مجلة البيان للبرقوقي/العدد 20/الفوضوية والفوضويون
→ شذرات من فلسفة نيتشه | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 20 الفوضوية والفوضويون [[مؤلف:|]] |
جرجي زيدان ك ← |
بتاريخ: 31 - 8 - 1914 |
لعل أشد أنواع الجنون الشباب، إذ كان يغتذي من حرارته، ويستمد غلواءه من غلوائه، ويأخذ ضرامه من مضطرم عواطفه، ولا تجد شباباً خلواً من رائحة الجنون، إذ كان الشباب شعبة منه، وإنما على قدر حرارة النفس، وتسلط الآراء المجنونة على الذهن، يكون مقدار الحزن من الشدة والهول، وأنت لا ترى الشباب إلا أسرع تأثراً من الكهول، وأقل نظراً، وأخف أحلاماً من الرجال والشيوخ، لأن الجنون لا يعرف التردد، ولا يريد التفكير، ولا يعبأ بالنتائج، لأنه يخشى أن يكون في التردد ذهابه، وفي التفكير تلاشيه، إذ كان التردد من خصائص العقلاء، وليس من شأن المجانين، وإذا ما رأيت الجنون يتردد هنيهة واحدة، فاعلم أنه قد بدأ يدخل في حدود العقل.
وإذا كان ذلك كذلك، فلا تعجب أن تسمع أن جميع المجرمين السياسيين إلى هذا اليوم لم يكونوا إلا شباباً وفتياناً، تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين، وفيهم صبية إنشاء لم يفوتوا بعد التاسعة عشر، لأن تعاليم الفوضى لا تتفق مع العقل، وإنما تمشي مع الجنون، ولا تستعين ببرودة الشيخوخة، وإنما تريد حرارة الشبيبة، وأشد مخاوفها الأحجام، وأشد معطلاتها التروي. فهي لذلك تخشى العقلاء ولا تطمئن للرزانة، ولا تسكن للمجادلة والمحاجة، يجب أن يكون خدامها عمياً حتى لا يبصروا، ومجانين حتى لا يحجموا، ويائسين حتى لا يخافوا ولا يفرقوا، فهي لذلك لا تقع إلا على حيواني كره الإنسانية، فأراد أن يطعنها في رؤوسها وتيجانها، ويضع من صوالجها وعروشها، أو خامل يريد بقتل العظماء نباهة الذكر، أو مغمور يرجو بزكى الدماء رفعة القدر، أو مفلوك يطلب بالاشتراكية الإجبارية الغنى بعد الفقر، أو معتوه ممرور يريد ما يراد منه، وكذلك تضم إليها زعانف الإنسانية ونفاياتها، وتجمع إليها أدنياءها ورذالاتها، وبذلك تعوض عليها بالكمية ما تفقده من المزية.
حسبك من خطر هذا الجنون، ما وقع في خلال الشهر المنصرم، فطار نبأه بين المشرق والمغرب، ورددت صداه أنحاء العالم، خطبان جللان، أحدثهما غلامان مفتونان، يسند أولهما إلى التاسعة عشر، وجاز الثاني الحول العشرين - ونعني بهما قاتل الأرشيدوق فرانسوا فرديناند ولي عهد النمسا في البوسنة، والمعتدى على سمو أميرنا المفدى، ومليكنا المحبوب، في الآستانة.
كان من فعلة الأول أن ولدت حرباً عواناً طاحنة، تتضارب فيها دنيات العالم الحديث وحضاراته، وتتنازع البقاء دولة وأماراته، وأخرجت من بين أثناء الإنسانية المهذبة، حيوانية الإنسانية الأولى، بعد ان كانت مختفية وراء أستار العلوم، وحجب المدينة، وأغشية الفلسفة، وأطباق التربية، فرجعت تحمل كما كانت في الأعصر الحجرية، آلات التدمير والتخريب، وأسلحة النسف والحصد، وبذلك آثرت على حسنات العلم سيئاته. وقذفت أحكام فلاسفتها ومفكريها، وتعاليم سلمييها واشتراكييها، ثم عمدت إلى خرائطها ومصوراتها، تعدو على حدودها المقررة، وترفع تخومها الموضوعة، ونزعت عنها تلك الأثواب الجميلة التي خلعها عليها الفلاسفة والمفكرون، لتشتمل في تلك الأثواب العسكرية التي حاكمها السياسيون والحربيون.
وما كان من تلك الجريمة الأخرى التي اندفع إليها ذلك الشاب المجنون المرور إلا أن كدر صفاء أمة هادئة وأساء إلى شعب وديع، لا يستمد حياته إلا من حياة أميره، ولا ينال نشاطه وتطوره إلا من حسن ملكة مليكه، ولا ينهض إلا برعاية سموه وجميل عطفه وعنايته، وكأن ذلك المفتون، إذ صوب مسدسه إلى الأمير، ما صوبه إلا إلى أمته، وما أراد من غيلته إلا اغتيال رعيته، وهل كانت حياة الأمير إلا عماد هذه الأمة وقوامها، وهل كان في سلامته إلا سلامتها وسلامها، وكذلك أبى القدر أن يقضي على شعب من لوثة فرد، فرد تلك الرصاصات الخائنة طائشة، وجعل جراح الأمير المفدى غير بالغة، وأنقذ الأمة المصرية من نكبة قاتلة، يعلم الله ما تكون عقباها، وما يكون من مآلها، وقد عجل الله لأميرنا الشفاء، وأتم عليه العافية، وحفظ حياته لحياة الرعية، ينهض بها أعلى أونج العلم والرقي.
