الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/آداب الإنجليز وآداب الألمان

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 28/آداب الإنجليز وآداب الألمان

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 28
آداب الإنجليز وآداب الألمان
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 12 - 1915


إن الحرب قاسية منكرة، ولكن أقسى منها أن يكون كل من الفريقين المتقاتلين المتصارعين يحمل في أعماق قلبه احتراماً خفياً صامتاً لعدوه، وكل منهما يريد أن يخنق صاحبه ويكتم أنفاسه ويهدم منزله ويرسله مدرجاً في أكفان الهزيمة إلى المقبرة، ولكنه ولا ريب واقف ساعتذاك على قبره خاشعاً لجلاله متهيباً، يصلي من أجل عدوة القوي الذي صارعه وناهضه، ويحوطه بكل مظاهر الشرف والإعجاب والاحترام وهذه الحرب هي حرب الغريزة، حرب الزنجي الشجاع للزنجي المقدام المغوار، حرب السبع للسبع، والنمر للنمر، كل منهما يجالد الآخر ليقتله، ولكنه يمجد في عدوه قوته، لأن القوة تحترم القوة التي مثلها، لأنها تخشى أن لا تحترم نفسها، والكفوء لا يحتقر الكفوء وإن كان يحقد عليه أو ينفس، والحقد غير الاحتقار، لأن الاحتقار ينحدر من ذروة الرجل الأشم العظيم إلى وهدة المخلوق الضعيف الهزيل، والحقد هو أكبر مظهر من مظاهر الإعجاب بالقوة والتمجيد لشأنها، وهو من أكبر فضائل الغريزة، وهو من أسمى منعشات الصحة ومقوياتها، لأنه يرسل الحرارة في نواحي الروح وأجزاء النفس ويبعث النشاط إلى الجسم ويزيد في خفقات القلب ويشد الساعد ويحرك اليد ويلهب الذهن، ولهذا يقول نيتشه: أحبوا أعداءكم وخير منه أن تكرهوا أصدقاءكم.

وخلاصة هذا أن الانكليزي يحمل في قلبه الاحترام للألماني وأن الألماني لا يستطيع إلا احترام الانلكيزي، وإن كان هذا الضرب من الاحترام قاسياً مخيفاً مرعباً، وكل منهما ولا ريب يحترم في عدوه قوته، وإن كان يريد أن يصرعها ويزهق روحها ونحن الضعفاء المهازيل لا يسعنا إلا الاحترام للجميع، نحن نقف على مشهد من القتال الناشب بينهما المستحر صارخين كما يفعل الأطفال والولدان عند رؤية الشجار العنيف معولين، مهيبين بالمتقاتلين متوسلين، نصيح بهما أن يكفا عن القتال المستميت، ونضرع إليهما أن يزجرا هذا الصراع الدموي الرهيب، لأننا نخشى ان يميت أحدهما الآخر، لأننا نريدهما جميعاً. لأننا لا نريد أن يفقد العالم قوتهما أو قوة أحدهما. لأن حياة الإنسانية ومدنية العالم تطلبهما معاً، إذ كنا نعيش في كل ألوان العيش من عقل الانكليزي ودأب الألماني، نحن في البيت وفي الشارع وفي القهوة وفي المنتدى وفي القاطرة وفي العجلة وفي الملهى نتنعم بمبتكرات الانكليز ومنشآت الألمان، نحن نمرض ونجرح ونصاب فنشفى ونعافى ونصح بعقول ارلخ وكوخ ورونتجن وليستر وجنر مساي، نحن نبتهج بأن الإنكليز أعطتنا شكسبير، وأن الألمان وهبونا جوت، نحن نتهذب بأذهان شيللر وهايني وشوبنهور وكانت ونيتشه وواجنر الألمانيين ونحن نسمو بعقول هوبز ولوك وجبون وكارليل وديكنز وولز وبرنارد شو.

