الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 29/ماجدولين الجديدة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 29/ماجدولين الجديدة

بتاريخ: 5 - 1 - 1917


الفصل الأول

المرأتان

في ليلة ممطرة شديدة الظلام، وقد تولى المساء، وانحدرت المغرب مبعدة، التقت فرقة من الفرنسويين على غرة بفرقة من الألمان على مقربة من قرية لاجرانج، بلد صغير يداني الحدود الألمانية.

هناك استحر بينهما القتال واشتدت الملحمة، وخدم التوفيق الفرنسويين وتراجع الأعداء إلى حين منكفئين إلى تخومهم.

هذا وقد جلس الضابط أرنولد قائد الفرقة الفرنسوية في كوخ من أكواخ القرية كان لطحان الناحية، وكان في تلك الساعة يقرأ على ضوء مصباح ضئيل عدة رسائل ومخابرات انتزعوها من العدو، وكانت الموقدة مخنوقة الأنفاس هادئة اللهيب، وعلى أرض الحجرة بعض غرائر الطحان وأكياسه، وفي ناحية منها سريره الخشبي الخشن. وبين الحجرة والمطبخ باب قد انتزع خشبه، واستعيض عنه ستر من الخيش، وقد أفرد المطبخ لتمريض الجرحى بعناية جراح الفرقة وممرضة إنكليزية من نسوة الصليب الأحمر، وكان للحجرة باب آخر يفضي إلى فناء الدار فأغلقوه، وعمدوا إلى النافذة فأوصدوا خشبها، وقامت الحراس على منافذ القرية ومناحرها ترقب وتحرس، ولم يترك القائد وسيلة من وسائل الحذر إلا أقامتها ليكفل له ولرجاله ليلة راضية هادئة.

وبينما هو مستغرق في تلاوة أوراقه وكتابة ملاحظاته عليها، إذ دخل الجراح سيرفيل وتقدم إلى مكتب القائد فابتدره الضباط في لهجة خسنة، ماذا تريد؟

فأجاب الجراح - سؤال أريد أن ألقيه إليك - أنحن في أمان الليلة؟

قال الضابط مستر بيا ولماذا تريد أن تعلم؟

فأشار الجراح صوب حجرة الجرحى ثم أجاب إن هؤلاء المساكين في خوف ورعب من الساعات الباقية من الليل، وهم مشفقون أن تطلع علينا داهمة من العدو ويسألون لا ما كانت لهم الليلة ضجعة هانئة طيبة، فهل تعلم من الأمر شيئاً؟

فهز القائد كتفيه قال الجراح وهو يصر أنت ولا ريب تعلم أجاب الضابط إني لا أعلم إلا أننا أصحاب القرية هذه الساعة، ولا أعرف أكثر من ذلك، وهذه أوراق العدو ورفع الأوراق بيده وهزها مستطرداً في حديثه لا أكاد أرى من خلالها ما أستطيع أن أعتمد عليه وإذ ذاك قام القائد وأرخى عصابة معطفه فوق رأسه وأشعل لفافته من المصباح وتمشى يريد الإنصراف.

قال الجراح إلى أين أنت ذاهب؟

أجاب لكي أزور مرابط الحراس!

قال الجراح وهل أنت في غنى عن هذه الحجرة برهة من الزمن؟ فأجاب القائد بل ساعات طوالاً. فهل تريد أن تنقل إليها نفر من جرحاك؟ فأجابه الجراح إني كنت أفكر في أمر السيدة الإنكليزية فإن المطابخ ليس بالمكان الخليق بها ولعلها تكون أنعم حالاً في هذه الحجرة وستجالسها الممرضة الإنكليزية.

فابتسم الضابط أرنولد وغمر بعينيه ثم قال. إنهما لغادتان جميلتان والجراح سيرفيل عافاه الله بالغانيات شغوف، إذن فدعهما يقيمان هنا إن كانتا جريئتين إلى حد الثقة بالجلوس إليك وحدهما.

ثم تحفز للذهاب ولكنه التفت وراءه إلى المصباح متخوفاً وهو يقول وحذر السيدتين أن يطمعا في معرفة ما وراء هذه الجدران؟

قال الجراح لم أفهم ماتريد.

فأشار القائد إلى النافذة الموصدة وقال إن النساء يتقن إلى فتح النوافذ، فقل للسيدتين أني لا أريد أن ينم نور المصباح عن مرابضنا فيهتدي إليها الألمان. . . وما حال الجو الآن. ألا تزال السماء تسح بالمطر؟

قال الجراح نعم بل إنها لتعصف بع عصفاً

أجاب القائد. ذلك خير لنا. فلن يستطيع العدو اكتشاف مقرناً.

وانطلق ففتح الباب الموصد المؤدي إلى فناء الكوخ وخرج، وإذ ذاك رفع الجراح طرف الستر ونادى قائلاً يا مس مريك. ألديك وقت للراحة الآن؟ فأجابه صوت ناعم يختفي في نبراته حزن عميق. نعم لكما وحدكما.

وأزاح الستر، فظهرت المرأتان وكانت الممرضة أولهما، تمشي في رفق ممشوقة القد متثنية رائعة الجمال في لبسها الأسود وأكمامها البيضاء، وعلى كتفها شارة الصليب الأحمر. وكانت شاحبة اللون واجمة الوجه تنم هيئتها عن ألم وحزن صامتين، وفي إطراقة رأسها الجميل ورنوة عينيها النجلاوين السوداوين شيءٌ من السمووالنبل. نريك تقاطيع وجهها وتناسب معالمها جمالاً رائعاً فاتناً، حتى ليدور في خاطرك أنك لتتطلع عليها بهذا الجمال، في أي لباس تلبس وأي موطن تقف وأما رفيقتها فكانت أقصر منها قداً ولا تكاد تدانيها في صباحتها، عليها فواتن من الجمال كانت كافية لأن تحدث هذا الإهتمام الشديد الذي ظهر على الجراح. كانت متشحة في رداء أسود كبير يعم جميع جسمها ورأسها، وكان يدور من ضعف صوتها وتراخي مشيتها أنها متعبة فلما دخلتا قال الجراح، عليكما أن تتذكرا أمراً واحداً أيتها السيدتان، وهو أن تحذرا من فتح النافذة مخافة أن ينفذ منها نور الصباح. وأما بعد ذلك فنحن هنا في راحة طيبة ودفئ، ألا تمالكي يا سيدتي العزيزة جأشك واعتمدي أعلى حماية رجل فرنسوي مخلص إليكي وراح يؤكد كلماته الأخيرة بأن رفع بكل جسارة يد السيدة شفتيه فطبع عليها قبلة حارة. وفي تلك اللحظة أزيح الستر وظهر أحد الممرضين فقال إن ضمادة من الضمادات انفكت وإن الجريح في حالة تنذر بالخطر، فوضع الجراح يد السيدة كمن يستسلم إلى أمر القضاء وانطلق ليباشر واجبه في المطبخ وخلت الحجرة للسيدتين.

قالت الممرضة، هلا أخذت لك مقعداً يا سيدتي؟

فأجابتها رفيقتها بلطف لا تدعيني بالسيدة، إن اسمي جريس روزبري وأنت فما اسمك؟

فترددت الممرضة ثم قالت ليس لي اسم جميل كاسمك وترددت ثانيةً ثم عادت فقالت بعد تفكير. نادني بهذا الإسم مرسي مريك!

قالت مس روزبري في لهجة حلوة كيف أستطيع أن أشكر لك حنانك وبرك بإمرأة غريبة مثلي؟

فأجابت مس مريك بشيءٍ من البرود لم أعمل غير واجبي فلا تتكلمي عنه

قالت الأخرى كيف لا أتكلم عنه. . ما كان أسوأ حالتي يوم لقيتني لما طردت الجنود الفرنسوية الألمان، فقد أوقف العدو مركبة السفر التي كنت فيها وأخذوا الجياد وسرقوا نقودي وأمتعتي وابتلت أثوابي من المطر، وإني لمدينة لك بوجودي في كنف هذا المكان وها أنا مشتملة في ثيابك. لقد كنت ولا شك سأقضي من الخوف والبرد لولاك. فأي جزاء أستطيع أن أجزيك!

فوضعت مرسي مقعداً لرفيقتها بإزاء مكتب القائد وجلست هي عن كثب، على صندوق قديم كان في زاوية من الحجرة ثم قالت ألا تسمحين لي أن أسألك سؤالاً عن نفسك؟

ولم يكن من خلق جريس أن تفتح قلبها لكل غريب، ولكن الموطن الذي التقت فيه بالممرضة والأخطار التي تشاركتها في احتمالها ووجودهما معاً وهما من بلد واحد في موطن غريب كانت أدعى إلى أن لا تكتم عنها شيئاً ولذلك أجابتها عن ود ولطف، وبلا تردد، بل مائة سؤال إن شئت - ثم نظرت إلى المصباح الخافت وقالت إن هذا المصباح الضئيل لايكاد يرسل نوراً، وما أظن أنه سيستمر كثيراً، ألا نستطيع أن نجعل المكان أبهج منظراً، تعال من مجلسك هذا البعيد ومري لنا بوقود ونور.

ولكن مرسى ظلت في مكانها وهزت رأسها قائلة إن المصابيح والوقود من الأشياء النادرة هنا، وعلينا أن لا نجزع وإن تركنا في الظلام. ثم استمرت قائلة في صوت أرفق من الأول ألا أنبثيني كيف أقدمت على اجتياز الحدود في زمن الحرب.

