مجلة البيان للبرقوقي/العدد 23/رجال الحرب
→ عالم الحرب | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 23 رجال الحرب [[مؤلف:|]] |
مصلحة البريد في ساحة القتال ← |
بتاريخ: 1 - 12 - 1914 |
ولي عهد ألمانيا
ليس ولي عهد ألمانيا في عظمة النفوذ وقوة الأثر في الأمة، وامتداد السلطان في الشعب، أقل من أبيه غليوم، ولا أصغر نصيباً، وهو اليوم رأس من رؤوس هذه الحرب وكبير من أكابرها، وليس هو كلداته ولاة العهد في سكونهم وانزوائهم قبل أن يحين حين تتويجهم، ولا هو كمية مهملة حيال سلطة الإمبراطور والده، بل ما فتئ منذ سنين يظهر لأمته شخصيته واستقلاله ومخالفته لأخلاق آبائه ملوك هو هنزلرن وتقاليدهم وآدابهم ورسومهم، حتى نال من قلب الشعب مكاناً رحباً عظيماً.
وكان أول ما ظهرت حرية تفكيره وخروجه عن التقاليد الهوهنزلرنية العتيقة، في مسألة زواجه، ذلك أنه لما عزم على الخطبة، بت في نفسه أن لا يطيع إلا أمر فؤاده لا وحي أبيه، وأن لا ينصاع إلا لأميالهن لا لأميال السياسة، وأن لا يتزوج إلا للحب والجمال، ولم يعرف في تاريخ زوجيات الملوك والأمراء حادثة غرام كانت أحر ولا أطهر ولا أسمى روحاً من الحادثة التي انتهت بتزوج إمبراطور الألمان المقبل بالآنسة سيسيلي دوقة ملنبرج شويرين، صيف عام 1905، فإن هذه الأميرة السمراء الملامح، الفرنسية الآداب، الروسية الإصطلاحات، كانت يوم دخولها برلين، العاصمة الإمبراطورية كأنما تهاجمها هجوماً، وتدخلها قسراً واغتصاباً، وذلك لأن الزواج كان على كره من غليوم ورغم من الوالد، ولكنها قد أصبحت راسخة العرق في الأسرة الهوهنزلرنية، لأنها قد ولدت لولي العهد أربعة أولاد، كلهم قوي الأسر مملوء حياة، وذلك في مدة ثمانية أعوام.
وفي صيف عام 1907 بدأ هذا الشاب الكبير لشعبه في مظهر جديد من الشخصية الوثابة المطلقة، وذلك أن مكسميليان هاردن، وهو من أكبر الصحفيين في ألمانيا وأعظمهم فيها سلطاناً، وآخر كتابها أسلوباً، جمل يملأ أعمدة جريدته المسماة () مغامز وفضائح ومثالب عن بعض حاشية الإمبراطور وبطانته، هذا ومعلوم أن الإمبراطور لا يستقى معلوماته إلا من قطع تختار له وشذرات تجيء في الصحف فتقتطع لأجله وكانت حملات مكسيميليان وقوارس كلمة موجهة إلى البرنس يولنبرج صديق غليوم المخلص الودود، وإلى القائد الكونت كونوفون مولتكي حرسي الإمبراطور ولكنها لم تبلغ مسمعي الإمبراطور، ولم تقدم إليه وتناقلت طبقات الأمة هذه الحملات ولم يبق في ألمانيا كلها من يجهل أمرها غير رجل واحد، هو غليوم.
فرأى ولي العهد أن وطنيته الحارة وإخلاصه البنوي يحتمان عليه أن ينهي إلى أبيه هذه الحقائق المرة وإن كانت سيئة الموقع ويقضيان عليه أن يسترعي إليها أنظار الأمبراطور وإن كانت ستغضبه وتثير حتفه، وكان من إخلاص هذا الشاب أن حكم على البرنس يولبرج والكونت فون مولتكي ووقع الرأي العام في هذين البلاطيين الكبيرين، ولم يكن فعل ولي العهد ليؤمنه من سخط الشعب وموجدته عليه، ولكن لم يحدث شيء من ذلك، بل حمل له الناس في قلوبهم يداً كبيرة، وصنيعاً مشكوراً.
ولم يلبث غليوم أن أشرك ابنه في أمره، وأعطاه للمرة الأولى حق إمضاء أوراق الحكومة وتقاريرها، بالنيابة عنه.