نعم لا يسع الانكليز إلا احترام الألمان وليس في أعماق قلوب الألمان إلا احترام الانكليز، وإن كل منهما يريد أن يفترس الآخر ويرديه، ذلك لأن مدنية كل منهما تمس الأخرى وتلاحقها وتتشبث بها والمدينتان في كل فروع الحياة والآداب متداخلتان متلازمتان، فإن أرنست هيكل الألماني هو وليد دارون وخريج وُلّلس وجوت وشيلر ابنا شكسبير، وهكسلي وجالتون ولييل وفراداي ودالتون وهامفري دافي هم الذين أنتجوا أكبر علماء ألمانيا وكيماوييها وحشرييها وبيولوجييها، وانجلترا استفادت من ألمانيا كذلك أكبر أساتذتها وجبابرة عقولها في السياسة والمال والجغرافية والهندسة والطب والفلك واللغة وغيرها، فإن آل بارنج - ومنهم لورد كرومروهو من أكبر أقطاب السياسة في الغرب - يمتون إلى أصل ألماني، وكذلك روتشلد أكبر ماليي هذا العصر وأرنست كاسل المحسن المالي العظيم وسر ويليم هرشلي الفلكي الكبير وماكس موللر المستشرق الفيلولوجي الذائع الصيت وسير موريس دي بونزن سفير انجلترا في برلين قد نزلوا جميعاً من سلالة ألمانية، وكثيرون غيرهم يخطئهم الحصر والعد قد أفادوا انجلترا أكبر الفائدة في الاكتشافات الجغرافية وفي البيولوجيا وفي التصوير والموسيقي والصحافة والمصارف والتشريع والجندية والبحرية، وكانوا من الألمان دماء، وإن كانوا من الانكليز جنسية وموطناً.

ولقد كان العالم الإنساني قبل نصف قرن الماضي يغتبط بالألمان ويبتهج بألمانية جوت وشيللر وهيجل وكَنْت وشوبنهور، لأنها كانت ألمانية إنسانية رفيقة صامتة حلوة وديعة تعمل للعالم في هدوء وتلقى بنظرياتها وفلسفاتها وعلومها وآدابها بين أهل الأرض، وهي في لباس الأستاذ الهادئ الحدب المخلد إلى العزلة العلمية المطربة، وهي في بردة لافوازييه وهو يحنو على الدرس العلمي في مكتبه، وضوضاء الثورة الكبرى ضاجة في الفضاء صخابة متعالية، ولكن حرب السبعين جاءت فأسكرت ألمانيا وأثارت عزتها وزهوها فماتت ألمانية كَنْت وشوبنهور، وطلعت ألمانيا الصخابة المزهوة المتعاظمة، نظرت إلى حاضرها ثم التفتت إلى ماضيها فرأت كل شيء أمامها بهيجاً، حاضر المنتصر الثمل وماضي الفيلسوف الساكن المعتزل، وإذ ذاك قالت في نفسها. . . هذا أنا حاربت فرانسة البديعة، فرانسة الفلسفة والشعر والقانون والمودة والمجد والزهو والحمية، فرانسة الجمال والرقة والحرية وحقوق الإنسان، فرانسة لويس الرابع عشر وريشيليو وروسو وفولتير وميرابو ودانتون ومارات وروبسبير ونابليون وموسيه. . وهذا أنا انتصرت، وربحت الموقعة. . إذن فلأغزون الأرض وأملكن عين الشمس. . أيها الناس. كونوا ألماناً. كونوا ألماناً. . . تعالوا يا ألمان نطلب السيادة على الأرض. . وأما السقوط - عند ذلك بدأ العالم الإنساني يكره ألمانيا وينفر منها وكان يحبها من قبل ويجلها، ومنذ ذلك اليوم راحت ألمانيا تحول كل قوتها إلى خدمة نفسها ومصلحتها، وكل فلاسفتها ومفكريها وعلمائها ومخترعيها أصبحوا منذ ذلك اليوم يحملون فوق صدورهم ماركة واحدة وهي صنع في ألمانيا ولا جل ألمانيا ولم نعد نحن العالم الإنساني نسمع من ألمانيا التي كانت مهد الفلسفة الإنسانية الجميلة إلا صوت تريتشكي الصخاب الأصم يصرخ فينا. . أيها العالم الإنساني. . نحن الذين هذبناك ورفعناك وربيناك. . نحن أنبياء هذا الزمان. . . نحن العنصر المختار من الله. والشعب المجتبى. أن كلتورنا هو أسمى آداب العالم وأرفعها. . السيادة على العالم أو السقوط ولم نعد نرى غير القائد المتفلسف فون برناردي يعد ويحسب، ويضع الخطط لحرب العالم وغزاته وامتلاكه، بعد أن كنا نسمع نيتشه الإنساني السبرماني المهذب، وكَنْت الفيلسوف النظري الوديع، وشوبنهوَر السوداوي الحزين، وهيجل الخيال الرقيق، وجوت الشاعر الجزل المستفيض، وعند ذلك انقبضت صدورنا عن الألمان، ونفرنا من ألمانيا، لأنها جاءت تمن علينا بمدنيتها وتؤذي إحساسنا بتعداد صنائعها علينا وفضائلها، لأنها تريد أن تقتل حرية العالم. . تريد أن تبتلعه، وتأكله كما يأكل القط الفأرة.