تلك آثار المجانين بمبادئ الفوضوية، وهذه سيئات إصلاحهم المزعوم، فقد وهموا أن النظام الاجتماعي الحاضر يقوم على ضروب من المفاسد شتى، وما علموا أن فوضويتهم أشد إفساداً للمجتمع من هذه المفاسد نفسها، بل أن وجودهم في الجمعيات البشرية هو الفساد الفذ الذي سيجري بالمجتمع في سبل عدة من التدهور والفناء.
ونحن نقدم إلى القراء لمعة في تاريخ هذه النظرية، والأطوار التي تعاقبت عليها وعلى الذين استهدفوا لشرها وويلاتها.
الفوضوية نظرية يقصد بها أن يعيش المجتمع بلا حكومة فوقه، لا يربط هذا المجتمع ولا يشده الخضوع للقانون، ولا الطاعة للسلطات، ولكن يستعاض عن ذلك باتفاق حربين الطبقات المتعددة. والبيئات المختلفة التي يتألف منها المجموع، وقد وجدت مبادئ هذه النظرية في كل عصر من عصور الإنسانية، تقوم كفة الحكومة، فتسقط كفة الفوضى، وتعلو هذه فتسقط تلك.
قال الأستاذ أدلر الألماني إن ارسيتباس المتوفى عام 430 قبل المسيح، وهو أحد مؤسسي المدرسة السريانية قال في إحدى كلماته أن على العقلاء أن لا يعطوا الحكومة حريتهم، وقد أجاب يوماً عن سؤال ألقاه إليه سقراط، إنه لا يرضى أن ينتسب لا إلى الحاكمين، ولا إلى المحكومين. .
ولعل أحسن من وضح نظرية الفوضى الفيلسوف زينون المتوفى عام 270 قبل المسيح، وهو مؤسس الفلسفة الرواقية، عارض بمذهبه القائل بمجتمع حر دون حكومة تعلوه، نظرية أفلاطون في جمهورية وطوبوية الحكومة، فنقض قوة الحكومة، ودعى إلى قوة القانون الأخلاقي الذي يسنه الفرد لنفسه، قائلاً إنه بينا غريزة حفظ الذات تدفع الإنسان إلى الأنانية إذ بالطبيعة قد جعلت لهذه الغريزة مهذباً ومخففاً، فركبت في المرء عاطفة أخرى، تلك نهي غريزة الاجتماع، فإذا رجحت عقول الناس حتى يستطيعوا أن يتبعوا غرائزهم الطبيعية، فلا تعود بهم حاجة إلى المحاكم ولا إلى الشرط والمعابد والأديان، ولا إلى استعمال السكة والنقود، وإنما يستعيضون عن الأخيرة بتبادل العوارف والأعطية.
على أن كتابات زينون لم تبلغ إلينا إلا شتيتا من كلم، ومتفرقاً من حكم، ولكن مذهبه هذا هو نفس مذهب الفوضويين العصريين فكأنما كان زينون لسان حالهم.
وقد جاء رابليه وفنيلون في طوبوياتهما بهذه الآراء عينها، وكانت شائعة في القرن الثامن عشر بين الأنسيكلو بيذيين الفرنسيين، ترى منثورات منها في كتلب روسو ومؤلفات ديدرو، حتى لقد وجدت أشدها في الثورة الفرنسية.
وكان جدوين في بحثه الذي عقده في العدل السياسي أول من نظم آراء الفوضوية السياسية والاقتصادية وإن لم يعطها هذا الاسم - قال ليست القوانين نتاج الحكمة من أجدادنا، وإنما هي وليدة عواطفهم وجبنهم وعصبياتهم وأطماعهم، وإن العلاج الذي نستمده من القوانين، لهو شر من الداء الذي تدعى هذه القوانين إشفاءنا منه، فإذا أبطلت هذه القوانين، وأقفلت هذه المحاكم، وترك القضاء في الخصومات للمراجيح من الناس نشأ من ذلك العدل الحقيقي.
وإليك ما كتب أيضاً يستطيع المجتمع بكل سهولة أن يعيش دون الحكومة، بل حسب المجامع ان تكون صغيرة متضامنة.
