مجلة البيان للبرقوقي/العدد 22/عالم الأدب
→ ../ | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 22 عالم الأدب [[مؤلف:|]] |
عالم العلم ← |
بتاريخ: 1 - 11 - 1914 |
ننشر في هذا الباب أطيب الرسائل والمقالات المنوعة في الأدب والأخلاق والاجتماع والتربية والفلسفة وحياة العظماء والقطع المختارة من الروايات النافعة المفيدة والشذرات الجميلة من شتى المنظوم والمنثور والنوادر المختلفة والفكاهات والملح. ونذيل ذلك كله بنقد الكتب العربية التي تظهر في الأسبوعين.
تعدد الزوجات
رأي الدكتور جوستاف لوبون
ليس هناك كاتب وفي المباحث الشرقية والحضارة الإسلامية حقها من رصانة الرأي، وعدل الحكومة، وسداد الاستنتاج، والبعد عن التحيز، مثل البحاثة المحقق الدكتور جوستاف لوبون صاحب كتاب حضارة العرب وقد عثرنا حديثاً بين فصول هذا الكتاب البديع بكلمة ممتعة في ضرورة تعدد الزوجات عند الشرقيين والعوامل الجوية والفسيولوجية والأدبية التي دعت إليه، وبيان خطأ الفرنج في الحكم عليه، فرأينا أن نبسط للقراء رأي هذا الأستاذ المحقق العادل، ونطرفهم بخلاصة هذه الكلمة الشائقة.
إن جوستاف لوبون يعيب على الغربيين هذه الصورة الممسوخة التي يصورون بها تعدد الزوجات، وينعى على كتابهم ومؤرخيهم أحكامهم الطائشة وآراءهم المتسرعة لأنه يرى أنك لا تستطيع أن تفهم روح شرع من الشرائع في أمة غير أمتك إلا إذا وضعت نفسك موضعها، وتجردت عند البحث من جنسيتك، ونسيت التيار الفكري الذي يجري في الوسط الذي تعيش فيه والآراء التي تحيط بك.
إن نظام تعدد الزوجات عند الدكتور لوبون على النقيض مما يفهم الأوروبيون هو نظام بديع يرفع المستوى الأخلاقي في الأمة التي تعمل به، ويقوى فيها أواصر الأسرة ويشد روابط البيت ويجعل المرأة أشد احتراماً وأسعد حالاً من أختها في الغرب.
وإن تعدد الزوجات هو في الحقيقة نظام مستقل منفصل عن مبادئ الإسلام، وجد قبل النبي بين شعوب الشرق وأممه، كان مسنوناً بين اليهود مشروعاً بين الفرس، سارياً بين العرب، فلم تكتسب الأمم التي دخلت في دين القرآن شيئاً من هذا النظام القديم، ولم يكن في مقدرة أي دين من الأديان، وأن أوتي أكبر المقدرة على تغيير الآداب والأنظمة والأخلاق، أن يلغي نظاماً مثل هذا أو يعمل على أبطاله، لأنه النتيجة الضرورية للجو، والغاية المحتمة لمزاج الشرقي ونوع الحياة التي يعيشها.
أما عن تأثير الجو فلا حاجة للبسط فيه والشرح، حسبك أن فسيولوجية المرأة ومطالب الأمومة والولادة والأوجاع والأمراض وغيرها تضطر المرأة إلى أن تظل أغلب دهرها بعيدة عن زوجها، وهذه العزوبة الوقتية للرجل مستحيلة تحت جو كجو الشرق ومزاج كمزاج الشرقي، وهذا هو الذي جعل تعدد الزوجات من أوجب الصرورات.
أما في الغرب، وإن كان الجو أهدأ تأثيراً والطبائع أخف حرارة إلا أنك مع ذلك قل ما تلتقي بفردية الزوجية إلا في القوانين، وأما في العادات والآداب فما أقل العناية بها وما أندر.
يتساءل الدكتور لا أعرف لماذا يعتبر هذا التعدد الشرعي للزوجات عند الشرقيين أحط منزلة من هذا التعدد الكاذب الفاحش عند الغربيين، وإن كنت أعلم جد العلم بالأسباب التي تجعل الأول أسمى مكاناً وأربع قدراً من الآخر؟؟!.
