الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 36/الجنون والعبقرية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 36/الجنون والعبقرية

بتاريخ: 20 - 5 - 1917


إن الطبيعة كثيراً ما تعمل على مبدأ الحرمان والتعويض، وكثيراً ما تهب النعمة، ثم تسترد من صاحب الهبة في سبيلها ثمناً غالياً، وتلزمه رهناً باهظاً، وتأخذ من سمسرة فاحشة وأنت لا تجد امتيازاً حبته الطبيعة، إلا رأيت وراءه تضحية، ولا تشهد الطبيعة حارمة من ناحية، إلا ألفيتها معوضة مجزية من الأخرى، وهذه الفلسفة الإلهية لا تزال السر الأكبر في بقاء الكون، وهي ضرب من التوازن حتى تتكافأ القوات التي تحمل الأرض، ولولاها لتحطمت الكواكب، وهوت الأفلاك وتدمرت الخليقة، ولعل الطبيعة أرادت بذلك أن لا تثير نزعة التحاسد بين الكائنات، وشاءت أن لا تهتاج الغيرة في الخلائق، فجعلت من الكواكب القصير الرأس - لأنه كان لا بد في الكواكب من قصار الرؤوس - ولكنها أشفقت أن يحزن الكوكب لقصر رأسه. وينظر إلى ضخامة هام أخوته. فجعلت له ذنباً مستطيلاً يجي وراءه في بهرة السموات، ويوم يتفاخر كوكب عليه بعظمة رأسه ويدل عليه سيار بشدة عدره، يوليه ظهره مزهواً متكبراً، باسطاً إليه ذنبه الجميل كأفخر ما تكون الطواويس بأذنابها.

وإذا كان هذا هو القانون العام الذي تجري عليه كل العوالم التي خرجت من يد الصانع الأكبر. فلا تعجب إذن من أن يكون في الناس الجهلة وهم أغنياء، والبله وهم ناعمو البال والعقلاء وهم المحزونون المتعبون، والمرأة الشوهاء الطلعة ووراء لسانها قلب ملائكي مشرق الصفحة، ثم الحسناء المعارف، الصبوح المحيا. مندوبة. . القمر في الأرض وخلف هذا الحسن نفس ملوثة خبيثة يأخذ عنها الشيطان أوامره، في مصطبخ كل يوم، ويعود إليها بدفتر اليومية عند مغيب كل شمس!!.

وعلى هذه القاعدة، لماذا يندهش الناس إذ يسمعون أن كثيراً من النوابغ، وطائفة كبرى من العظماء. وجيلاً عديداً من كتاب الدنيا وشعرائها وفلاسفتها وقوادها وأهل الذكاء المتوقد المفرط فيها، كانوا في حياتهم أحق بسكنى مستشفيات المجاذيب من كثير من البله والمجانين العاديين الذين دخلوها، ولماذا يأخذ المجتمع العجب، وتقع في قلوبهم الحيرة، إذ يرون رؤوسهم والصفوف الأول الصاعدة في طلائعهم، والأدمغة الجبارة الخصيبة التي تطل عليهم، أكثر ما يغلب عليها المرض، وتنتابها العلل، كأنهم لا يعلمون أن العظماء إنما يدفعون إلى الطبيعة ثمن أذهانهم الجميلة على طريقة التقسيط، وكثيرون منهم لا يز يواصلون دفع هذه الأقساط من أجسامهم وعيشهم وكل ما حولهم، حتى يستنفذوا جميع ذلك. ولا تزال الطبيعة تطالبهم بالباقي، فلا ينون يأخذون من الهبة نفسها وهي أذهانهم ويعطون الطبيعة صاغرين، لأنهم يخشون من فضيحة الديون، ولا يحبون أن يكسر عليهم شيء من أقساطهم، وعندما ينقص العظيم من أطراف البقية الباقية لديه وهي ذهنه، يراه الناس مجنوناً ويعده المجتمع المتطلع إليه، مريضاً مأفوناً، ويأنفون أن يعيشوا وراء مجنون، ويتبعوا ظل رجل مريض، فيطرحونه، ويذهبون عنه متفرقين، ليبحثوا عن ذهن جديد يركعون عنده وإذ يرون النتيجة أبداً واحدة، ونوابغهم دافعين إلا أقلهم إلى هوة الجنون أو المرض، يعودون فيصلحون ما أفسدوا في عهد حياتهم، فينصبون لهم التماثيل، ويقيمون الأضرحة، ويضعون الكتب البديعة عنهم، ويود أكثرهم أن يصابوا بنعمة هذا الجنون الطيب الذي ينتهي بهذه الخاتمة المرضية، ولكنهم لا يعلمون أن جنوناً عن جنون يفترق، لأن جنون ألف معتوه في دار المجانين لا يكاد يعدل جنون رجل عبقري واحد. لأن هؤلاء الألف إنما يحطمون زجاج النوافذ، وينطحون الأبواب والجدران، ولكن جنون العبقري إنما يحطم الآداب القديمة، ويمزق الكتب العتيقة، وينسخ كل ما في المكاتب، ويترك لكل كلمة يقولها ألف ذهن حائراً، وألف فؤاد مذهولاً. وهكذا يصلون عدواهم إلى الذين يقرأونهم، وينقلون قطعة من هذا الجنون المبارك إلى أذهان الذين يعيشون وراءهم، وكل قارئ من القراء المعجبين برجل نابغة مريض، إنما يحترق تحت تأثير ذلك السيال الكهربائي النافذ إلى ذهنه. وإذا كان أغلب الناي يتبعون النوابغ على حسب ذهنياتهم واختلاف مشاربهم، فلك أن تقول أن السواد الأعظم من العالم مجانين وإن الأرض قد أصبحت صورة مكبرة من السراي الصفراء.

