مجلة البيان للبرقوقي/العدد 25/مستقبل الإنسانية
→ الكبراء | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 25 مستقبل الإنسانية [[مؤلف:|]] |
عالم العلم ← |
بتاريخ: 1 - 3 - 1915 |
كيف يسود السلام العام
أيمكن أن يسود السلام في العالم وكيف يسود ومن ذا يكفله؟. . . . تلك هي الأسئلة العظيمة الشأن اليوم المقلقة لأذهان المصلحين والفلاسفة والسلميين المزعجة لكل قلب يحس فوق هذه الأرض بعد أن أصبح المقتنعون بفظاعة الحرب ونكرها وأهوالها وويلاتها المتلهفون على إزهاق روح الحروب وقتل سيطرتها الراغبون في تنظيم أمور الحياة على وجه لا يعود بعده على مسرح العالم ما يجري اليوم من الشدائد والأهوال والعذاب والآلام والقتل والفتك والتخريب والتدمير - نعم بعد أن أصبح هؤلاء جمهوراً عظيماً لم تشهد الإنسانية ضريبه في جميع ماضيها الحربي المخيف ولئن كان هذا الجمهور العظيم وهو يكاد يكون السواد الأعظم من أمم العالم كلها يريد أن يستتب السلام في الأرض آخر الدهر ويستقيم إلا أن الرغبة شيء وتحقيق الرغبة شيء آخر ولكن تحقيقاً لهذا لرغبة كهذه يتطلب إرادة عامة تشمل كل إنسان في العالم وتعم إذا كان يراد أن يسود السلام في الإنسانية إلى الأبد إذ لو كان الراغبون في السلم تسعة وتسعين من المائة فاعلم أن الرجل الواحد الخارج عن هذه الرغبة سيتابع ولا ريب تسليحه واستعداده فيشعل بعد ذلك يوماً جذوة الحرب ويثير سعيرها وأنتم تعلمون أن النكبة الرهيبة الحاضرة كانت نتاج تسليح عام مستمر لبث يجري مطرداً على نظام دقيق ممهد عجيب ومهارة عظيمة ودأب كبير طويل أربعين حولاً أو تزيد ومن ثم فلا يمكن أن نرتقب سلاماً عاماً إلا بإضراب عن التسليح يكون أشد من ذلك التسليح مهارة ودأباً ودقة ونظاماً فما هي إذن الوسائل التي تمكننا من نشر السلام العام في ربوع الأرض وإغلاق سجل الحرب إلى الأبد؟؟
وقبل أن نجيب عن هذا السؤال يجب أن نشرح للقراء العوامل النفسية الغريبة التي تثير الحرب عادة والعوامل النفسية التي تجنح بالناس إلى السلم والرغبة في تسويدها.
يقول الأستاذ ويلز وهو من أكبر كتاب الإنكليز اليوم وأعمقهم تفكيراً وأصفاهم ذهناً من أكبر الاشتراكيين العصريين إن في كل إنسان منا روحاً من الاحتجاج والاستنكار للحرب وأكثرنا على وجه من الإجمال يريد السلم ويطلب إبطال الحروب ولكن ليس فينا فرد واحد قد خلا من نزعة حربية مختفية من تضاعيف نفسه محتجبة في أعماق وجدانه - نزع حربية غريبة تثب لصرخات الحرب وتجيش لأصوات القنبلة وزمجرة المدفع إذ لا ريب في أن كل منا يحس بأثر من الإعجاب والإجلال إذ يقرأ في الصحف نبأ موقعة حربية أو إغراق طرادة أو نسف باخرة لأن هناك مظهراً جميلاً من العظمة ومعنى حلواً من الجلال في كثير من خشونات الحرب ورهيبة أحداثها ووقائعها يثير في قلب كل فرد نوعاً من الحمية وضرب من السمو والقوة نعم إن في أثناء جوانحنا هذه النزعة التدميرية المخربة فلا داعي إلى إنكارها لأن أول وسيلة يمكن أن نستعين بها على نشر السلام هو أن نعمل على ضبط هذه النزعة وقهرها ولا سبيل إلى ضبطها إلا بتذكير الإنسانية جمعاء