مجلة البيان للبرقوقي/العدد 20/في عالم الحرب
→ جرجي زيدان ك | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 20 في عالم الحرب [[مؤلف:|]] |
مطبوعات جديدة ← |
بتاريخ: 31 - 8 - 1914 |
كلمة تمهيدية
الآن تسخر الطبيعة من الإنسانية المهذبة وتهزأ، والآن تتقهقر مدينة العقل أمام وحشية الغريزة، هنا يتوارى قانون التضامن الإنساني إزاء قانون حفظ الذات، واليوم تختفي الصفحة البيضاء من تاريخ العقل الإنساني وحسناته، حيال الصفحة السوداء من ويلات مخترعاته ومبتكراته، واليوم تتجلى سيئات الكيمياء والميكانيكا وجرائم البخار والكهرباء.
كم من عقول كبيرة انصرفت عن خدمة الإنسانية العامة إلى خدمة السياسة وأفانين الحرب من يوم أن صنع شوارتز أول بارودة في التاريخ.
لقد كانت هذه البارودة الأولى هي أول أبواق السياسيين والحربيين، هي المزية الفذة التي يتسامون بها في الجمعية البشرية على الفلاسفة والكتاب والمفكرين، هي التت جعلت صوت المفكرون صوت السياسي، إذ كان الأول يستمد سلطانه من صرير قلمه، وكان الثاني يستمد صوته من صوت المدفع!.
لقد كانت هذه الحرب الرهيبة النتيجة المتوقعة من قانون التسليح، ذلك القانون الذي امتص أكبر قسط من ثروة الغرب، وعطل أكبر جزء من أذهانه، هو الذي جعل الأمم الغربية تبدد أذهان الملايين من أفرادها، لتربي فيهم على نفقتها حيوانية حفظ الذات، وتنمى فيهم الروح الحربية التي تريدها!.
جدت الرب فاستطار بلاؤها إلى كل بقاع العالم وأقطاره، واستحصد شرها في كل مدائنه وبلدانه، إذ كانت الرابطة الوحيدة التي تربط ممالك العالم وأممه هي التي التجارة. والنازلة التجارية التي تنزل بلندن أو برلين لا تلبث أن ترى آثارها في القاهرة وكلكتا.
وبعد فليس من وراء هذه النكبات الكبرى التي لحقت بالعالم الإنساني من هذه الحرب الخطيرة إلا كلمة واحدة لا تزال تضطرب في جوف المستقبل - هي أما أن يقضي على قانون التسليح وبذلك تتخلص الإنسانية آخر الدهر من كوارث الحرب وأما أن يحيا ثانية فيعود أشد مما كان همة ونشاطاًَ وهكذا كلما خطت الإنسانية بفضل فلاسفتها ومفكريها في طريق الكمال الاجتماعي خطوة واحدة عاد السياسيون والحربيون فتقهقروا بها خطوات.
مخاوف الكتَّاب ق كان كتَّاب الغرب من السلميين والاشتراكيين يرون الاستعدادات الحربية الهائلة التي تعدها الدول الأوروبية، والمنافسات المستمرة في جندياتها، والتحسينات العديدة في بحرياتها، والاختراعات السرية والجهرية في مراكبها الهوائية ومدافعها ومفرقعاتها - كانوا يرون كل هذا فترجف قلوبهم من الصدمة الهائلة التي ستصطدم بها أوروبا من جراء هذا التسليح الدائم، وكانوا يلمحون أشباح الحرب المخيفة ماثلة أمام أعينهم تنذرهم بالويل المقبل. ولذلك جعل كثيرون من أكابر كتَّاب الغرب ينصحون أوروبا بترك التسليح، والتخفيف من الاستعداد الحربي أو إلغائه جملة واحدة، والعيش في ظلال السلم وأفياء الوئام، ولكن أخفقوا هؤلاء جميعاً في إرشاد المغرب إلى الاتفاق يداً واحدة على إطراح التسليح، لأن هذه إرادة العسكريين من دعاة العظمة التوتونية وإرادتهم فوق كل شيء.
ومن بين الكتَّاب الأعلام الذين كانوا يتوقعون هذه الحرب الطاحنة الكاتب الإنجليزي المشهور مستر فردريك هارسون، فقد كتب في فاتحة العام الماضي مقالاً شائقاً في المجلة الإنكليزية - وهي من أرقى مجلات الإنكليز - عن ألمانيا نقتطف منها النبذة الآتية:
قال فردريك هارسون: كلنا يعلم أن السلم منذ سنين هو الحالة التي يجري عليها التقدم الألماني، سواء من الوجهة الحربية أم من الوجهة التجارية، ولاسيما في البحرية، وكلنا يعتبر ذلك قضية مسلماً بها لا جدل فيها ولا مراء فإن تسعين في المائة من الشعب الألماني يريد أن يعيش في ظل السلم ما ظلت المصالح الألمانية غير معرضة لسوء وكذلك تعمل الحكومة الألمانية على بقاء السلم في الحالة الحاضرة هذا والإمبراطور يدأب مخلصاً في إزالة مخاوف جيرانه ووساوسهم حتى تضطره الشدائد إلى الكلام على أن العشرة الباقية من مجموع الأمة هم الذين يدفعون بألمانيا إلى سبيل صعبة لا نتيجة لها إلا الحرب المحتمة.