إذن فليكن النوابغ مرضى، وليعش العبقريون على الجنون، فليس بضائر العالم جنونهم، ولعل جنونهم ومرضهم خير للناس وأبقى على نظام الأرض ولو كانت هذه القوة الجبارة تمشي على قانون منظم، ولو كانت عقول النوابغ تضطرد في مضطرد رقيق هادئ متناسق، إذن لطاحوا بالناس، وملكوا الدنيا أو قلبوها رأساً على عقب وإذ ذاك لا يسع القطعان الإنسانية إلا أن تهرب من وجوههم هروب الجرذان من أظلاف القطط. . ويومذاك يقفز هذا الكوكب ولا يبقى فيه إلا عفاريت آدمية تتضارب وتتجالد وتتنازع على كرسي جمهورية العفاريت في الأرض!

نقول هذا غير قاصدين إلى معارضة الأستاذ سيزار لومبروزو في أبحاثه التي بسطها في كتابه الرجل العبقري ولا ذاهبين إلى إنكار مذهبه من أن ليس بين الجنون والنبوغ إلا خيط ضعيف وإن أعراض العبقرية لا تكاد تختلف كثيراً عن مظاهر الجنون. ولكنا بعد نعدها حقائق مرة أليمة، ولكن العلم لا يسأل عن الألم، ولا يكترث بالعواطف، وإنما هويتهم بالنتيجة، وينظر إلى الغاية، وقد سرنا من لومبروزو أنه لم يستطع أن ينكر أسفه لهذه النتائج الخطيرة التي أنزلت أكبر مظاهر القوة الإنسانية إلى مستوى البلاهة والمرض والإنحطاط ولكن لا ترى الطبيعة نفسها أبت إلا أن ينبت الياسمين بجانب القراص، ويطلع الورد على مقربة من خانقة الذئب. وهل ترون العالم النباتي يستحق اللوم والتأنيب أن اهتدى إلى هذه النتائج، وهل تعد جريمة منه أن ينهي إلى الناس أمرها.

وقد كان المؤرخون إلى هذا العهد قصاصين فقط ومحدثين، وكانوا مزامير ليس غير للأمراء والملوك وقادة الحروب، ومضرمي نيران القتال، ولم يهتموا بتحليل نفسيات النوابغ وتشريح أرواح العبقريين، فلم ينقلوا إلينا شيئاً عن اضطرابهم وأمراضهم وأعراض انحطاطهم. وأبت نزعة الكبرياء والزهو والغرور على هؤلاء النوابغ أن يبسطوا للعالم أسرارهم، اللهم إلا قليلون منهم كاردان وروسو وستورات ميل وموسيه ولامارتين، ولعمري من كان يظن أن ريشيليو كان مريضاً بالصرع، لو لم تزره النوبة، وهو في مجلس من مجالسه ومن كان يعلم أن كافور الطلياني الكبير حاول الإنتحار مرتين، لو لم يضع برتي ومايور كتابيهما عنه، ومن كان يعرف جنون كارليل لو لم تئن بالشكوى زوجته.