إن الألماني رجل عصبي قوي حاد المزاج والانكليزي رجل هادئ الأعصاب متين الخلق وصلب الروح، وما أظن الألماني عند المدفع إلا صاخباً لاعناً شاتماً، وهو يحرك إدارة المدفع ولولبه، ولكن الانجليزي يدير المدفع ولفافته في فمه وهو في أتم هدوءه، حتى لقد وصف القائد الانكليزي بأنه ليقف أمام فوهة المدفع العظيم كما يقف عند باب حجرة الحسناء الناعمة.

وهذه الأعراض الأخلاقية تتجلى في آداب الأمتين ووجوه تفكيرهما ومبادئهما، فإن الآداب الألمانية تشبه نوعاً من الشجار الحار المضطرم، كل ما فيها ينم عن نفس جياشة متوثبة متجهمة، وكل آدابها في هذا العصر التسليحي الأخير يتبع فكرة واحدة. . . فكرة القوة والشدة. . . فكرة ترتشكي المتلخصة في كلمة كونوا حكوميين ونصيحة نيتشه كونوا قساة يا صحابتي.

وهذه الحدة المزاجية تبدو في حب الشعب الألماني للكلمات المنتفخة الفخمة الغليظة وكل طفل في المدرسة لابد من أن يحفظ كراسة مطولة منها، يحفظ عن ليست وبسمارك ومكيافللي وكلوسويتز ومولتكي وترتشكي والإمبراطور، وكل من يزيد في مجموعة هذه الكلمات الكبيرة يغدق عليه المجد والاحترام والشرف والتبجيل، كما أعطى الشاعر ليساور وسام الصليب الحديدي من أجل قصيدة نظمها هي قصيدة الحقد.

