مجلة البيان للبرقوقي/العدد 29/أفكار بليدة لمفكر بليد في أوقات بليدة
→ الأخلاق والاجتماع | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 29 أفكار بليدة لمفكر بليد في أوقات بليدة جيروم كلابكا جيروم |
الأدب والتاريخ ← |
عن الحياء On being shy هو مقال بقلم جيروم كلابكا جيروم نشر في مجموعة أفكار بليدة لرجل بليد. نشرت هذه الترجمة في العدد 29 من مجلة البيان للبرقوقي الذي صدر بتاريخ 5 يناير 1917 |
للكاتب الأخلاقي الفكه جيروم ك. جيروم
الحياء
إن جميع كبار الكتاب والمفكرين حييون، وأنا لهذا السبب رجل حي خجول، وإن كان الناس لا يفتأون يقولون لي أن حيائي لا يكاد يبين، ولكني والحمد لله مسرور بذلك الآن مثلج الصدر، إذ كان حيائي شديداً لدي، وكان لي يومذاك مدعاة شقاء وتعب، ولأصدقائي وصحباتي باثع ضيق واستثقال، ولا سيما عند صديقاتي السيدات، وصواحبي الآنسات، فقد كن يشكون من حيائي أمر الشكوى.
إن نصيب الرجل الحيي في هذه الحياة نصيب سيء مرير، فمعشر الرجال يكرهونه، والنساء يحتقرنه، وهو أيضاً يكره نفسه ويحتقرها، ولكن الرجل الحيي مع ذلك يثأر لنفسه من المجتمع بعض الثأر، فهو يستطيع أن يخيفهم كما يخيفونه لأنه لا يكون في الحجرة الممتلئة بالسمار والأصحاب إلا كصمام المدخنة يخنق نفسه، ويمنع سريان الهواء، فيترك أمرح الأرواح وأبهج الصدور بوجوده حزينة، ضائقة، مضطربة الأعصاب وهذا الضيق الذي يعرو الناس من حضرة الحيي في وسطهم، لايبعث عليه إلا سوء التفاهم، فكثيرون من الناس يخطئون فهم الحيي فيحسبونه زهواً وكبرياء، ولهذا يشعرون بأنهم يتلقون منه إهانة لا تسعها المغفرة، وإذا رأوه وقد أخذه الرعب لأول كلمة توجه إليه منه، وقد تصاعد الدم إلى رأسه، وخذلته الألفاظ والعبارات، وفقد قوة النطق، عدوه مثالاً فظيعاً على نتائج الإنهماك في الشراب والملذات.
وهو لا يصيب إلا سوء التفاهم في كل مجلس ومكان، ومهما حاول أن يظهر من التأثير، فالناس لا تدرك إلا نقيض المعنى الذي يريد، فلو أرسل نكتة في المجلس، أخذوها نوعاً ثقيلاً من الجد، وحكموا بها على ضعف قوته في قول الجد، وإذا ألقى دعابةً تلقوها منه رأياً من أرائه، وعدوه من أجلها حماراً، وإذا أراد يوماً أن يستعطف بعض القوم فأنشأ يقول شيئاً من المديح، فظنوه منه تهكماً، وكرهوه من جراء ذلك.
هذه وغيرها من آلام الحي كانت أبداً باعث الضحك والمجون عند كثيرين من الناس، وكثيراً ما أمدت الأدباء بموضوعات طيبة للتفكهة، ولكنا إذا نظرنا بعد نظراً أبعد من مرمى، وجدنا لهذه الصورة ناحية محزنة، بل قل مبكية، فإن الرجل الحيي يعني رجلاً واحداً، قطع ما بينه وبين الرفقة، وحيل بينه وبين الجماعة، يمشي ويتحرك في العالم، ولكن لا يختلط به ولا يمتزج، يقوم بينه وبين الناس سور منيع شاهق، يحاول أن ينفذ منه، فلا يصيب منه إلا البطح فهو يرى الوجوه الصبيحة، والمطالع المتهللة، ويسمع الأصوات الغريدة، من الناحية الأخرى التي تقوم وراء هذا الجدار الخفي، فلا يستطيع أن يمد ذراعه ليلمس ذراعاً آخر،، ويقف يشهد الجماعات المبتهجة الفرحة، ويود لو يكلمها، وينعم بحديثها، ويطالبها بحقوق القربى، ولكنها تمر به غير ملتفتة ولا آبهة، يكلم بعضها بعضاً، ويضاحك رجالها نسائها، فلا يجد في نفسه القدرة على أن يستوقف أحداً منهم، ويحاول أن يصل إليهم، ولكن سجنه يتحرك معه حيث ذهب، فهو يمكث عن كثب من القوم كالمجذوم أو المبروص، وإن صدره ليفيض حباً وحناناً ورقة وعطفاً، ولكن العالم لايشعر بذلك ولا يدري ولا يعلم، لأن قناع الحياء يحجب وجهه، ويدع الناس لا يبصرون منه الرجل الحقيقي المسكين، وقد تثب الكلمات الرفيقة والتحيات الصديقة إلى شفتيه. ثم تتبدد فجأة في خفوت وهمس، والناس بعد يرون في المخلوق الخجول اللاهث المرتعش الركبتين المتشنج الأطراف، منظراً مؤلماً لهم، وإذا لم يستطع هذا المخلوق أن يطيب من هذا المرض فخيرٌ له أن يذهب ويشنق نفسه.