بالوجه الآخر المخوف من حقائق الحرب وأمورها على أن الذين يسفهون الحرب ويكرهونها ويرمونها بكل نكراء من القول هم الذين يريدون أن ينهوا عصرها ويختموا عهدها ولكن هناك كثيرين كبرت عندهم هذه النزعة وأشتد أثرها وهم وحدهم هم الذين يقفون في طريقنا إلى السلام العام على أننا يجب أن نتذكر أن القوى التي تعمل لصالح أمر من الأمور هي دائماً أشد تماسكاً وارتباطاً وتأثيراً من القوى التي تعمل على مقاومته وهذا ينطبق على حالنا نحن رسل السلام ومقاومتنا لرسل الحرب ودعاتها وأبواقها وطبولها فنحن القائمين في وجه الحرب الراغبين في قتل روحها لم نقم في وجهها إلا لعدة من الأسباب والأدلة والبراهين وذلك أن هناك فروعاً من الحياة غير الحرب نؤثر ووجوهاً من العيش نحب وهذه الحرب تقتل رغائبنا وتعيق أميالنا وأمانينا منا من يريد أن يتوفر على الفن - الشعر والموسيقى والتصوير والنقش والفلسفة الكتابة والتأليف ومنا من يريد أن يخلد إلى حرفته في المصنع وصناعته في المعمل ومنا من يريد أن ينزوي إلى التفكير العلمي والاختراع والابتداع ومنا من يريد اللهو والمرح والبهجة ومنا ومنا ولذلك قد اجتمعنا كلنا على أن نفكر في غير الحرب وننكمش إلى مطالبنا ووجوه عيشنا غافلين عن الحرب منشغلين وبيننا نحن كذلك إذ هناك فئة قد آثرت أن تخلد إلى العمل للحرب كما آثر بعضنا الإخلاد إلى الشعر ومن ذلك أصبح نشوب الحروب من جراء إهمالنا مسائل الحرب محتملاً ممكناً لأن هذه الفئة لا تفتأ تعد الأهبة وتمهد السبل وتضع الخطط لإضرام نيران الحروب كما لا يفتأ أرباب الفنون ما يتقنون فنونهم وينقحون في أساليبها ويهذبون وجوهها وإذا بنا على غرة قد تنبهنا إلى أن الحرب قد قامت على قدم وساق وعلى هذا لن تنتهي الحروب ما لم نفكر نحن طلاب السلام في تأسيس نظام تام نستطيع به مراقبة مثيري الحروب وخالقيها وما لم نكن منهم بمثابة الشرطة من المجرمين واللصوص والجانين.
وقد شهدنا أن طلاب الحرب في كل أمة قليلون وإن كان أكثر الناس في بعض الأحيان يطلبون الحرب وذلك لأن العدوى قد سرت إليهم من هؤلاء القليلين وهم الذين أصبحت النزعة الحربية المختفية في أعماق عواطفنا جميعاً باعثاً نفسياً مسيطراً على كل شيء فيهم متغلباً حتى لا يمكن أن تقهر فيهم كما تقهر في وفيك بتذكر فظاعة التدمير والتقتيل ولا بإحساس الشفقة والرحمة ولا بتخيل الهول والويل لأن هؤلاء عشاق الحرب مخلوقات لا تحاكينا في التركيب ولا في العواطف ولا في الوجدانات وأنك لتسمع منهم دائماً إذا جلست وإياهم إلى حديث كلمة واحدة وهي إن الحرب تنبل وهم لا يريدون بكلمة تنبل إلا أنها تبيد آلاف المناعم التي لا يتنعمون بها ولا يتذوقونها ولا يفهمون لها معنى مناعم يجهلونها ولذلك يشعرون من نحوها بالغيرة والحقد مناعم سلمية هي الجمال والرقة والعطف والهدوء والسكون والبهجة وهم يصفون كل ما ليس خشناً في الحياة فظاً قاسياً بالانحطاط والاضمحلال وهذه الحجة التي يعمد إليها الحربيون وهي أن الحرب تنبل إن هي إلا عارض من عوارض ناموس حفظ الذات فيهم ضد مناعم السلم التي لا يعرفونها ولا يقدرون لها قدرا.
