مجلة البيان للبرقوقي/العدد 22/تاريخ الحرب
→ تاريخ سعد زغلول باشا | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 22 تاريخ الحرب [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 1 - 11 - 1914 |
الفصل الأول
إن النظام الاجتماعي الذي يكون فيه لأرباب الكفاءات الكبرى الكلمة العليا هو الذي يظهر أكبر الحيوية في هذا النزاع الداخلي الدائم. وأما النزاع الخارجي، أي الحرب، فلا تنتصر فيه إلا الأمة التي تضع في الميزان أكبر القوى الطبيعية والذهنية والأخلاقية والمادية والسياسية، وعلى ذلك تكون أحسن الأمم في الدفاع عن حوزتها والنضح عن سلامتها، والأمة التي تكون كذلك تنال من الحرب الظروف الطيبة المواتية للتوسع وامتداد السلطان ولا يكون من ذلك إلا تطور الإنسانية كلها، إذ لا يخفى أن تلك العوامل الذهنية والأخلاقية التي تتغلب في الحرب على غيرها تؤدي كذلك إلى ارتقاء المجتمع كله، وبدون الحرب لا يكون من الأمم والأجناس المنحطة الضعيفة الذابلة إلا أن توقف نماء العناصر الأخرى القوية المنتعشة المثمرة، وليس من وراء ذلك إلا الانحطاط العام في الجمعيات البشرية كلها، يقول فون سكليجل الحرب لازمة لزوم الحرب الواقعة بين عناصر الطبيعة.
الحق للقوة
نعم. قد تقولون قد يكون هناك منافسة سلمية بين الأمم كالمنافسة الواقعة بين أفراد الجمعية الواحدة في كل فروع الحياة الصحية - منافسة لا تستوجب دائماً نشوب الحرب، ولكن المنافسة بين الأمم لا تشبه التنازع الداخلي بين الأفراد ومن ثم لا تؤدي إلى النتائج نفسها، إن فوق منافسة الأفراد والطبقات في داخل الأمة ينهض القانون، وهو الذي يعني بمطاردة الظلم واستئصال شأفة الجور، وهو الذي ينشر العدل بين الربوع، ومن وراء القانون تقف الحكومة بقوتنها لتحمي الشعائر الأدبية والروحانية في جمعيتها ولنعمل كذلك على ترقيتها وتهذيبها. ولكن ليس هناك قوة عادلة غير متحيزة تنهض فوق منافسة الأمم لتمنع الحيف وتقتل الظلم، وتستخدم هذه المنافسة نفسها في ترقية الإنسانية والصعود بها ذروة الكمال الاجتماعي، وإنما الحائل الوحيد بين الأمم وبين الظلم هو القوة، وعلى كل أمة أن تنهض بنفسها وتأخذ مكانها من الفضيلة والمدنية وتعمل على ترقية مذاهبها ومبادئها وأغراضها فإذا حدث من ذلك أن اصطدمت هذه المبادئ وهذه المذاهب بمبادئ الأمم الأخرى ومذاهبها فعليها إما أن تخضع وتعترف بأسبقية الأمة المزاحمة وإما أن تعمد إلى القوة فتواجه به الصدمة الكبرى وأعنى الحرب حتى تنشر مبادئها وتذيع في الخافقين آراءها وآدابها. نعم ليس هناك قوة تستطيع أن تحكم وتقضي بين الأمم وتجعل لحكمها سلطاناً مسموعاً وليس هناك غير الحرب لكي تسود عناصر النجاح الصحيحة على روح التدهور والانحطاط.
إن النزاع إذن هو القانون العام في الطبيعة. خلق الإنسان محارباً وإن تضحية الذات ليست إلا التخلي عن الحياة، سواء في وجود الفرد أو حياة الأمم، لأن القانون الأولى العام هو إظهار الإنسان وجوده المستقل في هذا العالم وبالاحتفاظ بالوجود المستقل دون غيره تستطيع الحكومات أن تكفل وجوه الحياة لأهلها وأفرادها وتضمن لهم الحماية المقدسة التي يحق لكل فرد مطالبتها بها وهذا الاحتفاظ بالوجود لا يكون برد عاديات أعدائها فقط وإنما يتضمن كذلك تكفلها بوجود الحياة وسبل الارتقاء لمجموع الأمة التي تحكمها.
