الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 27/حوادث البلد

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 27/حوادث البلد

بتاريخ: 15 - 5 - 1915


الوزير الجديد

إن مقاعد الوزارات كالمقاييس الزئبقية، تجري مع أحوال الجو. وتتقلب بتقلباته وتهبط أو ترتفع مع هابطات درجاته ومرتفعاتها، فقد يطلع اليوم عليها بجو ساج هادئ ولكن لا يكاد يغيب اليوم حتى يقصفها من السياسة عاصفة هوجاء قاسية، ولذلك كان المقتعدون مقاعد الوزارة كالجالسين فوق كراسي المصاعد الكهربائية ليس أسرع من حركات صعودها وهبوطها، فقد كان الشهر الماضي شهر الاستقالات الوزارية، فاستقال فنزيلوس - أو كما يسمونه جراي الثاني في اليونان، واستقالت الوزارة في إيطاليا، وأوشكت الوزارة أن تستقيل في انجلترا، وبوغتت الأمة المصرية باستقالة وزير من وزرائها. . .

هذا وقد وقعت خيرة الحكومة المصرية لمقعد وزارة الأوقاف على حكومي كبير عرفه الشعب في جميع الوظائف التي أسندت إليه، رجل حاد لروح، حي الوجدان صريح الكلمة، يجري في جميع عمله على مبدأ احترام النفس، والإخلاص إلى العمل والعمل في صمت وهيبة وسكون، ويستمد من الروح الجندية التي فيه روح النظام المتين التام المتماسك، وروح القوة العملية التي لا بعتاقها شيء من مغريات الضعف والتلكؤ والتكاسل وبرودة الإحساس، فأنت لا تراه في عمل من الأعمال إلا رجل عمل يحترم كل ما يعمل لأنه يحترم نفسه، ويقدر المنصب المسند إليه لأنه أشد الناس تقديراً لشخصيته. . ونعني به صاحب المعالي إبراهيم فتحي باشا وزير اليوم ومدير الأمس.

ولقد كان عهده في مديرية الغربية من أشد العوامل في تطهير أدرانها من عناصر الضعف ومهلكاته، إذ كان الرجل الكبير الشخصية إنما يرفع إليه العمل الذي يعطاه ويأبى أن ينزل هو إليه، وكانت الأعمال لا تسمو بنفسها بل بالقائمين عليها وليس تأثير الحكوميين على المناصب إلا أعظم من تأثير نفسها عليهم، ولهذا نتوقع أن ستكون وزارة الأوقاف تحت هذا الوزير الجديد في طليعة الوزارات انتعاشاً وسمواً وقوة، وقد كنا نريد أن ننشر للقراء صورة حقيقية من أخلاق هذا الرجل الكبير وآدابه ومميزاته لو لم يضق نطاق هذا العدد دون ذلك ولكنا موافو القراء بها في أحد الأعداد القادمة. . .

الإصلاح الاقتصادي الكبير اقتراح فليني فهمي باشا

إن من أكبر ما نعاني من ضورب الارتباك والفساد في حياتنا الاجتماعية أمر تدبير المال وطرق الاقتصاد والتنظيم وجوه العيش إذ كانت المسألة الاقتصادية في هذا العصر هي الأساس الذي تقوم عليه كل حضارة قوية ناهضة وليس الفارق الذي يفصل شعباً عن شعب ويميز عنصراً من عنصر، إلا مقدار ما بينهما من قوة الاحتفاظ بالاستقلال في العمل ومعرفة أساليب الاستثمار ومناهضة العوامل التي تجوز على الحرية الشخصية فتقتلها، وقد بدأنا نفقد شخصيتنا يوم فقدنا استقلالنا في المسائل المالية بل لقد كانت الغلطة المالية الأولى هي التي وضعتنا تحت ظروف مرة قاسية وأصابت مجموعنا بالشلل الاجتماعي وجعلت منا عنصراً مستخذياً مرتبكاً في أمره. ولهذا كان البحث في تدبير المال وابتكار أساليب الإصلاح فيه أكبر عمل يمكن أن يفيد شعباً منتشراً عليه أمره مثلنا وكان المصلح الذي يتوفر على هذا العمل من أكبر الإصلاحيين الاجتماعيين.