ثم انتقل الكاتب إلى بحث الأسباب التي تجعل طمع الألمان في التوسع أمراً لازماً لا مرد لألمانيا عنه إلا الهزيمة، وإليك ما قال:
هذه مشكلة دولية قامت من عهد بسمارك أي منذ خمسين عاماً على التقريب - إن كل سياسة أوروبا الآن تدور حول الارتقاء العظيم الذي تخلقه ألمانيا في الحرب والصناعة والعلم - وحول انحصار ألمانيا بين سبع ممالك مختلفة - ونصيبها الضعيف من الشواطئ البحرية - وتكاثر عدد سكانها المطرد - وملاصقتها من كل الجهات يجيران معادين لها أو مرتابين في سلوكها - وفوق كل ذلك تطرفها في الزهو بنفسها ومغالاتها في طمعها وظمئها للتوسع في التملك.
إن أمة كبيرة كهذه تتألف من 65 مليوناً من النفوس، وتملك مثل هذه المصادر العظيمة في السلم وفي الحرب: وتشعر بمثل هذا الزهو المتطرف، وتحس من قوتها بهذا العجب المتعجرف، تجد نفسها محصورة في مضطرب. ضيق لا يتسع لارتقائها واطراد عدد سكانها، ولا يكفي لرغباتها وآمالها، في حدود ساعد على خلقها التاريخ والجغرافية والظروف، في حدود تحرسها مخاوف جاراتها التي دونها في البأس ولا تحرسها عداواتهم.
هذا هو البركان المتغلغل الثائر المصطخب الذي ترتكز عليه سياسة أوروبا.
وختم المستر هارسون نبوءته بالكلمة الآتية: إن أوروبا والمدنية في خطر واقع من حب التوسع الألماني - إن أمامنا أزمة هائلة، وإن الذين يعمون عنها أو يتعلمون سيتحملون جريرة نكبة من أفظع نكبات التاريخ.
وكذلك كل ما حذر.
الأسباب الحقيية للحرب الألمانية الأوروبية
كتب أحد كبار ساسة الإنجليز مقالاً هاماً في هذا الصدد آثرنا تعريبه لما حوى من دقة البحث وهدوء البحث وهدوء الاستنتاج وحصافة الرأي والتفكير، والغوص على الحقائق، إذ كان الكاتب من الذين قضوا السنين العديدة مجاوراً لوزارات الخارجية في جميع عواصم الغرب الكبرى، والمطلعين على خفايا السياسات ودقائقها: قال
إن الحجة الواهية التي تذرعت بها النمسا لإضرام نار هذه الحرب - وهي أن صربيا لم تصلح ما أفسدت بمقتل الأرشيدوق فرانسيس فرديناند وزوجته، لابد من أن تطرح جانباً إذا أردنا أن نبحث عن الأسباب الحقيقية الصادقة.
أي شأن كبير لصربيا، حتى تخاطر النمسا وألمانيا بكل شيء حتى بكيانهما للفتك بها؟ وما هي الفائدة الجلى التي تنتظرها روسيا من صربيا حتى يسارع القيصر إلى لم شعث جيشه واستدعاء جنده من أطراف قيصريته، ولم تكن أطلقت بعد بارودة واحدة؟.
تلك هي الأسباب التي يجب أن نسألها إذا أردنا أن نفهم العوامل التي ولدت هذه الحرب، وإليك الجواب عليها.
إن صربيا وإن كانت مملكة صغيرة إلا أنها مملكة ذات بأس ومنعة. وهي الحائل الذي بين النمسا وبين بلوغها بحر إيجه إذ كانت سلانيك وهي أكبر ثغور البحر الأبيض المتوسط تبعد بنحو ثلاثمائة ميل عن بلغراد عاصمة الصرب الواقعة على حدود الإمبراطورية النمسوية، ومن ذلك يتبين أن أية دولة عظيمة ذات مصالح في بحر إيجة أو في البلقان بجملته وفي آسيا الصغرى يجب أن تقبض بيدها على هذا الثغر وإن الطريق إليه يجب أن تكون موطأة ممهدة.
هناك دولتان عظيمتان وإن شئت فقل دولة عظيمة وأخرى تتألف من مجموع دولتين عظيمتين - كل منهما ذات مصالح عظيمة في آسيا الصغرى وبحر إيجة، أولاهما روسيا والأخرى ألمانيا والنمسا مجتمعتين، وقد ظلت هذه الدول عاجزة عن بلوغ أمنياتها من تركيا حتى عام 1908 تجاهر برغائبها ولا تقدم خطواتها، ومنذ خلع عبد الحميد بدأت خريطة البلقان تتغير وتتبدل، وطفقت الفتن والهزاهز تعمل أبداًَ على تغييرها.
ولقد كانت تركي من قبل الانقلاب الدستوري نهباً مقسماً بين الماليين الغربيين وجلهم من الألمان، وقد جعل الألمان يأخذون الامتياز اثر الامتياز ويظفرون بالاتفاق بعد الاتفاق وأهم هذه الامتيازات سكة حديد بغداد، يراد بها أن تجري من القسطنطينية إلى بغداد فثم إلى الخليج الفارسي فتداني الأملاك الإنكليزية في المحيط الهندي، وكان من وراء شركة هذه السكة الكبرى المصرف الألماني، وهو من أعظم بيوتات المال في الغرب أجمع، وقد أخذ على عاتقه أن يسعف المشروعات الألمانية فيما وراء البحار كل جهده.