ونحن هنا نقول أن كثيراً من أمراض النوابغ وجنونهم يرجع إلى الوراثة، وذلك في الذين ينحدرون من آباء سكيرين أو مزهورين أو معتوهبن أو مصدورين، وغير ذلك، أو من أسباب عارضة مختلفة، والأعراض التي ترى عليهم هي في الغالب فقد الحاسة الأدبية، والتجرد من العاطفة، والنزاع إلى الشك والوسوسة وفقد التوازن إما بزيادة في قوة من قوى العقل (كالذاكرة مثلاً أو الذوق الفني أو غيرهما) أو ينقص في غيرها (كقوة الحساب مثلاً) والتناهي في الصمت أو المغالاة في الثرثرة، والغرور، وتقلب الشخصية، والأنانية، وجعل الأهمية الكبرى لأتفه المسائل واتخاذ ألفاظ خاصة يخرجونها عن معانيها إلى معاني أخرى يريدونها منها.

هذه هي الأغراض الأخلاقية، أما الأغراض البدنية فمنها كبر حجم الآذان وقلة شعر اللحية وعدم انتظام الأسنان وفقد التناسب بين الوجه والرأس، بأن تكون الرأس في نهاية اصغر أو مفرطة الحجم، ونضوج الشهوة قبل أوانها، وصغر البدن أو ضخامته واستعمال اليد اليسرى دون اليمنى، واللعثمة والكساح والسل الرئوي والشهوانية المفرطة التي تخف حدتها بالعقم.

ونحن هنا نذكر عدة من أسماء العظماء والعبقريين الذين ظهرت عليهم هذه الأعراض.

أما صغر الجثة، وضؤولة البدن، فقد اشتهر بهما كثيرون مثل اسكندر الأكبر وأرسطو وأفلاطون وأبيقور وأرخميدس وديوجنيس والقائد تيلا. وبقطيط الذي كان يقول أبداً من أنا. . أنا لست إلا رجلاً صغيراً ومن المتأخرين جبون المؤرخ المشهور، وأسبينوزا ومونتان والموسيقي موزار والموسيقي بتهوفن والشاعر جولد سمث والشاعر الألماني هايني والكاتب شارلزلام وبلزاك الروائي العظيم ودي كونسي وأبسن والكاتبة القصصية العبقرية المعروفة باسم (جورج أليوث).

ومن بين الذين كانوا طوال القامة مشذبي الأعواد، الشاعر جوت، والشاعر شيللر، والإمبراطور شارلمان، وبسمارك ومولتكي والخطيب ميرابوديماس الكبير وشوبنهور ولامارتين وفولتير وبطرس الأكبر وواشنطن وكارليل وترجنيف.

ومن بين الذين كانوا مقعدين أو عرجاً أو حدباً أو حنفاً الشعراء بوب وليوباردي وولتر سكوت وبيرون والمؤرخ جبون وكثيرون من العبقريين وجبابرة العقول عاشوا وماتوا عزاباً وآخرون تزوجوا ولكنهم لم يتركوا نسلاً ولا جاءوا بذراري ولا بنين وفي ذلك يقول الفيلتوف ببكون. . أن أنبل الأعمال وأخطر الفعال إنما جاءت من رجال عقيمين وقد أرادوا بها أن يظهروا للعالم الصور الجميلة التي في أذهانهم بعد أن عجزوا عن إظهار صور أخرى من أبدانهم، وكذلك كان الإهتمام بالذرية والجيل المستقبل أشد ما يكون في قلوب من لا ذرية لهم. . ويقول لابريير إن هؤلاء الناس - يعني العبقريين - لا سلالة لهم ولا أعقاب. هم وحدهم ينشؤون من المستقبل المنحدر بعدهم ذراريهم وأطفالهم. .

وأغرب ما في ذلك أن جميع كبار شعراء الإنكليز لم يتركوا أولاداً ونحن هنا نذكر أسماء الشعراء الآتين - شكسبير. ملتون. دريدن. أديسون. بوب. سويفت. جونسون. جولد سميث. وكثيرون غيرهم اجتنبوا الزواج لكي يتفرغوا إلى الدراسة والأدب. وقد قال المصور العظيم ميشيل أنجلو يوماً إن لي في فني بعيشة الأسرة - كنت - ماكولي - بنتام - شوبنهور - فولتير - شاتوبريان - فلوبير - ماسيني، وهناك مجمع من النوابغ أقدموا على الزواج، ولكنهم عانوا منه العذاب، وساءت به حالهم، وأظلم عيشهم ومنهم شكسبير ودانتي وبيرون وكولوريدج وأديسون وكاريل وأوجست كونت وديكنز، وقد كتب فلوبير يوماً إلى الكاتبة القصصية الطائرة الصيت جورج ساند أن بنات الشعر أخف رحمة، من بنات حواء وقال شامفور لو عقل الرجال لما بقي في الأرض جميعاً رجل يتزوج، وأما عني أنا فإنني لا شأن لي بالزواج لئلا يخرج مني ولد مثلي!!