ونحن فإذا قلنا أن الاقتراح الذي صدر في هذه الأيام من ناحية عطوفة قليني فهمي باشا من تنظيم الديون والعمل على الاستقلال الاقتصادي من أكبر المشاريع الإصلاحية الحاضرة فلا نقول شيئاً كثيراً، وهو إذا تم على وجهه فأنا ولا شك ظافرون بخير الإصلاحات التي ترفع عنا نير الماليين والعاملين على سلب كل قوة فينا.

وهذا المشروع على خطورة شأنه وجليل أثره في حياتنا سهل ميسور مع بعض التضحية والنشاط، وخلاصته أن تضرب على كل فدان ضريبة مقدارها خمسة قروش لمدة خمس سنوات، وتعفى من هذه الضرائب الملكية التي لا تزيد على اثني عشر فداناً وبذلك نستطيع أن ننشئ مصرفاً مالياً وطنياً أكبر عمله إسعاف البلاد بفوائد قليلة.

ولم نعجب من شيء عجبنا للمناهضات والمعارضات التي جاءت تصدم هذا المشروع الحيوي الكبير وتخطئ الوجه المفيد منه ولكنا نعلم أن المعارضة والتخطئة خلق ركب فينا يريد أن يهدم أكبر مجهودات أذهاننا ونعلم أيضاً أن قوماً يرتزقون من وراء المتاجرة بالتخطئة والمعارضة التي يمكن أن تغتفر في الشعوب الناهضة الحية ولكنها في شعب فقير لا يزال في أول مدارج الحياة تعد أشد العوامل في تأخره وتعطيل كل مشروع مفيد وليس الصحافي الذي يجلس وراء مكتبه ويناول كل فكرة بالاستنكار إلا رجلاً مأجوراً على مقاتلة المبادئ الصالحة الكبيرة الأثر.

هذا وربما عدنا إلى هذا الموضوع وبسطنا وجوه الرأي فيه من مخالف ومحبذ ونشرنا رأي الباشا الأخير مكتوباً بقلمه في الأعداد الآتية.

حول جمعية الهلال الأحمر

من بين الفكر الإنسانية الصالحة التي أخذها الشرق اليوم عن الغرب وتبعه في العناية بأمره واستنداء الأكف والقلوب والسواعد والأرواح إلى عونها وغوثها، فكرة إسعاف جرحى الحروب ومواساتهم وضمد جراحاتهم والاحتيال لتوفيرهم على النوع الإنساني والاجتهاد في رد قوات الحياة والنشاط والعمل التي كانت ستفقدها الإنسانية بفقدهم، وهذه الفكرة تعد من أحسن حسنات العالم المتحضر وأبلغ ما انتهت إليه وجدانات الأمم والشعوب ونحن لا نزال نسمع كل يوم بنبأ الملوك والأمراء والأكابر والكتاب والعلماء، بل والأميرات والكاتبات وفضليات السيدات وخلاصة أهل الجنس اللطيف، مسارعين جميعاً إلى أسرة الجرحى يمرضون ويطببون ويأسون، ويرضخون بالأموال والأعطية والأكسية والأطعمة والعقاقير، وليس من شك في أن جمعيات الصليب الأحمر كانت في هذه الحرب القاسية الموحشة المفترسة أكبر عامر على تخفيف خسائر الجنس البشري من جرائها وتلطيف ما يخيف من قسوتها ونكرها.

ذاك وليست جمعية الهلال الأحمر التي قامت في هذه البلاد بأقل أثراً في خدمة العالم من أخواتها الجمعيات الغربية الأخرى، فهي أبداً مخلدة إلى عملها السامي الشريف دائبة على الإخلاص في واجبها الروحاني العظيم، ولعل الفضل الأكبر في جلالة أعمالها لا يقع إلا لرجل واحد، اشتهر من قبل بين طبقات هذه الأمة بسماحته وكرم روحه وجود يده على كل فكرة أو مشروع أو مهمة يستمد الناس منها حاجهم من غذاء النفوس واطمئنان القلوب واستثمار الأذهان، وتهذيب المدارك، وقتل آلام الحياة، والتغلب على هموم العيش، والظهور على عناء السعي وراء الرزق ومنهكة الكد لسد الرمق، من مدرسة أو معهد أو مسجد أو ملجأ أو دارغوث أو أشباه هذه جميعاً، ذلك هو وكيل هذه الجمعية، والعضو بالجمعية التشريعية، صاحب السعادة حسين واصف باشا الرجل المحسن الكبير. فهو لا يرى في الموطن العظيم إلا عظيم الروح، متدفق الإحساس، فياض اليد والقلب، والناس في كل عصر أحوج أبداً إلى المواسي والمطعم والمثقف والمربي والمرض والطبيب والعائل والوصي والقيم، لأن قسوة الحياة تريد أن تصرع كل من لا يشبعها ويواتيها ويصدع بأمرها ويقومن على مطالبها ورغائبها. فإذا اجتمعت كل هذه في فرد واحد، وكانت روحه تنطوي على ألف رجل لكل واحدة منها، فهو ولاشك عائش يد الدهر في أذهان الناس وحبات قلوبهم وهذا هو أسمى ضروب الخلود الإنساني، لأنه جاء من ناحية الحياة نفسها، ولأنه جعل الناس ينتصرون على الآلام والجهل والهموم ومتاعب الوجود، وهي كل ما يقتل الروح، ويخنق النشاط، ويستأصل جذور الراحة والهناء.