وهذا الضرب من الآداب في نظر الفلسفة الحرية الصحيحة ليس من الآداب في شيء. . . هو نظام عسكري متين أكثر منه أدباً وشعراً وتصويراً ونقشاً وموسيقى. . هو خطة إسبارطية خشنة. يختفي فيها الفرد في جوف المجموع، وينزوي الفكر الإنساني عند أقدام الحكومة والإمبراطور، ولكن الألمان أنفسهم لا ينكرون هذه الحقيقة ولا يجحدون، لأنهم يعتقدون أن الفكر الجنديّ المنظم هو خلاصة التاريخ الألماني، إذ كانوا يعيشون على الطاعة والنظام منذ أبعد حدود الماضي وعهوده، هم لا يعرفون إلا أن الطاعة منهم وأن الأمر والنظام من الإمبراطور، وهذا الأسلوب التفكيري، وإن كان قد خلق الوطنية الألمانية، لا تقره الإنسانية ولا تمتدحه، ولا تعترف به غريزة الإنسان، لأنها تعيش على الحرية الشخصية وتغتذي من حرية الرأي والكتابة والتفكير، وتسخير كل قوى التفكير والعلم والآداب والحضارة لغاية أهلية واحدة ليست من مطالب مدنية الأرض، لأن الأرض لا تريد أن تحكم بأمة واحدة، أو تساد بعقل واحد، أو يسيطر عليها سيف واحد، والفكر الذي يسخر نفسه لخدمة فكرية جنسية مستقلة غير عامة، لا يسعنا إلا أن ننحني له احتراماً وإعجاباً. ولكنا لا نكتب اسمه في سجل مصلحي الأرض، ولا نضعه في قائمة الإنسانيين الناهضين بحضارة الدنيا، والشعب الذي يطمع في أن يسود العالم ويقوده، هو شعب حيوي وثاب مطماع، ولكنه غير خليق منا بالحب والاحترام، لأنه يريد أن يقتل في الإنسانية فكرة الحمية للجنس وروح العصبية للعنصر، والحب الغريزي للوطن.

وعلى نقيض آداب الألمان تعيش آداب الانكليز، فإن كل انكليزي يأبى إلا أن يكون عالماً مستقلاً من الأدب والتفكير، ودولة مترامية من الرأي المطلق الحر، وليس للانكليز شعار واحد أو فكرة واحدة يتبعونها ويسخرون قواهم لها، بل إنك لتلتقي عندهم بضروب من الشعائر المتباينة والأفكار المتضاربة المتعارضة، فإن للارستقراطية شعاراً ومبادئ تختلف عن شعار البحرية ومبادئها وهذه تختلف عن الجندية، والجندية تختلف عن التجار. وشعار التجار ومبادئهم لا تشبه شعار الدينيين ومبادئهم. والدينيون لا يتبعون في ذلك أصحاب الألعاب الرياضية، حتى لقد بالغوا في هذا الأسلوب التفكيري الحر المستقل فأصبح شعار لندن ووجهة تفكيرها غير أدنبرج، وأدنبرج تباين منشستر، ومنشستر لا تحكي بلفاست وهلم جراً، بل إن للشرطة من ذلك غير ما لموظفي الحربية والأشغال والمستعمرات، وليست هناك حكومة حقيقية - بالمعنى التام الذي يفهم من هذا اللفظ - يحس الانكليزي بها أو يشعر بوجودها، اللهم إلا في دائرة القضاء والقانون وسوى المحاكم، والتاج في كل مظهره وقوته صورى لا سيطرة له على الفرد ولا أمر ولا نهي. والمدنيون يرأسون الجيش ويتقلدون المناصب العسكرية والوظائف البحرية كالعسكريين، ولو سألت الانكليزي العادي أن يعرف لك انجلترا لقال لك في الحال هي الفوت بول لأن وطنية الانكليزي أرضية صامتة تستمد قوتها من الغريزة والإحساس الداخلي العميق، ومن ثم لا تجد لانجلترا شعاراً أهلياً ولا وجهة تفكير أهلية واحدة عامة، وليست لها فلسفة حياة خاصة بها، والانكليز يفخرون بذلك ويعتزون، لأن وطنيتهم وعصبيتهم الجنسية مستأصلتان في أعماق قلوبهم، لا يتعلمها إنسان منهم ولا يلقنها معلم ولا يستحث عليها كاتب أو خطيب. اه.

منقولة عن كاتب انكليزي منصف كبير، بعد أن حذف منا وزيادة وتصرف كثير.