكأ. وجعلت تنظر حولها نظرات مذهولة حائرة هل نطقت حقاً بالكلمة التي ستربطها وهوراس برابطة الزواج بعد أسبوعين! يا إلهي. أسبوعان!. . . . ولكن لعل حادثاً يطرأ في خلال الأسبوعين فيمنع هذا الزواج. ولعلها واجدة مخلصاً لها من هذا الموطن المخيف الذي هي فيه الآن.
إذن. ليكن ما يكون. لقد عقدت عزيمتها على التماس الحديث مع جوليان جراي إذا جاء البيت. . . . حديث سري لا شاهد له. وإذ ذاك استوت في مجلسها وقد تولتها رعدة شديدة لهذه الفكرة التي تملكتها.
وجعل اضطرابها يخيل إليها جوليان جراي. وهو يكلمها عن هوراس كما قال. ورأته وهو يجلس إلى قربها. هذا الرجل هز روحها هزاً من فوق ذؤابة منبره. وهي تصغي إليه من أقصى الكنيسة ولا يراها. هذا هو الآن إلى قربها ينظر إليها نظرة ممعنة فاحصة. يرى سرها المعيب يطل من عينيها، ويسمعه من تضاعيف صوتها، ويحسه في رعشة يديها، ويخرجه من أعماق فؤادها بكلماته حتى تقع راكعة على ركبتها أمامه، مدلية باعترافها وخدعتها.
فسقط رأسها الجميل ثانيةً فوق الوسادة، وأخفت وجهها بيديها فزعاً من هذا المنظر الذي تخيله ذهنها.
ومضت الدقائق سراعاً، وأخذ اضطراب ذهنها يتجلى الآن في كل قطعة من بدنها النحيل المهزول.
وشعرت بأنها تبكي دون أن تدري، وبدأ رأسها يتراوح وأعصابها ترتجف، فاضطجعت فوق المتكأ متراخية فوق الوسائد، وأغمضت عينيها، وأخذت دقات الساعة المعلقة فوق الجدار تضعف وتغيب عن سمعها، ولم تلبث أن أخذت جفنيها إغفاءة، وكانت إغفاءة خفيفة حتى لقد أزعجها تنزي الأطيار فوق الآيك في الحديقة.
ودخلت اللادي جانيت وهوراس في تلك اللحظة، وشعرت بحفيف الثوب، كأنها تشعر به في حلم، ولكنها لم تكد تفتح جفنيها حتى كانت الحجرة خالية، إذ انطلقا من الحجرة في خفية، ليتركاها تستريح. فأغمضت عينيها ثانيةً، ولم تلبث أن راحت في سبات عميق!
الفصل الثامن
ظهور جوليان جراي
وانتبهت مرسى بعد فترة سبات على صوت باب زجاجي ينفتح في أقصى حجرة الزهر، وكان هذا الباب يؤدي إلى الحديقة ولا يدخل منه إلا أهل البيت وأصحابهم المقربون وخلصاؤهم الأعزاء عليهم. فظنت مرسى أن اللادي جانيت عائدة إلى قاعة الطعام، فنهضت قليلاً عن المتكأ وهي تتسمع. وبلغ سمعها إذ ذاك صوت الخادم، وأجاب هذا الصوت صوت آخر، ولم يكد يصل إلى أذنها، حتى ارتجفت أشد رجفة وإذ ذاك نهضت مرتعبة وعادت تتسمع، وهي لا تستطيع أن تتمالك أنفاسها المضطربة الراجعة. أجل. قد عرفت هذا الصوت الأجش العميق. إن هذا الصوت الذي أجاب الخادم هو الصوت المضطجع في فؤادها، هو الصوت البعيد الذي سمعته في كنيسة الملجأ. إن الزائر الذي دخل من باب حجرة الزهر. هو. . . . . جوليان جراي!
وكانت خطواته تدنو سريعاً من قاعة الطعام، فتمالكت نفسها وانطلقت بسرعة إلى باب حجرة المكتبة، ولكن يدها المرتجفة لم تستطع أن تفتحه، فراحت تعالجه مرة، ولم تكد تنجح في فتحه حتى سمعته ثانيةً. . . . يكلمها.
وكانت هذه كلماته أرجو أن لا تهربي. إني لست رجلاً مخيفاً، أنا لست إلا ابن أخت اللادي جانيت. أنا جوليان جراي!!
فالتفتت إليه مسحورة من صوته وواجهته في صمت وكان واقفاً إزاءها، وقبعته في يده، وهو في لباسه الأسود ورباط رقبته الأبيض، وفي سمته البعيد عن سمت أهل الكنيسة، وكان يبدو على وجهه - على الرغم من شبابه - دلائل الهم وتفاريق الشجن، وكانت جبهته منحولة الشعر، مهلل العارض، وكان ربعة القوام، شاحب المعارف، لا لحية ولا شارب، تطل كل روعته، ويشرف عليك كل جلاله من عينيه، أجل. إن عينيه كانتا مستودع كل جماله. وانطلق يكلمها بكل أدب واحترام. .
قال. دعيني أتوسل إليك أن تتفضلي بالعودة إلى مجلسك.
ثم اسمحي لي أن أستغفرك إذا هجمت على الحجرة هجوماً!. . .
وهنا تمهل، ينتظر جوابها، قبل أن يتقدم في القاعة. فاستطاعت أن تتمالك نفسها من الرعب، فأحنت رأسها إليه وعادت إلى مكانها من المتكأ.
فنظر إليها هنيهة ثم خطا في القاعة متقدماً، وقد بدأت دهشته تثور في فؤاده عند رؤيتها. إذ جعل يقول لنفسه حزن عظيم غير عادي قد طبع طابعه فوق وجه هذه المرأة. إن في جانحة هذه المرأة قلباً ليس كقلوب الناس. ليت شعري من تكون؟. .
فاستجمعت مرسى قواها وجاهدت نفسها لتكلمه.
قالت بحياء وخوف إني أظن أن اللادي جانيت في حجرة المكتبة فهل أنبئها بقدومه؟
قال. كلا لا تزعجي اللادي جانيت. ولا تزعجي نفسك
وعند ذلك تقدم إلى المائدة الطعام، تاركاً لها الوقت لتهدئة جأشها، ثم عمد إلى الزجاجة التي كان يشرب منها هوراس فصب جميع ما فيها في قدح، وقال وهو يبتسم ملتفتاً إليها مرة أخرى إن نبيذ خالتي سينوب الآن عنها. لقد مشيت مسافة طويلة فدعيني أجترئ على أن أتناول ما أريد في هذا البيت دون دعوة، ألا تتناولين شيئاً؟
فاعتذرت مرسى، وهي في عجب من خفة روحه ودعابته. فاشتف القدح في مظهر الرجل الخبير بالنبيذ البصير بالردئ منه والجيد. ثم وضع عن فمه القدح وهو يقول برزالة مضحكة إن نبيذ خالتي لخليق بها. كلاهما نتاج الطبيعة، وهنا اقتعد مجلساً إلى المائدة. وجعل ينظر نظرة الناقد الفاحص إلى الصحان المتنوعة الموضوعة فوقها واستطرد في حديثه يقول وما هذا؟ فطيرة فرنسية!. . . . يلوح لي أنه من الظلم الأكبر أن نذوق نبيذ فرنسا ونمر بفطائرها معرضين وإذ ذاك أمسك بسكين وشوكة وراح يأكل الفطيرة بالخبرة التي كان يذوق بها النبيذ ثم لم يلبث أن صاح في حمية وطرب وابتهاج إن هذه الفطائر لجديرة بتلك الأمة العظيمة. . . لتحي فرنسا!!. . .