كذلك يجب أن يعمل الناس، وعلى مثل هذا يجب أن يتزاحم سراتهم. . .

رجل عظيم

يحيي ذكرى أديب

إن في تكريم رجل من أهل الآداب والاحتفال بذكره بعد موته لمعنى يلقي الروعة والإجلال في قلب كل المشتغلين بالفنون ويدخل على كل أديب العزاء والنشاط والأمل، ولكن أروع من ذلك وأجل وأعظم أن يكون العمل على إجلال الأديب صادراً من غني وجيه رب أموال وفضل وأعمال ومكانة مرموقة لا تحتاج إلى الشهرة أو الإعلان، فلئن كانت فكرة تأبين المأسوف عليه جورج زيدان رائعة وجميلة فإن أجمل منها أن يكون سعادة ميشيل لطف الله بك ذلك الرجل النبيل الإحساس، العظيم المبدأ، الكبير الثراء، الذي يرجح في اعتقادنا بألف غني من أغنيائنا والذي يحق للعرب عامة والسوريين خاصة أن يفخروا به الفخر كله والذي أعاد بأعماله المجيدة ذكر المأمون ومعن بن زائدة وأمثالهما من أجواد العرب ومعضدي العلم والأدب صاحب الفكرة والقائم في رأس المحتفلين لها. . . وما ذاك إلا لأننا نعيش في عصر مقفر مجدب من الأغنياء الكبرى النفوس، وإن اختنق بكثير من المتمولين اللؤماء الشعور، المثلجي العاطفة، ومن الصيارفة البارعي الحيلة في الحشد والكنز، والطائفة الكبيرة صاحبة الجاه المزور المموه الأجوف وأن في ظهور رجل غني عظيم المبدأ، متوقد العاطفة بين أرباب الفنون لحادثاً تاريخياً كبيراً وظفراً للمفكرين المتألمين الغرباء في هذا البلد المائت المحتضر.

وليست أمراض الجيل ومساويه ومخازيه الإنتاج فقر الأغنياء من كل معنى جليل وأثر نافع، بل لقد كنا في حياتنا الأدبية أعرف الناس بنفوس الأغنياء وقوة برودة العواطف فيهم، نعم نحن الضحية الكبرى في هذا العصر الأشل، نعرف عن أصحاب الأموال ما لا يعرفه الجمهور، لطالما عرفنا فيهم فقر الإحساس وجمود الذهن وبلادة النفس وانحطاط الضمير والبلية الكبرى على الآداب وسائر ما يتعلق بها ويكون منها الخير لصالح المجموع.

وما كان التشنج الاجتماعي والفساد والفقر والجمود التي تشوه وجه الحضارة وتعوقها وتقتل فضائلها إلا نتيجة، الارتباك الذي يوقعه الأغنياء في صفوف المجتمع بفضل أموالهم - فإذا ظفرنا برجل كبير فاضل نبيل الروح يأبى من جميع جهاته إلا شرفاً وكرماً وهمة ومروءة وإحساساً خفاقاً مثل ميشيل لطف الله بك فإنما نظفر بالحجة الدائمة على الطائفة المثرية الدائمة التخريب الجامدة الأثر، التي تتمتع بمناعم الحضارة كلها وتأبى أن تعمل لها شيئاً.

فإن قلنا رحم الله ذاك الأديب فإنا نصرخ اليوم بكل قوى العواطف المخلصة الشاكرة - ليحي الرجل العظيم، نصير الآداب المتمرد على المتمولين المشرق الصحيفة بين طائفة كل تاريخها أسود مظلم خبيث. . .