ثم جاءت مسألة أغادير والأزمة المراكشية عام 1911، فتجلت كذلك شخصية ولي العهد في أسمى جلالها، وظهرت روح استقلاله بأبدع مظاهرها، هذا وقد انعقد مجلس الريشتاغ وأخذ الندي يتباحثون ويتمارون في الخطة الضعيفة التي سارت الحكومة عليها في تلك الأزمة فقام زعيم المحافظين وخطيب الحربيين، فون هايد براند، وجعل يسلق الدكتور بتمان هولوج المستشار الإمبراطوري بألسنة حداد ويعيب عليه سلوكه في مسألة مراكش ويهجم عليه بالنقد المر والاحتجاج القارس الشديد وكان ولي العهد حاضراً المجلس في حجرته الخصيصة به، وكان يسمع خطبة الخطيب ويصغي إلى نقده، وقد وقع كلامه في قلبه موزقع الإعجاب، وجعل يصفق على أعين الجمع المزدحم وأسماعه لكل كلمة حادة يقولها ذلك الرجل العظيم الملقب بملك بروسيا اللامتوج فكان عمل ولي العهد هذا خروجاً صريحاً على سياسة أبيه وتمرداً بحتاً على حكومته، ولم يكن من المستشار بعد سكوت هايد براند عن القول إلا أن اكتفى بالرد عليه بكلمة واحدة وهي أن هايد براند جندي يحمل سيفه في فمه، فكأنما بتمان كان يريد بذلك وريث العرش، ولكن ولي العهد لم يستطع أن يمسك عليه عواطف الوطنية الحارة الجائشة في حنايا أضلعه الفوارة في أعماق صدره، وترك الريشستاغ وله في جوانح الأمة أكبر الأثر.
وقد أظهر الشاب في كل أدوار حياته هذا المزاج الحاد والذهن المبتكر والشجاعة المتناهية، وهو اليوم مشهور في الجيش بأنه فارس مجيد ومن أكبر المخاطرين في ركوب صهوات الخيل، ويذكرون عنه أنه قاد كتيبة من الكتائب الخيالة وارتقى بهم درج سلم القصر في بوتسدام حتى قمته، وصعد مرة في طيارة من طيارات زبلن، دون أن يصطحب أحداً أو يخبر والده، ولما كان في جزيرة سيلان ثم في الهند شتاء عام 1910 أبدى من المهارة والشد والبأس في صيده في الغاب والأحراش ما دل على انه من مهرة الصيادين والقانصين.
وهو فوق ذلك جندي مغوار، أقام سنتين في حامية من حاميات دانتزيج، بعيداً عن برلين وبلاطها، وكان الناس يهمسون أنه كان في دانتزيج مقصياً منفياً، لأن الإمبراطور بدأ يغار من شهرة ابنه، وينفس عليه كبير شأنه ويقولون أن خياله الجيش الألماني لم تر قائداً يحكيه أو يضارعه.
ولعل النقيصة التي فيها إكثاره من طلب الإجازات وإفراطه في التغيب عن وظيفته في الجيش ومرتبته، مرخياً العنان للهوه ومغازلة الحسان، حيناً تراه في سان مورتز في لعبة (المزالق) وحيناً في كييل، إذا أقبل الصيف الناعم الجميل، في يخته، ويغشى دور التمثيل في برلين، على أنه وإن أحب اللهو يحترم جنديته ويكبر من شأنها، وقد تنقل بين أدوار الجندي حتى بلغ رتبة القائد بقوة رأيه وجدارته، وليس حبه للألعاب الرياضية يعد تبديداً لوقته وإسرافاً في شخصيته، لأن ألمانيا كانت قبله بحاجة إلى من يرقى فيها الرياضيات ويرفع اسمها في حلبتها، وقد وجدته في ولي عهدها.
وليس لمظهر ولي العهد ما يدل على مخبره، وليست فيه من المعارف والملامح ما ينبئك عن هوهنزلرنيسه، فهو طويل النجاد أهيف القوام، مهزوله غير عريض الصدر ولا ضخم الكراديس، ولا يخبرك ذهنه عن نصيب كبير من العبقرية أو النبوغ، وعبثاً تطلب مقدرته الحربية وكفاءته الأدبية من ثنايا فسيولوجيته، بل ترى ولي العهد على نقيض والده في تحبهم معارفه ومفتول شاربيه، بساماً مشرق صفحة الوجه، لا تفارق محياه ابتسامة صبيانية طاهرة، وهذا دليل من دلائل وقته.
وهو من عشاق الموسيقى، ويجد التوقيع على القيثار، وهو مجبول على الحياء والتواضع ديمقراطي الآداب، حتى بلغ من حبه للشعب أن اشترك في حفلة زفاف إسكاف حقير في بوتسدام، وقد قال يوماً (سيأتي اليوم الذي يجيء فيه الاشتراكيون إلى البلاط) وهو وإن كان يحب أن يطلق لسيارته كل سرعتها المقررة - وتعادل قوتها قوة تسعين حصاناً - إلا أنه قد عرف أنه كم من مرة أوقف السيارة ليرفع فلاحاً أو مسكيناً سقط في الطريق وليحمله إلى المستشفى.
وترى ولي العهد لا يعبد بعد زوجته وأولاده إلا شخص نابوليون العظيم، حتى لقد ملأ حجرة مكتبه في القصر بعدة من صور هذا الفاتح وتماثيله، ودمياته وتذكاراته، على الرغم من أن بونابرت اجتاح منذ قرن مضى بلاد آبائه، وقسم إقليمها ولايات فرنسية ومقاطعات.
