مجلة البيان للبرقوقي/العدد 26/حضارة العرب في الأندلس
→ الشرائع الاجتماعية والسياسية | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 26 حضارة العرب في الأندلس [[مؤلف:|]] |
عالم العلم ← |
بتاريخ: 30 - 4 - 1915 |
أقاليم الأندلس ومشهور بلدانها
تنقسم الأندلس إلى أقاليم عدة وفي كل إقليم من المدائن الكبار والقواعد الممصرة والقرى والحصون والقلاع ما يخطئه العد والإحصاء، ونحن ذاكرون هنا من هذه الأقاليم والبلدان ما لا بد منه للاستبصار بهذا القطر الأندلسي إن شاء الله.
فمن أقاليم الأندلس إقليم جليقية ويقال غليسية أيضاً وهو ناحية كبيرة تطل على البحر المحيط في أقصى شمال الأندلس من جهة الغرب - وصل إليه موسى بن نصير أوائل الفتوح، وغزاه لعهدنا هذا الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر أدام الله ملكه. وأشهر مدائن هذا الإقليم مدينة شانت ياقو أو ياقوب ومعنى هذه الكلمة بلسان الإشبانيين يعقوب المقدس لأن ياقو في لغتهم يعقوب وشانت معناه المقدس، وذلك أن يعقوب الحواري زعموا أحد الاثني عشر وأخصهم كان بالسيد المسيح جعل يستقري الأرضين داعياً لمن فيها وما زال حتى انتهى إلى هذه القاصية ثم عاد أدراجه إلى أرض الشام فمات بها وله مائة وعشرون سنة شمسية فاحتمل أصحابه رمته فدفنون في هذا البلد وبنوا له كنيسة هي عندهم بمنزلة الكعبة عندنا فيها يحلفون وإليها يحجون من أقصى بلاد روما وما وراءها.
ومن أقاليم الأندلس إقليم البشكنس وقشتالة ونبره وسردانية وألبه وقطالونية وأرغون وجميعها في شمال الأندلس خلف جبال وادي رامة التي تمتد بين مدينة قبره وبين مدينة سرقسطة وقد غزى المسلمون جميع هذه الأقاليم واستولوا على كثير من بلدانها كما سيمر بك في التاريخ.
وهذه الأقاليم هي أردأ أقاليم الأندلس، فإن أرضها قفر يباب هدف للبرد القارس والرياح الهوج والمطر الثر - أرض صالحة للمرعى ولكنها في كثير من أنحائها لا تصلح للزرع، ومن هنا لم يحفل بها العرب وإنما كانوا يغزونها من حين إلى حين رغبة في كسر شرة أهليها ومرغمة لأنوفهم، وقد جادوا بها للبرابرة الذين يمتلكون أكثرها لعهدنا هذا أعتاباً لهم وتقية لشرورهم. ومن بلدان هذه الأقاليم ليون وبرغش وبنبلونة ووشقه وبربشتر واسترقة تطيلة
وخلف هذه الأقاليم الشمالية للجنوب سائر بلاد الأندلس الحلوة الجميلة المريعة الكريم البقعة الطيبة التربة الخصبة الجناب، المنبجسة الأنهار الغزار والعيون العذاب التي جمع الله فيها الشآم بطيبها وهوائها، واليمن باعتدلها واستوائها، والهند بعطرها وذكائها والأهواز بعظم خراجها وجبايتها، والصين بكثرة معادنها ودفائن ترتبها.
وليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
ومن هنا كانت كما أسلفنا مستبحرة العمران كثيرة المدن والقرى والحصون والقلاع حتى لقد أخبرتني ثبت ثقة أن بها ثمانين مدينة من القواعد الكبار وثلاثمائة ونيفاً من المتوسطة وأما القرى والحصون والقلاع والضياع فلا تحصى كثرة، ولقد قيل لي أن عديد القرى التي على نهر اشبيلية اثنا عشر ألف قرية.
لاحت قراها بين خضرة أيكها ... كالدر بين زبرجد مكنون
ولقد سلف لنا في الرسالة الثانية - وعنوانها من المرية إلى قرطبة - أنا كنا نجد في اليوم الواحد ثلاث مدن وأربعاً، وكنا لا نكاد نقطع فرسخين دون أن نرى الماء وحيثما سرنا نرى الحوانيت في الفلوات والصحارى والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والسمك وما إلى ذلك من ضروب الأطعمة وهذا لعمري ما لا يكاد يوجد في صقع من معمور الأرض.
وهذه الأندلس الجنوبية التي نحن بصدد من وصفها يمكن تقسيمها إلى وسط وشرق وغرب، فالوسط فيه عدة أمصار لكل منها أعمال ضخام، فمن هذه الأمصار قرطبة وطليطلة وجيان وغرناطة والمرية ومالقة - أما قرطبة فهي سيدة بلاد الأندلس - وقد وفينا القول عليها في الرسالة الثالثة من كتابنا حضارة العرب في الأندلس - ومن أعمالها استجة وهي مدينة جميلة على نهر شنيل لها من الرساتيق ما لا يحصى وقد زرتها فبهرتني قنطرتها العجينة المبنية من الصخر المنجور وقد رأيت فيها من البساتين والحدائق والأسواق العامرة والمتاجر القائمة ما أخذ يلبي وإليها ينسب محمد بن ليث الأستجي المتوفي سنة 328 - ومن أعمال قرطبة قبرة ويتبعها رساتيق ومدن كثيرة ومنها محمد بن يوسف بن سليمان الجهني تخذه أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر إماماً في قصره وولاه بعد ذلك قضاء قبره مات رحمه الله سنة 372 (انظر بقية الموضوعات الأدبية بعد عالم الحرب).