وهناك عارض آخر يشترك فيه الجنون والعبقرية، ولاسيما الجنون الأخلاقي ونعني به النضوج قبل الأوان. فإن الشاعر دانتي كتب أول قصيدة في الحب وهو في التاسعة وكان باسكال وكونت مفكرين كبيرين رائعي التفكير وهما في الثالثة عشر، وكان فولتير كذلك وهو في هذه السن. وكتب الشاعر جوت قصة بسبع لغات، ولم يكن قد جاز بعد العاشرة، والروائي التمثيلي كوتزبي جعل يكتب كوميديات للمسارح وهو في السابعة، ونظم بيرون عدة أبيات وقصائد وهو في الثانية عشر، ونشر في الثانية عشر أول قطعة من ديوانه ونعني بها - عات الفراغ وأعجب من جميع ذلك أن ميرابو الخطيب العظيم خطب وهو في الثالثة ونشر مؤلفات له في العاشرة وإن موزار جعل يقيم الحفلات لكي يوقع موسيقاه الجديدة وهو في السادسة. ولكن هذا النضوج المبكر لا يزال بعد نضوجاً مريضاً عارضاً غير طويل العمر، وكثيراً ما يظهر في المتوحشين والبيئات التي تعيش على الغريزة، وهناك مثل سائر يقول إ، الذي يكون عبقرياً في الخامسة يصير مجنوناً في الخامسة عشر!. . .

وقد يعترض بعض الناس على هذا العارض فيقولون إن هناك كثيرين من النوابغ والعبقريين لم تظهر عبقريتهم ولم يتجلى ذكاءهم المتوقد إلا بعد دهر طويل. وبعد أن جازوا من عمرهم سنين عدة، وهؤلاء يجاب عليهم بأنه لم توجد ثمت ظروف صالحة مواتية لظهور ذكائهم، أما إن يكون ذلك راجعاً إلى جهل المعلمين والآباء إذ يحسبون العبقرية وهي في دور الذهول والبلادة في الطفل بلاهة أو غباء وحمقاً، وكثيرون من الأطفال كانوا يعدون في المدرسة أغبياء أو حمقى أو طائشين ثم أصبحوا بعد ذلك عظماء ونوابغ، ولم تلبث أن ظهرت عبقريتهم عندما سنحت الفرصة لإظهارها أو عندما اهتدت أذهانهم إلى الطريق الملائمة لعبقريتهم، ونذكر من هؤلاء بلزاك وديماس الكبير والدوق ويلنجتون القائد الإنكليزي العظيم والروائي الخطيب شريدان والشاعر بيرنز، وكان نيوتن مكتشف قانون الجاذبية آخر أقرانه في الفرقة، يوم كان تلميذاً، وكان ولتر سكوت غبياً مكسالاً في المدرسة، ولكنه ظهر بعد ذلك أكبر الروائيين، وأما جوستاف فلوبير فتعلم القراءة في طفولته بكل مشقة وجهد، ولكنه في الوقت نفسه كان يضع في ذهنه روايات تمثيلية كثيرة، وكان لا يستطيع كتابتها، فاجتزأ عن ذلك بأن أخذ يمثلها بنفسه ويقوم هو بجميع أدوارها.

ويجئ بعد ذلك الذهول أو الغيبوبة، وقد وصف كثيرون من العبقريين أنفسهم وهم تحت تأثير الإلهام فقالوا أن حالتهم إذ ذاك تشبه حمى بهيجة مفرحة. تثير تفكيرهم وتبعث أذهانهم على التخيل والغياب في أبعد مراحل التصور والفكر. ومن ذلك يقول بول ريختر إن الرجل العبقري في نظري هو رجل منوم، يرى في حلمه الهادئ أكثر وأبعد مما يراه في صحوه ويقظته، وهو في هذا الحلم يبلغ أسمى جبال الحقيقة والرجل العبقري في ذلك مدفوع بإحساس لا يستطيع رده، وكما تدفع الغريزة الحيوان إلى إتيان عمل قد يكون فيه موته، تجد العبقرية كذلك عاجزة عن مدافعة ما يثيرها من الإحساس الداخلي الغريب. وقد غزا نابليون غزواته، وأغار الإسكندر غاراته. لا حباً في المجد ولا رغباً في الشهرة والفكاهة. ونما إطاعة إلى غريزة قوية ل قاهر لها، وكذلك العبقرية تخلق وتبتكر لا رغبة في الإيجار ولكن لأنه يجب أن تخلق وتبتكر.، حتى لقد قال نابليون إن نهاية وقائعه كانت نتيجة لحظة واحدة من التفكير، إذ تظهر اللحظة القاطعة، فتسطع شعلة الفكرة، فإذا به يرى نفسه منتصراً، وقال لامارتين لست أنا الذي أفكر، إن أفكاري، إن أفكاري هي التي تفكر عني وكثيراً ما كان يقول الشاعر جوت أنه لا بد للشاعر من التهاب الذهن، وقد نظم جوت أكثر شعره وهو في حال بين النوم واليقظة، وكتب فولتير جزءاً كاملاً من كتاب الهنريات وهو نائم.

