الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 33/فكاهات ونوادر ومختارات في الأدب والتاريخ

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 33/فكاهات ونوادر ومختارات في الأدب والتاريخ

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 33
فكاهات ونوادر ومختارات في الأدب والتاريخ
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 5 - 3 - 1917


نبل أرواح العرب

كان معن بن زائدة الشيباني من سادات العرب وكان نادرة الفلك في الكرم والجود. وكان في أيام الدولة الأموية يتنقل في الولاية من الآية إلى الأية، وكان منقطعاً إلى يزيد بن عمر الفزاري أمير العراقيين أزمان الأمويين فلما دالت الدولة إلى العباسيين وجرى بين أبي جعفر المنصور وبين يزيد المذكور من محاصرته بمدينة واسط ما هو مدون في كتب التاريخ أبلى يومئذٍ معن مع يزيد بلاءً حسناً فلما قتل يزيد خاف معن من أبي جعفر المنصور فاستتر عنه مدة وجرى له مدة استتارة غرائب فمن ذلك هذه الحكاية التي تشف عن نبل أرواح العرب سواء في ذلك أميرهم وحقيرهم، حدث الشاعر مروان بي أبي حفصة - وكان مروان شاعر معن خصيصاً به - قال: أخبرني معن وهو يومئذٍ متولي بلاد اليمن أن المنصور جد في طلبي وجعل لمن يحملني إليه ممالاً فاضطررت لشدة الطلب إلى أن تعرضت للشمس حتى لوحت وجهي وخففت عارضي ولبست جبة صوف وركبت وخرجت متوجهاً إلى البادية لأقيم بها فلما خرجت من باب حرب - وهو أحد أبواب بغداد - تبعني أسود متقلد سيفاً حتى إذا غبت عن الحرس قبض على خطام الجمل فأناخه وقبض على يدي فقلت له وما بك فقال أنت طلبة أمير المؤمنين فقلت ومن أنا حتى أكون طلبة أمير المؤمنين فقال أنت معن بن زائدة فقلت له يا هذا اتق الله وأين أنا من معن فقال دع هذا فإني والله لأعرف بك منك فلما رأيت منه الجد قلت له هذا عقد جوهر بأضعاف ما جعله المنصور لمن يجيئه بي فخذه ولا تكن سبباً لسفك دمي قال هاته فأخرجته إليه فنظر فيه ساعة وقال صدقت في قيمته ولست قابله حتى أسألك عن شيءٍ فإن صدقتني أطلقتك فقلت قل قال إن الناس قد وصفوك بالجود فأخبرني هل وهبت مالك كله قط قلت لا قال فنصفه قلت لا قال فثلثه قلت لا حتى بلغ العشر فاستحيت وقلت أظن أني قد فعلت ذلك قال ما ذاك بعظيم أنا والله راجل جندي بياده ورزقي من أبي جعفر المنصور كل شهر عشرون درهماً وهذا الجوهر قيمته ألوف الدنانير وقد وهبته لك ووهبتك لنفسك ولجودك المأثور بين الناس ولتعلم أن هذه الدنيا من هو أجود منك فلا تعجبك نفسك ولتحقر بعد هذا كل جود فعلته ولا تتوقف عن مكرمة ثم رمى العقد في حجري وترك خطام الجمل وولى منصرفاً فقلت يا هذا والله لقد فضحتني. ولسفك دمي علي أهون مما فعلت فخذ ما دفعته لك فإني غني عنه فضحك وقال أردت أن تكذبني في مقالي هذا. والله لا أخذته ولا آخذ لمعروف ثمناً أبداً ومضى لسبيله فوالله لقد طلبته بعد أن أمنت وبذلت لمن يجيئني به ما شاء فما عرفت له خبراً وكأن الأرض ابتلعته.