وإذ ذاك تغيرت ملامح الفتاة وذهبت عنها البهجة ثم أجابت. كان يبعثني على العودة إلى إنجلترة بواعث شديدة.

فقالت الأخرى وأنت هكذا وحيدة، لا رجل ولا رفيق معك يحميك.

فأطرقت جريس برأسها حزينة وقالت لقد تركت نصيري الوحيد. والذي. في مقبرة الإنجليز برومة وأما والدتي فقضت نحبها منذ سنين في كندا.

فتحركت الممرضة في مجلسها عند الصندوق وقد ارتجفت عند سماع الكلمة الأخيرة التي خرجت من بين شفتي مس روزبري.

قالت جريس وهل تعرفين كندا؟ فأجابت متململة جيداً ولم تزد قالت مس روزبري ألم تسكني يوماً قريباً من بورت لوجان

قالت نعم عشت دهراً على بضعة أميال منها فسألتها ومتى كان ذلك؟.

قالت منذ زمان وكأنما أحزنتها الذكرى فخرجت بالحديث إلى موضوع آخر. قالت إن أقاربك الذين في إنجلترة ولا ريب في جزع عليك اليوم فتنهدت جريس ثم قالت ليس لي فيها قريب، وأنا أوحد الناس في هذا العالم وقد انحدرنا من كندا يوم مرض أبي إلى إيطاليا وذلك بإشارة الطبيب - وأحزاناه أن موته لم يتركني وحيداً فقط بل فقير أيضاً، وتوقفت هنية فأخرجت من جيب معطفها الفضفاض محفظة جلد صغيرة.

ثم قالت. ولم يبق لي من أمل في هذه الحياة إلا هذه المحفظة الصغيرة. هذا هو الكنز الذي اجتهدت في إخفائه عندما سرقني الألمان كل شيء.

فسألتها مري وهل يحتوي شيئاً من النقود؟

أجابت كلا. إن هي إلا بضعة أوراق شخصية ورسالة من أبي يقدمني بها إلى سيدة كهلة في إنجلترة كانت بينه وبينها علاقة مصاهرة، ولم تقع عيني عليها إلى اليوم وقد رضيت السيدة أن تقبلني في خدمتها كوصيفةٍ لها ومقرئة فإذا لم أرجع الآن إلى إنجلترة على أجنحة السرعة فقد تهجم على المكان امرأة سواي.

قالت مس مريك. أوليس لك من مورد آخر للحياة غير هذا المورد.

أجابت الأخرى. كلا. لقد أغفلوا في زمان طفولتي أمر تعليمي وتربيتي. كنا نعيش في العالم الجديد عيشةً خشنة موحشة فلست بالتي تصلح لشيء إنما أنا أركن إلى عون هذه السيدة فهي التي ستدخلني في خدمتها من أجل أبي.

وهنا أعادت المحفظة إلى جيب المعطف وختمت قصتها بهذه الكلمات إن قصتي لفاجعة محزنة، أفهل ترينها كذلك؟.

فأجابتها الممرضة في صوت شجي محزن مرير إن في الحياة لقصصاً أفجع من قصتك. وإن في هذا العالم لألوفا من التعيسات المنكوبات لا يسألنا من علالة أو سعادة إلا أن يبادلنك مكانك. . .

فارتجفت جريس وقالت وأي شيء يغبطن في حظ كحظي فانطلقت رفيقتها تقول يغبطن اسمك العف الطاهر، يحسدن خلقك النقي البريء. ينظرن إلى مقامك شريفةً في بيت شريف فتحركت جريس في مجلسها ونظرت إلى ناحية الممرضة نظرة عجب ودهشة وهي تقول ما أعجب ما تقولين.

فلم تجب الأخرى ولكن جريس أخذت تدني مقعدها من مجلس الممرضة وقالت أفي حياتك من سر غريب. وما أعجب إلا من تضحية نفسك واندفاعك إلى هذا الموطن المفزع المخيف، إنك لتثيرين فيَّ اهتمامي، فمدي إليَّ يدك.

فانزوت عنها مرسى منقبضة ورفضت أن تعطيها يدها فقالت جريس مندهشة أولسنا صديقتين.

فأجابتها كلا. فلن نستطع أن نكون يوماً صديقتين قالت ولم. فظلت الممرضة صامتة. فتذكرت جريس ترددها في ذكر اسمها ففكرت قائلة ألست مصيبة في حدسي إذا قلت أنك لا بد من أن تكوني سيدة نبيلة جئت متخفية؟

فضحكت مرسى في سريرتها. ولكن كان ضحكها مراً صامتاً مبكياً ثم عادت تقول هازئة وأنا سيدة نبيلة، لك الله. دعينا نأخذ في حديث آخر.

فازداد فضول جريس وثارت دهشتها فقلت وهي تصر لنكن صديقتين يا عزيزتي. ثم وضعت يدها البضة الناعمة على كتف مرسى من لطف ورقة فنزعتها الأخرى عنها من خشونة وغلظة. وأغضب ذلك رفيقتها فنفرت عنها مغضبةً وهي تقول يا لك من قاسية! فأجابت الممرضة في لهجة أغلظ من الأولى. إني لرفيقة ولست بقاسية فردت عليها الأخرى أليس من القسوة أن تنفري عني وتبعديني هكذا عنك. لقد خرجت لك عن قصتي فاخرجي عن قصتك.

فازدادت خشونة الممرضة فرفعت صوتها وقالت بقسوة لا تصري على إغرائي على الكلام وإلا كنت نادمة!

فلم يفلح هذا التحذير بل استرسلت جريس في إلحاحها تقول لقد وثقت بك أول أمري، أفضيت إليك بسري فهل تغفلين بعد ذلك أبواب قلبك في وجهي!.

قالت مرسى مريك أما وقد أصررت على إغرائي فستعملين إذن كل شيء. ستعلمين كل شيء فاجلسي.

وإذ ذاك بدأ قلب جريس يشتد في خفقاته توقعاً لما سيهجم على مسمعها وأخذت مقعدها على مقربة من الصندوق الذي اقتعدته الممرضة - ولكن مرسى مدت يدها فأرجعت المقعد بعيداً عنها قائلة بغلظة لا تقتربي كثيراً مني!.

قالت ولماذا! أجابت. انتظري حتى تسمعي ما سأقول فأطاعت جريس دون أن تنبس ببنت شفة. وكان سكوت.

وطفر من المصباح المختنق شعلة ضعيفة كانت آخر أنفاسه فتجلت على أشعته مرسى وهي فوق الصندوق وقد دفنت وجهها في راحتيها ولم تلبث الحجرة أن راحت في ظلمة حالكة.

ولما غابت المرأتان في أحناء هذا الظلام انطلقت الممرضة في حديثها.

الفصل الثاني

مجدولين هذا العصر

كان أول ما فاهت به مرسى من قصتها هذا السؤال لما كانت أمك على قيد الحياة ألم تكوني مرة معها بعد منتصف الليل في طرق المدينة.

فأجابت جريس إني لا أفهم ما تريدين؟.

وإذ ذاك تغير صوت الفتاة وعاد شجيَّ النبرات فياض الأسى. قالت. أنت ولا ريب تقرأين الصحف كبقية الناس فهل قرأت يوماً عن أولئك النسوة الشقيات المكدودات، طريدات المجتمع وشريداته، أولئك النسوة اللاتي ساقتهن الحاجة إلى الخطيئة.

فقالت جريس وهي لا تزال في عجب ودهشة أنها قرأت عن ذلك كثيراً في الصحف وفي الكتب.

فاسترسلت الفتاة تقول وهل سمعت بأمر الملاجئ التي تحمي هذه النسوة وترعاهن؟

وإذ ذاك بدأت الدهشة تتبدد وتتقلص من ذهن جريس ويحل مكانها ريبة مخيفة ولذلك أجابت تلك أسئلة غريبة فماذا تعنين؟

فعادت الفتاة إلى سؤالها الأول قالت أجيبي هل سمعت بتلك الملاجئ، وهل علمت بأمر أولئك النسوة؟

أجابت جريس نعم قالت في حزن. إذن فأزيحي عني مقعداً قليلاً. وهنا تمهلت هوناً، ثم رجعت إلى الحديث في صوت خافت ساكن فقالت بهدوء، فقد كنت أنا يوماً إحدى أولئك النسوة.

وإذ ذاك وثبت جريس من مجلسها وقد خرجت من بين شفتيها صرخة ضعيفة - ووقفت جامدة - لا تستطيع كلاماً واسترسل ذلك الصوت المحزن المبكي يقول، نعم أنا ربيبة الملجأ وكنت من قبل رهينة السجن. فهل لا تزالين تودين أن تكوني صديقة لي. ألا تزالين تصرين على أن تجلسي قريباً مني وتأخذي يدي في يدك، وانتظرت الجواب فلم تسمع جواباً فاستطردت مترفقة، ألا فانظري الآن. لقد كنت مخطئة إذ دعوتني قاسية وكنت مصيبة إذ قلت لك أنني لرفيقة.

وهنا تمالكت جريس جأشها فقالت ببرود، أني لا أود أن أنقبض عنك أو أهينك؟

قالت مرسى متلطفة، لقد اعتدت أن احتمل فضيحة الماضي من حياتي وقذارته، لطالما سألت نفسي أعليَّ تقع جريرة سقطتي، ولطالما سألت ألم يكن لي حق على المجتمع يوم كنت طفلة أجوب الطرق، أبيع أعواد الكبريت ثم يوم كنت فتاة دؤباً أنكب على إبرتي مهزولة من الجوع.