الأسباب المالية
كان مؤسس هذا المصرف الكبير جورج فون سيمنس وهو الذي ظفر بعقد الاتفاق على مد سكة حديد بغداد، ومديره الحالي هو أرثر فون جوينر هو الذي وكل إليه إتمام هذا المشروع، وقد أتوا حتى الآن على تشييد نصف الطريق أو كادوا، وقد أنفق إلى الآن عليه من الأموال الألمانية بين ستة عشر مليوناً وثمانية عشر من الجنيهات.
ليتدبر هذه المسألة أولئك الذين يتوهمون أن ألمانيا والنمسا اندفعا إلى الحرب يسوقهما الثأر لدم الأرشيدوق؟ إن المصرف الألماني يملك كل سكك حديد برلين وكل مستخرجات الزيت في رومانيا، ويدير شركة الاستصباح الكهربائي الألمانية في بلاد الأرجنتين وشيلي وأراجواي، وقد شرع فون جوينر منذ أشهر في اتخاذ التدابير لاحتكار الواردات من البترول لألمانيا حتى يقضي بذلك على جزء من ثروة الشركة الإنجليزية التي كانت تقوم بتوريده، وتقدر جملة الودائع في المصرف الألماني بنحو 85 مليوناً عدا الفوائد الذي يجتنيها من مصادر أخر.
وهرفون جوينر هذا من أصدق بطانة الإمبراطور وأكرمهم عنده وأعظمهم في أهل مشورته، يقول الكلمة فتصبح قانوناً نافذاً في كل المسائل المالية التي تتعلق بالحركة الاقتصادية في ألمانيا ولو قال مثلاً للإمبراطور أن سكة حديدية يجب أن تجري إلى بحر إيجة تحت رقابة الحكومة الألمانية النمسوية من أجل سلامة المصالح الألمانية في آسيا الصغرى، لاندفعت حكومتا ألمانيا والنمسا (ومركزهما معاً في برلين) إلى اقتحام كل عقبة تقوم في سبيل هذا الرأي وإزالة كل حائل دون هذه السكة التيوتونية.
وإني لأقول عن معرفة شخصية أن أرثر فون جوينر قد قال هذه الكلمة فأمن عليها الآخرون.
ويجب أن لا ننسى أن لألمانيا في آسيا الصغرى غير السكة الحديدية مصالح أخرى وإني أقدم للقراء خلاصة شروط الاتفاق الذي عقد في مارس سنة 1911 بين الشركة والحكومة العثمانية، ولم يكن نشر قط حتى الآن.
تتكفل الشركة بحفر الفرضات وإيجاد المعدات اللازمة لرسو السفن في الأفاريز وشحن البضائع وإنزالها. . . ويجوز للشركة كذلك أن تجري سفنها في الدجلة والفرات وللشركة أن تنتفع بما تعثر به من مناجم الفحم أو النحاس أو غيرهما على شريطة أن لا يعدو عن بقعة من الأرض قطرها عشرون كيلو متراً حول الخط الحديدي، ولها كذلك أن تتخذ ما يحسن لديها من قطع الأشجار من الغابات المجاورة، ويباح للشركة (على شريطة أن تدفع إلى الحكومة العثمانية 25 في المائة من أرباحها) أن تشيد في الأراضي المباحة لها مخازن للسكة الحديدة ومصانع لتشغيل العمال، وأن تبني مخازن لادخار القوة وسيكون لها الحق في احتكار الآجر والبرانج التي تبنيها في الأرض المباحة لها، وأن تشيد مصارف وجداول وتصل بين بحيرتي بيشيتير وقرافيرون وبين سهول قونية وقرمان. .
وكانت حكومة ألمانيا قد بعثت سنة 1903 جماعة من مهرة المهندسين لاستجلاء الأراضي التي ستمتد فوقها السكة الحديدية وعند عودتهم أرسلت اثنين منهم إلى الولايات المتحدة وكندا للإطلاع على الطرق الاستعمارية التي تتبعها هناك شركات الخطوط الحديدية.
يتبين لك من ذلك أن سكة حديد بغداد والمشروعات الكبيرة الملحقة بها لإيراد بها القضبان الحديدية ليس غير، بل هي تتضمن القضبان والقاطرات والقناطر والمعابر والقوارب البخارية النهرية والآلات البخارية العديدة الأشكال والآلات الكهربائية المختلفة الألوان وكل هذه تجلب من برلين وفي مقابلها سينتفع الألمان بمناجم النحاس والفحم، وشاسع الغاب ومترامي الأجم وبترقية التجارة في تلك البلاد الواسعة.
العوامل الصناعية
لا يكون من خيبة مشروع سكة حديد بغداد إلا ارتباط التجارة الألمانية كلها، ولسنا نعني بخيبتها إلا معاكسة روسيا لها وقد تجلى ذلك في العام الماضي ولذلك اختطت الخطط لزيادة 000ر300 جندي على الجيش، حتى تكون قوة هذه الإدارة الحربية الهائلة ثمانمائة ألف في السلم فكلف ألمانيا ذلك خمسين مليوناً من الجنيهات، ولكن كان إنفاقها أمراً محتماً، لأن المصالح تطلب ذلك وحسب، ولما أظهرت روسيا انتباهها هذا الاتفاق، عدت إنجلترا عدوة لها، فكان من ذلك أن أصبحت ألمانيا ولأسطولها المكان الثاني في العالم.
