الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 22/جواسيس الألمان

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 22/جواسيس الألمان

بتاريخ: 1 - 11 - 1914


كان نصف أعمال الألمان قبل وقوع هذه الحرب يقوم على التجسس، وينهض على استراق أسرار الأقران والأعداء، وقد بثوا عيونهم وأرصادهم في كل نواحي الدنيا وبلادها، فما تركوا بلداً يظنونه سيثور في وجوههم إذا وقعت الواقعة إلا ملؤوه بعيونهم.

وقد قام المستر ويليم لوكيه، وهو رجل من كبار كتَّاب الإنكليز وعلم من أعلام روائييهم، فوضع في خلال هذه الحرب كتاباً ممتعاً في أسلوب قصصي، أسماه جواسيس الإمبراطور وهو مجموعة فصول شائقة مدهشة، تنطوي كلها على حقائق غريبة ثابتة، لا يشوبها للريب شائبة، تدل على صحتها تقارير هائلة ضبطها الكاتب في تجسسه على الجاسوسية الألمانية، ومصورات يدوية عن المواقع والأماكن والحصون والبلاد والشواطئ الإنكليزية التي كان الجواسيس يدأبون هذه السنين على تصويرها وأنباء ديوان الحرب في ألمانيا عن دقائقها وعظائمها، وقد دفع بهذه التقارير وتلك المصورات والأسرار إلى نظارة الحربية الإنجليزية ليرى رأيها ويقف على نيتها، فردت إليه أوراقه دون تعليق، عالمه بصدقها، موقنة بخطورتها، ثم طلبت إليه أن يضعها في أسلوب روائي حتى تكون ألطف أثراً، وأبدع سرداً.

وقد وضع الكتاب على لسان صديقين من الإنكليز أخذا على عاتقيهما كشف أعمال الجواسيس الألمان في البلاد الإنكليزية ونحن ناقلون هنا فصلاً بديعاً عن محاولتهم سرقة أسرار المدافع الجديدة.

سرقة المدافع الجديدة

كنت أنا وصديقي راي في مدينة نيوكاسل على نهر التاين وقد حرضتنا بعض أبحاث قمنا بها على الاعتقاد بأن الجواسيس الألمان قد نزلوا بهذه المدينة يسعون سعياً متواصلاً في سرقة أسرار نوع جديد من المدافع، عظيم القوة، ضخم الحجم، كان يصنع إذ ذاك في معامل الأسلحة ببلدة السويك.

وقد كنا نازلين بفندق المحطة، فبدأنا منذ يوم مقدمنا نقوم ببعض التحريات والاكتشافات، ومن بين الأمور التي وقعنا عليها وجود ناد سري يقيمه الألمان هناك فجعلنا منذ ذلك الحين نرصده عن كثب ونسهر على مراقبة أفراده.

ولا ريب في أن ليس هناك عامل إنجليزي يرضى عن طيب خاطر أن يخرج عن سر من أسرار مصنعه إلى حكومة أجنبية، ولذلك لم يخالجنا الريب ولم يحك في صدورنا أن يكون بين عمال مصانع الأسلحة بالسويك من يقرف بالخيانة ويتهم بالغدر، وكان بين أعضاء هذا النادي الألماني - وإن كان بينهم كثيرون من السويسريين والبلجيكيين - رجل متوسط السن، يدعى بينهم جون باركر ولكننا استخلصنا بعد البحث أنه إما أن يكون ألمانياً وإما سويدياً، ثم علمنا أنه يشتغل كاتباً في إدارة شركة كبرى من شركات السفن في نيوكاسل، وكان التصوير ملهاته الوحيدة، يلتف حولنه جمع من الأصدقاء والأصحاب، بينهم عامل من رؤساء عمال المصنع، يدعى شارلز روسر، عرف بالإخلاص في العمل، والدؤوب عليه.

فجعلنا نراقب الرجلين عن كثب، وقد قامت الريبة في خاطرنا.