حقوق الفتح والاستعمار
إن الأمم القوية الصحيحة، الناهضة المنتعشة، تزداد أبداً عديداً ونفيراً فلا تلبث أن تطلب توسعاً مستمراً في حدودها وتخومها وأرضاً جديدة لمقام من زاد من أهليها ولما كان كل مكان من الكرة الأرضية مأهولاً معموراًَ فلا تقع لهذه الأمة المستعمرة الجديدة إلا على نفقة أصحابها - أي بالفتح والغلب - وكذلك يصبح الفتح قانوناً من قوانين الضرورة.
إن العالم كله يعترف بقانون الفتح، وهو في أول مبادئه يكون سلمياً وأول خطواته أن يفيض بعض الممالك المختنقة بالسكان الغاصة بالأهلين على غيرها من الممالك والأخطار سيلاً عرماً من المهاجرة والراحلين، وهؤلاء ينزلون على قوانين البلد الجديد الذي خفوا إليه برحالهم، ثم يجتهدون بعد ذلك في الظفر بامتيازات لهم على حساب السكان الأصليين الذين يزاحمونهم ومن هذا يكون الفتح.
وكذلك يعترف العالم بحق الاستعمار وحق الفتح بالقوة والكره والحرب، فقد يكون هناك أمة نامية متكاثرة لا تستطيع استعمار بلد غير متحضر ولكن حكومتها تريد أن تحفظ عليها العدد الزائد من أهلها الذي لم تستطع المملكة أن تجد له طعامه ورزقه، فليس لها من سبيل إلى ما تريد إلا بالحرب، وكذلك تؤدي غريزة حفظ الذات ولاشك إلى الحرب وفتح الأرض واستعمار الأقطار ولا يكون الحق لصاحب الأرض إذ ذاك بل للغالب القاهر - وتكون القوة هي الحق الأعلى فإن الحرب هي التي تقرر الحق تقريراً بيولوجياً.
سيئات السلم
وإذا ظلت السلم في الأمة دهراً لم تلبث أن تتسلط فيها المآرب الشخصية الحقيرة والأغراض الدنيئة المريضة، وتقوم الفتن والمكايد ويمحو الترف آثار الكمال الاجتماعي، ويحتكر المال قوة متطرفة غير شريفة ولا مشروعة ولا تجد الشخصية الكبيرة الاحترام اللائق بها.
يقول شيلر تصوح زهرة الإنسان وتموت جذوره في زمان السلم وعهودها وتموت الشجاعة وتحتضر في ظلال الراحة وخمائل السكون. إن القانون هو ملهاة الضعيف العاجز هو الذي يجعل الناس جميعاً أنداداً وأشباهاً ولكن في الحرب تتجلى شجاعة الإنسان، والحرب تعلى الروح الوضيعة، وترفع كل منحط حقير، بل إن الجبان نفسه ليتناسى اسمه.
يقول هيجل: بلى إن الحروب تخيف وترعب وتزعج، ولكنها واجبة لازمة لأنها تنقذ الأمة من كل ركود أو جمود اجتماعي.
إن الحرب أشد من السلم إيقاظاً للحياة الأهلية وأشد توسيعاً لنطاق القوة الأهلية من كل وسيلة يذكرها التاريخ - نعم إنها تجر في أعقابها نكبات مادية ذهنية ولكنها في الوقت نفسه تثير أشرف الكفاءات في الطبيعة البشرية. ولاسيما في عصرنا هذا. حيث يجوز لنا أن لا نعد نشوب الحرب من عمل الملوك فقط والحكومات. بل هي لسان حال لأمة جمعاء.