ولننتقل إلى العوامل الصناعية، من ذا الذي سمع باسم أوغست ثيسن؟ هو المعروف في أرضه بكارنجي الألماني أو الملك ثيسن، له في مناجم الفحم والحديد الخام ثلاثمائة وعشرين في المائة مما كان قبل وازداد منتوجها من الفحم ضعفه، وليس من وراء هذه المقادير العظيمة إلا أوغست ثيسن هذا. إذ يملك في ألمانيا مناجم الفحم والطواحين والمين والأفاريز، وفي فرنسا عدة من مناجم الحديد، وفي روسيا المصانع العديدة، وله فروع في كل مملكة من البرازيل إلى الأرجنتين إلى الهند، أنشأ النقابة أثر النقابة، وبذل من جهده ما لم يبذله ألماني غيره في استعمال طريقة الاحتكار الأميركية، والتوسع الألماني في آسيا الصغرى هو كل أمنيته، وقد صرح ثيسن بأن المصالح الألمانية في آسيا الصغرى يجب أن تكون آمنة من كل سوء مهما يتكبدون من ذلك ما يتكبدون.
ومن روءا ثيسن عصبة كبرى من الماليين الألمان، هاك مثلاً أميل فون راتينو مؤسس شركة الكهرباء العمومية وصاحبها، وهي تقوم بمائتي مليون من الجنيهات، وراتينو وئيسن وجوينر هم في الصف الأول من ملاك الألمان ويدب أن نضيف إليهم رابعاً هو الفرد بالن صاحب شركة همبرج أمريكا الملاحية، وهناك غيرهم من سادة المال يعدلون هؤلاء في القوة والسلطان وإن ليس في الاسم والشهرة، وهم وإن كانوا لا يعرفون في بلاط برلين، لأنهم ليسوا بعد إلا تجاراً وليسوا من الأشراف، إلا أنهم المتسيطرون على الإمبراطورية الألمانية وهذه ولا ريب المتيسطرة على حكومة فينا.
وفي سنة 1910 عادت روسيا إلى المناقشة في أمر آسيا الصغرى، فكان ذلك داعياً إلى تلك المقابلة التي دارت بين القيصر والإمبراطور وظهر أن روسيا مقتنعة بتأكيدات حكومة ألمانيا لها من أنه مصالح تجارها في آسيا الصغرى محترمة، ولكن لم يكن كل منهما في قلبه راضياً عن سير الآخر وكل من له علاقة بخارجيتي برلين وبطرسبرج كان يرى أن الحرب لاشك واقعة بين الدولتين أن عاجلاً وإن آجلاً، إذ أصبحت تلك الأراضي الزراعية ميدان مصالح صناعية مختلفة للروس لفتت إليها أنظار الحكومة الروسية فشرعت تحمي هذه المصالح، وانتهت الفتن التي أثارتها دويلات البلقان بإعلان الحرب في خريف 1912 وضاعت في أثرها البقية الباقية لتركيا في أوروبا، وكانت روسيا ولاشك هيب المثيرة لهذه الفتن.
وكانت ألمانيا مزمعة الحرب في العام الآتي ولكن جاءت حادثة الأرشيدوق فعجلت بنشوبها.
هذه كلمة مجملة عن الأسباب الصناعية والمالية التي جعلت ألمانيا تقذف بنفسها في مضطرب هذه الحرب ورهجها، ولا ريب في أن هذه العوامل ليست كل شيء في أسرار هذه الحرب الكبرى وإنما نظر الكاتب إليها من جهة واحدة لا تقل عن الوجوه الأخرى من جنسية وسياسية وفلسفية وتاريخية وجغرافية.
(وبعد) فمن أراد التوسع في معرفة أسرار هذه الحرب وخافياتها فليقرأ ما سنكتبه عن تاريخ الحرب في صحيفتنا الأسبوعية عالم الحرب التي ستصدر بعد بضعة أيام حافلة بأبدع ما يحفظ عن الحرب من الشذرات اللذيذة والطرف والمعلومات الغريبة والأسرار الدقيقة والمذكرات الخصوصية والروايات الخطيرة والصور المختلفة من وقائع وخرائط مدائن واختراعات وصور أعاظم الرجال الذين يشتركون في هذه الحرب، وأما عن تاريخ الحرب فسنفرد له قسماً من الصحيفة كبيراً سيكون كتاباً جامعاً يتناول حركة المدنية الأوروبية في نصف القرن الأخير من أدب وفلسفة وتربية وسياسة وتسليح واختراع فنلفت إليه الأنظار.
راجات الهنود
يقاتل الآن سبعون ألفاً من زهرة جيوش الهند وأبسل شجعانهم جنباً لجنب مع الإنكليز وعلى رأسهم ستة من عظماء المهراجات يمشي في مقدمتهم السير برتاب سنج مهراجا جودبور، وقد كان تطوع هذا الشيخ خليقاً بالفخر والإعجاب فقد أبى إلا أن يمشي في رفقة الجيش ويركب الأوقاينوس ويمتشق السيف ويلبس لباس الجندي وإن كان شيخاً مسناً قد جاز السبعين أو كاد وقد اصطحب حفيده وهو فتى لم يفت بعد حدود السادسة عشر، والسر برتاب من أشهر حكام الهند وأوسعهم ذكراً وأعرضهم جاهاً كان صديقاً حميماً للملكة فيكتوريا كريما عليها يكاتبها الحين بعد الحين ويبدي لها سديد آرائه في مهام الإمبراطورية الهندية وشؤونها.