وظلت مرسى واقفة تسمع وترى متعجبة منذهلة إذ أبصرت أمامها رجلاً ليس بينه وبين الرجل الذي تخيله فؤادها شبه أو تماثل ولو نزع عنه رباط رقبته الأبيض لما استطاع أحد أن يعرف أن الرجل من أهل الكنيسة.
ومضى يعمل السكين والشوكة في فطيرة أخرى. وهو منطلق في حديثة يكلمها بهدوء وألفة كأنما كان يعرفها منذ عدة أعوام.
قال مستطرداً في حديثه. لقد جئت إلى هنا عن طريق الحدائق. وقد كنت منذ زمن أقيم في إقليم قفر دميم قروي هادئ، وأنت لا تستطيعين أن تتصوري البهجة التي ثارت في فؤادي عند رؤيتي مناظر الحديقة ونضارته، وإذ شهدت الغواني في أثواب الشتاء وأبراد الدفء البهيج، والمرضعات النشيطات المتخففات، والأطفال الحسان، والولدان المحببين، ورأيت الجمع المزدحم يتزلق فوق أحذية الثلج. ولشد ما انتشت روحي بعد الحياة المظلمة التي عانيتها في الريف، حتى نسيت نفسي فانطلقت أغمغم بترنيمة خافتة، وأنا أخترق منافس الحدائق. فمن الذي تظنيني التقيت به وأنا في أحر غنائي؟.
فاعتذرت له مرسى لأنها لا تستطيع ظناً ولا حدساً، ولكنه مضى في حديثه أخف روحاً وأكثر دعابةً من قبل. دون أن يتظاهر بأنه قد لحظ التأثير الذي أحدثه في ذهن الفتاة.
قال من الذي ترينني التقيت به، وأنا أترنم بأحر النغم. .! التقيت بأسقفي. ولو وكنت في تلك اللحظة أغني أغنية كنيسية لاستطاع سيدي الأسقف أن يتجاوز عن جرئتي وعاميتي، صارفاً النظر عن غنائي. ولكن لسوء الحظ كانت الأغنية التي أغمغم بها في موسيقى فردى الشاعر الطلياني: ولعله سمعها من المعازف المتنقلة في الشوارع. وقد تبين ولا ريب الأغنية، وعرف اللحن، لأنني عندما رفعت القبعة بالتحية. ولى وجهه عني، ونظر إلى الناحية الأخرى. غريب والله أن نكون في عالم اكتظ بالشرور والآثام وامتلأ بالأحزان والآلام، ثم نهتم بتافهة كهذه. ونحزن ونغضب لرؤية رجل من أهل الكنيسة يترنم بالأغنيات.
وإذ ذاك أزاح عنه صفحة الطعام واسترسل يقول بكل بساطة إني لا أستطيع أن أفهم لماذا نريد دائماً نحن معاشر الكنيسيين أن نعد أنفسنا طائفة منفصلة، وجمعاً منعزلاً عن بقية الناس، نمنع من أن نفعل كما يفعلون. إن أئمة الدين الأولين لم يسنوا لنا هذه السنة، ولم يدعو لنا هذا المثال. لأنهم كانوا أرزن منا عقولاً، وفطن ألباباً، وخيراً منا نفوساً، بل إني لأستطيع أن نقول أن أكبر ما يعيقنا عن أن نفعل الخير ونجيء بالمكرمات اتخاذنا مظهر الهيبة والرئاسة والعظمة والزهو. وأنا نفسي لا أطالب بأن أكون أكثر احتراماً وتوقيراً من أي رجل آخر يفعل الخير جهد طاقته. وإذ ذاك نظر إلى مرسى نظرة ضاحكة وهي تنظر إليه مندهشة محملقة، ثم عادت إليه نزعة المجون فاستطرد أن يقول هل أنت من الديمقراطيين المتطرفين. إنني منهم!!.
وحاولت مرسى أن تفهم كلماته ولكنها لم تستطع له فهما. إذن أيكون هذا الرجل الواعظ الذي فتن فؤادها في مصلى الملجأ، وسحرها، وطهر عواطفها بكلماته، أيكون هذا المتكلم الذي أبكى عيون النساء، وأرسل عبراتهم، تلك النسوة اللاتي أغلقت الأيام أفئدتهن وأقست الجرائم شعورهن أجل. أجل. هاتان العينان اللتان تنظران إليها الآن في نزق ومجون هما العينان الجميلتان اللتان نفذتا من قبل إلى أعماق فؤادها. هذا هو الصوت الذي يضج الآن بالدعابات والأمازيح هو نفسه ذلك الصوت العميق الأجش الحنون الذي هز أعشار قلبها هزاً، إنه فوق ذؤابة المنبر ملاك من ملائكة الرحمة. فإذا هو في الشارع طفل أطلق سراحه من محابس المدرسة.
قال برفق، وقد لحظ اضطرابها لا تنزعجي مني ولا تخافي. إن الرأي العام قد نعتني بأسماء وألقاب أقسى من كلمة المتطرف وقد أنبأتك منذ لحظة أنني كنت قبل أن أنحدر إلى هذا المكان في إقليم قروي. وكان عملي هناك أن أقوم في القرية مقام قسيسها وكان قد مضى إلى إجازته. فهل تتصورين ماذا كانت النتيجة. إن صاحب القرية قد سماني اشتراكياً وأما الفلاحون فلقبوني فوضوياً ثورياً. فاستعيد صديقي قسيس القرية في الحال ليستلم مني عمله. وأما الآن فلي الشرف بأنني أكلمك وأنا في نظر الناس رجل مطرود. أثار قرية بجملتها، فلم تستطع أن تحتمله.
وهنا ترك مجلسه من المائدة، وجاء فاتخذ له مقعداً بجانب مرسى بكل بساطة وصراحة، ومضى يقول. . وأنت ولا ريب ترغبين في أن تعرفي ما هي الهفوة التي ارتكبتها. فهل تعرفين شيئاً من علم الإقتصاد السياسي وقانون العرض والطلب.
فأجابت مرسى بأنها لا تفهم من ذلك شيئاً.
فقال - ولا أنا أيضاً. في بلد مسيحي. وهذا هو ذنبي. وأنت ستسمعين اعترافي في كلمتين، كما ستسمعه خالتي. وهنا تمهل قليلاً وتغيرت هيئة وجهه، ورأت مرسى إحساساً غريباً يطل من عينيه. إحساساً ذكرها الآن به أول رؤيتها له.
وعاد يقول. إني لم أكن أعرف من قبل أسلوب الحياة التي يعيشها الفلاحون، حتى أقمت في الريف مكان صديقي القسيس. ولم أكن شهدت في حياتي ما شهدت إذ ذاك هو البؤس والمتربةوالآلام التي التقيت بها في الأكواخ والخصائص ما رأيت صبراً مثل صبر هؤلاء المنكودين المعذبين. إن شهداء الزمن القديم كانوا يتحملون ويصبرون ثم يموتون، ولكني أسأل نفسي هل كانوا يستطيعون أن يتحملوا ويعيشوا كالشهداء الذين وجدتهم حولي في القرية، يعيشون الأسابيع والشهور والأعوام، على حافة الجوع وضفاف الحزن، وساحل الحاجة، ويرون أطفاهم وضوار الجوع يستعر في أحشائهم، ينبتون ورائهم ليعيشوا مثلهم على الحرية والحاجة. فهل خلقت أرض الله الجميلة لتحمل شقاء مثل هذا. إني لا أستطيع أن أحدثك الآن عن ذلك، دون أن تندي عيناي بالدموع.