إذ ذاك تتوارى المآرب الذاتية الحقيرة أمام ذلك الحكم الرهيب الذي يتلجلج في صدر الحرب وإذ ذاك يجمع الخطر العام الجميع إلى سعي مشترك ونضال فذ، وما الرجل الذي ينزوي عن هذا الواجب وينقبض عن هذا النضال إلا ليستحق أن يركل بالأرجل والأقدام. وفي هذا الاتحاد العناصر الصحيحة التي تخرج للحياة الأهلية ثمار السعادة والهناء، ولسنا بحاجة إلى إثبات ذلك وهذه الحرب الألمانية الفرنسية - حرب السبعين - ونتائجها التاريخية.
وأما الفظائع الوحشية الحيوانية التي تقع عادة في الحروب فيجب أن لا تذكر بل تتلاشى أمام كمالية النتيجة الكبرى وفي الحرب، ولاشك تتجلى قيمة تلك الألقاب الكاذبة والمراتب الجوفاء التي تربت في أحضان السلم ورتعت في بحبوحتها زماناً طويلاً وهناك تأخذ الشخصيات الكبيرة محلها الأرفع الأوجب وهناك تخطو القوة والإخلاص والصدق والشرف إلى الطليعة تلعب دورها.
عرف فردريك الكبير هذا التأثير النبيل العظيم الذي تحدثه الحرب فقال: إن الحرب تفتح الميدان الخصيب، الشاسع العريض للفضائل كلها، لأن في كل لحظة من أيام الحرب يتجلى الثبات والعطف والعظمة والبطولة والرحمة والإحسان وكل لحظة من أوقات الحرب تقدم الفرصة السانحة لإظهار فضيلة من هذه الفضائل.
يقول تريتشكي يجب أن يتلاشى حب الذات وتتوارى الحزازات وتختفي الأحن والعداوات، إذا جاءت الساعة التي تصيح فيها الجمعية أن حياتها في خطر، يجب أن ينسى الفرد إذ ذاك ذاتيته، ويشعر بأنه شلو من جسم الأمة، ينبغي أن يعرف أن حياته ليست شيئاً مذكوراً بجانب حياة الجمعية، إن الحرب مهذبة رافعة سامية، لأن الفرد يختفي فيها حيال فكرة الأمة الكبرى، وإن إخلاص أفراد الجمعية بعضهم لبعض لا يتجلى أسمى جلاله إلا في الحرب. . . أية آداب فاسدة تريد أن تمحو البطولة من صدور الرجال؟. .
بل قد يكون حتى في الهزيمة نفسها ثمرات غالية سامية، فهي وإن ساقت غالباً الضعف والبؤس والشقاء، مؤدية كذلك أحياناً أخرى إلى إحياء جديد وانتعاش قوي لا سمة للفتور أو العلة فيه وهي كذلك واضعة أساس أنظمة حيوية جديدة، يقول ويلهام همبولدت إني لأرى في تأثير الحرب على الخلق الأهلي عنصراً من أسمى العناصر في تكوين الجنس البشري وصوغه وتهذيبه.
وهل هناك عمل أسمى للفرد من أن يبذل حياته لفكرته، ويضحي وجوده للمبدأ الذي يجاهد له، وكذلك الأمم والحكومات لا تستطيع أن تؤدي واجباً أربع مكاناً من بذلها كل قوتها في سبيل الاحتفاظ باستقلالها وشرفها وسمعتها وذكرها.
وهذه الوجدانات والمشاعر لا تجد لها عملاً إلا في الحرب، ولذلك كان توقع الحرب ضرورياً لإيقاظ الخلق الأهلي وتنبيهه، ولا تستطيع الأمم أن تقوم للمدنية بأصدق الواجبات إلا بترقية الخلق الأهلي بين قومها ومن ثم كانت المجهودات التي تبذل في استتباب السلم هي من أكبر العوامل على قتل الصحة الأهلية، وناهيك إذا أصبحت فرعاً من فروع سياستها، والحكومات المتلببة لصرف هذه المجهودات إنما تمتص عصارة قوتها بنفسها، إليك مثلاً الولايات المتحدة فقد قامت لغرض من أغراضها في يونيه عام 1911 تدعو إلى السلام العام وتدافع عنه وتنضح، وذلك لا لشيء سوى أن تترك آمنة هادئة لا تعني بغير الإثراء وجمع المال والتنعم بالغنى والوفر والثروة، ولتمسك عليها الثلاثمائة مليون من الريالات التي تنفقها على جيشها وبحريتها، فهي من ثم تعرض بنفسها لخطر عظيم ليس مقصوراًَ على احتمال نشوب حرب بينها وبين إنجلترا أو اليابان بل لأنها تحاول أن تمنع كل فرصة تسنح لحرب بينها وبين أقرانها ولداتها في القوة والبأس، وبذلك تقطع عليها تيار الوجدانات الأهلية السياسية الكبرى التي لا يكون هناك تطور أدبي في الخلق الأهلي إلا بها، وإن جرت في تلك الطريق أشواطاً أخر فهي ولا ريب دافعة عن هذه السياسية ثمناً غالياً.