وقد اكتتب مهراجا ولاية برودا بجنوده وكنوزه وأمواله، وهو من أقوى أمراء الهند وأوسعهم ثراء. حارب أجداده الإنكليز في الثورة الهندية وهو يفخر بأنه اليوم ينصرهم، يحكم ولاية أكبر من مقاطعة غال ويقدر دخله الخاص بما يربو على مليونين في العام.
ومن مشهوري المهراجات مهراجا ميسور اكتتب للحرب بخمسة ملايين روبية أي بنحو من 000ر330 من الجنيهات لتنفق في سبيل البعثة الهندية. وتحتوي ولايته ستة ملايين من الهندوس ومنهم تخرج زهرة الجيش الهندي وصفوته.
وقد اقترح مهراجا جواليور وكذلك أميرة بهوبال إنشاء مستشفي بحري لإسعاف الجرحى وتكفل بجزء كبير من نفقاته. ولم تكتف حميته بذلك، بل تكفل بالمقادير الكبيرة من المال لمساعدة الحكومة الإنكليزية وبتقديم الخيول للجيش. وقديماً أظهر هذا الأمير الدلائل الكثيرة على كرمه وولائه وسماحتهن فهو الذي دفع إلى الملك جورج في حفلة التتويج ثمانية آلاف من الجنيهات لتصرف في سبل الخير تخليداً لذكرى ذلك اليوم، وهو الذي رافق الجيش الإنكليزي إلى الصين منذ إحدى عشرة سنة وأنشأ يومذاك مستشفى بحرياً لتضميد الجرحى وإبراء المرضى وهو من أشد حكام الهند نشاطاً وإطلاعاً وعلماً.
وعلى ذكر أميرة بهوبال نقول إنها التي زارت إنجلترا منذ عامين أو أكثر وقابلت الملك جورج والملكة ماري زوجته، وهي تحكم ولاية تبلغ مساحتها سبعة آلاف ميل مربع يسكنها مليون من النفوس ويعدها الإنكليز من أكمل النساء خلقاً وأرجحهن لباً ولها مكانة سامية في قلوب رعيتها.
ومن عظماء الأمراء كذلك مهراجا كشمير وقد رأس منذ أيام حفلاً حافلاً لا يقل عن عشرين ألفاً في مدينة سرنجار عاصمة ملكه فخطبهم خطبة بليغة مؤثرة انتهت باكتتابهم بآلاف من الجنيهات، وولاية كشمير من أكبر ولايات الهند وأحسنها حالاً وأكبرها صناعة وتجارة.
ولا ننسى كذلك مهراجا باتيالا وهو من المتطوعين للحرب، ولولاية باتيالا أثر من الإخلاص للإنكليز لا تمحوه الأيام. ذلك أنه في سنة 1877 لما انقضت الهند كلها على الإنكليز وثارت عليهم جنود السلك لم يكن من أمير تلك الولاية إلا أن امتطى صهوة جواده فركب إلى معسكر الإنكليز ووضع في ذمتهم لأجندة وحدهم ورجاله بل نزل كذلك عن كنوزه وأمواله.
وتختلف جيوش هؤلاء الراجات في البسالة والقوة والبأس. ولكن أكثرها يضم بين صفوفه أمهر الخيالة في العالم كله ويبلغ عدد هذه الإمارات سبعمائة إمارة تبتدئ في كثرة السكان بحيدر أباد إذ تحتوي ثلاثة عشر مليوناً من النفوس وتنتهي بإمارات صغيرة لا تزيد عن بضعة قرى حقيرة.
وتتألف البعثة الهندية في هذه الحرب من جنود الجركا وهم قوم شجعان بواسل، لا يصلحون لشيء غير الجندية والقتال، وهم من الجبليين سكان سفح الهملايا - وقد وصفهم ولي عهد ألمانيا يوماً بأنهم أبسل الجنود التي في حوزة بريطانيا يشبهون اليابانيين في ملامحهم وقصر قاماتهم.
مجاعة الباريسيين في الحرب السبعينية
كان الباريسيون المترفون يأكلون الفيران والقطط والكلاب - أنهيالهم على أكل لحوم الحيوانات المفترسة مثل الذئاب والحمر والوحشية والفيلة - غلاء الأسعار - ربح الجزارين.
في حصار باريس الذي انتهت على أثره الحرب السبعينية اشتدت المجاعة بالباريسين المترفين وبلغت منهم شرة الجوع وقرم اللحم مبلغاً عظيماً حتى لم يبقوا ولم يذروا حيواناً مستأنساً ولا طيراً أليفاً إلا انهالوا على أكله بشره لا حد له - فأنشئت المذابح للكلاب والمجازر للقطط والفيران ومن لحوم الفيران كانوا يصنعون الفطائر، ولم يكن النوع السائد من هذه الجرذان إلا فيران المراحيض وكانت نهاية في السمن والضخامة وكانوا يقبلون عليها الإقبال كله ويقدرونها تقديراً كبيراً وإن كان بعض الباريسيين من المتغالين في الرقة والتأنق والظرف يتأففون من رائحتها الكريهة وكانوا يلتذون من لحم القطط المسلوق فلم تمض أيام حتى انتقلت كل قطة في باريز من الأسطحة إلى المقلاة.