أما وقد وفهمنا الأسباب الفسيولوجية التي عملت على اشتراع هذا التعدد في الشرق فليس من الصعب علينا أن نفهم السبب الذي حمل الدين على الإقرار عليه والاعتراف به، إن رغبة الشرقيين في الإكثار من النسل، وذوقهم المعترف به في عيشة الأسرة وعواطف العدل التي تتنازعهم ولا تسمح لهم بهجر المرأة التي لم تعد تعجبهم، هي الأسباب التي جعلت الدين يقر على هذا النظام الناشئ عن الآداب والطبائع.
يقول جوستاف لوبون وإذا اعترفنا بأن القوانين تنتهي دائماً بموافقة العادات فحق علينا أن نعترف كذلك بأن هذا التعدد المتطرف المجاوز الحد عند الغربيين سينتهي يوماً بأن تقر عليه قوانينهم!.
الأديب المصري
من كلمة للأستاذ عباس محمود العقاد الكاتب المشهور:
. . . . وما علمت في تاريخ الآداب حالاً أعجب ولا مسلكاً أوعر من مسلك الأديب العصري في مصر - عجب حاله وتوعر مسلكه لأن في مصر الأدباء العصريين وليس فيها القراء العصريون. أوهنا القراء العصريون ولكن الصلة بينهم وبين الأديب العصري مقطوعة.
وما القراء في مصر إلا واحد من ثلاثة: قارئ الأقاصيص والنوادر، وقارئ الأدب العربي، وقاري، الأدب الإفرنجي.
فأما قراء الأقاصيص والنوادر فأعنى من أن يقرأوا أدباً قديماً كان أو حديثاً. وأجهل إن قراؤه من أن يميزوا بين زهيدة وثمينه، وبغية هؤلاء من الكتب إنما هي تمرين ألسنتهم على الهجاء أو تبديد الوقت في البطالة والفراغ.
وأما قارئ الأدب العربي فإن كان ممن يقرأ فلا يروئ في المطالعة بصره ولا يصير من تلاوة الشيء إلى الحكم عليه فما أشبهه بقراء الأقاصيص!! وإن كان يقرأ ويحكم فهو إنما يحكم بطراز ألفه وشب عليه فلا معدل له عنه. ولا مقياس للأدب العصري إلا أدب الأمم التي سبقتنا في أدوار الحياة والفنون فهو - أي قارئ الأدب العربي - معزول أتم العزل عن آداب تلك الأمم. لا يستطيع نقدها وتقديرها إلا إذا استطاع إماطة الحجاب عن الغيب لأن حكم الرجل على ما ليس يعرف وتوهمه في نفسه القدرة على نقد أدب لا يلحن لغاته ولا يقرأ كتبه ولا يلم يسير أدبائه وأخلاقهم أو بمحاضراتهم ومساجلاتهم أو يحيط بآراء النقاد فيهم وأقوال بعضهم في بعض ويعارض بين عصورهم ومذاهبهم ثم لا يعلم الميزان الذي يزنون به إجادتهم ملاومهم - ذلك بمنزلة حذر الغيب.
ولا يحسن هؤلاء الأدباء المقارنة بين الأدبين إلا من جهات المشاركة وهي أخس ما في الأدب العصري وأنأى ما فيه عن جوهره وزبدته. وكائن ترى منهم من يقارن بين أديب محدث وأديب قديم فيرجح هذا على ذاك أنه أرجح من قبل المشاركة وبصفح عما سوى ذلك من الحسنات التي استدق سرها عليه بل يتعجل فيقضى للأدب إلى آخر بخطراته حتى لا يحرم قراء العربية حسنات هذا الكاتب الذي أبت نفسه عليه أن يلابس هذا العالم المنكوس:
عالم أشبهوا القرود ولكن ... خالفوها في خفة الأرواح
فاختار أن يقيم بعيداً عن المدينة وما فيها من الكذب والنفاق وسقوط الهمم ونستغفر الله القديم جملة على الأدب المصري جملة. وهو إن كان له عذر من الجهل بفضائل الآداب الأجنبية فلا عذر له من الحكم على ما يجهل.