مؤتمرات السلام
وجملة القول إن المجهودات المصروفة إلى إزهاق روح الحرب لا ينبغي أن توصف فقط بأنها مجهودات نزقة طائشة حمقاء بل مفسدة كذلك للآداب الإنسانية مناقضة، ينبغي أن تنعت بأنها نقيصه لا تحسن بالجنس البشري ولا تليق، لأنها تريد أن تحرم الناس حق تضحية النشب والمادة والحياة فدى للمبادئ الكمالية السامية وتحقيقاً لأسمي ضروب الانكارية الأدبية إنها تريد أن تمنع المشاحنات الكبرى بين الأمم بمؤتمرات السلام، أي بالمفاوضات والتوسطات والترضيات، أي تريد أن تقيم قانوناً سخيفاً باطلاً صورياً مكان أحكام التاريخ وأقضيته، تريد أن تعطي الأمة الضعيفة حق البقاء والحياة مثل الأمة القوية المنتعشة الفارعة، فهي لا تمثل إلا اعتداء متطرفاً باطلاً على النواميس الطبيعية للتطور، ولا يكون من ذلك إلا أشد النتائج وخامة وويلاًَ على الإنسانية جمعاء، فهي بتعطيلها التنافس الحر المسرح المباح الذي لا يعتمد إلا على القوة والسلاح والقتال، ستعمل على تعطيل التقدم الحق والارتقاء الحي الصادق، يتبع ذلك الركود الأخلاقي والجمود الفكري، ويجرى في آثار هذين الانحطاط والتدهور والانقراض، يقول تريتشكي: يرعى الله الحرب ويجعلها أبداً لا تجيء إلا لتكون للإنسانية دواء ناجعاً قوياً.
ومن ثم يجب أن نستعدى كل الوسائل على القضاء على هذه المذاهب الخيالية الواهمة ويجب أن نشهرها أمام الناس ونفضح أمرها ونعلن حقيقتها وهي أنها فكرة خيالية ضعيفة عليلة طائشة، بل ثوب من أثواب الرياء السياسي وحجاب من حجبه، ينبغي أن يعلم قومنا إن بقاء السلم لن يكون غرض سياستنا، بل يجب أن نكرر ونسهب في فضيلة الحرب ونعماها ووجوب وقوعها ولمثل الأعلى الذي تنطوي عليه، ينبغي أن نلقي إلى رسل فكرة السلم ودعاتها بيت شاعرنا جوت.
أأحلام بالسلام وعهوده، ألا فليحلم به من يشاء، وأما نحن فليكن صراخنا الحرب. . الحرب وهلموا إلى النصر!.
الفصل الثالث
روح الغرور عند الألمان
تتطور الأمم بالأكاذيب تطورها بالحقائق، وقد يكون للفكرة الطائشة من الأثر في أخلاق الأمة ما تعجز عنه الفكرة الصالحة، وما كان تطور الأمم ليقاس بصواب العوامل ورجاحة البواعث وصحة الأسباب، وإنما بمبلغ التأثير الذي تجدثه هذه العوامل ومقدار الغاية التي تنتهي عندها.