وهنا اهتز صوتها فوقفت عن الكلام ولكنها لم تكن أن عادت تقول، ولكن قضي الأمر. أن المجتمع يستطيع اليوم أن يجمع المال لإصلاحي. ولكنه لا يستطيع أن يردني كما كنت. واللآن أنت ترينني في هذا المكان أعمل الخير صبوراً دؤوباً غير جازعة. ولكن ضلة لي وبعداً. ماذا يجديني الخير وماذا يغني عني. إن في كل مكان من هذه الأرض لا يستطيع حاضري أن يمحو ما كان من ماضيَّ. لقد تلاحقت ثلاثة أعوام وأنا أصنع كل خير ومحمده ولكن لا سقياً لخيري ولا رعياً، في لحظة واحدة يستطيع ظل الماضي أن يغثاني أنا وكل خير سقته، إذ ذاك ينزوي عني من كان أحدب الناس علي وينقبض عن ناحيتي أعطف الأكباد وأحن الأفئدة وتمهلت قليلاً، أمن كلمة طيبة أو لفظة عطف تجئ عزاء لها وتأسياً من شفتي رفيقتها.

كلا، فقد ظلت مس رزبري مذهولة حائرة لا تعرف ماذا تقول، وبعد جهد تمالكت نفسها فقالت إني آسفة لك، ثم لم تزد.

فقالت الممرضة، وكل إنسان يأسف لي وكل إنسان علي حدب رفيق ولكن مكاني مفقود من المجتمع لن يرد علي، لن أستطيع أن أعود كما كنت، لن أستطيع أن أعود كما كنت.

وعند ذلك انفجر حزنها بكاءً حاراً مؤيساً ثم مضت تقول أتريدين أن أنبئك بما عناني من شقوة الحياة، أتريدين أن تسمعي قصة ماجدولين في هذا العصر.

فتارجعت جريس خطوة واحدة أدركت رفيقتها معناها فقالت لا تنزوي ولا تتراجعي لإغن سيدة في مكانتكي لن تستطيع أن تدرك معنى الآلام والمتاعب التي عانيتها. إن قصتي تبدأ من الملجأ فقد سرحتني مديرة الملجأ يوماً إلى العمل خارج الدار كخادمة في أحد البيوت فحققت ثقتها بي فكنت خادماً أمينة برة مخلصة ففي ذات يوم نادتي ربة الدار وكانت إمرأة حنوناً صالحة فقالت لي مرسى - إنني أسفة لك. فقد انتهى إلى أنك من أهل الإصلاحية وسأسرح كل خدمي فاذهبي. .

فعدت إلى مديرة الملجأ وكانت إمرأة رقيقة كذلك فتلقتني كما تتلقى ابنتها فقالت لي لنحاول مرة أخرى يا مرسى فلا تحزني ولا تيأسي. ثم ألم أقل لك أنني كنت في كندا؟

وشعرت جريس أنها بدأت تهتم لحديث المرأة على الرغم منها فأجابتها بالإيجاب في لهجة حادة مشجعة وعادت إلى مقعدها القريب من الصندوق.

وأخذت الممرضة في قصتها.

كان مقامي بعد ذلك في كندا في خدمة ضابط وزوجته وكانا من قوم صالحين انحدرا من البلاد الإنكليزية، فنزلت رحماً ولقيت رحمةً وحدباً، وتفتحت فرحة الحياة لي فجعلت أقول لنفسي يا نفس هل رد إليك مكانك المفقود، هل رجعت إلى سيرتك الأولى واختطفت المنية سيدني وجاء الحي قوم جديدون وكانت بينهم سيدة شابة حسناء فبدأ يفكر سيدي في الزواج وقد قضى علي سوء الحظ أن يعدني الناس امرأة حسناء فثار فضول الغرباء فجعل سكان الحي يسألون عني الأسئلة ويتغامزون ويتسارون ولم تكن تشفي غلة فضولهم أجوبة سيدي، فانتهى فضولهم إلى أن اكتشفوا حقيقة أمري فجاءني رب الدار فقال. إني آسف لك جد الأسف يا مرسى. إن ألسنة الناس ترتع اليوم في لحمنا والناس بالأقاويل مفتونون. إننا بريئان ولكن لا حيلة ولا مرد، فيجب أن نفترق، فتركت المكان في الحال.

فسألتها جريس وهل رجعت إلى لندن؟ فقالت مرسى بحزن وإلى أين أذهب وفضيحتي في أثري، وعدت إلى رئيسة الملجأ فرأيت المرض قد نزل بأهله فأقمت بينهم ممرضة فوقع أحد الأطباء في حبي وكان يوشك أن يتزوج بي ولكن ربة الملجأ أبى عليها شرفها لا أن تكاشفه بحقيقتي فانصرف ولم يعد بعدها أبدأً فتوالني اليأس، ذلك اليأٍس الذي يوصد مغاليق القلب ويرسل الخشونة في تضاعيف الروح وقد كنت أهم بالإنتحار أو أندفع إلى حياتي القديمة لو لم يعرض لي رجل واحد.

وإذ ذاك ارتجف صوتها قليلاً كأنما أشجتها الذكرى فسألتها جريس، ومن الرجل، وكيف تودد إليك؟

قالت تودد إلي؟ إنه لا يدري حتى الآن بأمري ولا يعلم بوجود امرأة مثلي.

قالت عجباً وكيف ذلك؟

فانطلقت مريك تقول في يوم أحد تغيب القسيس الذي كان يعظنا في الملجأ فناب عنه رجلٌ غريب وكان شاباً في عنفوانه وقد أخبرتني الرئيسة أن اسمه جوليان جراي فلما جاءت ساعة الوعظ انتبذت مجلسي في الصف الأخير من المقاعد تحت ظل الصور المعلقة على الجدران بحيث أستطيع أن أراه ولا يراني.

ولو سألتني عما يكون من شعور السعيدات لو يسمعنا إلى موعظته لما استطعت أن أعرف عنه شيئاً ولكني أقول أنه يبق في الملجأ من عين لا راحة ثرة بالدموع متفجرة.

وأما أنا فقد بلغ صوته أعمق أعماق روحي حتى لقد جعل يأسي يذوب في كل نبرة من نبرات جرسه الممتلئ العميق ومنذ ذلك اليوم وأنا بالحياة راضية قانعة، بل لقد كنت أكون سعيدة راغدة العيش لو كنت استطعت أن أكلم جوليان جراي.

فسألتها جريس ما الذي حبسك عن مكالمته؟ قالت كنت خائفة فسألتها جريس ومم خفتي أجابت كنت خائفة من أن أجعل بحديثي إليه حياتي الخشنة أخشن وأفجع.

ولو كانت المرأة التي نسمع لها تشاركها في حزنها ونكتبها لاستطاعت أن تفهم معنى ما قلت ولكن جريس لم تدرك غرضها فما زادت على أن قالت أني لا أفهم ما تريدين.

فلم يسع مرسى إلا أن تفضي بالحقيقة فتنهدت قائلة كنت خائفة أن أجعله يهتم لأحزاني فأجزيه على ذلك قلبي وحبي.

قالت زميلتها في دهشة وبرودة أنت.

وهنا نهضت مرسى من مجلسها وهي تقول إنني حقاً أدهشت ولكن لك الله يا سيدتي الشابة الجميلة فأنت لا تعرفين أن القلب وإن يأس وتعذب يأبى لا أن يخفق أبداً وينبض، كنت قبل أن يقع بصري على جوليان جراي لا أعرف الرجال إلا مخوفين مرعبين ولكن لنأخذ في شجون أخرى من الحديث، إن ذلك الواعظ ليس إلا الذكرى الحلة المعسولة بين ذكريات الحياة المؤلمة. والآن ليس عندي ما أقوله لك أكثر مما قلت فقد أصررت على معرفة قصتي وها أنت قد عرفتها فقالت جريس بوقاحة ولكني لم أسمع كيف استطعت أن تجدي عملك هنا.

فتمشت مرسى إلى النار المشبوبة في الحجرة فحركت رمادها ثم أجابت أن لرئيسة الملجأ أصدقاء في فرنسا وصاحبةً لهم علاقة بالمستشفيات الحربية فلم يكن من الصعب أن أجد مكاني هنا ولا سيما في حربٍ عصيبة كهذه. إن المجتمع ليستفيد مني في هذا الموطن، إذ يجد في اليد الناعمة والراحة الحنون والكلمة الرفيقة لهؤلاء المساكين، وأشارت بيدها نحو حجرة الجرحى، فإذا أصابتني رصاصةٌ هوجاء قبل أن تخمد نار الحرب، فمرحباً بها وأهلاً - إن المجتمع يكون قد تخلص مني بأسهل الوسائل. .!

وشعرت جريس بأن الإنسانية تقضي عليها بأن تقول كلمة عزاء فظلت هنيهة تفكر ثم تقدمت خطوةً واحدة ولكنها وقفت فعمدت إلى أتفه العبارات العادية التي تقال في أي موطن بأن قالت إذا كان ثمت شيء أستطيع أن أصنعه لك. . ولم تتم جملتها.

وإذ ذاك رفعت الممرضة رأسها الجميل ودلفت إلى الستر تريد أن تعود إلى عملها، ووقفت مس روزبري عن كثب لا تدري أي عبارة تقول.