وإذ ذاك أطرق رأسه حزيناً، وتمهل ليمسك عليه جأشه وحسه والآن عرفته مرسى مرة أخرى. أجل. هذا هو بعينه الرجل الذي توقعت أن تراه، وكذلك ظلت جالسة تنظر إليه معصبة وهي لا تشعر وقلبها معلق في ألفاظه واثباً مع كل كلمة من كلمه.
وراح مستطرداً ففعلت كل ما في وسعي للدفاع عن هؤلاء المساكين المكدودين، وانطلقت أطوف بأصحاب الأرض والمالكين أسترحمهم للزارعين، وأستعطف قلوبهم لأجل الذين يعملون في الأرض، أقول لهم إن هؤلاء الصابرين لا يطلبون كثيراً، ولا يسألون كبيراً، باسم رحمة الله. إكفلوا لهم العيش آمناً، والحياة غير قاتلة، وهنا صرخت في وجهي نظريات الإقتصاد السياسي، وولولت قوانين العرض والطلب ونظرت إلي متجهمة عابسة، إذ نبؤوني أن الأجور التي يتناولونها هي أعدل الأجور، وإن الجزاء الذي يجزونه عليهم أحق الجزاء، ولماذا؟ لأن الفلاحين مكرهون على قبولها فعزمت أنا على أن أجعل الفلاحين غير مكرهين على قبول أجور الجوع - فجمعت قواي - وحشدت وسائل دفاعي فكتبت إلى أصحاب لي عديدين في بلاد المملكة وأنحائها، ونصحت لكثيرين من فلاحي القرية أن يتحملوا منها إلى بلاد أخرى حيث يجدون أجراً أطيب، وعملاً أهدأ، وحياة أقل ظلماً. هذه هي الجريمة التي لم أقبل من أجلها. ولكني غير مصروف عن نيتي، ولا عادل عن عزمي. إن لي صحابة كثراً في لندن - وأنا فيها مذكور الإسم - وأستطيع أن أقيم الإكتتابات وأفتح السبيل إلى التبرعات، وسيجد قانون العرض والطلب العمل قليلاً في ذلك الإقليم، وسيضطر الإقتصاد السياسي أن ينفق عدة شلنات زيادة على الفقراء. ما دمت أنا ذلك المتطرف، الإشتراكي، الثوري ـ. . . جوليان جراي!.
وعند ذلك نهض، وانطلق يدور في الحجرة، وثارت الحمية في فؤاد مرسى من حميته، فحذت حذوه، وكان كيس نقودها في يدها، عندما واجهها.
قالت بلهجة وصدق. . أرجو أن تدعني أن أقدم جزيتي الصغيرة. .
وهنا انتشر ظل الإحمرار على وجنتيه الصفراء، ونظر إلى وجهها الرحيم الجميل وهي تحس إحساسه.
قال مبتسماً. . كلا. كلا. إنني، وإن كنت القسيس، لا أحمل صندوق الصدقات معي في كل مكان، فحاولت مرسى أن يكون الكيس في يده، وعادت نزعة المجون تشرق في نظراته فقال وهو ينسحب قليلاً. . كلا. كلا. لا تحرضيني أن أسرع الناس انقياداً، وأطوعهم للحض والإغراء، قسيس يغري على أخذ تبرع.
ولكن مرسى أصرت على أن يأخذ، فانهزم لها حتى يثبت صحة ملاحظته عن طبائع القسيس، فأطلق يده في الكيس وأخرجها بشيء من النقود. وقال. . إذا كان لا بد من آخذ، فلآخذن. . شكراً لك إن وضعت القدرة المثلى، شكراً لك إن أعطيت المعونة في حينها، فأي اسم أكتب في قائمة التبرعات.
فاضطربت مرسى وزاع بصرها عنه وأجابت في صوت منخفض لا اسم. حسبي أن يكون تبرعي مجهولة.
ولم تكد تجب جوابها، حتى فتح باب المكتبة، ولحسن حظها، ولسوء حظ جوليان جراي، دخلت اللادي جانيت روي وفي أثرها هوراس.
وإذ ذاك صاحت اللادي جانيت وهي مفردة ذراعيها عجباً ودهشة جوليان!
فقبل خالته في وجنتها قائلاً إنك يا خالتي توحين فاتنة حسناء! ثم مد يده إلى هوراس مصافحاً، فشد هوراس عليها ومشى مقنبراً من مرسى وانطلق الإثنان يمشيان إلى الناحية الأخرى من القاعة وانتهز جوليان هذه الفرصة التي سنحت للتحدث مع خالته بحرية وجلاء، فمضى يقول. لقد جئت عن طريق قاعة الزهر، فوجدت هذه السيدة الشابة في الحجرة، فمن تكون؟.
فسألته اللادي بلهجتها الجلية المتهكمة وهل أنت اهتممت بها؟.
فأجابت بكل صراحة كل الإهتمام!.
فنادت اللادي مرسى لتدنو منها.
فلما جاءت صوبهما، قالت اللادي دعيني يا عزيزتي أقدم إليك بصفة رسمية ابن أختي، أي جوليان، أقدم إليك مس جريس روزبري. وأمسكت عن إتمام كلامها فجأة لأنها لم تكد تلفظ بالإسم حتى انذعر جوليان جراي، وبدت الدهشة تتجلى على وجهه فسألته اللادي بحدة ماذا حدث؟.
فأجاب وهو منحن إلى مرسى إنحناءة الإحترام لا شيء لا شيء! وأما هي فأجابته على تحيته. بشيء من الإضطراب لأنها لمحت ذعره هي أيضاً عندما ذكرت اللادي جانيت اسمها له وكان لهذا الذعر ولا ريب معنى خفي. فماذا ترى يكون هذا المعنى. ولماذا تراه قد ولى وجهه ملتفتاً إلى هوراس والإضطراب باد في عينيه، وقد تغيرت هيأته كل التغيير في اللحظة التي نطقت خالته بالإسم الذي ليس اسمها. الاسم الذي سرقته!! وعادت اللادي جانيت إلى الحديث مع ابن أختها. وتركت هوراس يعود إلى مرسى، قالت إن حجرة قد أعدت لك. وأنت ولا ريب مقيم بيننا دهر.
فتقبل جوليان الدعو، ولا يزال عليه سيماء الرجل المشغول الذهن فبدلاً من أن يلقي نظره لي اللادي جانيت، دار بعينه فنظر إلى مرسى نظرة دهشة بينة واضحة.
فضربته خالته على كتفه وقالت: إني أنتظر أن ينظر إلي الذي يكلمني. لماذا تحملق البصر هكذا إلى فتاتي المتبناة؟
فكرر جوليان في أثرها وهو ينظر إليها نظرة ذهول فتاتك المتبناة!!.
فأجابت اللادي بلا ريب. إنها ابنة الكولونل روزبري وبيني وبينها صلة النسب والقرابة، فهل تظنني جئت بفتاة لقيط؟
فزال القلق من وجه جوليان وأشرقت معارفه وقال مجيباً إني قد نسيت الكولونل حقاً. أجل. أجل. إنها بلا ريب تمت إلينا بصلة النسب.