ظل الألمان هذه السنين يعيشون على الزهو، ويغتذون من مادته، ويتطورون تحت تأثيره، فكان الزهو عندهم ولا ريب عاملاً من عوامل التقدم، وسبباً من أسباب الحياة والنهوض، إذ كان كتابهم وشعراؤهم، وفلاسفتهم وصحفيوهم، وسياسيوهم وحربيوهم يلقون إليهم أن الألمان هم خلاصة الجنس البشري كله وصفوة الإنسانية جمعاء، وإن العنصر الألماني هو العنصر الفذ الذي سيسود فوق العالم بأسره، وإن الشعب الألماني لم يعد شعب الجعة والمراقص والمواخير، لا بل شعب الشعراء والكتَّاب والمفكرين، وإن كلمة ألمانيا لا يراد بها اليوم الأمة النازلة بين نهري الرين والفستولا، بل يدب أن يفهم الآن منها ذلك الأوقيانوس العظيم من الشعوب المتكلمة باللغات التيوتونية، أو من الشعوب التي لا تتكلم اليوم بها، وهي أحق بأن تتخذها لسانها وبها أوجب وأخلق، يدخل في الأولى السويديون والنرويجيون والدانمركيون والهولنديون، وينطوي تحت الأخرى البلجيكيون والسويسريون والنمسويون وبعض قبائل الروس والمجر، بل تجاوزوا إلى أبعد من ذلك فقالوا إن الصقالبة من روس وبولونيين وبوهيميين وصربيين وكرواتيين ليسوا في الحقيقة إلا فروعاً من العنصر الألماني، ولذلك ترى مئات من علمائهم وكتابهم وألوفاً من خطبائهم وصحفييهم يلقون في أسماع الشعب أن هذه الأمم جميعاً جرمانية ولذلك يجب أن تدخل أفواجاً في أمة ألمانية فذة كبرى.
كان رسول هذه الفكرة التيوتونية المتطرفة المزهوة هاوستون ستوارت تشمبرلن (إن هاوستون تشمبرلن هذا من الإنكليز ولكنه أثار بكتابه أساس القرن التاسع عشر، أما الشعب الإنكليزي وإخراجه من جنسيتهم حتى أن كتابهم لا يذكرون إنكليزيته في كتبهم بل يقولون أن القدر إلى أن يكون له اسم الإنكليز. الكاتب الألماني بكتابه: أساس القرن التاسع عشر فلقد كان لهذا لكتاب في ألمانيا ثورة فكرية هائلة، وعاطفة متحمسة عظيمة، إذ أقبل على قراءته جميع طبقات الأمة من أصغر صغير في الشعب إلى أكبر كبير، وقد عدوه كتاباً ممتعاً بعيد الغور سديد الرأي متماسك الحجة، حتى أن أغنياءهم ومتموليهم جعلوا يبتاعون الآلاف من نسخه يفرقونها دون أجر على حجرات المطالعة العمومية في كل بلد أو نجع أو قرية لكي يقرأ الكتاب دهماء الشعب وعوامهم، وقد أطراه الإمبراطور ونوه به وتقبله بقبول حسن وأصبح الكتاب الرحى التي يدور عليها قطب الأدب الألماني الحديث، فمن مؤلف في مديحه، ومن سفر في تنقيحه، ومن آخر في الرد عليه، ومن كتاب في المحاجة له، وكان من ذلك أن أصبح تشمبرلن اليوم في رأس كتَّاب ألمانيا الخالدين.
وليس نجاح الرجل بكتابه هذا بالسر المستعصي البحث المستغلق الاستقصاء البعيد لاكتشاف، حسبك أن الرجل لبس لبوس العلماء وتظاهر في بحثه بأسلوبهم، وانتحى في تخريجه مناحيهم، وراح يثبت للألمان أن تاريخ الإنسانية لم يكن إلا ألمانيا وإن كل تطورات العالم في المستقبل وكل ضروب ارتقائه المقبل، ستوسم بهذه الماركة المسجلة صنعت في ألمانيا وإن الألمان هم العنصر الصالح للأرض.
هذا هو الإنجيل الألماني الجديد الذي جاء بن تشمبرلن فلم يبق في الأرض ألماني إلا دان له وتغنى به واستظهره، وإليك قطعة من هذه الأنشودة الألمانية الحادة المتعجرفة.