كيف كانوا يكرمون العلماء ويكافئونهم

حدث النضر بن شميل العالم اللغوي المشهور قال - كنت أدخل على المأمون في سمره فدخلت ذات ليلةٍ وعلي ثوب مرقوع فقال يا نضر ما هذا التقشف حتى تدخل على أمير المؤمنين في هذه الخلقان قلت يا أمير المؤمنين أنا شيخ ضعيف وحسر مرو شديد فأتبرد بهذه الخلقان قال لا ولكنك قشف ثم امتد بنا نفس الحديث فأجرى هو ذكر النساء فقال حدثنا هيثم عن ابن عباس قال قال رسول الله إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز - فأورده بفتح السين - قال النضر فقلت صدق يا أمير المؤمنين هيثم حدثنا عوف ابن أبي جميلة عن الحسن عن علي قال - قال رسول الله: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيها سداد من عوز - قال. وكان المأمون متكئاً فاستوى جالساً وقال يا نضر كيف قلت سداده قلت لأن ههنا لحن قال أو تلحنني؟ قلت إنما لحن هيثم وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه قال فما الفرق بينهما قلت السداد بالفتح القصد في الدين والسبيل وبالسر البلغة وكل ما سددت به شيئاً فهو سداد. قال أو تعرف العرب ذلك قال نعم هذا العرجي يقول:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر

فقال المأمون قبح الله من لا أدب له وأطرق ملياً ثم قال أنشدني أخلب بيت قالته العرب قلت حمزة بن بيض يقول في الحكم بن مروان:

تقول لي والعيون هاجعةٌ ... أقم علينا يوماً فلم أقم

أي الوجوه انتجعت قلت لها ... وأي وجه إلا إلى الحكم

متى يقل صاحباً سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم

قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات أدخل أو وفني سلمي

فقال أحسن ما شاء. أنشدني أنصف بيت قالته العرب.

قلت ابن عروبة المدني حيث يقول

إني وإن كان ابن عمي واغراً ... لمزاحم من خلفه وورائه

وممده نصري وإن كان أمرأ ... متزحزحاً في أرضه وسمائه

وأكون وإلي سره وأصوله ... حتى يحين علي وقت أدائه

وإذا الحوادث أجحفت بسوامه ... قرنت صحيحتنا إلى جربائه

وإذا دعي باسمي ليركب مركباً ... صعباً قعدت له على سبسائه

وإذا رأيت له رداءً ناضراً ... لم يلفني متمنياً لردائه

فقال أحسن ما شاء. أنشدني أقنع بيت للعرب قلت الحكم ابن عبدل الأسدي حيث يقول:

أطلب ما يطلب الكريم من الرز ... قلنفسي فأجمل الطلبا

وأحلب الثرة الصفي ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا

إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغبته في صنيعةٍ رغبا

والنذل لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئاً إلا إذا رهبا

مثل الحمار الموقع الظهر لا ... يحسن مشياً إلا إذا ضربا

ولم أجد عدة الخلائق إلا الد ... ين لما اعتبرت والحسبا

فقال المأمون أحسن ما شاء: ما مالك يا نضر، فقد أريض لي بمرو أنصأبها وأمزرها. قال - أفلا تفيدك مع ذلك مالاً - قلت إني إلى ذلك محتاج. قال - فأخذ القرطاس وكتب وأنا لا أدري ما يكتب ثم قال كيف تقول من التراب إذا أمرت أن تترب. قلت أتربه قال فهو ماذا قلت مترب قال فمن الطين قلت طنه قال فهو ماذا قلت مطين. قال هذه أحسن من الأولى ثم قال يا غلام أتربه وطنه ثم صلي بنا العشاء. ثم قال لخادمه تبلغ معه إلى الفضل بن سهل فأتيته فلما قرأ الكتاب قال يا نضر - إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب فأخبرته ولم أكذبه فقال لحنت أمير المؤمنين فقلت كلا إنما لحن هيثم وكان لحانة فتبع أمير المؤمنين لفظه فأمر لي الفضل بثلاثين ألفاً - فأخذت ثمانين ألفاً بحرف استفيد مني.