وكانت الأسعار فاحشة. كان يتراوح ثمن الفأر بين خمسة غروش مصرية وعشرة والقطة السمينة البدينة الصغيرة تشرى بستين غرشاً مصرياً والكلب المصغر السمين يتراوح بين خمسين غرشاً ومائة وخمسين غرشاً تبعاً لحجمه وجودة نوعه.
وبلغت الحاجة إلى اللحم أشدها حتى أصبحوا يشترون إجراء الذئاب من حديقة الحيوانات التي في المدينة فكان يباع الرطل من لحمها بخمسين غرشاً ثم عمدوا بعد ذلك إلى أكل أكثر الحيوانات التي في الحديقة فكان أصحاب المطاعم يقدمون في قوائم أطعمتهم - في باب اللحوم - لحوم الإبل والياك وحمار الوحش والفيلة.
وكان في الحديقة فيلان عظيمان اشتراهما رجل إنكليزي - وكان جزاراً مشهوراً - دفع فيهما ألفاً وثمانين جنيهاً وجعل يبيع الرطل من لحمهما من جنيه إلى جنيه ونصف وكان يبيع القطع من خرطوميهما وسوقهما بأفحش الأثمان.
وعرض كذلك للبيع وعلان من الأوعال الهندية كانا في الحديقة فاشتراهما بأربعين جنيهاً وزوجان من غزلان أميركا الشمالية دفع فيهما مائة جنيه وغير ذلك من الحمر الوحشية والجواميس والدببة والذئاب فكان يدفع في شرائها المبالغ الباهظة ويربح في بيعها الأرباح الطائلة.
ومن أكبر صفقاته حمل صغير يزن نحواً من خمسة وعشرين رطلاً غنمه جندي فرنسي من الألمان فاشتراه بعشرين جنيهاً ولم يلبث أن باعه بأضعاف ذلك.
مذكرات سرية عن الإمبراطور غليوم وصيفة من وصائف الشرف لبثت زهاء عشرة أعوام في بلاط برلين، تحدث العالم عما رأته من غرائب أخلاق غليوم وشواذ نوادره، وأسرار حياته، وبدائع جنونه وعجائب أموره - وهي حقائق ثابتة لا يشوبها شائبة من الكذب أو التلفيق أو الاختلاق، ولا يمازجها أثر من التخيل أو الزيادة أو التوسع أو الأطناب.
والكاتبة الوصيفة من الكونتسات، أعني من السيدات النبيلات - تقول في مقدمها ليس لي مأرب شخصي من هذه المذكرات ولا أسباب عندي في وصف ما رأيت من العيشة البلاطية وشهدت، فإذا كانت قد احتوت جملة من الغرائب واشتملت طائفة من المضحكات، وهدمت كثيراً من الآراء الثابتة عند القراء، وكشفت عن أسرار عجيبة هي على النقيض مما أصبح تاريخاً مقرراً مشهوراً، إذن فليذكر القارئ أن الحقيقة قد تكون أغرب من الخيال وإن التاريخ ليس إلا كذبة مزخرفة - ولست ذاكرة إلا الحوادث التي وقعت تحت عياني، أو التي استقيت من شهود ثقاة، وأما الحوادث التي وقعت قبل تتويج الإمبراطور فسأضطر إلى نقلها من أحاديث أهل البلاط ورواياتهم.
مولد الإمبراطور - ضعفه الشديد عند ولادته - الإمبراطور أعرج أكتع أصم - وكيف يخفى عن الناس هذه العيوب ـ.
هل هو طفل جميل؟.
فتكوريا
في الخامس عشر من شهر يونيه سنة 1888 عند الظهيرة، ولم تكد تمضي ساعة واحدة على وفاة الإمبراطور فردريك بدأ الملك الجديد يبحث في أوراق أبيه وأدراج مكتبته ولم يكن معه إلا رجل واحد هو فون نورمان، رئيس الحرس الإمبراطوري فلم يلبث أن أخرج من بين الأوراق الرسالة المتقدمة الذكر.
فلما كانت جنازة الإمبراطور الراحل سألت نورمان وماذا قال جلالته عندما اكتشف رسالة فيكتوريا؟.
أجاب. لم ينبس ببنت شفة. ولكنه أصفر قليلاً وقد أمسك بيده اليسرى مقبض سيفه وقد بدا عليه الاضطراب.
وكانت رسالة الملكة فيكتوريا مؤرخة (28 يونيه سنة 1859) أي بعد أن خرج إلى نور العالم أكبر أبناء الإمبراطور فردريك غليوم وزوجته بأربع وعشرين ساعة فقط.
ولد غليوم كما يولد أولاد أهل البسطة في الثراء لا كأولاد الملوك والأمراء، وروعيت في وضعه وجوه التوفير وأساليب الاقتصاد، تلقته قابلة واحدة وطبيب واحد من أطباء القصر بإشراف الأخصائي المشهور في ذلك العهد، المرحوم الدكتور مارتن وكان واقفاً كعادته مقطباً عابساً لأنه يجب أن تعلم أن الطبيب في ألمانيا يرى نفسه أرفع من أن يتلقى الوليد ساعة الولادة. ولا يأتي أبداً إلا في الأحوال الشديدة الخطر.
وكانت القابلة التي تولدت الأميرة فردريك غليوم هي مدام ستاهل وقد أصبحت اليوم عجوزاً ولكنها لا تزال تزور القصر إلى الآن ولذلك كنت أنتهز الفرص فأسألها عن أهم الحوادث في حياتها.