ولعل أقرب ضروب الشبه بين العبقريين والمجانين، لا يقع لا عندما يكون أهل العبقرية تحت تأثير الإلهام، والأعراض التي تبدو على الرجل العبقري عندما يكون في هذه الحال هي سرعة النبض وإصفرار المحيا وبرودة الجلد والتهاب الرأس من الحمي وزيغ البصر من ظهور بريق موحش مخيف في العينين، وكثيراً ما يحدث أن الشاعر أالكاتب لا يدري ماذا كان يكتب أو ينظم عندما يفيق بعد ذلك من الحمى التي انتابته. فقد كان الشاعر تاسو نظهر عليه كل عوارض الجنون، عند ما كان يأخذ في نظم قصائده. . ومنهم من يضطر إلى إحداث الإلتهاب في ذهنه بأية وسيلة وسبيل لكي يقع له التفكير، ويواتيه الشعر والخيال، فكان شيللر يضع رجليه في الثلج، وروسو لا يفكر إلا إذا عرض رأسه لأشعة الشمس وهي في أشد وهجها، وكان الشاعر شللي يرقد ورأسه على مقربة من الموقدة وقد يتحول الإلهام في بعض الأحايين إلى الهذيان. فقد كان ديكنز وكليست يحزنان على الأبطال الذين يضعانهم في روايتهما، وقد شوهد الشاعر كليست باكياً متحدر العبرة، جازعاً كاسف البال، بعد انتهائه من كتابة إحدى رواياته التراجيدية، وهو يقول صارخاً لقد ماتت. لقد ماتت! وأشد ما يتجلى في النوابغ والعبقريين شدة الإحساس، حتى إن كارليل وموسيه وفلوبير كانوا لا يستطيعون احتمال ضوضاء الشوارع وأصوات النواقيس، ولهذا كانوا لا يقيمون في منزل واحد، وإنما يتنقلون من شارع إلى شارع، ومن مسكن إلى مسكن، هرباً من الأصوات. وقد تشنج الشاعر بيرون عندما رأى الممثل كين يمثل فوق المسرح. وقد رأى المصور فرانسيا يوماً صورة من صور روفائيل، فمات لساعته من شدة الفرح وتبدو لهم طعنات خناجر ومدى وسكاكين، ما يبدو لغيرهم وخزات الإبر، فإن الشاعر شاتو بريان لم يكن يحتمل أن يسمع مديحاً موجهاً إلى إنسان ما، ولو صانع أحذيته، دون أن يثور ثائره، ويهتاج حنقه، وقد شوهد الشاعر الروسي بوسكن في دار التمثيل والجمهور منصرفون في ختام الرواية، متزاحمون عند الباب يعض من الغيرة والحنق كتف إحدى السيدات، وكانت تمشي إلى جانب زوجها، وذلك لأنه كان إذ ذاك يميل إليها. وإن الفيلسوف شوبنهور كان رفض أن يدفع للدائنين الديون التي عليه إذا كتبوا اسمه بالباء المشددة بدلاً من باء واحدة وآخر ما نذكره من الأعراض التي تظهر على النوابغ السخافة، وكثيراً ما توجد دلائلها في كتبهم وأحاديثهم فقد جمع جوستاف فوليير طائفة منها في كتاب أسماه ملف البؤساء وكانت لا تعرف اللاتينية، ولكنها كانت تفهمها جيداً، أو كلمة برناردان دوسان بيير صاحب الرواية الطائرة الصيت بول وفرجيني وهي أن الطبيعة قسمت البطيخة إلى شقق لكي تؤكل في العائلة ولما كانت القرعة أو اليقطينة أكبر حجماً، فإنها خلقت لكي تؤكل مع الجيران!!.