وكان روسر يقضي الليل مع صديقه باركر في دور التمثيل أو في المراقص وحلقات الموسيقى، وظهر لنا أن باركر كان يدفع عن صاحبه ثمن كل شيء، ويذهب إليه في بيته، ويصرف المساء مع زوجته وأسرته.

وكنا نتناوب على المراقبة، ففي ذات ليلة دخل على صديقي راي، وأنا في النزل وكان عائداً من أثر الرجل، فقال إن باركر يجض صديقه على شراء بيت جديد، يبلغ ثمنه ثلاثمائة وخمسين جنيهاً، وهو بيت أنيق جميل، حديث العهد بالبنائين.

قلت (ثم ماذا؟).

قال (لقد تسمعت الليلة عليهم فأخذ سمعي بعض الحديث سمعت باركر يعرض على صديقه أن يقرضه نصف هذا المبلغ).

فصحت قائلاً (تحت شروط، أليس كذلك؟).

فأجابني (لم تذكر الشروط، ولكن لا ريب في أن باركر يريد أن يوقع المسكين في الأحبولة. لكي يضطره إلى أن يبض له ببعض الأسرار والمعلومات، حتى ينقذه وأسرته من شر الفاقة وويل الحاجة، اذكر أن الجواسيس الألمان لا يترددون عن شيء ولا يحجمون).

قلت، نعم ذلك أمر واضح، علينا أن نحمي روسر المسكين من شراك الرجل، وهل ثمة شك في أنه يحتال على هذا الساذج ويظهر له بمظهر المخلص ذي المروءة الكريم، إن روسر لا يعلم أن صديقه الجواد الندي الكف ليس إلا جاسوساً).

فتبعته يوماً بعد الأصيل إلى فم التاين حيث كانت ملهاته تصوير السفن الداخلة فم النهر والخارجة منه، وقد قضى جزءاً من ذلك الأصيل وجل اليوم التالي في استعراض حول (خزان المياه) ثم عاد بعد ذلك إلى فم التاين فرسم الحصن الواقع هناك عدة صور من عدة جهات، وكذلك الخط الحديدي والنفق، والسفن الماخرة والميناء، والأفاريز والمرساة، وكان يبدو عليه أنه يصور أدق الصور الفتوغرافية للبلد كله، وكان يحمل معه مذكرة يكتب فيها ملاحظاته، يفعل كل ذلك جهرة على مشهد من السابلة، وعلى مرأى من الشرطة، إذ من ذا الذي يفكر في وجود الجواسيس الألمان في هذه البلدة النائية؟.

فلما كان المساء عرج على فندق المحطة، فخلع عنه معطفه وعلقه في البهو ثم ذهب إلى حجرة القهوة ليأمر بإعداد الشاي له.

وكنت قد تبعته إلى الفندق، ولكنني لم أعج على حجرة القهوة مثله، بل ذهبت إلى حجرة التدخين، وهناك طلبت شراباً حتى إذا جرعته عدت إلى الموضع الذي علق عنده معطفه.

هناك دسست يدي في خفية ورفق إلي جيب صدره، فوقعت على بعض أوراق وفي أقل من لحظة واحدة قبضت عليها فنقلتها على حبيبي، ثم دخلت في معطفي في هدوء وابتهاج، ورحت أمشي الهوينا إلى المحطة.

ولحسن الحظ كان القطار يهم بالرحيل إلى نيوكاسل فما ونيت إن وثبت إليه، فلما بعد بنا عن البلدة أخرجت الأوراق في لهفة وشوق أريد أن أفحصها، فوجدت من بينها صورة بسيطة عن خزان المياه في البلد وكيف يمكن حبس هذه المياه عنها، وخطاباً خصوصياً من رجل من رجال العمل: وهو من الأهمية بمكان وإليك نصه:

عزيزي جون - مع هذا الكتاب الفائدة أقدمها لك سلفاً - أربع ورقات من قيمة الخمسة جنيهات، فخذ في عملك كما كنت، واستعلم عن الأوامر كل ما أمكنك.

