مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/روح الطفولة
→ ../ | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 28 روح الطفولة [[مؤلف:|]] |
الإسلام في الصين ← |
بتاريخ: 1 - 12 - 1915 |
في
الأدب المصري
إن أخلاق الناس وقوة نفوسهم وأعصابهم وأذهانهم، وأساليب العيش الذي يعيشونه، وروح الفن الذي يحملونه في كل وجوه العمل، ومطالب الحضارة، لا يمكن أن تتجلى في صورة واحدة، إلا في الآداب التي تخرج من الناحية السامية فهيم، وهي كتابهم وشعراؤهم وأهل التفكير منهم. وأنت فإنك تستطيع أن تدرك طرفاً من عواطف الفرنسي ونظام بيته وأخلاقه وقوة الروح الفنية عنده من قراءتك كتب فيكتور هوجو وحدها، وإن لم تنعم برؤية فرنسا آخر حياتك، ولم تتقلب في بلادها وتدخل مغانيها وبيوتها، وتظفر بصداقة جميلة مع طائفة، من أفرادها، وكذلك تستطيع أن تفهم من الأدب العربي أي نفوس كانت تحمل العرب، وأي أعصاب كانت لهم، وأي أخلاق كانت تختلق، بل أنك قادر أن تتبين مثلاً من طرازهم في العمارة وهذه التعاريج والتثنيات والمتداخلات التي كانوا يزينون بها. شرفات قصورهم ومطلاتها وقبابها، روح الجاحظ في ثرثرته وزيغاته، ومعرجاته، واستفاضاته. ومن أدبهم الذي لم يكن يحتوي غير حكايات قصار ونوادر موجزة وأبيات أفذاذ وكلمات طيبة مقتضبة، تستطيع كذلك أن تعلم أنه قد كانت لهم نفوس قلقة، وقلوب وثابة، وأعصاب حارة ملتهبة، فلم يكونوا ليطيقوا الصبر على البحث الأدبي المستفيض والكتابة التفكيرية الممتدة، اللهم إلا في حدود الفقه والحديث وعلوم التربية وأشباه ذلك. وهذه كانت لا يطيقها إلا شيوخ منهم يحسبون فتور العلم ويحملون في أعصابهم العلمية برودة القطب.
وإذا تقرر ذلك فإن الأدب المصري الحاضر لا يزال يحمل مفاسد الجيل وطبائعه، وأخلاقه وعوارض الانحطاط السائد في كل ناحية من هذه الحياة المريضة التي نعيشها، ونحن واجدون في كل ما يخرج من أفواه شعرائنا، وتقذفه علينا المطابع من أقلام كتابنا وأدبائنا، صوراً شتى من غرائب الطبائع المصرية التي نشهد أثارها في البيت والشارع والمكتب والديوان، إذ كان أكثر كتابنا وشعرائنا وأدبائنا لا يكادون يمتازون عن سائر الشعب في عامية النفس وجمود الروح وضؤولة التفكير، فكل ما يكتبون وينشئون يجري مع مطالب الجمهور وينزل على حكم السواد الأعظم، ويدخل على قلوب العامة وأشباههم من ناحية م يحبون ويطالعهم من ناحية ما يفكرون ويعتقدون، ومن ثم كان الجمهور العادي في هذا البلد هو الذي يقود الفكر ويسيطر على الذهن ويستبد بكل منتجات القرائح، وثمرات العقول، وما كان الكتاب الذين تأبى عليهم مطالب الربح والذكر والشهرة إلا أن يتابعوا هذا الجمهور الذي لا يزال في طفولة الحياة، ولا يزال يعيش بروح الماضي، ولا تزال تحركه مبادئه وعقائده، إلا أكبر عقبة في سبيل تهذيب الجيل، وقتل حماقات العصر، وهم الذين لا ينون يفسدون على المهذبين العبقريين من أهل الناشئة الجديدة عملهم، وهم الذين أثاروا حقد الجمهور على كل ذهن جديد وعقل متوقد وروح متمردة من آثار الجمود، وهم الذين لا يفتأون يتلطفون للجمهور ويملقونه وينتصرون له، ويهجمون إلباً واحداً على كل كاتب نبيل الروح مفعم الذهن بكل ضروب التهذيب ووسائل الخروج بالحياة من كل غل من أغلال العبودية الاجتماعية، فلا يزالون به أو يفسدوه ويبددوا كل أثر من آثار إخلاصه. ويجتمعوا بعد ذلك على تركته، يتقاسمون الربح ويتشاطرون الابتهاج بالنصر، ولقد تكاثر في هذا العصر جموع هؤلاء الألفاف، وانتشرت زمرهم واستحصد شرهم، فراجت بذلك حالهم وطالت مكاسبهم وهم بعد خلقاء بهذا التشجيع من الجمهور لأنهم قطعة منه وهم ألسنته وصنائعه، ولأن المصانعة والمداهنة والتدليس من الطبائع المصرية العميقة في أرواحنا، الظاهرة في كل وجه من وجوه أعمالنا.