على أن العزاء الوحيد الذي يستطيع أهل الحياء أن يتعزوا به بينهم وبين أنفسهم هو أن الحياء ليس ولا ريب دليل الحماقة، ومن السهل جداً للمجانين المغفلين المعاتية أن يهزأوا بالأعصاب واضطرابها، ولكن الطبائع السامية لا يجب أن تكون هي التي تحتوي مقداراً كبيراً من هذا النحاس الأخلاقي الذي يوجد في وجوه المتبجحين، فالجواد ليس حيواناً أقل مكن الخطاف، وليس الغزال أقل من الخنزير، وليس معنى الحياء إلا تناهياً في الإحساس، ولا علاقة بينه وبين الزهو والكبرياء، وإن كان الثرثارون من مدرسة الفلسفة يصرون على القول بأن العلاقة بينهما متينة.
وفي الحقيقة أن الزهو هو أحسن الأدوية للشفاء من الحياء، فإذا أنت يوماً خطر لك أنك أبدع وأفضل وأشطر من غيرك فلان وفلان وفلان، فلا يلبث الخجل أن يمتنع عنك ويتركك، وتصبح متبجحاً، وأنت إذا استطعت أن تدير بصرك في الحجرة الغاصة بالجلوس، وتظن أن كل واحد من هؤلاء القاعدين ليس إلا طفلاً من الذكاء بالنسبة إليك، فلن تشعر بشيء من الحياء إزاءهم، اللهم إلا إذا كنت تستحي من مجلس من الأورانج تانج أو الغوريللا!!
والفضيلة الكبرى للحيي إخلاصه في الحب، وأنا مستعد للسماح له بهذه الفضيلة، لأنه ثابت أبداً في حبه، ولكن السبب ليس خفياً دقيقاً، فإن إخلاصه لم ينشأ إلا لأن النظر إلى امرأة واحدة في وجهها يستفد منه كل شجاعة، ويستحيل عليه بعد ذلك أن يكرر العملية نفسها مع امرأة ثانية، حسبه امرأة واحدة وأنت ترى الناس أبداً لا يفتأون يقولون للشاب الحيي احتثاثاً له وتشجيعاً أنه خليق بأهن يتخلى عن حيائه، وينكرون عليه أنه أشبه بالفتاة في حيائها ولكني لا أعرف شيئاً يقال له إمرأة حيية، أو على الأقل لم ألتق يوماً بواحدة، ولن أحول عن اعتقادي هذا حتى ألتقي بها، وأنا أعلم أن هذه العقيدة المتفق عليها هي عقيدة مخطئة معكوسة، والناس يتصورون أن النساء جميعاً يتغلب عليهن الحياء، وأنهن يجفلن وتتورد وجنتهن وتتراخى أجفانهن، إذا نظر إليهن، وإنهن ينطلقنا مفلتات إذا خوطبن، وإننا نحن الرجال معشر متبجحون جسورون - هذه نظرية جميلة يا سادة، ولكنها ككل النظريات المتفق عليها، كلام فارغ ليس إلا، فإن الفتاة في الثانية عشرة تكون هادئة النفس، مطمئنة الأعصاب، بينما أخوها ذو العشرين يتلعثم بجانبها ويتمتم، والمرأة تدخل الملهى والرقص متأخرة تعطل التمثيل وتعكر سكون الجمهور، ولا تهتز منها شعرة واحدة، وترى الزوج في أثرها، يتعثر من حياء، ويتمتم بالمعاذير، ويهمس بالشفاعات.