إنه ليسرني أن أقول أن العمل لا ينقصه الآن إلا القليل، ونؤمل أن يكون نصيبك من الأرباح في السنة القادمة مضاعفاً، وأنت واثق من هذا ولا ريب - اكتب لنا كثيراً، وأخبرنا عن أعمالك، فإننا أبداً مهتمون بصالحك، ليس من الحكمة منك أن ترتاب في شارلزني طالما رأيت منه رجلاً يستطيع الإنسان أن يضع عنده كل ثقته، وهو على ما أظن يسكن داراً في قرية فم التاين.

كلهم اليوم في خير، ولكن الربيع في لندن مرهق معنت، على أننا مرتقبون جواً أدفأ - زوجتي وأولادي لاسيما الصغير شارلز وفردريك وشارلوت يرسلون إليك تحياتهم - ابن عمك الودود - هنري لويس.

هذا الخطاب وإن كان بسيطاً في مظهره إلا أنه يحوي بعض تعليمات هامة للجاسوس وفوق ذلك مرتبه الشهري وهو عشرون جنيهاً.

وإذا قرئ بالتعليمات الحرفية والإشارات المعروفة بين الجواسيس الألمان كان نصه كما يأتي:

أرسل لك مرتبك الشهري - إن المعلومات التي بعثتها في خلال الشهر الماضي كانت سارة كافية - إن عملك على العموم يبعث على الرضى وإذا استمر كذلك زدنا في مرتبك - كف عن هرفك بشارلز - اهتم بنقط الدفاع في قرية فم التاين - أنت تعرف أن الرئيس (هو الذي يقابل الربيع في الرسالة) من الصعب إرضاؤه، لأنه في تفتيشه الأخير زاد في عملنا - ابق على محاولاتك ومفاوضاتك مع الثلاثة - (يريد العامل روسر) وشارلوت وفردريك (من العمال أيضاً) حتى تأتيك أوامرنا - لك أن تعرض عليهم مالاً إذا دعت الحال.

فترى من ذلك أن أي إنسان يقع في يديه هذه الرسالة الآتية من هنري لويس لا يستطيع أن يتبين لنفسه معانيها الحقيقية.

إن هذا الاسم المصطنع أي لويس كما علمنا بعد ذلك واكتشفنا، يقيم في مكتب صغير بأحد شوارع لندن، تحت اسم وكيل أشغال ولكنه في الحقيقة زعيم الجواسيس التي تشتغل بين نهري الهامبر والتاين.

وهؤلاء الزعماء يزورون عمالهم - وهم الذين يقومون وحدهم بصناعة الجاسوسية - تحت ستار سياح تجار إذا كان العميل رب حانوت، فإذا لم يكن كذلك قدموا أنفسهم كوكلاء شركات التأمين أو من رجال المزاد أو من سماسرة البيوت.

فلما رجعت عرضت على صديقي راي الكنز الذي اكتشفت، فما وقع بصره عليه حتى اضطرب وصاح قائلاً: إن الرجل جاسوس مقيم هنا في نيوكاسل ولا ريب فعلينا أن نبعد في مراقبته.

وكذلك فعلنا.

كان الجاسوس روسر لا يفترقان لحظة ولا ينفصلان، يلتقيان كل مساء، وكثيراً ما كانت أسرة روسر تذهب إلى مشاهدة التمثيل أو الرقص على نفقة باركر، وكان لا يجعل للمسكين سبيلاً إلى إنفاق شيء.

وقد ظهر لنا بعد استعلامات دقيقة أن روسر هذا من أمهر عمال المصنع وأحذقهم وأعلمنهم بصناعة المدافع، وقد بلغ من ثقتهم به أن ألقوا إليه مقاليد إتمام المدفع الجديد الذي سيكون فخر البحرية الإنكليزية، لا تدانيه منسوجات كروب، ولا يضارعه أحدث ما خرج من المدافع إلى ميدان الحرب.