يقول تشمبرلن: لا أعنى بالألمان إلا كل أمم أوروبا الشمالية التي ظهرت في التاريخ باسم القلت والجرمان والصقالبة، والتي منها نبغت شعوب أوروبا الحديثة، إن الحق الذي لا شائبة للريب فيه هو أن هذه الشعوب جميعاً خرجت من أسرة واحدة ولكن الألماني استطاع أن يظل بين أفراد هذه الأسرة سامي المكانة رفيع القدر عالي الرأس قوياً في ذهنه وآدابه وطبيعة جثمانه، حتى ليسوغ لنا أن نطلق اسمه على الأسرة كلها. . . إن الألماني هو روح المدنية الأوروبية، إن أوروبا اليوم المنتشرة على مدى الكرة الأرضية لهي النتيجة الباهرة لتشعب أفراد هذه الأسرة، والرابطة الوحيدة التي تصل اليوم بيننا هي الدم الألماني. . . لا يجلس على عروش الغرب إلا الألمان، إن التاريخ الحق سيبتدئ من اليوم الذي يقبض فيه الألماني بكفه العظيمة على تراث آبائه وأجداده.
وكذلك جعل تشمبرلن يبعد في القول ويمعن ويدلل لبني قومه ويثبت لهم أن في الألمان عنصراً حيوياً غريباً، هو الذي أعان كل من تجري في أعراقه الدماء الألمانية على إنجاز العظائم والقيام بالجسائم والمدهشات، وإن كل عظماء الأعصر الماضية إذا دققت البصر إليهم وحققت النظر فيهم لم يكونوا إلا ألمانيين نشأة ودماً وروحاً، هذا دانتي مثلاً الطلياني لم يكن - كما يقول تشمبرلن - إلا ألمانياً، بل انظر إلى وجهه ترله كل ملامح الوجوه الألمانية وتقاطيعها ومعارفها، وهذا باسكال كذلك وإن عده بعض الحمقى الأغفال من عظماء فرنسا ونادرة رجالها!!.
وبلغ من إلحاح تشمبرلن هذا على البحث وتشبثه بأهداب (تيوتونيته) وتماديه في التغني بألمانيته، إن عمد إلى البحث في جنسية المسيح، فجعل يثبت أن المسيح لم ينشأ في بني إسرائيل ولا سكن في ديارهم، وإليك ما يقول في ذلك بتلك السذاجة العلمية المتفشية في نواحي كتابه المتجلية في كل سطوره وسلاسله.
كل من يدعي أن المسيح كان إسرائيلياً إما أن يكون جاهلاً وإما خائناً أرميه بالجهل لأنه يخلط بين الدين والجنس، وأقرفه بالخيانة لأنه يعرف تاريخ غاليليه. . . ليس ثمة ريب في أن المسيح لم يكن إسرائيلياً ولا جرت في عروقه قطرة واحدة من الدم الإسرائيلي الخالص العبيط - فإلى أي شعب ترى المسيح يمت. .؟ ليس من جواب على هذا. .
وطفق تشمبرلن بعد هذا يتيه فيب شعاب الظن ويمرح في أودية الحدس فيقول لعل المسيح كان رحالة من الآشوريين، حتى إذا لم يقتنع بنتيجته هذه ولي وجهة شطر المغرب فقال أم لعله من الإغريق، وإنك لتعجب للرجل كيف تراه عمي عن ملمس الحق وعشى بصره أمام وضح الصدق فخرج من كتابه الضخم ولم يهتد إلى غاية ولم يقف عند نتيجة ترضيه.