وأغضب مرسى هذا الإحساس البليد فقالت وماذا تستطيعين أن تفعلي لأجلي؟ أتستطيعين أن تغيري أمري أتستطيعين أن تعطني اسم إمرأة نقية ومكانها. وأهالي لو كان لي في الحياة حظك. وواهلي لو كانت لي سمعتك وآمالك؟

وعند ذلك وضعت يدها على صدرها متأوهة ثم تمالكت جأشها وعاودت الحديث تقول والآن فامكثي هنا حتى أعود إلى عملي. وسأرى إذا كانت أثوابك قد جفت وستشتملين بثيابي برهة من الوقت.

وبعد أن فاهت بهذه الكلمات المحزنة الرقيقة تحفزت للانصراف ولكنها لم تكد تبلغ الستر حتى استوقفتها مس روزبري بأن سألتها هل ترين الجو تغير فإني لا أكاد أسمع صوت المطر على لوح النافذة. .

وقبل أن تستطيع الممرضة أن تمنعها خطت إلى النافذة ففتحت ألواحها.

فصاحت مرسى بها أغلقي النافذة. لقد حذرنا من فتحها عندما جئنا إلى الحجرة.

ولكن جريس أصرت على أن تطل منها.

وكان القمر ينهض في صفحة السماء خافت الوجنة مظلمها وقد انقطع انهمار المطر والظلام يتبدد رويداً في ظل الفجر المقبل، فبعد ساعات تستطيع مس روزبري أن تواصل سفرها وفي ساعات قلائل يطلع السحر على الأرض.

وجرت مرسى فأغلقت لوح النافذة بيديها ولكنها لم تكد توصد مزلاجاً حتى صرخ في الجو صوت رصاصةٍ داوية بلغت الكوخ من ناحية أحد المرابض، وأعقبتها رصاصة أخرى أشد دوياً منها.

فوقفت مرسى تستمع مرتقبة دوي رصاصةٍ ثالثة.

الفصل الثالث

القنبلة

وانطلق في كبد الليل صوت رصاصة أخرى قريبة من الكوخ فذعرت منها جريس وتراجعت عن النافذة مشفقة خائفة قالت. . ما هذه الطلقات؟

فأجابتها الممرضة في هدوء هي إشارات من المرابض.

قالت الآنسة. . أمن خطر يحدق بنا. أترين الألمان قد عادوا؟

وقبل أن تجيب الممرضة ظهرت جراح من خلال الستر فتطلع إلى الحجرة فأجاب إن الألمان يتقدمون نحونا وقد ظهرت طليعتهم للإبصار.

فسقطت جريس في مقعدها مرتجفة وتقدمت مرسى إلى الجراح فسألته وهل نحن مستطيعون دفاعاً عن مكاننا؟

فهز الجراح رأسه ثم قال ذلك يستحيل فهم أكثر منا عديداً.

وارتفعت أصوات الطبول فقال الجراح وهذه أصوات الطبول تأمر بالقهقرى والقائد رجل صريم العزيمة فقد مضى بفرقته وتركنا نحن نهتم بأنفسنا ويجب علينا الرحيل من المكان.

وضاع صوته في وسط الطلقات العديدة الداوية فتشبثت جريس بذراع الجراح وقالت متوسلة ألا خذني معك. ويلاه يا سيدي لقد عانيت من الألمان كثيراً. فنشدتك الله أن لا تتركني إذ هم أقبلوا.

وكان الجراح رجلاً خليقاً بالموطن فوضع يد المرأة فوق صدره ثم قال لا تخافي شيئاً وكأنما خيل إليه أنه بذراعه مستطيع أن يصرع جيش العدو عن آخره - ثم عاد يقول. إن قلباً فرنسوياً يا سيدتي يخفق الآن تحت كفك. اطمئني يا آنسة فإن إخلاصي سيحميكي.

وعند ذلك مال رأس جريس إلى كتفه فشعر سيرفيل أنه قد أحسن تزكية نفسه فدار بعينيه يلتمس رفيقتها، وطاب له أن رأى إزاءه حسناء أخرى وله كتف آخر تتطلب إطراقة رأسها.

وكانت الحجرة قد أظلمت فلم يستطع أن يتبينها، وكانت واقفة تفكر في أمر الجرحى فقالت تذكره بواجبه.

وماذا سيكون من أمر المرضى والجرحى؟

فهز سيرفيل كتفه، ثم قال نأخذ معنا الأقوى فأما الآخرون فيتركون وأنت يا سيدتي لا تخافي شيئاً فسيكون لك في مركبة الأمتعة مكان.

قالت جريس متلهفة، ولي أنا أيضاً؟

فامتدت ذراع الجراح حول خصر الفتاة وأجابها عن سؤالها بضمه.

قالت مرسى. خذها معك فإن مكاني سيكون بقرب الذين تتركهم!

فقالت جريس مندهشة ولكن فكري في أي خطر أنت مقبلة عليه لو أنت تخلفتي عنا! فأشارت مرسى إلى ذراعها اليسرى وقالت لا تجزعي علي فإن هذا الصليب الأحمر يحميني.

ودوى صوت طبلة أخرى لتنذر الجراح بأن يتولى عمله دون تأخير فأخذ جريس إلى مقعد هناك ووضع هذه المرة يديها الإثنتين فوق فؤاده لمكي يعزيها عن غيابه ثم همس إليها انتظري هنا حتى أعود إليكي ولا تخافي شيئاً يا صديقتي الفاتنة.

قولي لنفسك إن سيرفيل هو روح الشرف، إن سيرفيل سيحميني - ثم ضرب صدره بكفه ورنا لي فتاته رنوة الإخلاص والجلال ثم قبل يدها وهو يقول الوداع إلى القريب واختفى.

وما كاد يغيب وراء الستر حتى تلاحقت طلقات البنادق بقنابل المدافع ولم تمض هنيهة حتى سقطت قنبلة في بستان الكوخ منفجرة على بضعة أمتار من النافذة.

فسقطت جريس على ركبتيها وصرخت صرخة رعب ووجد وأما مرسى فخطت هادئة السرب إلى النافذة فأطلت منها قالت إن القمر قد ارتفع والألمان يدمرون القرية فنهضت جريس ووثبت نحوها مذعورة تطلب النجدة صارخة. . خذيني من هذا المكان لنبتعد. نحن ولا شك مقتولتان لو مكثنا هنا - ونظرت إلى رفيقتها فوجدتها واقفة في مكانها ساكنة هادئة فاسترسلت تقول وأنت أفلا تخافين من شيء. فتبسمت مرسى ابتسامة حزينة وقالت لماذا أخاف فقدان الحياة وليس لي شيء يستحق الحرص عليه.

واهتزت القرية على صوت قنبلة سقطت في ساحة الكوخ من الناحية المقابلة.

واشتد الفزع بالفتاة فتشبثت بنحر الممرضة تضمها إليها من وجل ورعب، وكانت منذ دقائق قد أنفت من إعطائها يدها وصاحت أمن عاصم نعتصم به، وفي أي مكان تختفي فأجابت مرسى بهدوء وكيف أستطيع أن أعلم أين تقع القنبلة الثانية؟. . وكاد سكون الممرضة يذهب بلب الأخرى فتخلصت منها وجعلت تجري في الحجرة تلتمس طريقاً للنجاة والفرار من الكوخ واندفعت في المطبخ ولكن أوقفتها حركة نقل الجرحى الأقوياء وضوضائهم فعادت في الحجرة تريد مخلصاً فوقع بصرها على الباب المؤدي إلى الفناء فطفرت نحوه ولكنها ما كانت تبلغه حتى دوى صوت قنبلة أخرى.

فتراجعت على عقبها خطوة واحدة وقد وضعت أصابعها في أذنيها، وفي تلك اللحظة انقضت القنبلة فنفذت من سقف الكوخ فانفجرت في بهرة الحجرة قريباً من الباب فجرت مرسى من موقفها عند النافذة فلم تمس بسوء وأصابت شظاياها النار الخابية فأشعلتها وعلى نورها أبصرت مرسى رفيقتها طريحة لا حراك بها.

فوثبت إلى ناحيتها فركعت بجانبها ورفعت رأسها أتراها جرحت. أم تراها ماتت.

ورفعت مريك يدها لتجس نبضها وبينما هي تتحسس مكان النبض إذ أطل الجراح سيرفيل من خلال الستر ليعلم ماذا ألم بالسيدتين الجميلين.

فأشارت إليه مرسى أن يقترب وقالت وهي تخلي له مكانها إني أخشى أن تكون القنبلة قد أصابتها فانظر هل الجرح مميت.

فوثب صوبها وهو يلعن العدو ويشتم وصاح بالممرضة وقد رفع يده إلى جيد الغانية فقال انزعي عنها معطفها - وأحر قلباه عليك يا ملاكي العزيز. لقد التوى حول جيدها خيط المعطف.

فنضت عنها الممرضة المعطف فقذفته جانباً وأخذ الجراح الفتاة بين ذراعيه وقال وهو جارع علي بمصباح. اذهبي إلى المطبخ تجدي مصباحاً هناك.

وأحس النبض فارتجفت يده وصاح يا إله السموات إن عواطفي لتتفجر حزناً عليك يا غاليتي وأسفاً.

وجاءته مريك بالمصباح فرأى على الضوء فعل القنبلة في رأس الفتاة. فتغيرت في الحال ملامح وجهه وأظلم جبينه وإذ ذاك شعر انه لا يحمل بين ذراعيه الآن إلا جثة هامدة.