ولا يتلجلج في خاطرك أن مجرد وجود لمحة من الآداب في الأمة هو دليل الحياة وأنه أثر من آثار التقدم والانتعاش، وعنوان على روح الحضارة والرقي، فإنك لو عمدت إلى أحط قبائل الزنج وأغلظ أهل الأحراش والغاب إذن لوجدت لهم شاعراً مغلقاً يضج بالقصيد تلو القصيد على أصوات المزمار، ونقرة الدف، ورقصات القيان، ولرأيت لهم خطيباً مصقعاً يصرخ فيهم إذا عرض خطب، ويستنفرهم إذا نشبت حرب، ولأبصرت لهم كتبة ومشايخ جلَّة يعلمون ويؤدبون ويهذبون، وما أنت بمستطيع أن تمنع شاعرهم هذا من أن يشترك في لقب الشاعر مع شكسبير وهوجو والمتنبي، ولا خطيبهم هذا من أن يقاسم في لقب المصقع شريدان وجوريس والحجاج، ولكن هذا بعد ليس مقياساً صحيحاً للآداب، بل إنما تقاس الآداب بقوة ما فيها من روح السمو والنضوج وما نشعر من قوة ذهنية أهلها ومبلغ ما أخذوا من التهذيب والحضارة والعلم، والضروريات الأولى للأدب، وهي روح الفن. وقوة الخيال. ودقة الشعور. وقوة الملاحظة.
فإذا نحن أردنا أن نتلمس هذه أو بعضها في هذه الطائفة التي اصطلحنا على تسميتها بالأدباء فما نحن واجدون ثمت أثراً لها، بل لرأينا أكثر أدبنا، أو ما نسميه أدبنا، خلواً من روح الفن، وإذا افتقرت الآداب إلى هذه الضرورية الأولى فلن تعد من الآداب في شيء، بل هي في الحقيقة ليست إلا وسائل يستعان بها على العيش، ومطالب الأكل والشراب، للذين خابوا أن يجدوا في الحياة غيرها، وهي إذ ذاك مهنة تسد جوع الجائعين وتطعم أفواه الضعفاء في الحياة العملية والمهزومين، لأن الكتابة والشعر وسائر الفنون الرفيعة ليست تعتمد في كل روحها على مستلزمات الحرف والصنائع من وجوه التعليم والتمرين والحفظ والرياضة وممر الزمن، وإنما هي تتغذى قوتها من إحساس داخلي عميق يولد مع الشاعر والكاتب والأديب والمصور والنحات، وما كان الكتاب والشعراء في هذا البلد إلا يتابعون في افتقارهم إلى روح الفن، سائر أفراد الأمة، لأننا جميعاً مفتقرون إلى روح الفن، فلو أنت زرت قصوراً أكبر أغنيائنا وأهل الرقة والترف فينا ونظرت إلى الصور الأنيقة التي تشرف عليك من جدران حجراتها والنقوش والرسوم والنفائس التي ترنو إليك في مقاصيرها، إذن لأدهشك النُّبُوّ الظاهر في الترتيب وفساد الذوق البادي في التنسيق، على نفاسة الأثاث، وفخامة الرياش، وغلاء أثمان المتاع، وذلك لأن الجمال كما يقول الإفرنج ليس في الصورة وإنما في كيفية تعليقها ووضعها، وكذلك نحن من الغني إلى الفقير فقراء من روح الفن ورفعة الذوق.