قالت (ما كادت الإمبراطورة تضع وليدها حتى جعلت تئن أنيناً مخيفاً وجعل الطبيبان يتهامسان وهما يفحصان جسمها الملقى على السرير مبهوتين (إن الإمبراطورة ستموت، إنها ستضحي التضحية الكبرى من أجل ولدها) وكنت ولا شك مضطرة إلى ترك الطفل هنيهة لكي أعينهما في فحصها، فلما أفاقت الإمبراطورة بعد قليل عدت فجثوت إزاء مهد الوريث ولكن لشد ما كان رعبي، رأيته ولم يفه بصرخة واحدة، ولا حرك يداً ولا رجلاً فجعلت أقول في نفسي (يا الله! أمولود صامت؟) ثم أشرت إلى الطبيب فجاء إلى وجعلنا نفحص المولود الجديد ولا أعلم كم لبثنا وطفقنا نستعين بكل ما في كتب الطب والولادة من الوسائل لإعادة الطفل إلى الحياة.
(ثم استرسلت القابلة تقول) فلما فرقنا من عمل قصارى جهدنا أخذت الصغير تحت ذراعي اليسرى وتناولت منشفة فبللتها. بالماء وطفقت أدلكه بها وأمرس بدنه في رفق وهدوء، غير حافلة بتألم الطبيبين من عملي هذا ولا آبهة لرعب من حولي، قلت في نفسي في سبيل الشيطان كل ما يطلبون من رسوم وتقاليد وآداب، هذه مسألة حياة أو موت وكذلك انطلقت في تدليكي آونة بيد ناعمة وأخرى بيد ضاغطة، حتى إذا كادت المدافع المعلنة مولد الطفل تفرغ من نصف المائة مدفع ومدفع - وإذا بصوت خافت ضعيف صدر من بين شفتى الطفل الصفراوين.
(لقد عادت إليه الحياة! وكذلك أنقذته من الرمس المقدر له) فسألتها (ولكن ماذا تعلمين عن يده وذراعه المشوهتين؟).
فأجابت ستاهل (لم نهتد إلى ذلك إلا في اليوم الثالث أو الرابع من ولادته فقد قلت الآن إننا كنا بادئ بدء في شغل برد الحياة إلى الأمير عن كل شيء، ولذلك لم يفكر أحد منا في فحص أطرافه وأجزاء جسمه حتى أن الأمير في اليوم التالي لما قدم طفله إلى ذوي قرباه وأصحابه وأصدقائه وأهل الأسرة المجتمعين في القصر، لم يلحظ أحد منهم أن بالطفل سوءاً ولكنا تبينا في اليوم الثالث أن الطفل لا يستطيع تحريك ذراعه اليسرى فعرض على الجراحين فاهتدوا بعد فحصه إلى أن مفصل المرفق كان ناتئاً عن موضعه، وأنت تعلمين أن ليس ذلك بالأمر الخطير في الطفل القوي المنتعش ولكن حالة الأمير غليوم كانت غير ذلك فإن الجزء الناعم حول المرفق كان مجروحاً جرحاً بليغاً وكانت العضلات ناتئة بارزة حتى لم يجرأ أحد محاولة جبر هذا العضو الناتئ كما هو المعتاد في مثل هذه الأحوال).
وكانت كثيراً ما تعيد على مدام ستاهل هذا القول وكانت تختم حديثها دائماً بهذه العبارات (ولقد كان رأيي أبداً أن ساعد الطفل لم يخرج صحيحاً من يد الطبيعة وكذلك كان جانبه الأيسر ضعيفاً، ولا يزال إلى اليوم على ضعفه. وفوق ذلك فكل من في القصر يعلم أنه وإن كان جلالته يمشي اليوم مشية النشاط والقوة، ويخطر خطرة ذي الشطاط والفتوة، فإنه يستعين على ذلك بيقظته واجتهاده وحيلته وانتباهه، ولو اتفق أن نسي جلالته التفكير في أمره إذن لرأيته يجر ساقه جراً، وكل آلامه وأوجاعه تجتمع في شقته اليسرى، ولو كان الأمير ولد قوياً تام الصحة منتعش البدن لقد كنا لا نلبث أن نهتدي إلى مرفقه وإذ ذاك لما كان يحول يومذاك حائل دون جبره.
ولكن قضت الظروف أن يكون جوابهم على رسالة الملكة فيكتوريا بالإيجاب وقد سمعت الإمبراطور يوماً والإمبراطورة ينتقصان من قدر الدكتور هنزبتر وينقدانه النقد الشديد لقوله في كتابه إن الجيش البروسياني لم يقبل يوماً فتى ضعيف الجثمان لا يليق بأن يصير فارساً معلماً جريئاً مثل غليوم وكان ذلك عقب ظهور كتاب هنزبتر الإمبراطور غليوم الثاني صورة من حياته في عام 1888 فبعد أن حذر الإمبراطور زوجته من وقوع الكتاب في أيدي أولاده استرسل يقول إن فلاسفتنا الألمان لا يعرفون لهم حدوداً سواء عليهم أجاءوا بالحقائق أم بالأكاذيب لا تخلو كتبهم من التشهير بأصدقائهم وهم لا يشعرون.