على أن ألمانيا كانت أعظم من تشمبرلن وأصبر منه على التخريج وأطول منه نفساً في البحث، فما لبثت أن أخرجت من كشف لها المجاهل التي عجز عنها تشمبرلن وحسر بصره عن الاهتداء إليها، وحقق لها المظان التي عثر بها الأول ثم أعرض عنها، ذلك أنه لم يلبث أن أخرج ريمر أحد علماء ألمانيا المعروفين كتاباً آخر ذكر فيه مسألة نشأة المسيح وجنسيته فلم يكن من كل بحثه إلا كلمة واحدة هي إن لم يكن المسيح ألمانياًَ فهو ولا شك حديث خرافة أماً وليس في الناس من يعده كذلك فهو قد نشأ ثمة نشأة ألمانية، بل ألم يكون المسيح وردى البشرة زرقاوي العينين أصفر الفروع زاهيها، وتلك هي الملامح الألمانية بعينها، فإذا لم يرض بعض القوم هذا الدليل فليس على المنكر المتردد إلا أن يعمد إلى التحليل لفظتي عيسي و (جرماني) وهما في الإفرنجية وفإن المقطع الأول في اللفظة الأولى وهو مقلوب عن في الثانية إذ كانوا يعتبرون حرف متحركاً ولذلك أسقطوه جملة واحدة واستعاضوا عنه حرف أما المقطع الثاني من اللفظة الأولى وهو فعلامة المذكر في اللاتينية وهي التي يقابلها في الإنكليزية والألمانية لفظة الموجودة في المقطع الثاني من اللفظة الثانية. . . فهل ثم أوضح من هذا برهاناً وأجلى مما ترى دليلاً؟!!.
ولم يقف زهو الألمان عند هذه الغاية المضحكة بل تجاوزوها فقالوا إن القرن العشرين لنا نحن الألمان، كما كان القرن السادس عشر للأسبان، وكما كان السابع عشر للفرنسيين والثامن عشر للإنكليز، بل لم يقنعوا بإدعاء ملكية القرن العشرين بل أرادوا أن يظهروا للعالم أن القرون الماضية كانت لهم جميعاً.
إن الألمان يعيشون اليوم عيشة تاريخية، كما يقول نيتشه، يعنون بالماضي كأكبر عنايتهم بالحاضر، قد أضافوا على حواسهم الخمس حاسة سادسة هي الحاسة التاريخية فترى كل غلام في المدرسة يعلم أن دانتي وروفائيل وأنجلو وماكيافللي لم يكونوا كما يشهد التاريخ من الطليان بل من الألمان، وكذلك كان نوابغ الفرنسيين أمثال العالم رابيليه والفيلسوف مونتان وباسكال وديكارت، يمنون إلى الألمانيين بدمائهم الألمانية، وليسوا من الفرنسيين في شيء كما يدعي العالم ويكذب التاريخ، فإذا سمع الصبي تلك من فم معلمه لم يلبث أن تتكون في أعماق روحه عاطفة الزهو بجنسيته فلا يستطيع أن يتمالك نفسه من الاعتقاد بأنه الدماء الألمانية والفلسفة الألمانية والآداب الألمانية والعالم الألماني وصفوة القول كل ما هو ألماني في كل فروع الحياة وأصولها أسمى مكاناً من غير الألماني وأعظم قدر!.
ونحن شارحون هنا للقراء مؤلفاً حديثاً للكاتب الألماني لدويج ولمان يثبت فيه بأدلته الألمانية أن أكثر نوابغ الطليان والفرنسيس في النهضة العلمية من الشعراء والنحاتين والمصورين والكتَّاب والمفكرين وثبوا جميعاً من أصل ألماني، ولسنا نريد أن نفند للقراء هذه المزاعم العريضة والحجج العاثرة بل حسبنا أن نقول إن الكتاب وإن كان مضحك التخريج، واهن الاستقراء إلا أنه قد قوبل في ألمانيا بالتهليل والتكبير، وتناولته المجلات التاريخية والأثرية بالأبحاث الرزينة، والتعليقات الجدية، والمقالات الممتعة الفلسفية، وكان له أعظم الأثر في نفوس الألمان.
يدور محور هذا الكتاب على إثبات أن جميع أساطين القرنين الخامس عشر والسادس عشر أو جلهم من الطليان والفرنسيين نبغوا جميعاً من الدم الألماني، وقد انتحى وولتمان في تقسيم أوروبا منحى لم يزغ فيه عن منحى العلماء الأنثرولوبوجين إذ قسمها إلى أجناس وشعوب، وأشهر هذه الأجناس الجنس الشمالي أو الألماني، وهو الذي يمتاز عن غيره بالرأس المستطيل والشعر الخفيف والأعين الزرقاء، ثم يلي ذلك الجنس الجنوبي النازل بسواحل البحر المتوسط. وهذا يعرف بالرأس القصير المستدير والمعارف والتقاطيع السمراء، فإذا وقع وولتمان في بحثه على طلياني عرف عنه أنه كان مستطيل الرأس أزهر المعارف زرقاوي العينين لم يخالجه الشك هنيهة واحدة في أن الدم الألماني كان يجري ولا ريب في عروق الرجل.