وظلت مرسى ترقبه ثم قالت أترى الجرح قاتلاً

فأجابها الجراح في صمت وحزن أزيحي عنها المصباح فلست بحاجة إليه بعد. قضى الأمر. . . لن أستطيع شيئاً

قالت - وهل ماتت؟

فأطرق الجراح رأسه وهز قبضته في الفضاء صوب المرابط وصاح لعنة الله على الألمان، ثم نظر إلى الوجه الخامد الساكن الذي يطل من بين ذراعيه فهز كتفيه مستسلماً خاضعاً وقال وهو يضع الجثة فوق السرير الخشبي هذه سنة الحرب ومن يدري يا صديقتي الممرضة فلعلنا مقتولان في أثرها من ذا يعلم يا الله. أن مسألة القضاء والقدر لتذهب بلى. وليس لنا إلا أن نتركها هنا. وقلباه. لقد كانت بالأمس حسناء فاتنة والآن ليست شيئاً مذكور. لننصرف يا صديقتي قبل أن تأزف الآزفة. ومد ذراعه إلى الممرضة وفي تلك اللحظة سمع صوت عجلات مركبة لأمتعة وهي تهم بالرحيل ودقات الطبول تخفق في الجو تؤذن بأن القهقرى قد بدأت.

فرفعت مرسى الستر فرأت الجرحى الضعفاء لا يزالون في أسرتهم بعد أن تخلي عنهم إخوانهم.

فرفضت ذراع الجراح قائلة لقد قلت لك من قبل أنني سأمكث هنا فرفع مسيو سيرفيل يده محتجاً ولكن مرسى عمدت إلى الستر فرفعته. وأشارت إلى باب الكوخ وقلبت فلتذهب فقد صحت إرادتي.

وإذ ذاك دنا الرجل منها وبكل احترام وخشوع وأدب رفع صوته قائلاً سيدتي أنت امرأة عظيمة! وهنا أخذه شغفه بالنساء فانحنى واضعاً يده على قلبه وترك الكوخ.

وانسدل الستار على الجرحى فخلت الحجرة بالممرضة والقتيلة.

وأخذت أصوات العجلات ومواقع الأقدام تتبدد عن بعد في ظل السكون وانقطع عزيف القنابل إذ عرف العدو أن الفرنسويين يعودون أدراجهم.

وكان السكون مخيفاً موحشاً. وقفت مرسى وحيدة في وسط تلك الحجرة الهادئة وفي الحال استقر بصرها على السرير.

فمشت إليه والمصباح في يدها فوقفت عند زاوية منه تنظر في وحشة ذلك السكون إلى ذلك الوجه الذابل الهادئ وكان وجهاً فتاناً في الحياة والموت، ذلك الجبين لا يزل كما كان عريضاً متهللاً وهاتان العينان لا تزالان نجلاوين والفم صغير حلو رقيق. يا للرحمن!

ورفعت مرسى يدها فهذبت شعر الجثة المنتثر الأشقر وأصلحت ثوبها المتجعد الملتوي، وهي تقول لنفسها منذ لحظات كنت أمني النفس أن أبادلك مكانك؟ وإ ذاك تولت عن السرير متنهدة. والآن لوددت كذلك أن أبادلك؟. . .

واستوحشت من السكون السائد حولها.

فتمشت إلى الناحية الأخرى من الحجرة وكان المعطف لا يزال مطروحاً فوق الأرض، ذلك المعطف الذي أقرضته مس روزبري، فالتقطته من مكانه وألقته فوق أحد المقاعد ثم وضعت المصباح فوق المكتب ودلفت إلى النافذة تنصت إلى صوت تقدم الألمان. ولكن لم يقع في أذنها إلا حفيف الشجر فعادت عن النافذة فجلست إلى المكتب تفكر.

تذكرت مرسى الحديث الذي جرى بينها وبين رفيقتها المسكينة وأن مس روزبري حدثتها عن غرضها من العودة إلى إنجلترة وأنها كلمتها عن سيدة كان بينها وبين أبيها رابطة نسب وإن لم تكن قد رأتها من قبل وهي في انتظار وصولها.

وإذ ذاك دار في خاطر الممرضة أنه لا بد من الكتابة إلى السيدة بنبأ فاجعة الفتاة ووفاتها. فمن ترى يقوم بذلك. ليس لأحد أن يكتب عن الحادثة إلا من كان شاهدها. ولم يكن هناك شاهد إلا مرسى نفسها.

وعند ذلك رفعت المعطف إليها فأخرجت من جيبه المحفظة التي رأتها مس روزبري إياها ورأت مرسى أنه لا بد من معرفة عنوان السيدة وأنه لا بد لذلك من فض المحفظة ففضتها ولكن لم تلبث أن توقفت وقد شعرت بشيءٍ من الأنفة والإستنكار لإقدامها على أسرار غيرها ولكن لم يطل ترددها لأنها بعد التفكير لحظة واحدة اقتنعت بأنه لا داعي إلى الإستنكار والتردد فأفرغت جميع ما في المحفظة.

وكذلك كان هذا العمل التافه هو الذي مهد لها الطريق إلى حياتها المقبلة.

الفصل الرابع

التجربة

كان أول ما أخذ عينها من أوراق المحفظة عدة رسائل مربوطة بشرائط حريرية وكان المداد الذي كتبت به قد جف وذبل وكان بعض الرسائل معنوناً باسم الكولونيل روزبري والبعض الآخر بعنوان مسر روزبري زوجته، رسائل دارت بينهما يوم كان الزوج يغيب عن زوجته في أسفاره الحربية، فأعادت مرسى الرسائل إلى رباطها وتناولت الأوراق التي تليها. فوجدت بضعة أوراق مشبكة بعضها في أذيل بعض وفي رأسها مكتوب بقلم امرأة مذكراتي في رومة فتصفحتها فعلمت أن هذه المذكرات كتبتها من روزبري لنفسها دونت فيها حوادث الأيام الأخيرة من حياة والدها.

فبعد أن أعادت الرسائل والمذكرات إلى المحفظة لم يبق إلا خطاب واحد وكان الغلاف مغلقاً قد كتب عليه إلى اللادي جانيت روى، دارمابلثورب بلندن فأخرجت مرسى الخطاب من غلافه ولم تكد تقرأ السطور الأولى منه حتى علمت أنه خطاب التوصية الذي كتبه والد الفتاة إلى السيدة المقيمة بلندن.

فقرأت مرسى الخطاب إلى آخره وقد وصفه الكاتب بأنه آخر مجهود رجل يجود بنفسه على سرير الموت، وقد كتب الكولونيل بحرارة عن ابنته، ثم ختم رسالته بهذه الكلمات إني الآن أقضي نحبي هادئ البال من أمر مستقبل ابنتي العزيزة - إلى حمايتك وكنفك وظلك أدفع بكنزي الوحيد الذي خلفته في هذه الأرض.

كذلك كان ختام الوصية.

فوضعت مرسى الرسالة بقلب محزون. أشد ما فقدت تلك الفتاة المسكينة امرأة من أهل النبل والثراء كانت ترتقب قدومها. امرأة حنوناً كريمة يطيب الوالد نفساً من ثقته بعطفها وهو على فراش الموت. والآن هذه هي الفتاة طريحة هامدة الأنفاس دون منال اللادي جانت وعطفها. ولم يبق بها حاجة إلى حنانها أو برها!

وكانت أدوات الكتابة التي كان يكتب بها القائد لا تزال فوق المائدة فعمدت إلى صفحة بيضاء لتكتب فيها خبر وفاة الفتاة، وبينما هي تفكر في العبارات التي تثبتها في خطابها إذ بعولات الجرحى الضعفاء تضج من ناحية المطبخ وهم يصرخون ويبكون جزعاً واستنجاداً.

فانطلقت إلى المطبخ فتلقاها الجرحى بالتهليل والفرح، مطمئنين لمقامها معهم فمشت بين الأسرة تشجعهم وتواسيهم فجعلوا يقبلون أطراف ثوبها ويتوسلون إليها ويتضرعون. وهي تحنو على وسائدهم بوجهها الرحيم وصفحتها المشرقة العاطفة وهي تنادي فيهم الشجاعة يا صحابتي. عزاء يا أخوتي وصبراً فلن تهجركم ممرضتكم.

فضج الرجال في أثرها. . . نعم عزاءً وصبراً. وليباركك الله، والآن فلو أن قنبلة تنطلق من مدافع العدو فتنقض على تلك المرأة فتضرجها بدمائها، إذن باركتها الإنسانية وأعدت لها مكاناً في السماء، أما إذا خمدت نار الحرب وهي لا تزال في الحياة باقية فأي مكان لها في الأرض. أي أمنية لها في العيش. أي وطن لها. أي معصم.

وعادت إلى الخطاب ولكن بدلاً من أن تجلس للكتابة ظلت واقفةً على مقربةً من المائدة شاردة البصر في أنحاء الرسالة وسطورها.

وفي تلك اللحظة فقط ثارت في خاطرها فكرة غريبة لم تنو أن ابتسمت هي نفسها من غرابتها، وهي ماذا يكون لو هي سألت اللادي جانيت روي أن تحل منها محل مس روزبري. إنها التقت بالفتاة في موطن مخيف ومركب خشن ولقد أحسنت إليها وأعانتها وواستها بل هي خير وصيفةٍ لها وقارئة ولكن ماذا يكون من اللادي إذا كتبت إليها ترجوها هذا الرجاء إذن أفلا تجيبها قائلة ابعثي إلي بشيءٍ عن سيرتك وماضيك ومزاياك وسأرى بعد ذلك رأييسيرتها. يالله. وماضيها ومزاياها. . . . .!