قالت اللادي جانيت متهكمة يسرني ولا شك أنني أقنعتك بأن جريس ليست لقيطاً.
وعند ذلك أخذت ذراع جوليان ومشت به بعيداً عن مسمع هوراس ومرسى وانطلقت تقول والآن لنتكلم عن خطابك الذي أرسلته. إن به سطراً أثار قلقي. . من هذه السيدة الغريبة التي تريد أن تعرفني بها؟.
فذعر جوليان وتغير لونه.
قال هامساً إني لا أستطيع أن أقول الآن.
قالت ولماذا؟
فنظر جوليان إلى مرسى ثانيةً
قالت اللادي جانيت وقد نفد صبرها. ما دخل فتاتي في ذلك؟
فأجاب جراي في صوت رهيب يستحيل علي أن أقص عليك ما أريد. ما دامت مس روزبري باقية في هذه الحجرة.
الفصل التاسع
أنباء من مانهايم
وهنا ثارت نزعت الفضول في نفس اللادي جانيت واشتد قلقها، ولم تدرك غرض جوليان جراي، ولم تفهم بصيصاً من معنى كلماته.
قالت إني أكره الأسرار، ولا أحب الغموض، وأعد الأسرار دليلاً على سوء التربية، وفساد القلوب، ونحن الأشراف خلقنا بأن ننزه أنفسنا عن التهامس والتخافت في زوايا الحجرات ولكن إذا كان لا بد من أن تنطلق في غموضك، وتصر على عزيمتك، فإني أسمح لك أن تركن إلى ركن في حجرة المكتبة فتلقي إلي هناك جميع ما تريد.
فانطلق جوليان في أثرها إلى المكتبة، على غير إرادته، وهو في أشد ضروب الحيرة.
فلما احتوتهما الحجرة جلست اللادي جانيت في مقعدها، وهي على أتم الإستعداد للسؤال والإستجواب، ولكن دخل في تلك اللحظة أحد الخدم يحمل رسالة.
وكانت الرسالة من سيدة وكانت إحدى صواحب اللادي جانيت وحبائبها جاءت إلى موعد قد ضرب من قبل بينهما ليذهبا إلى إحدى الحفلات.
وقد أعلن الخادم أن السيدة تنتظر اللادي في مركبتها عند الباب.
فلم يسع اللادي جانيت إلا أن تأمر الخادم بأن يدعو السيدة إلى الجلوس في قاعة الإنتظار وينبئها بأنها قد عرض لها الآن ما يشغلها وإن مس روزبري ستقوم مقامها في اصطحابها إلى الحفلة.
وهنا التفتت إلى جوليان جراي وقالت في لهجة التهكم اللطيف هل يسرك الآن أن لا تكون مس روزبري في الحجرة فقط، بل في الدار كلها.
فأجاب جوليان برزانة وجد أجل. خير لي أن لا تكون في المنزل الآن.
فانطلقت اللادي جانيت إلى قاعة الطعام فدنت من فتاتها قائلة أي عزيزتي جريس. لقد كنت تلوحين شاحبة مضطربة محمومة عندما رأيتك وأنت مضطجعة فوق المتكأ منذ هنيهة صغيرة، وأظن أنه لن يسوءك أن تخرجي إلى المركبة لترويح نفسك في النسمات العليلة، وقد جاءت جارتنا الآن لتأخذني إلى الحفلة المقامة اليوم وقد بعثت إليها أقول إنني في شغل عن الذهاب، فهل تصنعين لي جميلاً بأن تقومي مقامي في اصطحابها إلى المكان الموعود.
فظهر على مرسى القلق، ولم تستطع أن تحير جوابها. ولم تستطع رفضاً. وهنا أسرع هوراس إلى الباب ليفتحه استعداداً لخروج مرسى، وهمس إليها يقول وكم تغيبين. لقد كنت أريد أن أحدثك ألف حديث، وكان لدي أشياء وأشياء أريد أن أكلمك عنها، ولكنهم قد قطعوا علينا السبيل.
قالت مرسى سأكون هنا بعد ساعة.
قال هوراس وستكون الحجرة خالية لنا إذ ذاك، إذن فعودي إلى هنا عند رجعتك تجديني في انتظارك.
فصافحته مصافحة ذات معنى ومضت منصرفة، وعند ذلك عادت اللادي جانيت إلى جوليان وكان على كثب منهما ولا يزال على قلقه واضطرابه.
قالت اللادي والآن. ماذا يمسك لسانك عن النطق، ها هي جريس قد خرجت، فلماذا لا تبدأ. أتمانع في وجود هوراس.
أجاب كلا. ولكني لا أزال قلقاً مضطرب البال
فقاطعته قائلة وعلام القلق؟
قال جوليانأخشى أن تكوني قد أزعجت هذه المخلوقة الفاتنة بإرسالها الآن خارج الدار.
فنظر إليه هوراس وقد صعد الدم إلى وجهه وقال بحدة إني أظن أنك تقصد بكلمة المخلوقة الفاتنة مس جريس روزبري؟.
فأجاب جوليان بلا ريب. ولم لا؟.
فدخلت اللادي جانيت بينهما مهادنة فقالت مهلاً يا عزيزي جوليان. لقد عرفتك بجريس الآن في صورة فتاتي المتبناة. . . . .
وانطلق يقول هوراس في أثرها بكبر وذهول ولقد آن الآوان لي أن أقدمها إليك في شكل زوجتي المخطوبة إلي.
فنظر إليه جوليان كأنه لا يصدق مسمعيه وقال مندهشاً متعجباً زوجتك!.
فعاد هوراس يقول نعم زوجتي، وسنزف بعد أسبوعينوهنا تمهل ثم استرسل في حدة وغضب ولكنني أسألك هل أنت تمانع في هذا الزواج.
فداخلت اللادي جانيت ثانيةً بينهما فقالت ما هذه الحماقة يا هوراس إن جوليان يهنئك به ولا ريب.
قال جوليان ببرودة وهو غائب الذهن في حيرة نعم. أهنئك! أهنئك.
وإذ ذاك ضمت اللادي جانيت تعود بالحديث إلى الموضوع الذي اجتمعت بجوليان من أجله.
قالت الآن كل منا يفهم صاحبه. فدعنا إذن نتكلم عن سيدة أنسانا الحديث ذكرها منذ هنيهة. وأنا أعني بها يا عزيزي جوليان المرأة الغريبة التي جاءت في خطابك. ها نحن وحدنا كما رغبت أن نكون. إذن فارفع النقاب الذي يحجب وجهها عن الأعين والأبصار يا ابن أختي المحترم. ولتخجل ما شئت ولتتورد وجنتك إن أردت. أتراها ستكون مسز جوليان جراي المستقبلية؟.
فأجاب جوليان بكل هدوء بل إنها غريبة عني كل الغرابة؟
فصاحت اللادي مندهشة. غريبة عنك! وأنت قد كتبت إلي تقول إنك بها شديد الإهتمام!!؟
فأجاب جوليان نعم أنا بها مهتم. وأغرب من ذلك أنك ستكونين بها أنت أيضاً شديدة الإهتمام!. .
فألقت اللادي جانيت يدها فوق المائدة بقلق وانفعال وقالت ألم أحذرك أنني أشد الناس كراهة للأسرار. وأكثرهم اجتواء للغموض فهل تريد أن تشرح لنا ذات نفسك أم لا تريد؟.