وربما عجبك من بعضهم أن يأنق للفصل الأنيق أو يستجيد قصيداً جيداً. فإذا سألته عما راقه أضحكك أنه ينتخب ما لم يخطر للكاتب أو الشاعر على بال ويسهو عما عمل له وتحراه كأنه ليس في الفصل أو القصيد.
هذا محك أولئك الأدباء على ما علمت من الزلل والانحراف. وكما رأيتهم ليسوا بأخبر من قراء الأقاصيص بغرر هذا الأدب وعرره.
وأما قراء الأدب الإفرنجي فيختارون أن يقتبسوه من أمهاته. ويرتادون في لغاته وأكثرهم لا ذوق لهم ولا بصر باللغة العربية، فما هم بأفهم للمعاني المودعة فيها من سواهم.
كانت حياة الأدب بالقبيلة ثم صارت حياته بالرؤساء في القرون الوسطى وليست مصر في حال من هذين. ثم صارت حياته اليوم بالقراء، وهم في مصر كما عهدت، فهل بقي للأديب العصري إلا أن يجاهد لنفسه وهل لقارئ حق عليه؟؟.
وصف بخيل
بقلم الشاعر الكاتب مصطفى صادق الرافعي كتبها خصيصاً للبيان
أما فلان فرجل بخيل لو مسخ حجراً لكفرت من سخطها الأحجار، ولو كان حديداً لما لأن الحديد في النار، ولو صوره الله طيناً أجوف لما طن في يد أحد على نقر، ولو خلقه مرة أخرى من تراب لما جمع هذا التراب إلا من ثياب أهل الفقر.
غنى مقتصد ملء برده مال، وملء جلده آمال، يستغل الصفر فيخرج منه ألفين، ويرى من إجلال الدينار أنه كما كتب اسم الله بلامين يكتب الدينار بألفين، وكم تمنى أن يكون كإبليس في أنه لا يموت إلا متى هرم الدهر، ولا يذهب من الأرض إلا حين لا يبقى في تاريخ الأرض عام ولا شهر، وإذا خوفته الموت والحساب قال دع عنك، وإذا علم أنه سيعطي كتاب أعماله قال يا ليته من ورق البنك.
على أن درهمه في أيدي الناس هم، واسمه في أفواههم سم، وكم لدراهمه من قتيل فمن (استلف)، فقد ذهب في التلف، ومن اقترض، فقد انقرض، وكم من بئيس قشعت غمامته، ثم غالت هامته، وقضت دينه، ثم أبكت عينه، فو الذي نفسي بيده إن دراهمه للصوص، وأنه للئيم (على الخصوص)، يرسل الدرهم في يد المسكين فيذهب فيه ديناره، ويقدح فكره الخبيث فلا تقع إلا في بيوت الفقراء ناره، ولو كان مخلوقاً يوم عرض الله الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها لحمل وحده الأمانة، وإذا كان مبلغ القول في وصف كل غنى كريم أنه صراف في خزانة الله فجهد القول في مثل هذا اللئيم أنه لص الخزانة.
وهو على غناه كأنه في الناس من همه بؤس القمار، وكأنه لحقارته ذيل الحمار، إن طلع عليهم فطالع زحل، وإن غاب عنهم فوباء رحل، ومتى ذكروه، فكأنهم أنكروه، وإذا قضى عليهم أن يسموه، فكأنما شتموه، وإذا وصفوه قالوا وجع الأظفار، وذنب بلا استغفار، وإذا عدوا الفئران سبب الطاعون عدوه سبب العدوى بين الطاعون والفار.