وهنا ضحكت مرسى ضحكةً مرة ثم جلست تكتب بضعة أسطر موجزة تصف فيها نكبة الفتاة.

كلا. . . لم تستطع أن تكتب حرفاً واحداً. إن تلك الفكرة الغريبة لم تزل تدور في خاطرها وتغريها.

والآن بدأ ذهنها يتخيل جمال دار مابلثورب، وحسن ذلك المغنى الزاهر وحديقته الأنف الغناء، ولذاذة الحياة وبهجة العيش وفخامته، في ظل اللادي جانيت وتحت سقف دارها، وأذكرها ذلك مرة أخرى حظ مس روزبري الضائع. يا لها من تعيسة. أية دار كانت مفتحة الأبواب في وجهها، وأي عيش نضير كان في انتظارها. لو لم تقض عليها شظايا القنبلة.

وعند ذلك رفعت مرسى الخطاب بعيداً عنها ونهضت تخطر في الحجرة جازعة قلقة.

وتلاحقت الأفكار في خاطرها وتزاحمت، ففكرت بعد ذلك في المستقبل الذي سيهجم عليها. أية آمال لها ومطامع إذا الحرب وضعت أوزارها؟ وهنا عادت مآس الماضي وآلامه تطال إلى ذاكرتها في ذلك الموقف الخشن الصامت، في أي طريق تذهب أو بلد تقيم أو عمل تعمل، ستكون النتيجة واحدة، الإعجاب بجمالها يؤدي إلى الفضول. والفضول ينتهي بالبحث والبحث يهتك حجاب الماضي، سيقول الناس كلهم نحن آسفون لك ثم يطردونها من رحمتهم نافرين. هي الآن لم تتم بعد الربيع السادس والعشرين. إنها اليوم في غلواء شبيبتها، ممتلئة صحة وقوة ولعل الأقدار تمد في صفحة أجلها فتعيش خمسين عاماً كذلك.

إذ ذاك وقفت مرة ثانية بجانب السرير ونظرت نظرة أخرى إلى وجه المائتة.

يالرحمن. أية حكمة قضت أن تصيب القنبلة المرأة التي كانت تحمل في قلبها آمال الحياة وتترك المرأة التي ليس في قلبها ظل أمل؟

هنا عادي إلى ذاكرتها الكلمات التي قالتها للفتاة لو أن لي في الحياة حظك. لو أن لي سمعتك وآمالك؟ ولكن هذا هو حظها ملقى ضائعاً مبدداً وهذه آمالها قد أصبحت طريحة منثورة. وكاد هذا الخاطر يذهب برشدها وهي في موقفه، وإذ ذاك انحنت بابتسامة اليأس فوق الجثة وألقت إليها هذه الكلمات كأنها تهمس بها إلى أذن واعية واأسفاه. . ليتك تكونين مرسى مريك. وليتني أكون جريس روزبري الآن!. .

وفي ومضة البرق أخذ فكرها يجري إلى ناحية أخرى نعم في ومضة البرق سرت إليها فكرة أخرى كما تسري الكهرباء في الأجسام. قالت في نفسها أنت تستطيعين أن تكوني جريس روزبري إن أقدمت.

نعم أي حائل يمنعها من أن تقدم نفسها إلى اللادي جانيت روي باسم جريس وشخصيتها.

ولكن أين الموضع الضعيف من هذه التجربة الخطيرة لقد قالت جريس نفسها أن السيدة لم ترها في حياتها، وأن ليس لها أقارب في إنجلترة، بل انحدرت من كندا حيث كانت تسكن بورت لوجان. ومرسى تعرف المكان جداً.

إذن فلم يبق عليها إلا أن تقرأ المذكرات والرسائل لتعرف كيف تجيب لو سئلت عن وفاة الكولونل روزبري في رومة وما يتعلق بذلك من الحوادث والمعلومات.

ثم إن جريس لم تكن خليقة بأن تصبح وصيفة لسيدة نبيلة مهذبة ولا أن تكون لها صاحبة وقارئة وذلك باعترافها واعتراف أبيها في خطابه بأنها لم تأخذ بحظ كبير من التربية والتهذيب فكل شيء إذن في جانبها ورجال الإسعاف قد ارتحلوا ولن يعودوا وهذه ثيابها قد اشتملت جريس فيما هو عليها اسم مس مريك. وأما ملابس مس روزبري المطرزة بدمها ففي الحجرة الثانية جافة من أثر الأمطار!

إن طريق الفرار من شقوة حياتها الحاضرة قد ظهر الآن لعينيها متفتحاً ممهداً ما أبهج ذاك الأمل. وما أحسن هذه الصدفة. اسم جديد لا ريبة فيه بل دون منال كل ذم وقدح وماضٍ جديد يقرؤه العالم بأسره فيرحب به ويبارك طهارته!!.

هنا تورد وجهها وتلألأت عيناها. لم تكن يوماً أفتن منها في تلك الساعة عندما تفتح في وجهها المستقبل الجديد المشرق البهجة الوضاح الأمل. . . .

وظلت هنيهة تفكر عساها ترى موضعاً آخر ضعيفاً من هذه المجازفة الهائلة ولكن أين الضرر الذي يكون منها، وماذا يقول في ذلك ضميرها؟

أما عن جريس فأي ضر وأي أذى لإمرأة مائتة. لا أذاة ولا ضر. بل أي ضر لأقاربها. لاضر كذلك ولا سوء فإن أقاربها كذلك ماتوا.

أما من جهة اللادي جانيت فلعلها إن أخلصت في خدمة سيدتها الجديدة وعاشت عنها في ظل الطهر والشرف وأبدت لها النشاط والأمانة والحب، فأي ضر يلحق اللادي جانيت من رواء ذلك وأي مساءة؟

فأجابها صوت ضميرها ليس من ضر ولا مساءة، فلعلها ستنزل من اللادي جانيت منزلاً تحمد به اليوم الذي أدخلتها فيه دارها وعند ذلك أخذت خطاب الكولونل روزبري فوضعته مع الأوراق الأخرى في المحفظة.

الفرصة أمامها سانحة، والصدفة في جانبها، وضميرها لا يؤنبها ففكرت هنيهة ثم قالت. إذن سأفعل!.

وتولاها شيءٌ من الإستنكار آذى طبيعتها الحلوة النقية عندما وضعت المحفظة في جيب ثوبها، فهي وإن كانت قد أجمعت عزيمتها على القيام بهذه الخطة لم تزل في حيرةٍ من ناحية ضميرها، ولكن ماذا يحدث إذا وضعت المحفظة جانباً وانتظرت حتى يهدأ الإضطراب روحها ثم تبدأ عملها؟

فكرت مرة أخرى ولكن ترددت، لأنها لم تلبث أن سمعت صوت مواقع الأقدام وحوافر الخيل يقترب من الكوخ وفي بضعة دقائق يدخل الألمان القرية وسيأمرونها أن تكاشفهم بأمرها فلا سبيل إذن إلى الإنتظار. أي الحياتين خير لها، هل الحياة الجديدة باسم جريس روزبري. أم الحياة البالية القديمة باسم مرسى مريك؟

فنظرت للمرة الأخيرة ناحية السرير. إن مستقبل جريس الآن في يديها. وإن اسمها النقي البريء في خدمتها فماذا يمسكها. عند ذلك قررت عزمها فأصرت على أن تأخذ مكان جريس روزبري. . . . .

وأخذت مواقع الأقدام تدنو رويداً رويدا وأمست أصوات الضباط واضحة.

فجلست إزاء المائدة تنتظر ما سيكون ونبهتها غريزتها النسائية قبل كل شيءٍ إلى ثوبها فنظرت إليه فوقع بصرها على شارة الصليب الأحمر فوق ذراعها اليسرى فخطر لها في الحال أن لباس الممرضة قد يضعها في مأزق حرج إذ قد يؤدي إلى البحث عن أمرها فتكتشف حقيقتها.

فنظرت حولها فاستقر بصرها على المعطف الأسود الذي كانت قد أعطت جريس إياه فتناولته واشتملت به فعم جميع بدنها. ولكنها ما كادت تنتهي من ارتداء المعطف حتى طرق أذنها صوت الباب الخارجي وهو يفتح وسمعت أصواتاً غريبة تتكلم وأسلحة تقعقع.

أتنتظر حتى يهتدي إليها أم تظهر نفسها من تلقائها فأجمعت على أن تتقدم هي بنفسها فخطت نحو الستر تريد الدخول ولكن قبل أن تبلغ يدها طرفه أزيح الستر جميعه. وظهر من خلاله ثلاثة رجال.

الفصل الخامس

الجراح الألماني

وكان أصغر الثلاثة يلوح من تقاطيعه وصفحة وجهه وهيأته أن إنجليزي الجنس، يلبس فوق رأسه قلنسوة حربية وينتعل حذائين من أحذية الجنود وأما بقية أثوابه فلا تختلف في شيءٍ عن ثياب السلميين، وقد وقف إلى جانبه ضابط في ردائه البروسي وعلى مقربة منه كان الثالث وكان أكبرهم سناً، مرتدياً لباس الحرب وإن لم تبد عليه سمات الحربيين، وكان قصير القامة لا يكاد يبلغ أكتاف رفيقه يحمل في يده عصاً لا سيفاً.