ولكنه قبل أن يجيب على سؤالها، نهض هوراس من مجلسه قائلاً أتراني أحول دون الحديث؟
فأشار إليه جوليان بالعودة إلى مجلسه وأجاب كلا. إنك لا تحول دون الحديث، كما قلت من قبل. بل إني أقول الآن أنه بما أنك ستكون زوج مس روزبري في المستقبل فإن لك دخلاً فيما ستسمعان مني الساعة.
فعاد هوراس إلى مجلسه وعليه سمات الدهشة والإتهام. ومضى جوليان يخاطب اللادي جانيت قال لقد سمعتني كثيراً ولا ريب أتكلم عن صديق لي قديم يشغل وظيفة في الخارج.
فأجابت اللادي جانيت. أجل. الست تعني السفير الإنكليزي في مانهايم؟
قال هو ذاك. . فلما عدت من الريف وجدت بين الرسائل التي وردت إلي في غيابي خطاباً مستطيلاً من السفير. وهذا الخطاب قد أحضرته الآن معي وأنوي أن أقرأ عليكما شذوراً منه تخص قصة غريبة لا أستطيع أنا أن أسردها عليكما في أسلوب أشد بياناً ووضوحاً من هذه الرسالة.
قالت اللادي جانيت خائفة وهي تنظر إلى الصفحات الضيقة السطور التي نشرها ابن أختها أمام عينيها وهل تراها طويلة؟.
واقترب هوراس قائلاً. . وهل أنت واثق من أن لي كما قلت دخلاً في هذا الأمر، إن سفير مانهايم رجل غريب علي!. فأجاب جوليان برزانة وجد إني كفيل بأن صبر خالتي وقلقك لن يكونا سدى إذا أنتما أمهلتماني حتى أقرأ عليكما ما أنا قارئه.
وإذ ذاك بدأ يتلو الشذرة الأولى التي انتخبها من الخطاب فقال. . . . . . إن ذاكرتي ضعيفة بليدة من ناحية التواريخ. ولكن لا بد من أنه قد مضت ثلاثة أشهر على اليوم الذي تلقيت فيه نبأ عن عليل إنكليزي جيء به إلى المستشفى في مانهايم وسألت أن أرى رأيي فيه، بصفتي السفير الإنكليزي في المدينة. فذهبت في ذلك اليوم نفسه إلى ذلك المستشفى وأدخلت على حجرة العليل. وكان العليل سيدة. . شابة ولعلها في صحتها تعد حسناء. فلما نظرت إليها ظننتها مائتة. وتبينت رأسها معصوبة بضمادة فسألت نوعه الإصابة التي أصابتها فعلمت أن المرأة كانت حاضرة إحدى المناوشات بين الفرنسيين والألمان، ولا يعرف أحد السبب ولا يعلم الباعث. وإن الإصابة جاءتها من شظية من شظايا قنبلة ألمانية. . .
وهنا استوى هوراس في مجلسه فجأة، وكان إلى هذه اللحظة مضطجعاً في مقعده غير مكترث ولا مقبل بسمعه. وصاح. . . يالله! أتكون هي تلك المرأة التي رأيتها ملقاة ميتة في الكوخ الفرنسي؟.
فأجابه جوليان إني لا أستطيع أن أعرف. ولكن لتستمع حتىنهاية الرسالة فلعلها تجيبك عني.
واستطرد يتلو الرسالة:
وكانت المرأة الجريح قد ظنت مائتة، فغادرها الفرنسيون في الكوخ ذاهبين، فوجدها الألمان بعدهم في فراش في كوخ وكان أول من وجدها رئيس جماعة الإسعاف!.
فصاح هوراس أجنتياس ويتزل!!.
فردد جوليان في أثره بعد أن نظر إلى العبارة التالية لما قرأ أجنتياس ويتزل!!.
قال هوراس بدهشة هو ذلك. أي سيدتي اللادي حقاً إن لي دخلاً في هذه القصة. ألا تذكرين ما قلت لك من قبل عن كيفية لقائي بجريس. ولا شك أنك سمعت كثيراً عن ذلك من جريس نفسها!. . .
فأجابت اللادي جانيت. . إنها كانت تخاف العودة إلى ذكر ذلك.
وقد حدثتني كيف أوقفوها عن المسير عند الحدود وكيف وجدت نفسها بغتةً في رفقة امرأة إنكليزية لا تعرفها. وبالطبع سألتها كثيراً من الأسئلة وقد تولاني الرعب عندما سمعت منها أن المرأة سقطت قتيلة تحت شظايا القنبلة على مقربة منها ولم نشأ أنا ولا هي الرجوع إلى الحديث مرة أخرى منذ ذلك العهد والآن أقول لك يا عزيزي جوليان إنك قد أحسنت صنعاً بتجنبك ذكر هذا الحديث في حضورها. ولعلي قد فهمت الآن الغرض، وأدركت الغاية. أن جريس ذكرت اسمي واسمها ولا ريب لرفيقتها المسافرة معها والمرأة الآن بحاجة إلى المعونة، وقد سألتها مني بواسطتك. وأنا بإعانتها كفيلة قمينة. ولكن يجب أن لا تحضر إلى هنا حتى أمهد السبيل إليها عند جريس، حتى لا تجزع إذا رأتها قد نشرت من الموت أما الآن فلا ينبغي أن تجتمع بها مطلقاً
قال جوليان بصوت منخفض لا أظن ذلك
قالت اللادي جانيت ماذا تعني. ألم تنته القصة بعد؟
أجاب جوليان بل إنها لم تبتدئ إلى الآن. دعي صديقي السفير يتلو علينا قصته
وعاد يقرأ فبعد فحص الجثة أدق الفحص، استنتج الجراح الألماني أن الجراح الفرنسي قد أخطأ فهم الإصابة،
وظنها موتاً وهي ليست إلا تغيباً وقتياً عن الإحساس، وكان الرجل أشغل ما يكون بمثل هذه الحوادث الخطيرة من المرض، فعمد إلى محاولة البحث والفحص، فقام بعملية جراحية لها، وكان النجاح له مكفولاً، وقد أبقاها لديه بعد العملية بضعة أيام، ثم أحالها إلى أقرب المستشفيات منه، وهو مستشفى مانهايم، واضطرته وظيفته إلى الرجوع إلى الجيش فترك العليلة في الحالة التي رأيتها بها، فاقدة الرشد، ولم يكن يعلم الجراح ولا أهل المستشفى شيئاً عن هذه المرأة، ولم توجد معها أوراق يستدل منها عنها، وكل ما استطاعه الأطباء عندما سألتهم خبرها. أن جاؤوني بقميصها مكتوباً عليه اسمها. فتركت المستشفى بعد أن كتبت الاسم في مذكرتي وكان هذا الاسم مرسى مريك!
وهنا اخرجت اللادي جانيت دفترها الصغير فقالت دعني أنا أيضاً أدون الاسم عندي. فآتي لم أسمع به من قبل. وأخشى أن أنساه. . . . أيه يا عزيزي جوليان. لتستطرد في القراءة!