وأنه لآية فما رآه الصالحون إلا قالوا اللهم غفرا، ولا رآه الجاحدون إلا زادوا عتواً وكفراً، أما وجهه فلو أنزل الله مرآة من السماء فنظر فيها لصدئت من قبح خياله، كصدأ، ذلك المخزون من ماله، وأما روعته فلو خرج على الحسان لابتلاهن بما يفجأ الظباء من رؤية الفهد، وامتلكهن بما تشعر به المرضع إذا كشفت عن طفلها فأبصرت الثعبان في المهد، وأما جهامته فلو نظر إليه البدر لغرب، ولو أطلع عليه الفجر لهرب، وأما روحه فلو بعثت في خلق آخر لما كانت إلا بقة صيف، في رقبة ضيف، أو بعوضة تلسع العاشق المهجور فتوقظه وقد ظفر بالطيف، وحياته كالبلاء المحتوم، وغناه كالطلسم المحتوم، وأما هو فكالقبر الكتوم.
وأحسب لو رسمه أمهر المصورين فأبدع في خطوطه وألوانه، وأنطقه من عينه وعنوانه، وجعله آية فنه وافتنانه، وترك من يراه لا يحسب إلا أن المصور قد سرقه، أو أن الله تعالى مسخه على ورقه، لبقي مع ذلك في رسمه مغمز لا يصلحه إلا الشيطان الرجيم، ولا تلونه إلا شعلة من نار الجحيم، ومن للمصور بشرارتين من الصاعقة ينزلهما في الرسم لتظهر بهما عيناه، ومن له برقبتي البخل والرذيلة يطبق عليهما يسراه ويمناه، ومن له بلونين من غضب الله ونقمته يظهر بهما في الصورة معنى فقره وغناه؟.
ولست أطيل في القول فما أنا ببالغ من الفول بعض صفاته، وهيهات أن يصفه إلا من يعلم لغة الملائكة فينقل إلى لغة الناس كتاب سيئاته.
بشار بن برد
في طليعة شعراء العرب، وأحد شعراء الدنيا الذين لا ينتطح عنزان في أسبقيتهم في حلبة الشعر، بشار بن برد الأعمى شيخ المحدثين، وأحد مخضرمي شعراء الدولتين فإن هذا الشاعر يأبى إلا أن يكون شاعراً من أي الجهات نظرت إليه، فهو هو في الشعر ومحله فيه وتقدمه في طبقات المحدثين بإجماع الرواة ورآسته عليهم من غير اختلاف في ذلك محله وتقدمه ورآسته. وإذا نظرت إليه في أسلوب معيشته وجدته شاعراً، وتراه في مجونه ونوادره وغرائب أطواره شاعراً، نعم وتراه فتظنه الشعر مجسماً، ولا جرم فإنه ينمي إلى أصل آري وقد درج في مهد العربية وغذى بلبان البداوة وأخرج في خير العصور وأحفلها بالشعر والشعراء ونحن ذاكرون نهنا نتفا من شؤون هذا الشاعر العبقري تفكهة لقراء البيان.
(أصله ومنشأه)
أسلفنا أن بشاراً ينمي إلى أصل آري وذلك أن أباه برداً من فرس طخارستان (ولاية واسعة كبيرة من نواحي خراسان تشتمل على عدة بلدان) أصابه المهلب بن أبي صفرة (أحد أمراء الجيوش أزمان الدولة الأموية) في سبي فكان من نصيب زوجة المهلب فأقام برد في ضيعة لها بالبصرة مع عبيدها وإمائها ثم زوجته وأهدته لامرأة من بني عقيل كانت متصلة بها فولدت له امرأته وهو في ملكها بشاراً فأعتقته العقيلية فنشأ بشار عتيقاً لهم وربى في منازلهم ومنازل بني سدوس وصار يختلف إلى الإعراب الضاربين ببادية البصرة.
(خُلقه وخلقه)
كان بشاراً أكمه إذ ولد أعمى - قال الأصمعي كان بشار ضخماً عظيم الخلق والوجه مجدوراً آدم طويلاً جاحظ العينين قد تغشاهما لحم أحمر فكان أقبح الناس عمى وأفظعه منظراًَ - وكان إذا أراد أن ينشد صفق بيديه وتنحنح وبصق من عن يمينه وشماله ثم ينشد فيأتي بالعجب. قال الأصمعي: وكان بشار من أشد الناس تبرماً بالناس وكان يقول الحمد لله الذي ذهب ببصري فقيل له ولم يا أبا معاذ فقال لئلا أرى ما أبغض. وكذلك العبقريون يبرمون بالناس ويبرم بهم الناس كما أبان عن ذلك صاحب كتاب حديث المائدة في كلمته النبوغ والعبقرية.