فبعد أن نظر من خلال منظاره إلى مرسى ثم إلى السرير دار بعينه في الحجرة والتفت إلى الضابط البروسي فقال هذه امرأة طريحة فوق السرير وامرأة أخرى بجانبها وليس في الحجرة أحدٌ غيرهما، فهل من ضرورة يا سيدي الضابط إلى وضع الحراس؟

فقال هذا لا ضرورة إلى ذلك. ودار على عقبه فغادر المكان إلى المطبخ أما رفيقه فتقدم قليلاً وكأنما قادته غريزة صناعته فعمد إلى السرير. وأما الشاب الإنكليزي فنظر إلى مرسى نظرة الإعجاب وخاطبها بكل تأدب بالفرنسوية. أتسمحين لي بأن أسأل هل أنا في حضرة سيدة فرنسية؟

فأجابت مرسى كلا. أنا إنجليزية الجنس. وبلغ الجواب أذن الجراح فوقف مشيراً إلى الجثة الطريحة فوق السرير وقال مخاطباً مرسى بالإنكليزية الفصحى وهل يحتاج إلى مساعدتي؟.

وكان صوته خشناً فظاً يشعر الإشمئزاز والنفور فلم يسع مرسى إلا أن قالت لا حاجة يا سيدي إلى عونك. فإن السيدة قد سقطت قتيلاً تحت قنبلة من قنابل جنودكم. فارتجف الشاب الإنكليزي ونظر نظرة حزن وأسى نحو السرير وأدنى الشيخ عطاسه من أنفه وعاد يسأل وهل فحص أحد الأطباء الجثة؟.

فلم تستطع مرسى أن تقول إلا كلمة واحدة وهي نعم ولم يكن الجراح يحفل بغضب امرأة أو برضاها فاسترسل في أسئلته قال ومن الذي فحصها؟.

فأجابت مرسى قد فحصها الطبيب الملتحق بالفرقة الفرنسوية.

فتسخط الشيخ وانتهز الشاب الإنكليزي سكوت الجراح فقال مخاطباً مرسى في رفق ولطف وهل السيدة من أهل بلادنا؟

ففكرت مرسى قبل أن تجيب ثم أجابت أظن ذلك. . . لقد التقينا هنا صدفةً ولا أعلم عنها شيئاً؟.

فانبرى الشيخ الجراح يسأل حتى ولا اسمها؟. فترددت مرسى ثم اعتصمت بالتجاهل. فقالت ولا اسمها.

فتفرس الشيخ في وجهها متهجماً وأخذ المصباح فتقدم به إلى السرير وجعل يفحص الجثة في صمت. واستمر الشاب في حديثه دون أن يخفي الإهتمام الذي بدأ يظهر عليه نحو المرأة الجميلة الواقفة بإزائه.

قال مغفرةً يا سيدتي وسماحة. إن شابة مثلك في ريعان العمر ليست خليقة بأن تكون في هذا المكان وحدها ونحن في زمان الحرب.

وأنقذها من الجواب على سؤاله ضجيج قام في الحجرة الثانية إذ سمعت أصوات الجرحى ترتفع بالإحتجاج والشكوى وأصوات الضباط الخشنة تأمرهم بالسكوت، فأنساها ذلك موقفها وتملكتها الرحمة فرفعت الستر تريد أن تدخل المطبخ وإذا بها أمام حارس ألماني قد اعترض طريقها عند الباب يمنعها من الخروج. وتقدم الشاب الإنكليزي منها متأدباً فسألها عن غرضها من دخول المطبخ.

فقالت بلهجة مؤثرة محزنة واهاً للجرحى المساكين. واهاً للجرحى المساكين وقبل أن يقول الشاب كلمة مشى الجراح الشيخ نحوها فواجهها بغلظة وخشونة لا شغل لك بالجرحى المساكين. فهذا شغلي أنا. إنهم أسرانا وسينقلون إلى مستشفياتنا. أنا اجنتياس ويتزل رئيس القسم الطبي. أقول لك هذا. فامسكي عليك لسانك، ثم دلف إلى الحارس فقال أسدل الستار وإذا أصرت المرأة على الخروج فادفعها بيديك. فحاولت مرسى أن تحتج ولكن الشاب الإنكليزي أخذ ذراعها بأدب وابتعد بها عن الحارس فقال لا تنفع المغالبة الآن يا سيدتي ولا ينشغلن بالك من أمر الجرحى الفرنسويين فسيعنى ولا ريب بحالهم.

ورأى الدموع تفيض من عينيها فأخذ إعجابه بها يكبر ويزداد وهو يقول في نفسه رحيمة وحسناء معاص. يا لها من فاتنة.

وحدجها الجراح بنظره من خلال زجاجته وقال والآن هل اقتنعت وهلا أمسكت عليك لسانك؟ فاستسلمت إذ عرفت أنه لا يجدي الإحتجاج فمشت مقطبة الجبين إلى مقعد هناك فجلست فوقه وتبعها الشاب مسترسلاً في حديثه.

قال ولا تظني أني أريد أن أزعجك بل إني أكرر القول بأن لا حاجة إلى القلق على الجرحى الفرنسويين وموقفك أنت أدعى إلى القلق. . إن القتال ولا ريب قائم غداً على نور النهار فينبغي أن تكوني منه في معصم. إني ضابط في الجيش الإنكليزي واسمي - هو راس هولمسكرفت - ويسرني أن أكون ذا نفع لك وأنا على خدمتك قادر لو كنت تسمحين، فهل تغفرين لي جرأتي إذا سألتك هل أنت مسافرة؟

فلمت مرسى شقتي معطفها المحتجب وراء لباس الممرضة وتجلدت لتعتزم أول خطوة من خدعتها فلأحنت رأسها علامة على الإيجاب.

قال وهل كنت في طريقك إلى إنجلترة. فأحنت رأسها ثانيةً.

قال إذا كان ذلك فإني أستطيع أن أمشي بك بين صفوف الألمان وأمهد لك الطريق إلى مواصلة السفر.

فنظرت إليه متعجبة، فهل تراه جاداً فيما قال؟

قالت مندهشة أصحيح ما تقول - إن لك نفوذاً ولا ريب كبيراً إذا كنت تستطيع ذلك؟

فابتسم هوراس ثم قال نعم فهو ذلك النفوذ الذي لا يناهض ولا يغالب. نفوذ الصحافة يا سيدتي. إني مكاتب حربي لإحدى صحفنا وإني إذا سقت إلى القائد هذا الرجاء فلن يبخل علي به. وهو قريب الآن من الكوخ. فماذا تقولين؟

إذ ذاك أجمعت عزيمتها فلم تتمالك أن قالت إنني أقبل صنيعك مع الشكر يا سيدي وتقدم خطوة نحو المطبخ ثم وقف فقال لنا أن نسأل رجاءنا في خفية وصمت وإني ولا شك مسؤول إذا مررت من هذه الحجرة، فهل من مخرج آخر لهذا الكوخ فأرته مرسى الباب المقضي إلى الفناء فانحنى مودعاً وتركها.

فيما بقيت وحدها مع الجراح نظرت إليه عن حقد وغضب وكان لا يزال عند السرير منحنياً فوق الجثة مشغولاً بفحص الجرح الذي أحدثته القنبلة، ولم تستطع أن تغلب اشمئزازها من منظر هذا الشيخ فتولت إلى النافذة فأطلت منها لترى القمر.

هل أقدمت على كذبتها بعد. كلا. هي لم تقل أكثر من أنها تريد أن تعود إلى إنجلترة. إذن فلا يزال لديها الوقت الكافي لأن تكتب إلى اللادي جانيت بوفاة فتاتها وتبعث بالخطاب مع المحفظة. ولكن ماذا يكون إذن من أمرها إذا هي وجدت نفسها في إنجلترة ثانيةً. لا سبيل لديها إلا الرجوع إلى نصيرتها ربة الملجأ ولا دار غيره.

الملجأ. . . وربة الملجأ. . . والماضي المظلم. البعيد. أية خواطر تجول الآن بذهنها، وفيمن هي تفكر في تلك اللحظة وهذا الموطن؟ تفكر في الرجل الذي لمس بكلماته أعماق قلبها وواساها وضمد جرح فؤادها في مصلي الملجأ. في جوليان جراي وموعظته. لقد أفرد يومذاك قطعة من عظته في النهي عن الكذب والزور والخديعة. والآن عادت كلماته التي كان يلقيها إلى النسوة، كلمات الرحمة والجد والمواساة، إلى ذاكرة مرسى كأنما لم تكن سمعتها إلا من ساعة مضت. وهنا همست لنفسها وهي تفكر فيما عزمت على فعله. ويلاه ماذا فعلت ويلاه ماذا فعلت.

وانصرفت عن النافذة تريد أن تتبع هوراس فترجعه فلما واجهت السرير التقى بصرها ببصر الجرح وكان يوشك أن يمشي إليها ليكلمها وفي يده منديل أبيض. المنديل الذي قرضت جريس إياه.

قال: لقد وجدت هذا المنديل في جيبها. وهذا اسمه مطرز عليه. إنها ولا ريب إنكليزية مثلك. . وأخذ يقرأ الحروف المكتوبة على المنديل بصعوبة شديدة وأخيراً قال مرسى مريك.

إن شفتيه هما اللتان نطقتا به. لا شفتيها. لقد أعطى جريس روزبري الإسم المطلوب.