فمصى جوليان في تلاوته فاضطررت في هذه الحالة أن أنتظر حتى أسمع من المستشفى خبر شفائها لكي أتمكن من الكلام معها، ومضت أسابيع ولم أتلق خبراً عنها من الأطباء وقد قيل لي عند عيادتي إياها أن الحمى قد انتابتها وأنها الآن بين الاضمحلال والهذيان، وقد اعتادت في نوبات هذيانها أن تذكر اسم خالتيك اللادي جانيت روي وتردد أشياء كثيرة وكلمات لا يعرف الأطباء عنها طرفاً، وقد فكرت قبل الآن في الكتابة إليك والالتماس منك أن تنبئ اللادي جانيت ولكني رأيت من شك الأطباء في حياتها أن أنتظر حكم الزمن في أمرها قبل أن أزعجك به
قالت اللادي. ولكني أعترف لك بأنني لا أرى إلى الآن ما شأني بهذه القصة
فأردف هوراس قائلاً وهذا ما كنت أريد أن أقوله قبلك. نعم إن القصة محزنة ولا ريب، ولكن ما دخلنا نحن؟
فأجاب جوليان إذن فلا أقرأ الشذرة الثالثة من الرسالة فيكون فيها فصل الخطاب
وعاد إلى تلاوة الرسالة فقال وأخيراً تلقيت رسالة من المستشفى تنبئني أن مرسى مريك قد نجت من الخطر وإنها تستطيع وإن كانت لا تزال ضعيفة أن تجيب عن أي سؤال أحب أن أسألها، فلما بلغت المستشفى طلب إلي أولاً أن أزور رئيس الأطباء في حجرته. فلما التقينا انطلق الرجل يقول إني أرى من واجبي أن أنبهك قبل أن يدخل بك على المريضة أن تكون شديد الحذر في حديثك معها فلا تهتاج روحها بإبداء علائم الدهشة أو الشك في كلماتها إذا هي أسرفت معك في القول. نحن هنا مختلفو الآراء في أمرها متنازعو التقارير والملاحظات ففريق منا وأنا منهم يشكون في أن ذهنها قد أبل مع إبلال جثمانها، ونحن مع ذلك لا نستطيع أن نقرر جنونها فهي لا تزال رقيقة هادئة لا أذاة تحدث ولا خطر ترتكب، ولكنا بعد ذلك نذهب إلى الظن بأنها تحت تأثير وهم شديد مسيطر على ذهنها، تذكر يا سيدي التحذير الذي حذرتكه منذ هنيهة. والآن اذهب لترى بنفسك.
فأطعت وأنا في شيء من الحيرة والإرتباك، فلما دنوت من السرير، رأيت المريضة تلوح ناحلة ذابلة ولكني شهدتها مستجمعة قواها، ثائبة الرشد، وكان صوتها وهيئتها وحديثها تنم عن أنها سيدة مؤدبة، فلما انتهيت من تعريفها بنفسي أكدت لها رغبتي في مساعدتها وجنوحي الشخصي إلى خدمتها وكنت أخاطبها بالإسم الذي وجد مطرزاً على أثوابها، فلم تكد لفظة مرسى مريك تخرج من شفتي حتى بدأ في عينيها بريق مرعب مخيف، وصاحت في غضب وخنق لا تدعني بهذا الإسم الكريه. إنه ليس اسمي. جميع الناس هنا يعذبونني بمناداتي مرسى مريك، وعندما أغضب منهم لذلك يجيئون لي بملابسي، وهو يصرون مهما قلت لهم ومهما حدثتهم أن الملابس ملابسي فلا تكن مثلهم إذا أردت أن تظفر مني بالود والألفة، فتذكرت إذ ذاك تحذير الطبيب فاعتذرت إليها المعاذير الواجبة، فلم يلبث أن هدأ ثائرها وسكن غضبها، وعمدت إلى تغيير الحديث فسألتها عما هي صانعة بعد ذلك وأكدت لها أنني في خدمتها وأنني كفيل بتحقيق مطالبها، وإذ ذاك جعلت تسألني بلهجة تهام وريبة ولماذا تريد أن تعلم مني ذلك؟ فذكرتها لوظيفتي وأنني بموجبها أستطيع مساعدتها فلم تلبث أن قالت بلهف وفرح أجل. إنك تستطيع أن تكون لي أكبر العون. إذن لتبحث عن مرسى مريك!! ورأيت إ ذاك البريق المرعب يعود يسطع في عينيها الذابلتين ولوناً باهتاً من الإحمرار يتصاعد إلى وجنتيها الصفراوين فسألتها وأنا لا أظهر شيئاً من الإستغراب أو الإندهاش عن من تكون مرسى مريك هذه، فكان جوابها السريع امرأة سوء بغي باعترافها، قلت وكيف أستطيع إيجادها؟ فأجابت ابحث عن امرأة في ثوب أسود وفوق كتفها إشارة الصليب الأحمر وهي ممرضة في الإسعاف الفرنسوي. فقلت وماذا فعلت؟ أجابت إنني قد فقدت أوراقي، وفقدت جميع ثيابي ومرسى مريك هي التي أخذتها جميعاً، فسألتها وكيف عرفت أن مرسى مريك هي التي أخذتها، قالت لا أحد غيرها أخذها، هذا ما أعلم. فهل تصدقني أم لا؟ وكانت توشك إذ ذاك أن تعود إلى الإهتياج فأكدت لها أنني سأرسل في التو والساعة العيون والأرصاد للبحث عنها، فدارت عيني بعينيها وأسندت رأسها فوق الوسادة فرحةً راضيةً قانعة وهي تقول، لك الله من رجل طيب. عد إذن إلي وأنبئني أنك قد قبضت عليها.
ذلك كان أول لقائي بها في مستشفى مانهايم. ولست بحاجة إلى أن أقول لك أنني شككت في وجود هذه الممرضة الموهومة، ومع ذلك كان في إمكاني أن أقوم ببعض التحريات والأبحاث عنها، وذلك بسؤال الجراح أجنتياس ويتزل وكان مقره معروفاً ولا ريب عند أصدقائه في المدينة، فكتبت إليه فجاءني منه الجواب في حينه، وخلاصته أنه عندما دخل الكوخ يوم الموقعة، وجد الجرحى قد تركهم رفقاؤهم، ولكنه لم ير معهم هذه الممرضة التي يقال عنها أنها كانت تحمل شارة الصليب الأحمر فوق كتفها، ولم يكن بالكوخ من الأحياء غير سيدة شابة إنكليزية في معطف أسود من معاطف السفر كانت قد أوقفت في الطريق، وقد أعانها على السفر إلى إنجلترة مكاتب حربي لصحيفة من الصحائف الإنكليزية.
قالت اللادي جانيت إنه يعني بذلك جريس.
وأردف هوراس وكنت أنا هذا المكاتب!.
قال جوليان. مهلاً. مهلاً. بضع كلمات فقط تفهمان الغرض الذي أرمي إليه في تلاوة هذه الرسالة.