ثم يلي هذا افتقارنا إلى سمو الخيال، ولا يزال أكثر أدبائنا وشعرائنا يستمدون تخيلهم الشعري من صور الماضي ومحسات العصور الذاهبة ويستعينون بأثر من روح العرب في كل المواقف الشعرية وأشباهها، وليس سمو الخيال إلا دليلاً من دلائل صفاء الذهن وخصوبة الخاطر ونقاء الروح ولطف الشعور ونحن لا ننعم بشيء من هذه لأننا نعيش عيشة مريضة بلهاء فاسدة ونعاني في البيت والشارع ضروباً من الانحطاط والفوضى سائدة، ولأن حياة أدبائنا - صَنَع الله لهم - إنما هي سلسلة متطاولة من معاسف العيش ومنغصات الهم والفقر والتشرد والإهمال، وهذه أدعى إلى أن تبدد صفاء الذهن، وتضعف حاسية الروح، وتفسد صحة الذهن وتطفئ شعلة الإحساس ونحن من جرَاء هذه جميعاً فقراء في قوة الشعور والملاحظة. وقوة الملاحظة من أكبر الأسباب التي تعمل على تهذيب الآداب وتقدمها ونمائها لأنها تفتح أبواباً شتى من البحث وتحدو إلى نواح طيبة من التفكير، وتفضي إلى مطارح بعيدة من الاستنباط والاستنتاج، ولهذا كان الأدب المصري خلواً من أسمى فروع الأدب المنتعش الصحي المتحضر، وهو فن الرواية والقصص، وهو قد أصبح في الغرب جماح علومه وأدابه وفلسفاته ومبادئه، لأن فلاسفة العصر وكبار الأدباء والمفكرين من أهل الغرب آثروا اليوم أن يضعوا أفكارهم وفلسفتهم وآراءهم في أساليب حلوة من الرواية وموضوعات سهلة من القصص، حرصاً عليها أن تروح مستثقلة على أذهان الجمهور مستغلقة الفهم باردة الروح، مستكرهة الطعم، فترى أمثال برناردشو وويلز وبورجيه وأنا طول فرانس وأضرابهم يعدون في طلائع الروائيين وهم مع ذلك من أكبر المفكرين والفلاسفة.
على أن من طبائع الفوضى التي ركبت في نفوسنا وتأبى إلا أن تظهر كذلك في أدبنا أن أدبائنا وكتابنا ليسوا إلا نَشَراً لا يجمعهم نظام، ولا تحكمهم قاعدة، فهم لا يحورون ناحية من المذاهب المقررة إلى مذهب ثابت، ولا يرجعون إلى منحى معروف وأنت فلا تستطيع أنتحصر من بينهم الفريق الذي يذهب في الكتابة مذهب الرياليزم وهو المذهب التقريري الذي يعمد فيه إلى بسط الحقائق على علاتها دون تحلية أو تهذيب أو تجميل، ولا أن تعرف من بينهم كتاباً إيدياليين، وهم الذين يجنحون إلى السمو في أطباق الإيدياليات، وهي الأمثلة العليا للحياة، وأنك لترى الكاتب منهم إنما يخرج لك في المقال الواحد خليطاً من الجميع، فبينا تلتقي بقطعة من الرياليزم إذ تهاجمك الفقرة التي تليها بروح الإيدياليزم، وهذا ضرب من الفوضى، وعلة من علل التقلب. وعارض من عوارض كراهية المصري لروح النظام.