وترى كتاب ألمانيا وأهل الرأي فيها لا يريدون أن يقتنعوا بهذا المقدار من العجب والزهو بل ما فتئوا يعلمون قومهم أن الألمان هم الذين أنقذوا العالم من ذلك الانحطاط المظلم الذي كان يهم بأن يغشي الإنسانية على أيدي الرومان في أخريات أيامهم وزمان ترفهم وضعفهم، وهم الذين رفعوها من تلك الهاوية السحيقة القرار التي تهاوت فيها المدينة الرومانية وإن البرابرة الألمان الذين تدافعوا من حدود الشمال وتخوم الجليد على روما وأهلها ودولتها واجتاحوا شاسع أقطارها ووضعوا من صولتها لم يكونوا أقل بأساً من الرومان أو أصغر أو أحط مدينة.
إليك ما يقول تشمبرلن عن هؤلاء البرابرة الألمان: إن هذا الهمجي الذي كان يؤثر أن يندفع إلى ساحة الحرب عاري البدن، هذا المتوحش الذي وثب على غرة من العالم من بين قرائر الأحراش وصمائم الأدغال فصب على الإنسانية المتحضرة المتهذبة ويلات ذلك الفتح الرهيب العظيم - هو الوارث الشرعي للروماني وأخيه اليوناني - دمه من دمائهما، وروحه على غرار روحهما. لقد كان العالم الروماني على أبواب الموت وفي طريق الفناء، كان عبيد آسيا وأفريقيا قد اختلسوا الخطى حتى اعتلوا عرش الدولة الرومانية، بينا كل الشآمي قد وضع في يده مقاليد التشريع، وكان الإسرائيلي غائراً بين أسفار مكتبة الإسكندرية يريد أن يوفق بين الفلسفة اليونانية والشرائع الموسوية، ثم لم يلبث أن أقبل المغولي يريد أن يسحق تحت قدمه المتوحشة الملطخة بالدماء ثمار تلك الحياة الرومانية الزاهرة، كان الشعر الهندي سائداً وكانت الفلسفة الهندية سارية فاشية، وكانت الفنون الرفيعة قد أسلمت الروح، لم يكن للأغنياء من إلا الرسوم والآداب والإصطلاحات، ولا شاغل للفقراء إلا المصارعات والمسابقات، ولم يعد يومذاك في العالم، كما يقول شيلر، أناس بل مخلوقات.
. . . إذ ذاك حان الزمن لظهور المنقذ، ونضج الوقت لوثوب المصلح المهذب. . . نحن لا نندم على شيء ندمنا على أن الألماني لم يبعد يومذاك في التطهير والاستئصال والإفناء.
يزيد تشمبرلن أن يحتكر في قومه الصراحة والتسامح والحرية. يقول إن الغوط كانوا أنبل أرواحاً من الرومان، وأجمل منهم سماحة في الدين، إنهم جاءوا الدولة الرومانية فإذا التعصب الديني ضارب بجرانه، باسط على الأرض جناحيه، فزجروا هذه العاطفة المرذولة، وقضوا على هذه النزعة المنكرة وأقاموا على آثارها عاطفة التسامح الحلوة الطاهرة، أبقوا على الآثار، وأمسكوا على العاديات، واحتفظوا بحسنات الفنون.
هذا بينا ترى الكتَّاب الألمان يقولون: نحن أحسن الاستعماريين وأبدع الملاحين وأعظم التجار. . . نحن أزكى أمة أخرجت للناس. . . بل أرقى شعب في العلم وأبدع أمة في الفن. . ثم نحن رأس الشعوب في الحرب غير مدافعين!!.