وهو معبود الجيش الألماني، ويعدونه أعظم من غليوم أبيه، وأمهر في الحرب منه.
ألبرت ملك البلجيك
بين أساطين هذه الحرب وأبطالها الذين سيكتب لهم التاريخ صحيفة حلوة خالدة، يقف ألبرت ملك البلجيك، الصحفي والكاتب والمهندس والديمقراطي والحربي العظيم.
ولعل المصريين كغيرهم من الأمم لم يسمعوا باسم هذا الرجل الشهم قبل ذلك اليوم الذي أرسل فيه لجنوده المحشودة عند لييج يقول لهم: أثبتوا أمام جيش الألمان وكان من ثباتهم ما عرفوه.
ولقد كانت تضحيته وإنكارية ذاته وشجاعته النادرة المدهشة واستماتته في الدفاع عن شرف مملكته مثاراً لإعجاب سواد العالم، وقد حدث أنه كان يمشي بين الخنادق البلجيكية، والقنابل تتناثر وتتساقط حوله، وهو يقول لجنود (لو لم أكن قائداً في الجيش البلجيكي لوددت أن أفخر بأن أكون بينكم جندياً).
وليست كراهة هذا الملك للآداب الرسمية والاصطلاحات بأقل جلالاً من شجاعته وروعته، وبلغ من ذلك أنه في بدء الحرب وهو يخطر بين صفوف جنوده مستفسراً منهم عن حالهم وبلائهم، جعل كل جندي يخاطبه بلقب الجلالة، فكان يمتعض منها ويقول لهم (لا تقولوا جلالتك، ولا تخاطبوني كمخاطبتكم للملك، بل نادوني بألبرت!).
وكذلك عاش الملك ألبرت متحبباً لشعبه مختلطاً برعيته، ديمقراطي الروح، عالي الذهن، ومن الحوادث التي برهنت على ذلك أنه جاء إلى أحد ثغور بلجيكا الصغيرة في نزهة جميلة ساكنة. ولم يلبث أن صادق أهل هذا الثغر وصيادي الأسماك هناك وأصبح واحداً منهم، وبلغ من حسن عشرته بهم أنه أسهم معهم بشيء من ماله في تجارة السمك بالقرية.
وترى في ناديه العلماء والأساتذة والمهندسين والكتَّاب والتجار وكل من يتوسم فيه الخير لأمته.
وقد حاز شهادة الهندسة بعد دراستها ثلاث سنين، ثم توفر على هذا العلم ودأب على إتقانه وهو الذي وضع الخطط لمد سكة حديد كهربائية بين مدينتي بروكسل وأنفرس وأبى في التجاريب التي أقيمت بعد الفراغ من مد تلك السكة لا أن يسوق أول قطار بنفسه.
وقد وجدت السياسة والأدب فيه متعشقاً محباً، وقد ألف حتى اليوم أكثر من كتاب، وطالما صرح لشعبه أن المملكة لا تنتعش ولا ترتقي دون الفنون الرفيعة، وفي عام 1909 بدأ يدرس فن السفن وصناعتها وقصد أكثر ثغور فرنسا وهولندة لهذا الغرض، وعمد بعدها إلى درس فن الطيران والحذق فيه.
وقضى دهراً وهو ولي العهد صحفياً عادياً يكاتب الصحف ويعمل لها، وذلك أيام كان في أمريكا أي عام 1898 وأقام بنيويورك وغيرها من أمهات البلاد الأميركية بضعة أشهر وألف كتاباً عن أمريكا بعد عودته منها، امتدح فيه فكرة الحكومة عند الأمريكان.
والملك ألبرت أطول ملك في الغرب قامة وأوفاهم شطاطا تبلغ قامته نحواً من مترين وهو اليوم في التاسعة والثلاثين من عمره وارتقى العرش منذ خمسة أعوام بعد وفاة خاله الملك ليوبولد، وهو الابن الأصغر للكونت فلا ندرس، قتل أخوه الأكبر إثر حادثة غرام وكان هو وريث العرش، لأن أباه قد تنازل عن حقه في وراثة الملك بعد أخيه ليوبولد الشيخ المتهدم العمر لابنه الأكبر وفي سنة 1891 تنازل لألبرت بعد أخيه القتيل، فلما توفي ليوبولد خلفه على ملك البلجيك.
وكان زواجخ عام 1900 بابنة دوق بافاريا كارل تيودور، وكان هذا من أمهر أطباء العيون في الغرب كله، وقام بنحو من خمسة آلاف عملية جراحية للفقراء في مستشفاه الخاص بميونيخ دون أجر، وقد تزوجها الملك ألبرت عن هوى بينهما وحب والملكة اليصابت مثل زوجها في قوة الذهن وجلال الروح، وهي تشغل من قلوب البلجيك محلالا يقل عن زوجها.