وإذا وعيت هذا ثم علمت أننا لم نأخذ بعد بنصيب من العلم الحديث، وأن نصف أدبائنا وشعرائنا لا يعرفون لغة من لغات الغرب، بل هم يسكنون في دواوين الشعراء الذين تقدموهم ويعيشون في بُرد الكتاب الذين سبقوهم وهم بعد لا يستطيعون أن يستمدوا منها شيئاً غير حظ من الأسلوب، وجملة من موفق اللفظ، وطائفة من بدائع الكلم وهذه ولا ريب لا تخلق الأديب، ولا تنضج الشاعر، ولا تفتق الذهن، ولا تفتح مغاليق الفكر، وإنما هي أداة من أدوات الزينة وسيلة من سوائل التجميل، وأن النصف الآخر العارفين بلغة الفرنجة ليسوا صنفاً واحداً في الإطلاع، ولا سماطاً واحداً في الفهم والبراعة والذكاء، بل ما يبرح كثيرون من إغفالهم يهجمون علينا بكل غث وخم من الكتب وكل عقيم تافه الفائدة من الأسفار من كل ما يقع تحت أيديهم أو يعثرون به فوق رفوف المخازن وألواح المكاتب، إذ كان قد قام في أذهانهم أن كل ما يخرج من كتاب الغرب قمين بالقراءة، خليق بالنقل، وكأنهم لم يعلموا أن كل مملكة في الغرب تحوى الألوف المؤلفة بالخلود وعظمة الشأن إلا القليلون. ومن هذه الملايين من الكتب إلا القلائل وإن كان كلهم رائج المكسب في بلهنية من العيش وغفراء من النعم لأن كل ما يخرج للجمهور في تلك البلاد المهذبة لا يلبث أن يلتهم إذ كان كل فرد منهم قارئاً، وكل قارئ منهم يحتفل بمطالب ذهنه احتفاله بمطالب معدته.
ومن ثم كان التعريب في هذا البلد كالتأليف لا يزال يجري أكثره في سبل من الفوضى ويطرد في مضطرب واسع من السخف والحمق، وأكثر ما نقل إلينا لا يكاد يجدي علينا في فرع من شؤون التهذيب ولا يقرب لنا طرفاً من علوم العصر في كل أبواب الاجتماع والتربية والفلسفة والأدب والعلوم الطبيعية بأنواعها، هذا على كثرة النافجين منا بمعرفة لغات الغرب والمزهوين بأنهم تلقوا تهذيبهم في جامعاته، وأخذوا آدابهم عن أساتذته، وعاشوا طويلاً بين ظهراني أهله. ولكن أكثر هؤلاء إنما نفقدهم ساعة تحتويهم الباخرة خصة بهم إلى الأرض المقدسة لأنهم يذهبون وهم على شيء من الفطنة والذكاء والتوقد والنشاط فما يلبثون أن يعودوا ضعفاء الأعصاب خامدي الأذهان مرضى الأرواح من أثر إفراطهم في حيوانيات الغرب ومقاتل لذائذه، ثم نحن بعد لا ننال منهم لا كثيراً ولا قليلاً من نتائج العلم الذي درسوه وجملة الآداب التي تلقوها وحلزوا درجاتها، وذلك لأن الجامعة لا تستطيع وحدها أن تخلق كاتباً واحداً أو شاعراً واحداً أو أديباً واحداً، إذ كان التعليم في الجامعة مدرسياً بحتاً لا يدخل في أغراض الحياة، ولا ينفذ إلى صميم العيش، وهو إنما يكون سبيلاً إلى إظهار النبوغ، وتجلى مطالع العبقرية، وفي الغرب ملايين عظيمة من خريجي الجامعات وحملة الشهادات والألقاب العلمية، ولكن ليس منهم إلا قليلون هم الذين استطاعوا أن يكونوا كتاباً ويظفروا بشيء من الذكر في دائرة الكتابة والأدب، وإذا كان ذلك فلا عجب إذا رأيت شباننا الذين نالوا بركة الحج بمشاهدة أرضهم المقدسة لا يلبثون أن تشتمل عليهم مكاتب المحامين أو كراسي النيابة أو مقاعد الإدارة.
على أنه لا ينبغي أن يتملكنا روح اليأس من انتعاش أدبنا الحاضر وخروجه من حدود الطفولة إلى أدوار الحياة القوية المكتملة. إذ كنا لا نزال نرى جمعاً قليلاً من شباب هذا الجيل قد جاؤوا يدخلون على هذا الأدب الطفولي الضعيف روحاً جديداً من التهذيب وسبلاً عدة من التفكير العميق. وهم، وإن كانوا لم يتحرروا بعد من بعض نقائص العصر وأخلاقه وأعراض انحطاطه وطفراته، لا يخلون - إلا قليل منهم - من دلائل النضوج وسموا الذهن وبواكر العبقرية. ولعلنا مفردون لهم مقالاً طوالاً فنتناولهم جميعاً فيه ونشرح للقراء كل ما نراه في مذهبهم الجديد.