(سر آخر من أسرار عبقريته) قال الأصمعي: ولد بشار أعمى فما نظر إلى الدنيا قط وكان يشبه الأشياء بعضها ببعض في شعره فيأنى بما لا يقدر البصراء أن يأتوا بمثله فقيل له يوماً وقد أنشد قوله:
كأن مثار النقع فوق رؤسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ما قال أحد أحسن من هذا التشبيه فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولا شيئاً فيها؟ فقال: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفر حسه وتذكو قريحته ثم أنشد قوله:
عميت جنينا والذكاء من العمى ... فجئت عجيب الظن للعلم موثلا
وغاض ضياء العين للعلم رافدا ... بقلب إذا ما ضيع الناس حصلا
وشعر كنور الأرض لامعت بينه ... بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا
(آراء نقدة العرب فيه)
قال الجاحظ: كان بشار خطيباً صاحب منثور ومزدوج وسجع ورسائل وهو من المطبوعين أصحاب الإبداع والاختراع المتفننين في الشعر القائلين في أكثر أجناسه وضروبه. وقال الأصمعي: قال بشار العشر وله عشر سنين فما بلغ الحلم إلا وهو مخشى معرة اللسان بالبصرة. قال: وكان بشار يقول: هجوت جريراً فاستغرني وأعرض عني ولو أجابني لكنت أشعر أهل زماني.
وسئل الأصمعي عن بشار ومروان بن أبي حفصة أيهما أشعر فقال: بشار. فسئل عن سبب ذلك فقال لأن مروان سلك طريقاً كثر من يسلكه فلم يلحق بمن تقدمه وشكره فيه من كان في عصره. وبشار سلك طريقاًَ لم يسلك وأحسن فيه وتفرد به وهو أكثر تصرفاً وفنون شعر وأغزر وأوسع بديعاً، ومروان لم يتجاوز مذهب الأوائل وسمع الأصمعي مرة وقد عاد إلى البصرة من بغداد فسأله رجل عن مروان فقال وجدت أهل بغداد قد ختموا به الشعراء وبشار أحق أن يختموهم به من مروان. فقيل له ولم فقال: وكيف لا يكون ذلك وما كان مروان في حياة بشار يقول شعراً حتى يصلحه له بشار ويقومه وهذا سلم الخاسر أحد كبار الشعراء وهو تلميذ بشار، من طبقة مروان يزاحمه بين أيدي الخلفاء بالشعر (والخلفاء في ذلك الوقت هم هم علماً وأدباً وبصراً بمواضع النقد) ويساويه في الجوائز وسلم معترف بأنه تبع لبشار - هذا رأي الأصمعي وقد طابقه على ذلك أكثر النقاد.