حدث ذات ليلة إن كان الرجلان في أحد القهوات العمومية بالمدينة، وقد استرقت السمع إليهما فعلمت من مجرى الحديث أن باركر قد أقرض صديقه مائة وخمسة وسبعين جنيها، وإن عقد شراء البيت الجديد سيكتب في اليوم التالي، وكان روسر تلك الليلة مطنباً في شكر باركر مسهباً في الثناء عليه، وظهر لي كذلك أن نصف المبلغ الآخر سيدفع مؤخراً وسيلقى على باركر نفسه.

وكان الرجلان يتقارعان الكؤوس، وكان واضحاً من أمر روسر أنه لا يعلم شيئاً من أمر الهوة السحيقة الفاغرة فاها تريد أن تبتلعه، وفي الناس كثيرون لا يعرفون الريب ولا يخطر لهم الاتهام، ولا تقع لهم الاسترابة، ولعل العامل الإنكليزي أول هؤلاء.

فلما عرضت ما سمعت على راي وتشاورنا بيننا عما نحن صانعون، قر رأينا على أن الوقت قد حان للاقتراب من روسر وإظهار سر صديقه الجواد له.

وتبين لنا أن باركر قد يريد الرجل بسلطان كرمه وبقوة تأثيره على أن يستخلص له رسماً للمدفع الحديث أو شيئاً عن أوصافه ومزاياه وأسرار صناعته، ويفهمه أنه إذا لم يفعل، نزل به الدمار، وتولاه الفقر والخراب، وتحققنا أن روسر وإن كان عاملاً أميناً يعيش من أجوره الأسبوعية، وليس له ما يقيم أود زوجته وأولاده ويرفعهم من وهدة الخصاصة، وأنت تعلم أن الوجدانات الوطنية ليست من الصعب نسيانها أو التغلب عليها إذا رأى الرجل زوجته وأسرته في خطر من الجوع.

فلما كان مساء اليوم التالي تبعنا روسر بعد خروجه من المصنع فطرقنا باب بيته النظيف الحقير.

فلم يكن منه بادئ الأمر إلا أن انتهر فضولنا وغضب أشد الغضب إذ قلنا له إنه على وشك أن يكون آلة في أيدي جواسيس الإمبراطور، ولكنه لم رأى الخطاب الذي شرحناه آنفاً وصورة خزان المياه، بدأ يفكر ويتذكر.

سألته: ألم يسألك مرة عن المدفع الجديد الذي تصنعونه اليوم في السويك؟ فقال بعد تردد نعم. . . إنني أتذكر الآن، نعم إنه سألني أكثر من مرة فقلت: لقد أراد إما أن يشقيك وإما أن يضطرك إلى أن تكون خائناً.

قال ذلك الرجل الشهم في لهجة المغضب ولن يستطيع، والله لو كان ما تقولونه حقاً إذن لدققت عنقه.

قلت كلا. لا تفعل إنه دفع لك نصف ثمن البيت الجديد، أليس كذلك، قال بلى.

قلت: إذن فاتركه لنا، إننا سنضطره إلى دفع ما بقي عليه من الثمن، وسيكون انتقامك بيتاً جديداً على حساب الحكومة الألمانية. فضحك وضحكنا.

وفي الليلة الثانية هجمنا على الرجل في حجره وخبرناه بين إشهار أمره وإبلاغ الشرطة بسره، وإما أن يرد البيت الجديد دون شرط ولا قيد لروسر فلم يسعه إلا الانصياع لما طلبنا وهو يتهدد ويتوعد أشد التهديد والوعيد، ولكننا طالما سمعنا أمثال هذا الوعيد وأشباه هذا التهديد، ولذلك ما عتمنا أن ضحكنا منه ومن وعيده.

واكتفينا من عقابه بإشهار أمره عند الشركة التي كان خادماً عندها وكنا حاضرين ساعة ترك حجره وربط متاعه وترك البلد وأهله يريد لندن وكأننا به ليشاور زعيمه (هنري لويس).

اقرأ ألذ فصول هذه الرواية في العدد القادم