وليس طلاب الحرب قاصرين على القواد وغيرهم ممن يلبس تلك الأردية الملونة المذهبة العسكرية بل تعداهم إلى الأساتذة في الجامعات وقواد الفكر وكبار الكتاب ومنشأ ذلك إن الدأب على البحث والتنقيب وإنهاك الأعصاب في التدريس والتعليم هما اللذان يجعلان هؤلاء القوم يشعرون بالسآمة والضجر ويحسون عوارض السوداء والفتور والحزن والغم ويزداد فيهم ذلك حتى يتخذ مظهراً موحشاً يؤدي بهم إلى تلك الأفكار الوحشية الرهيبة فلو أنهم يعمدون إلى استحمام يومي طيب دافئ وانقطاع عن شراب النبيذ والجعة وغيرهما وإضراب عن التدخين وقضاء ساعات في الرياضة بعد المقيل لتحسنت صحة هؤلاء الأساتذة المحمومين المستعري الأعصاب ألمضطربي الأذهان.
على أن ليس العائق الوحيد دون استتباب السلام في العالم هم عشاق الحرب بل أولئك الجماهير العظيمة التي تعينهم على عملهن فلئن كانت الجماهير لا تحب الحرب ولا تريدها إلا أنها تقدم لعشاق الحرب الفرص السانحة لنشوبها لأنها لا تضع لهم حدوداً يقفون عندها ومثل هذه الجماهير كمثل قوم يخشون تفشي الحمى الصفراء في بلادهم ولكنهم يعارضون في وضع مقادير من البترول في البرك في الجداول والمستنقعات وهي الوسيلة الوحيدة لقتل جراثيمها بحجة أن البترول يضر بالأزهار.
إذن فهذه الجماهير التي تكره الحرب ولا تطلبها ومع ذلك تجيزها هي التي يجب أن نبحث في أمرها إذا كنا نريد أن يخفق علم السلام على الأرض أبد الدهر.
(1) وأول وسائل الواجبة لسيادة السلم: هي ضرورة إنشاء سلطة رقابية عامة إذا كنا نريد أن تلغي الحروب وتحترم المعاهدات ولكن ما دامت هناك حكومات متعددة كل منها حرة اليد في عمل ما تحب تسلح إن شاءت شعبها وتلغي المعاهدات كما تريد فلن يتحقق أملنا في سلام مضمون بل لن نستطيع أن نقيم سلاماً عاماً في العالم إلا إذا نسجنا نسيجاً من المعاهدات ترتبط به الأمم كلها وأقمنا شباكاً من التضامن تدخل فيه الحكومات جمعاء ولا يكون هناك اتحادات فرعية ولا اتفاقات ثلاثية ولا رباعية.
ولقد كان مؤتمر الهاي الخيط الأول من خيوط هذا النسيج الدولي العام ولكنه كان خيطاً ضعيفاً واهياً ولذلك لم يحدث أثراً ما ولكنا نريد أن يقام هناك مؤتمر عام يمثل وزارات الخارجية في جميع الأمم سواء الأمم المحاربة اليوم وغير المحاربة الصغيرة منها والكبيرة وأن لا يحل هذا المؤتمر بحال من الأحوال بل يجب أن يكون له مقام مستمر وموظفون دائمون وكتاب وإداريون ومالية مخصوصة ينعقد ويتناقش جهاراً وينشر المعاهدات والارتباطات التي تؤلف بين الدول أعضائه ويكون له الحق في الاستعانة على تنفيذ قراراته ببحريات الدول وحربياتها وأما عن الاحتفاظ بالكلمة العليا للدول العظمى فيمكن أن يكفل بعدد من الأصوات على نسبة عدد سكانها وكل دولة تبعث ممثليها بواسطة وزارة خارجيتها أو يمكن أن ينتخب هؤلاء النائبون كما ينتخب نواب البرلمانات والندوات التشريعية ولا تكون سلطة هذا المؤتمر مقصورة على سن المعاهدات وإبرامها وتنفيذها بل يعطي الحق في إنشاء ما يراه صالحاً من الأنظمة والطرائق والمشروعات المتعلقة