وانطلق يقرأ فلم أشأ أن أذهب إلى المستشفى بنفسي بل اكتفيت بإبلاغ نتيجة بحثي في كتاب صغير، ومضت مدة ولم أسمع عن المريضة شيئاً ولم يكن إلا أمس فقط أن طلب إلي أن أعودها، وكانت قد تماثلت للعافية وأوشكت أن تخرج من المستشفى، وقد صرحت برغبتها في العودة إلى إنجلترة فرأى الرئيس أن الواجب عليه أن يستدعيني قبل خروجها فلما شهدتها للمرة الثانية، ألفيتها هادئة السرب متمالكة القوى، فلم تكذبني اعتقادها في أن عجزي عن إيجاد الممرضة لم يكن إلا من إهمال شأنها. فلم يسعني إلا أن أسألها إذا كان لديها من المال ما يكفل نفقات سفرها فعلمت منها أن قسيس المستشفى كان قد نشر خبر مصابها في المدينة وأنه قد اجتمع لها من اكتتابات القوم شيء من المال يستطيع أن يمكنها من العودة إلى بلدها. فسألتها عن أصدقائها فأجابت إن لي صديقة واحدة فقط، ولكنها تعدل ألف صديقة. هي اللادي جانيت روي، وأنا أترك لك أن تتصور مقدار دهشتي عندما سمعت ذلك منها، فلم أشأ أن أعود إلى زيادة الأسئلة على ذلك، مخافة أن تغضب وتعود إلى اضطرابها وحنقها وتعللت أنني أستطيع أن أدفع بهذه السيدة المسكينة إلى كنفك وعونك عند وصولها لندن، بأن أكتب لها رسالة إليك. وأنت ستسمع منها خبرها ولعلك ستستطيع أكثر مني أن تتحقق بنفسك عما كانت لها باللادي جانيت آصرة أو علاقة. وجملة القول لم يبق لي إلا كلمة واحدة فأختم هذا الخطاب المستطيل فلعلك تذكر أنني منذ هنيهة كتبت أقول لك أنني في حديثي الأول معها تحاشيت من أن أبعد في سؤالها عن اسمها ولكني في هذه المرة أجمعت على إلقاء هذا السؤال.
وهنا أمسك جوليان عن إتمام الكلمات الباقية إذ لحظ شيئاً من التلهف بدا على وجه خالته، وقد نهضت اللادي جانيت من مجلسها وجاءت خلف مقعده لتقرأ العبارة الأخيرة من كتاب السفير، من خلال كتفيه، فاستطاع أن يحول بينها وبين قراءتها بأن وضع يده فوق السطرين الأخيرين من الخطاب.
قالت اللادي جانيت بحدة ماذا تقصد بهذا؟.
فأجاب جوليان، يا سيدتي اللادي جانيت حباً وكرامةً أن تقرأي الجملة الختامية بنفسك، ولكن قبل أن تفعلي ذلك أريد أن أهيئك لدهشة عظيمة وحيرة كبيرة. فتمالكي جأشك ودعيني أقرأها عليك بكل هدوء وبطء وعينيك مستقرة على عيني حتى ألفظ الكلمتين الباقيتين من الجملة. وانطلق يقرأ ونظرت إلى المرأة في وجهها وقلت لها إنك قد أنكرت أن الإسم المطرز فوق أثوابك عندما جئت إلى هذا المستشفى هو اسمك الحقيقي، فإذا لم تكوني حقاً مرسى مريك فمن تكونين؟ فأجابت على الفور إن اسمي هو. . . . . . . . . . . . .
وهنا وقف جوليان عن نطق الإسم ورفع يده عن الصفحة فنظرت اللادي جانيت إلى الكلمة الباقية ولكنها لم تلبث أن تراجعت وقد صرخت صرخةً دهشة عالية أنهضت هوراس من مجلسه مذعوراً راجفاً وهو يصرخ أنبئاني. أي اسم قالت؟
فأنبأه جوليان قائلاً:
جريس روزبري. . . . . . . . . . . .!.
الفصل العاشر
التشاور
وقف هوراس لحظةً مصعوقاً ينظر نظرات ذهول إلى اللادي جانيت وكانت كلمته الأولى عندما ثاب رشده موجهة إلى جوليان.
قال مغطباً عابساً أتراك جئتنا بمزحة، إذا كان ذلك فأنا لا أرى وجه الفكاهة فيها.
فأشار جوليان إلى سطور الرسالة ومضى يقول إن رجلاً يكتب كل هذه السطور المستفيضة المستطيلة إنما يكتب جاداً ولا ريب والمرأة قد فاهت باسم جريس روزبري على سبيل التعارف والآن ها أنت قد علمت السبب.
ثم التفت إلى هوراس فقال لقد سمعتني أقول أن لك بصفتك زوج مس روزبري دخلا في حديثي مع اللادي جانيت. والآن ها أنت قد علمت السبب!.
قالت اللادي جانيت إن المرأة ولا شك مجنونة، ويجب بلا ريب أن نبقي هذا الخبر الآن سراً مكتوماً عن جريس.
وأضاف عليها هوراس قائلاً نعم. لا شك في أن جريس يجب أن تبقى غير عالمة بهذا، وهي لا تزال ضعيفة، وخليق بنا أن نحذر الخدم، قبل أن يقع مصاب، أو تحل نكبة، إذ لعل هذه المجنونة محاولة عما قليل أن تغزو هذا البيت بجنونها.
قالت اللادي جانيت أجل. أجل. يجب أن نفعل ذلك في الحال. دق الجرس. دق الجرس. وأغرب ما يدهشني يا جوليان أنك جعلت تصف نفسك في جوابك لي بأنك شديد الإهتمام بهذه المرأة.
فأجاب جوليان دون أن يدق الجرس بل إني الآن أشد بها اهتماماً من قبل، إذ أرى مس روزبري نفسها ضيفتك في دار مابلثورب.
قالت اللادي جانيت. لقد كنت يا جوليان دائماً وأنت طفل صغير شريراً في رغبتك غريباً في كراهتك. لماذا لا تدق الجرس؟.
فأجاب جوليان لغرض واحد يا خالتي العزيزة. أني لا أريد أن أسمعك تأمرين خدمك أن يغلقوا باب بيتك في وجه هذه المخلوقة المنكودة المسكينة!.
فنظرت إليه اللادي جانيت نظرة عابسة مرعبة، كأنها قد اندهشت من اجترائه عليها.
قالت بدهشة باردة. إنك لا تنتظر مني ولا ريب أن أرى هذه المرأة؟
فأجاب جوليان في رفق وهدوء أرجو أن لا ترفضي لقاءها. لقد كنت غائباً عن البيت عندما زارتني. ولكن ينبغي لي أن أسمع ما تريد أن تقول. ففضلت أن لا أسمعها إلا في حضرتك. فلما تلقيت جوابك الذي سمحت لي فيه بأن أقدمها إليك، كتبت إليها ضارباً موعداً للقاء في هذا اليبت.
فرفعت اللادي جانيت عينيها السوداويين إلى السقف وهي في صمت ثم قالت في لهجة التهكم ومتى أنال الشرف بتنازلها لزيارة!.
فأجاب ابن أختها بهدوئه المعتاد اليوم! فعادت تسأله وفي أية ساعة؟
فأخرج جوليان ساعته من جيبه ثم لم يلبث أن ردها إليه وهو يقول لقد تأخرت عن الموعد عشر دقائق.
وفي تلك اللحظة دخل الخادم فتقدم إلى جوليان يحمل بطاقة زيارة فوق الصينية. ثم قال سيدة تريد رؤيتك يا سيدي!.
فأخذ جوليان البطاقة ثم انحنى باحترام فدفع بها إلى خالته وهو يقول بهدوء ها هي قد جاءت!.
فنظرت اللادي جانيت إلى الرقعة ثم لم تلبث أن قذفت بها إليه بغضب وقالت مس روزبري!. . . أتطبع الإسم طبعاً! أتطبعه فوق البطاقة. أي جوليان إن للصبر حدوداً. وللحلم غاية. إني أرفض لقاءها!.
وكان الخادم لا يزال واقفاً أشبه شيء بالتماثيل فنظر جوليان إليه وقال وأين هي الآن؟
فأجاب الخادم في قاعة الإفطار يا سيدي!
قال جوليان إذن فلتنتظر هناك ولتبق أنت على منال الجرس!.