(عقيدته ومذهبه)
قال السيد المرتضى صاحب كتاب الأمالي أخو الشريف الرضى الشاعر وكما أنه في الجاهلية وقبل الإسلام وفي ابتدائه قوم يقولون بالدهر وينفون الصانع، وآخرون مشركون يعبدون غير خالقهم، ويستنزلون الرزق من غير رازقهم أخبر الله عنهم في كتابه وضرب لهم الأمثال وكرر عليهم البينات والأعلام، فقد نشأ بعد هؤلاء جماعة مم يتستر بإظهار الإسلام ويحقن بإظهار شعائره والدخول في جملة أهله زنادقة ملحدون وكفار مشركون، فمنعهم عز الإسلام عن المظاهرة، وألجأهم خوف القتل إلى المآثرة وبلية هؤلاء على الإسلام وأهله أعظم وأغلظ لأنهم يدغلون في الدين ويموهون على المستضعفين بجأش رابط ورأى جامع، فعل من قد آمن الوحشة، ووثق بالآنسة بما يظهره من لباس الدين الذي هو منه على الحقيقة عار، وبأثوابه غير متوار. كما حكى أن عبد الكريم بن أبي العوجاء قال: لما قبض عليه محمد بن سليمان وهو وإلى الكوفة من قبل المنصور وأحضره للقتل وأيقن بمفارقة الحياة - لئن قتلتموني لقد وضعت في أحاديثكم أربعة آلاف حديث مكذوبة مصنوعة - والمشهورون من هؤلاء الوليد ابن يزيد بن عبد الملك، والحمادون (حماد الراوية، وحماد بن الزربرقان، وحماد عجرد) وعبد الله بن المقفع. وعبد الكريم بن أبي العوجاء. ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي. وصالح بن عبد القدوس الأزدي (الشاعر) وعلي بن خليل الشيباني وبشار بن برد وغير هؤلاء ممن لم نذكره. . . الخ. ثم بنين مذهب كل من هؤلاء إلى أن قال: فأما بشار بن برد فروى المازني قال: قال رجل لبشار أتاكل اللحم وهو مباين لديانتك (يذهب إلى أنه ثنوى) فقال بشار إن هذا اللحم يدفع عني شر هذه الظلمة. . . قال المبرد ويروي أن بشاراً كان يتعصب للنار على الأرض ويصوب رأي إبليس في الامتناع عن السجود وروى له:
النار مشرقة والأرض مظلمة ... والنار معبودة مذ كانت النار
وروى بعض أصحابه قال: كنت أكلم بشاراً وأرد عليه سوء مذهبه بميله إلى الإلحاد فكان يقول لا أعرف إلا ما عاينت أو عاينه معاين. فكان الكلام يطول بيننا. فقال: ما أظن الأمر يا أبا مخلد إلا كما يقال إنه خذلان ولذلك أقول: طبعت على نما في غير مخير ... هواي ولو خيرت كنت المهذبا
أريد فلا أعطي وأعطي فلم أرد ... وغيب عني أن أنال المغيبا
وأصرف عن قصدي وعلمي مبصر ... وأمسى وما أعقبت إلا التعجبا
وقال الجاحظ في البيان والتبيين. وكان بشار يدين بالرجعة ويكفر جميع الأمة بعد النبي ﷺ قال: وكان صديقاً لواصل بن عطاء الغزال قبل أن يظهر مذاهبه المكروهة فلما أظهرها هتف به واصل فقام بذكره وتكفيره وقعد فقال بشار يهجوه:
مالي أشايع غزالاً له عنق ... كنقنق الدو إن ولي وإن مثلا
عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... تكفرون رجالاً أكفر وأرجلا
فلما تتابع على واصل ما يشهد بالحاده قال عند ذلك: أما لهذا الأعمى الملحد، أما لهذا المشنف المكنى بأبي معاذ من يقتله، أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لدست إليه من يبعج بطنه في جوف منزله على مضجعه أو في يوم حفلة ثم كان لا يتولى ذلك إلا عقيلي أو سدوسي - وكان واصل الثغ على الراء فكان يجتنبها في كلامه ألا ترى أنه عدل في هذه الكلمة من الضرير إلى الأعمى ومن الكافر إلى الملحد ومن المرعث إلى المشنف ومن بشار إلى أبي معاذ ومن الفراش إلى المضجع - قال السيد المرتضى وزاد قوم فقالوا ومن أرسلت إلى دست ومن يبقر إلى بيعج ومن داره إلى منزله ومن المغيرية إلى الغالية، والأول أشبه بأن يكون مقصوداً، وما ذكر ثانياً فقد يتفق استعماله من غير عدول عن استعمال الراء - وأنا أقول: وكذلك الأعمى والملحد قد يتفق استعمالها من غير عدول عن استعمال الراء، فأما قول واصل لا يتولى ذلك إلا عقيلي فلأن بشاراً كان مولى لهم كما علمت - وذكره بني سدوس لأن بشاراً كان ينزل فيهم، فأما بشار بالمرعث فقد قيل في ذلك ثلاثة أقوال أحدها أنه لقب بذلك لبيت قاله وهو:
قال ريم مرعث ... ساحر الطرف والنظر
لست والله نائلي ... قلت أو يغلب القدر
أنت إن رمت وصلنا ... فانج هل تدرك القمر
وقيل إنه كان لبؤشار ثوب له جيبان وارتان أي فتحتان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله فكان إذا أراد لبسه يضمه عليه ضماً من غير أن يدخل رأسه فيه فشبه استرسال الجيبين وتدليهما بالرعاث وهي القرطة فقيل المرعث، وقال أبو عبيدة إنما سمي المرعث لأنه كان يلبس في صباه رعاثاً.