ولكن يخفى الإمبراطور ذراعه الشوهاء تراه يدنيها من جسمه ويضع يده اليسرى فوق خصره أو على فخذه إن كان فوق جواده، وليست يسراه في القبح كذراعه، وإنما نهاية في اصغر أشبه بأيدي الأطفال ومن كان يتتبع الصحف الألمانية لا بد ذاكر أن الصحف الرسمية اعتادت أن تنشر بين حين وآخر مقالات عدة تريد بها أن تمتحن رأي الجمهور في إدخال الأنطقة على ملابس ضباط الجيش لأن الأنطقة ليست معروفة عند الألمان ولا تلائم الزي العام فكما أن الإمبراطورة أوجيني أعادت عهد العظامة لتخفي نحافتها وتستر نحولها فكذلك يريد غليوم أن يغير اللباس الحربي ليجد ليده وذراعه مكمناً سهلاً ومخبأً مريحاً لأن ذراعه اليسرى أقصر من اليمنى بنصف قدم ولكن وا أسفاه. إن سواد الضباط لا يرون في هذه الاقتراحات إلا نوعاً من المتاجرة لا يريد بها أصحابها إلا الريح العظيم ولذلك لا ينون يسخرون من هذه الاقتراحات ويتضاحكون، هذا وغليوم لا يستطيع أن يصرح بالسبب الحقيقي للاختراع، ويضطر إلى البقاء على مضه وألمه.
والإمبراطور يستطيع أن يحرك أصابع يده الموجعة لأنه وإن كان طرف المرفق ناتئاً عن موضعه من المفصل الذي يربط الساعد بالكتف فليس العضو بجملته مفلوجاً باطل الحركة ولذلك لا مجال للريب في قول فون نورمان رئيس حرسه إن الإمبراطور قبض بيده اليسرى على سيفه فقد كثر ما رأيتها يفعل ذلك إذا وجد أو غضب، ولكنه إذا أمسك بها شيئاً فلا يستطيع يد الدهر أن يرفعها ولو قليلاً، تراه مثلاً يأخذ بها أعنة جواده ولكنه إذا أراد أن يثنيها أو يحتث مطيته لم يستطع ذلك إلا بيمناه وركبتيه.
وترى وصفاء الإمبراطور وهم أربعة يقومون بإلباسه وتنضيته وتجميل بزته، يشكون مر الشكاة من عاهة سيدهم، وقد سمعت أحدهم وكان يفيض لفولت وصيف الإمبراطورة بمكنون ألمه، يقول ما كنا لنبرم بعملنا أو نسخط أبداً لو غير الإمبراطور ثوبه عشر مرات في اليوم بدلاً من ثلاث أو أربع، وإنما الخوف من إيلام ذراعه هو الذي يرهقنا ويجعلنا في ضيق من أمرنا، ونحن كذلك مضطرون إلى أن نكون على أتم الأهبة للاحتياط لتألم الأمير إذا ارتكز على ساقه اليسرى وهو متعجل في لبس سراويلات جديدة، فلو أنهم أدخلوا على لباس الراجلة والفرسان والمدفعية بل والبحرية بنطلوناً رسمياً واحداً لا يتغير، إذن لأراحونا من نصف همومنا ومتاعبنا، أما هذا التغير المستمر في أزياء الإمبراطور فقاتلنا وزاهق أراواحنا وأني لأخاف أن يفضي يوماً إلى حادثة مؤلمة.
وأما يمناه فكبيرة الحجم قبيحة المنظر بل لشد ما تروح قبيحة شوها، إذا شديد صديق أو حميم، وقبل أن أقدم إلى جلالته حذرني رئيس البلاط من قبضته القوية المؤلمة على أني وإن كنت اجتهدت أن أخفي ألمي وهو يشد بيده يدي فقد أوشكت ساعتها أن أصرخ. وترى الإمبراطور يحاول أيخفي عيب يمناه وقبحها ودمامتها بلبس عدة من الخواتيم والجعرانات ولكنها لا تزداد بالماسات والعقائق إلا قبحاً وخشونة وعيباً.
وأول ما ذكرت إذن الإمبراطورة ومرضها، على ما أتذكر، كان أثر وفاة هنري الحادي عشر ابن عمة الإمبراطورة إذ كانت وفاته بالحمى الحصبا. وقد قالت الإمبراطورة يومذاك يجب أن لا يعلم الإمبراطور بسبب الوفاة، لأن ذكر الحصباء أبداً يزعجه قلت (كيف، أولم يصب جلالته من قبل بها؟) فأجابت صاحبة الجلالة بعد تردد قليل (نعم ولا ريب، وبأشد أنواعها خطراً، كيف تعيشين هنا هذه السنين ولا تعلمين بخبرها؟) ولما رأيت أن الإمبراطورة لا تريد أن تسترسل في الشرح أرجأت فضولي إلى فرصة أخرى حتى التقيت بالكونت سكندروف وكان حاجب الإمبراطورة والدة غليوم كريماً عليها مقرباً منها عليماً بأسرار البلاط. قال (لما أصيبت جلالته وهو فتى بالحصباء أصرت والدته الإمبراطورة على معالجته بطريقة شائعة في بعض أنحاء إنجلترا، فكانوا يعرضون المحموم للاستحمام بالماء المثلج عدة مرات في اليوم، وكانوا يغيرون ملابسه وفراشه كل يوم، فحدث من ذلك أن أصيب الأمير ببرج حاد شديد في أذنه اليسرى، ومنذ ذلك اليوم وهذه العلة تؤلمه وتهيج أعصابه شاباً وكهلاً ورجلاً).
اقرأ في العدد الآتي (خوف الإمبراطور من العدوى - حكايات عن ذلك - وصف