بالتجارة والمصلحة العامة والصحة والملاحة والرقابة البحرية وما إلى ذلك ومن ثم يكون في الحقيقة برلماناً عاماً محترم الكلمة مسموع الأمر والنهى وهذه الفكرة العملية من السهل إخراجها اليوم إلى حيز التحقيق إذا استطعنا أن نتغلب فقط على تلك الفكرة الخالية التي يتشبث بها اليوم جمع كبير من السياسيين والحكوميين وهي أن كل كل دولة تستطيع أن تحتفظ بالسلم مع كونها غير مسؤولة أمام غيرها ولا مرتبطة بأدنى رباط مع بقية الدول الأخرى
ولكن لعل وزارات الخارجية وزراءها وكبار المفوضين والسياسيين سيثيرون اعتراضا حارا على هذه الفكرة لأنها ستجهز على عصر الأسرار وتختم عهد الدسائس. وستطهر العالم من تلك الاتفاقات السرية والمكائد المعقودة في الظلام التي كانت الأساس الأكبر الذي قامت عليه معاهدات الماضي ومفاوضاته واتحاداته ولكن صالح الإنسانية فوق كل شيء وذلك لأن المتتبع للمفاوضات التي ساقت العالم إلى هذه الحرب لا يشك في أن اكبر أسباب هذه المجزرة الهائلة أن جري السياسيون على التكتم والائتمار والخلفي ولو أنهم تكاشفوا وتصارحوا لما قذفوا بالعالم في هذه الهوة السحيقة من التدمير والتخريب
(2) والوسيلة الثانية هي أن تلغى السفارات لأن السفارة في المملكة عين عليها واشية خائنة نمامة وهل كانت السفارات الاجاسوسيات منظمة تحت ستار خدعة؟ وليس تمت من خطر على علاقات الدول ومصالحها المشتركة مادام القناصل هم القضاة المدنيين الذين يعملون على الاحتفاظ بحقوق رعاياهم.
حتى إذا تم النجاح لهذه الفكرة فأنشئ هذا البرلمان الدولي العام فأن أول مسألة خليقة بالبحث جديرة بالتدبير والتفكير هي إلغاء التسليح فإن المراقب لشئون السياسة في نصف القرن الأخير لا يستطيع أن ينكر أن ذلك الدأب العظيم على التسليح والاختراع المدمر ولابتكار المميت هو الذي جر إلى فظائع التقتيل الواقعة اليوم وحصد الجسوم وتفتيت الأبدان وتقطيع الأوصال والأشلاء فإن ملايين القتلى في هذه الحرب لم تقتلهم إلا تلك المخترعات الجهنمية الشيطانية وليدة العبقريات الشريرة ونتاج العلم المدمر.
وهناك وجه آخر من سيئات هذه المخترعات وفظائع هذا التسليح حقيق كذلك بالبحث والتفكير وذلك أن الدول العظمى تمد الممالك الصغرى والشعوب الهمجي المتبربرة والأمم التي لم تعد بعد طور التكوين الاجتماعي بتلك الأسلحة والمخترعات عينها فتسلح جنوب إفريقيا مثلاً وجمهوريات بيرو والبرازيل والمكسيك بل ترى الصين وإفريقيا حافلة بالآلات الجهنمية الأوروبية والأسلحة الفتاكة الأمريكية ومنشأ هذا هو التنافس التجاري والغيرة المتبادلة بين بعض الدول وبعضها وقد وجب الآن بعد ما رأينا من هذه الحرب أن يلغى ذلك التسليح الجنوني للجمعيات البشرية المتأخرة المتقهقرة.
ولا سبيل إلى ذلك إلا أن لا تعود صناعة المواد الحربية بعد اليوم صناعة حرة فردية وأن لا تكون كما كانت إلى اليوم مصدراً للإثراء ووسائل لبعض الأفراد للإكثار من الربح والمكسب وأن لا توجه القوى المخترعة والعبقريات المبتكرة إلى ابتداع ما يحصد النفوس ويفتت الأبدان.