فانصرف الخادم صامتاً. وإذ ذاك التفت جوليان إلى خالته فقال عفواً يا سيدتي عن اجترائي على إصدار الأوامر إلى الخادم في حضرتك. فإني أريد أن لا تتسرعي في الحكم أننا خلقاء ولا ريب أن نستمع لها.
قال هوراس محتداً غاضباً إن ذلك يعد إهانة لجريس إذا نحن استمعنا لها!.
فأطرقت اللادي جانيت رأسها إطراقة الموافقة ثم قالت وهي تشبك ذراعها إني أرى ذلك أيضاً!.
فعمد جوليان إلى إقناع هوراس أولاً فقال معذرة يا سيدي وغفراناً. إني لا أقصد مس روزبري في شيء من هذا اللقاء ولا أود أن أدخل بها في هذا الموضوع!
وهنا تمهل ثم عاد يوجه الخطاب إلى اللادي جانيت ولكن خطاب السفير يقول أن أهل المستشفى في ماتهايم مخلفو الآراء في أمرها متباينو الأفكار، وإن فريقاً منهم وبينهم رئيس الأطباء يذهبون إلى أن شفاء ذهنها لم يصحب إبلال بدنها.
فعقبت اللادي على قوله وبعبارة أخرى إن في بيتي الآن امرأة مجنونة ويراد مني أن أقبل لقاءها!.
قال جوليان في رقة ورفق كلا. دعينا من المبالغة والمغالاة. فإنها لا تجدي علينا شيئاً في هذه المسألة الخطيرة. إن صديقي السفير يؤكد لنا في رسالته أن أطباء المستشفى يقررون جميعاً لأنها رقيقة وديعة، لا ثورة تثور، ولا أذاة تحدث ولئن كانت حقاً تحت تأثير وهم ذهني شديد، فهي ولا ريب جديرة منا بالرحمة والعطف والرثاء، وهي بلا شك تحتاج إلى العناية والرفق. فسلي يا خالتي العزيزة فؤادك الكريم الرؤوم أليس من القسوة الكبرى أن نقذف هذه المرأة المسكينة المعذبة إلى عرض الطريق، دون أن نبدأ بسؤالها والتحقق من قولها.
فأثارت هذه الكلمات روح العدل الكمين في فؤاد اللادي جانيت فقالت بصوت رهيب. أجل إن في هذه الكلمات مسحة من الحق ثم نظرت إلى هوراس واستطردت تقول ألا تظن ذلك أنت؟.
فأجاب هوراس في لهجة الرجل الذي لا يستطيع أي إقناع أن يهزم عناده إني لا أستطيع أن أقول شيئاً!.
ولكن صبر جوليان كان أشد قوة من عناد هوراس، فانثنى يقول بكل هدوء وخفة لهجة، ولكنا نحن الثلاثة لا نزال نشعر بالإهتمام والقلق من هذا الأمر الجديد العارض. . ثم ألسنا يا سيدتي اللادي جانيت الآن في أسنح الفرصة لإنهائه وأطوع الظروف لفضه، إن مس روزبري لا تزال خارج البيت كله، فإذا تركنا هذه السائحة تجري مفلتة من بين أيدينا، فمن يدري لعل حادثاً غريباً يقع بعد اليوم؟
فلم تستطع اللادي جانيت إلا أن تصيح وقد رأت رأيها الأخير، إذن لندع المرأة تدخل. أجل يا عزيزي جوليان. لتدخل في التو والساعة. قبل أن تعود جريس إلى البيت. أرجو أن لا ترفض دق الجرس في هذه المرة؟
ولم يكن جوليان ليتردد هذه المرة في دق الجرس ولا ريب فلم يكد يفعل، حتى انثنى يسأل خالته بكل احترام أتسمحين لي أيضاً أن أصدر الأمر إلى الخادم!؟.
فأجابت السيدة العجوز وهي تنهض بشيء من الإنفعال مره الآن ما شئت ولنخرج من هذه المشكلة.
وجاء الخادم فتلقى الأمر بدعوة السيدة إلى الدخول وهنا خطا هوراس يريد الخروج من الباب الثاني، فدلفت إليه السيدة قائلة إنك لن تذهب الآن ولا ريب؟.
فأجابها بشيء من الخشونة إني لا أرى فائدة من بقائي!.
فقالت اللادي جانيت، إذا كان ذلك فلتبق لأني أود بقاءك!. .
قال وهو أشد عناداً من قبل، بكل تأكيد، إذا كنت تريدين ذلك! ولكن تذكري أنني أخالف جوليان في رأيه جد الخلاف، وأرى أن المرأة ليس لها الحق علينا!
وإذ ذاك أفلتت من جوليان للمرة الأولى بادرة غضب وسخط وتأثر فقال بحدة. . ما هذه القسوة يا هوراس. لكل إمرأة في هذه الأرض حق علينا!.
وأنساهم الجدل أمرهم، فلم يذكروا أنهم قد أمروا الخادم بدخول القادمة.
وإذ ذاك لم يلبثوا أن تنبهوا على حفيف ثوب، فنظروا جميعاً صوب الباب، ينظرون المرأة الغريبة القادمة!. . . . .
الفصل الحادي عشر
البعث
وإذ ذاك لاح شبح إمرأة صغيرة في ثوب أسود رقيق الحال، لا تأنق فيه ولا زينة، فلما دنت إليهم رفعت في صمت نقابها الأسود فبدأ وجه شاحب مهزول. تطل منه آثار التعب والمرض، وعليه مسحة جمال أخفاها الهزال، وأذهبها الإصفرار وقفت هذه المرأة كذلك جامدة في مكانها، وجعلت تنظر إليهم صامتة، وظلوا أيضاً واجمين هنيهة لا يتكلمون، ينظرون مذهولين مبهوتين إلى هذا الوجه الشاحب إزاءهم ومضت لحظة، لا حس في الحجرة ولا صوت إلا دقة هذا السكوت الرهيب.
قالت. وهي تدير عينيها في الرجلين الواقفين قبالتها أين مستر جوليان جراي؟
فتقدم جوليان بضع خطوات، وقد تمالك اضطرابه قال. إنني آسف إني لم أكن في البيت عندما جئتني ورسالة السفير، أرجو أن تأخذي لك مجلساً.
وعلى سبيل تهدئة الجأش، عادت اللادي جانيت إلى الجلوس في ناحية بعيدة من الزائرة، وظل هوراس واقفاً بجانبها وانحنت محيية الزائرة الغريبة بأدب متكلف مصطنع، دون أن تفوه بكلمة، وهي تقول في نفسها إني مضطرة إلى الإصغاء لهذه المرأة ولكني لست مضطرة إلى محادثتها. فليقم بذلك جوليان وحده! وظلت اللادي جانيت جالسة مشبكة ذراعيها، ترتقب بدأ المجلس، كالقاضي الجالس في منصة الحكم.
قالت المرأة، وقد ألقت نظرها إلى اللادي جانيت، أهذه هي اللادي جانيت روي؟
فأجاب جوليان بالإيجاب، وأمسك عن القول منتظراً نتيجة جوابه، وهنا نهضت المرأة من مكانها فخطت إلى ناحية اللادي جانيت، وراحت تخاطبها بكل هدوء ورباطة جأش، قالت إن الكلمات الأخيرة التي فاه بها أبي في الحياة، كانت كلمات يا سيدتي تدلني على أن ألتمس منك العطف والرعاية والعون.