(ملحه ونوادره)
دخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي الخليفة العباسي وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد - وكان فيه غفلة - فقال له يا شيخ ما صناعتك فقال أثقب اللؤلؤ فضحك المهدي ثم قال لبشار ويلك أتتنادر على خالي فقال له وما أصنع به؟ يرى شيخاً أعمى ينشد الخليفة شعراً ويسأله عن صناعته، وكان بشار جالساً في دار المهدي والناس ينتظرون الأذن فقال بعض موالي المهدي إن حضر ما عندكم في قول الله - وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر - فقال بشار النحل التي يعرفها الناس قال هيهات يا أبا معاذ النحل هم بنو هاشم وقوله يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس يعني العلم فقال له بشار أراني الله طعامك وشرابك وشفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم فقد أوسعتنا غثاثة فغضب وشتم بشاراً وبلغ المهدي الخبر فدعاهما فسألهما عن القصة فحدثه بشار به فضحك حتى أمسك على بطنه ثم قال للرجل أجل فجعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم فإنك بارد غث.
ومر بشار بقاص في المدينة فسمعه يقول في قصصه من صام رجباً وشعبان ورمضان بني الله له قصراً في الجنة صحنه ألف فرسخ في مثلها وعلوه ألف فرسخ وكل باب من أبواب بيوته ومقاصره عشرة فراسخ في مثلها - فالتفت بشار إلى قائده فقال بئست والله الدار هذه في كانون الثاني (أي شهر طوبه أحد شهور الشتاء).
ومر بشار برجل قد رمحته بغلة (ضربت به الأرض) وهو يقول الحمد لله شكراً فقال له بشار استزده يزدك - وم به قوم يحملون جنازة وهم يسرعون المشي بها فقال ما لهم مسرعين أتراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا فيؤخذ منهم - ورفع غلامه إليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم فصاح به بشار وقال والله ما في الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمي بشعرة دراهم، والله لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة ما بلغت أجرة من يجلوها عشرة دراهم - وحضر مرة باب محمد بن سليمان فقال له الحاجب اصبر فقال إن الصبر لا يكون إلا على بلية فقال له الحاجب إني أظن أن وراء قولك هذا شراً ولن أتعرض له فقم وادخل - وقال له هلال بن عطية وكان له صديقاً يمازحه: إن الله لم يذهب بصر أحد غلا عوضه بشيء فما عوضك قال الطويل العريض قال وما هذا قال أن لا أراك ولا أمثالك من الثقلاء ثم قال له يا هلال أتطيعني في نصيحة أخصك بها قال نعم إنك كنت تسرق الحمير زماناً ثم نبت وصرت رافضياً فعد إلى سرقة الحمير فهي والله خير لك من الرفض.
حكى أبو دهمان الغلال قال: مررت ببشار يوماً وهو جالس على بابه وحده وليس معه خلق وبيده مخصرة يلعب بها وقدامه طبق في تفاح وأترج فلما رأيته وليس عند أحد تاقت نفسي إلى أن أسرق ما بين يديه فجئت قليلاً قليلاً وهو كاف حتى مددت يدي لأتناول منه فرفع القضيب فضرب به يدي ضربة كاد يكسرها فقلت قطع الله يدك يا ابن الفاعلة أنت الآن أعمى؟ فقال يا أحمق فأين الحس.
ذاك ما وسعه هذا العدد وسنأتي في العدد القادم على كثير من نوادره وأحوالهن مع صواحبه وكيف كان يعيش وقطع من شعره إن شاء الله.