شيء من نوادر أشعب

كان أشعب بن جبير التابعي المدني من أظرف الناس وأكثرهم نادرة وأبدعهم فكاهةً ومجوناً - وكان شرهاً لهماً دباغي المذهب طفيلياً جد بخيل. وكان لذلك كله حبيباً إلى النفوس كأنه مخلوق من كل نفس فكان مقرباً من الخلائف والأمراء وأهل بيت النبوة وأشراف العرب - وكانوا يتنافسون في طلابه والإختصاص بسمره ومجونه ونحن نختار هنا بعضاً من نوادره تفكهةً للقراء - حدث الرواة قالوا - قالت صديقة أشعب مرة لأشعب هب لي خاتمك أذكرك به قال أذكريني أني منعتك إياه فهو أحب إلي: وحدثوا أن أشعب صلى يوماً جانب مروان بن إبان بن عثمان - وكان مروان عظيم الخلق والعجيزة فأفلت منه عند نهوضه بعض ما يقبح. . . وانصرف أشعب من الصلاة فظن الناس أنه هو صاحب تلك الفعلة. . فلما انصرف مروان إلى منزله جاءه أشعب وقال له الدية فقال دية ماذا فقال دية. . . التي تحملتها عنك وإلا شهرتك والله فلم يدعه حتى أخذ منه شيئاً صالحاً. وحدث رجل من الأشراف قال - قلت لأشعب يوماً لو تغديت عندي العشية فقال أكره أن يجيئ ثقيل قلت ليس غيرك وغيري. قال فإذا صليت الظهر فأنا عندك فصلي وجاء فلما وضعت الجارية الطعام إذا بصديق لي يدق الباب فقال ترى قد صرت إلى ما يكره قلت إن عندي فيه عشر خصال قال فما هي - قلت أولها أنه لا يأكل ولا يشرب. قال التسع لك أدخله. . . . وسمع أشعب امرأة تقول اللهم لا تمتني حتى تغفر لي ذنوبي فقال لها يا فاسقة أنت لم تسألي الله المغفرة إنما تسألينه عمر الأبد يريد أن الله لا يغفر لها أبداً. . . وحدثوا: أن لولين بن يزيد بعث إلى أشعب يوماً بعد ما طلق امرأته سعدة فقال له يا أشعب لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلغ رسالتي سعدة فقال له أحضر المال حتى أنظر إليه فأحضر الوليد بدة فوضعها أشعب على عنقه ثم قال هات رسالتك يا أمير المؤمنين قال - قل لها يقول لك:

أسعدة هل إليك لنا سبيل ... وهل حتى ألقياته من تلاق

بلى ولعل دهراً أن يؤاتي ... بموت من حليلك أو طلاق

فأصبح شامتاً وتقر عيني ... ويجمع شملنا بعد افتراق

فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه فأمرت ففرش لها فرش وجلست فأذنت له فدخل فأنشدعا ما أمره فقالت لخدمها خذوا الفاسق فقال يا سيدتي إنها بعشرة آلاف درهم قالت والله لأقتلنك أو تبلغه كما بلغتني قال وما تهبين لي قالت بساطي الذي تحتي قال قومي عنه فقامت فطواه ثم قال هاتي رسالتك جعلت فداءك قالت قل له:

أتبكي علي لبني وأنت تركتها ... فقد ذهبت لبني فما أنت صانع

فأقبل أشعب فدخل على الوليد فأنشده البيت فقال أوه تلتني والله - اختر إما أن أدليك منكساً في بئر أو أرمي بك من فوق القصر منكساً أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربةً فقال ما كنت فاعلاً بي شيئاً من ذلك قال ولم قال لأنك لم تكن لتعذب رأساً فيه عينان قد نظرتا إلى سعدة فقال صدقت يا بن الزانية أخرج عني.