واسترسل الجراح ويتزل يقول وهو ينظر إليها هذا الإسم إنكليزي. أليس كذلك؟

وهنا بدأت ألفاظ جوليان جراي عن الكذب والخداع تتبدد وتضيع ولم يبق في خاطرها إلا سؤال واحد، هل ينبغي أن تصحح الخطأ الذي وقع فيه الجراح الشيخ؟ ها قد جاء الوقت الذي يجب فيه غما أن تتكلم فتعلن اسمها الحقيقي وإما أن تعتصم بالصمت فينسدل الستار على الماضي بفضيحته.

وفي تلك اللحظة دخل الحجرة هوراس هولمكرفث ولم تزل عينا الجراح مستقرتين عليها ينتظر جوابها.

قال هوراس وهو يشير إلى ورقة صغيرة في يده - لم يخب ظني. هذا هو الجواز. أليس لديك قلم ومداد لأملأ الفراغ الذي به.

فأومأت مرسى إلى الأدوات الكتابية الموضوعة فوق المكتب. فمشى هوراس إليها وجلس في مقعد إزاءها وغمس القلم في الداوة وقال أرجو أن لا تظني أني أريد أن أهجم على شؤونك ولكني مضطر أن أسألك سؤالاً واحداً أو سؤالين ما اسمك؟

فولتها رعشة. فاعتمدت بإحدى أرجل السرير. إن مستقبلها يتوقف الآن على جوابها.

وكانت عاجزة عن النطق بكلمة واحدة.

وإذ ذاك عاد ويتزل الجراح يكرر الإسم الذي تبينه على ظرف المنديل إن مرسى مريك اسم إنكليزي. أليس كذلك؟ فرفع هوراس رأسه عن الجواز فقال مرسى مريك! ومن تكون مرسى مريك.

فأشار الجراح إلى الجثة الساكنة فوق السرير وقال إني وجدت هذا الإسم فوق طرف المنديل. وكأني بهذه السيدة التي أمامك ليست من أهل الفضول لأنه لم يخطر لها اسم رفيقتها.

فأشاحت عن الرجل وجهها باحتقار ولم تستطع أن تصحح الخطأ الذي فاه به.

ورجع هوراس إلى كتابة الجواز فرجه إليها هذه الكلمات مغفرةً وصفحاً إذا عدت فكررت السؤال. ما اسمك. فأجابته بدون إكتراث وبدون أن تشعر بما هي قائلة جريس روزبري. . . . . .

على أنها لم تكد تفه بالكلمات حتى حاولت أن تسترجعها ولكن هوراس بدرها بسؤال آخر، قال وهو يبتسم ألا أكتب الآنسة.

فلم تستطع أن تجيبه إلا بإيماءة من رأسها.

فكتب مس جريس روزبريثم فكر هنيهة وعاد يسألها وهل أكتب عائدة إلى أصدقائها وأقاربها في إنجلترة؟ يا للرحمن. أصدقاءها وقرابتها في إنجلترة. إذ ذاك خفق قلبها. فأجابت في صمت بإطراقة ثانية.

فكتب الكلمات في أثر الإسم وبدأ يجفف الماد ثم نهض فذفع بالجواز إلى مرسى قائلاً. أظن هذا كافياً وسأرافقك حتى تجتازي الصفوف واجتهدي في أن تسافري في القطار. فأين أمتعتك؟

فأشارت مرسى إلى باب الكوخ الخارجي ثم أجابت هناك تحت خميلة خارج الكوخ. وليست شيئاً مذكوراً وإني أستطيع أن أجيء بها لو تركني الحارس الحارس أنفذ إلى المطبخ.

فأشار هوراس بإصبعه إلى ورقة الجواز وقال. بل تستطيعين أن تذهبي الآن حيث تشائين. فهل أنتظرك هنا أم خارج الكوخ فنظرت مرسى إلى الجراح أجنياس ويتزل بنظرة مستريبة وفكرت ثم أجابت انتظرني خارج الكوخ يا سيدي.

وتراجع الحارس محيياً التحية العسكرية عند رؤية الجواز فلما دخلت مرسى المطبخ وجدت الجرحى الفرنسيين قد نقلوا جميعاً وليس في الحجرة إلا بضعة جنود من الألمان بين مهوم ونائم ومضطجع فأخذت مرسى ملابس جريس روزبري من مكانها الذي علقتها عنده لتجف وانثنت تريد الخميلة خارج الدار فالتقت عن الباب بجندي آخر فأرته الجواز وسألته إذا كان يفهم الفرنسية فأجاب أنه يعرف طرفاً منها فنفحته مرسى بقطعة من النقود وقالت إني ذاهبة لأجمع ملابسي المنشورة تحت الخميلة فهلا حرستني حتى أنتهي من جمعها.

وأدى الجندي التحية إشارة إلى أنه فهم غرضها. واختفت مرسى في صميم تلك الخميلة.

فلما ترك هوراس وحده مع الجراح ويتزل لاحظ أن الشيخ لا يزال منحنياً فوق جثة القتيلة يفحصها بدقة وأدب فقال هل من شيءٍ يستحق هذا الإهتمام في مقتل هذه المرأة. فأجابه الجراح الخشن الفظ وهو لا يزال مسترسلاً في فحصه ليس من شيءٍ يصح أن يكتب في الصحف. فسأله هوراس. إذن. فلا يهم إلا الأطباء. أليس كذلك قال في لهجته الخشنة الموحشة. نعم. لا يهم إلا الأطباء وأدرك هو رأس الغرض المختفي في هذا الجواب الخشن فغادر الحجرة من الباب المغضي إلى الفناء وظل ينتظر الفتاة الإنكليزية الحسناء كما قال خارج الدار. فلما ترك ويتزل لنفسه نظر حوله نظرة فاحصة وانثنى ففك أزرار قميص الفتاة ووضع يده اليسرى فوق قلبها ثم أخرج بيده الأخرى من جيب صداره سلاحاً دقيقاً من أسلحة الجراحة وتحسس به في رفق مكان الجرح ثم رفع به قطعة من عظمة الجمجمة المتهشمة ولبث ينتظر ما يكون.

وفي الحال صاح بفرح مخيف يخاطب الجثة الهامدة تحت يديه. وي! لقد قال الجراح الفرنسوي أنك ميتة فهل صدق يا عزيزتي. . . يا له من سخيف. الله لهذا الأحمق.

ورفع رأسه فصاح منادياً ماكس وإذ ذاك أزيح الستار فظهر شاب ألماني متبالد قد وضع فوق صدره منشفة طويلة ووقف ينتظر أوامر سيده.

قال ويتزل علي بجعبتي السوداء.

فلما اختفى الخادم أخذ الشيخ يهز نفسه من فرح ونشاط كما يفعل الكلب ويفرك راحتيه عن رضى وانطلق يقول ناظراً إلى السرير من وراء منظاريه الآن لشد ما أنا سعيد مسرور يا سيدتي الإنكليزية العزيزة. لكان أهون على أن أخرج عن أموالي كلها من أن أحرم من لقائك. أيها الجراح السخيف لقد سميته موتاً لجهلك وضعف بصرك. وأسميه أنا تغيباً مؤقتاً عن الحياة من تأثير الضغط الحادث فوق الرأس. وظهر ماكس يجمل الجعبة.

فأخرج الشيخ منها سلاحين مخيفين فضمهما ضمة حارة إلى صدره وجعل يخاطبها في رفق بهذه الكلمات كأنما كان حقاً يخاطب صبيين صغيرين يا طفليَّ العزيزين. يا ولديَّ الصغيرين. هيا بنا نشتغل إلى العمل يا طفليَّ الجميلين والتفت إلى مساعده فقال أتذكر يا ماكس واقعة سالفرينو والجندي النمسوي الذي قمت له بعملية جراحية من أثر جرح في رأسه. ففتح المساعد جفنه المغمض وأجاب نعم أذكر ذلك ولا أنساه.

فمشى الأستاذ الجراح إلى السرير والخادم في أثره بالمصباح قال السيد والآن أنظر يا ماكس إلى هذه السيدة الشابة العزيزة النائمة فوق هذا السرير فإنها قد كفلت لي اليوم ما كنت أطلب هذه حادثة سالفرينو مرة أخرى. فارفع المصباح جيداً يا فتاي الأمين وقف هنا وأنظر إليَّ وانتبه أني سأرى إذا كنت مستطيعاً أن أنقذ الحياة والعقل معاً في هذه المرة!. .

وعند ذلك شمر عن ساعديه وبدأ علمه، وفي تلك اللحظة التي مس فيها سلاحاه رأس الفتاة سمع صوت الحارس يصرخ بالألمانية بهذه الكلمات التي أجازت لمرسى أن تخطو الخطوة الأولى في طريق السفر إلى انجلترة.

وهي دع السيدة الإنكليزية تمر.

وابتدأت العملية الجراحية، وانطلق في أثر ذلك الصوت صوت مثله ولكن كان خافتاً ضعيفاً دع السيدة الإنكليزية تمر.

وهنا رفع يده ليسود السكوت ثم انحنى فوضع أذنه عند فم العليلة. وفي الحال بدأت شفتا جريس تتحركان.

فصاح الشيخ وى! يا فتاة. أنت تتنفسين. أنت على قيد الحياة!

وبينما هو يقول هذه الكلمات كان صوت الحارس يكاد يسمع وهو في أبعد حدود الخطوط الألمانية يقول - دع السيدة الإنكليزية تمر! (انتهى الجزء الأول)