وكان برودون أول من استعمل عام 1840 لفظة فوضوية للتعبير عن حال المجتمع بلا حكومة، وهو أول من نقض مذهب الاشتراك في مال الجمهور، وكذلك كل وسائل الاشتراكية الحكومية التي ذهب إليها لويس بلانك، قال عن الامتلاك في كتابه الأول الامتلاك هو السرقة والاختلاس ولم تصب آراء برودون الفوضوية في فرنسا إلا صوتاً خافتاً. إذ كانت الكفة العليا لآراء الاشتراكية المسيحية التي جاء بها لامينية وأتباع فورييه، وآراء الاشتراكية الحكومية للويس بلانك وشيعة سان سيمون، ولكنها وجدت بعض التشجيع في ألمانيا من فريق اتباع هيجل. وقد صرح بالفوضوية هس عام 1844، وكارل جرين عام 1845.
وبدأت هذه الأفكار الفوضوية تشيع حتى انتهت إلى روسيا في خلال حكم القيصر اسكندر الثاني عام 1852 واتخذت لها اسماً غير الفوضوية ونعني به العدمية وهي لفظة كثر ما يراد بها النوع الثوري من الاشتراكية الروسية، وأول من استعمل هذه الكلمة تور جنيف الكاتب الروائي الروسي الأكبر، في روايته المشهورة الآباء والأبناء التي طبعت في عام 1862، وذلك أن تور جنيف لاحظ بين طلاب الجامعات والمدارس الصناعية العالية منظراً جديداً مدهشاً، وهو أن فتياناً نشأ، وفتيات شواب بدأوا يسخرون من الاعتقادات العامة والتقاليد المصطلحة والعادات المحترمة في الحياة الاجتماعية، وشرعوا يتباحثون في تهذيب المجتمع وتأسيسه على قواعد علمية بحتة. وكان من ذلك أنهم قلبوا النظام القديم المتبع حتى في أتفه الأمور وسفاسفها، فأما الذكران منهم فأعفوا شعورهم. وأما الإناث فقصصن فروعهن. فكانت ظواهرهم وأزياؤهم وأحاديثهم عرضة لسخرية الناس وهزئهم، ولكنهم كانوا يهزأون بذلك ولا يكترثون إذ كانوا قد رفعوا أنفسهم عن مستوى ما يسمونه بالرأي العام واحتقروا الرسوم والطقوس وكانوا لا يعترفون من المذاهب القديمة في التربية إلا بمذهب العمل لصالح الجماعات، وكانوا يصرحون بأن الإسكاف أو صانع الأحذية المتفوق في صناعة المفتن فيها هو خير من شكسبير أو جيت وأعظم قدراً، لأن الإنسانية أحوج إلى الأحذية منها إلى الشعر ولها أطلب ولذلك كان تور جنيف هو الذي جعل الناس في محاوراتهم وأحاديثهم يطلقون على هؤلاء الخوارج لفظة أي العدميين وإن كانوا هم ما يبرحون يحتجون على هذا الاسم ويعدونه كنية فاحشة سيئة، لأنهم يقولون إنهم لا يرون في أنفسهم إلا طلاب إصلاحات معقولة سديدة، وليسوا طلاب مزاح ومجون، وإن الفروق والغرائب التي ظهروا بها في خططهم ومناحيهم لم تنشأ إلا من إهمال الناس لمصالحهم الحقيقية، ومنافعهم الصادقة.
ظلت روسيا من وجهة التقدم المادي والأخلاقي المصلية في ميدان استباق الأمم الغربية فشعر الشبان المتعلمون بعد تلك الخيبة التي لاقتها روسيا في حرب القرم إن العهد القديم والنظام العتيق يجب أن يستبدلا بإصلاح متهور شديد، فدفعتهم حرارة الشباب، وجنون الفتوة، وبعثتهم السذاجة والبساطة وعدم الحنكة والعطل من التجربة والروية، في وجهتهم هذه بأشد من قبل تهوراً وحمية، ولما كانوا قد تعلموا مبادئ الفلسفة الإيجابية، وأخذوا بسبب منها، فقد رأوا أن روسيا ظلت باقية على حالها بعد أن تقدم الإنسانية كلها في الأطوار الدينية والأدوار الخيالية (فيما وراء الطبيعة) ولذلك فهي اليوم في أنظارهم على أبواب عصر جديد من عصور الفلسفة الإيجابية، ومن ثم ينبغي لها أن تقذف جانباً جميع الآراء الدينية والخيالية، وتنظم حياتها العملية والاجتماعية والسياسية، وتسير على هدى العلوم الطبيعية.
فكان من بين الأنظمة القديمة التي رأى هؤلاء الشبان الإغفال هدمها إذ عدوها معطلات للتقدم الحقيقي، الدين والحياة الزوجية، والامتلاك والحكومة المركزية، أما الدين فيجب عندهم أن يقوم على أنقاضه العلوم العصرية، وأما الحياة الزوجية فيجب أن تستبدل بالزواج الحر، وأما الامتلاك فبالاشتراكية، وأما الحكومة المركزية فبمجموع ولايات مستقلة.
وأمثال هذه الآراء والمذاهب لا يباح لأصحابها أن يعلنوها أو يخطبوا الناس بها، تحت حكومة مركزية يريدون نقضها، ولما كانت الصحافة الغربية قد تشبعت اليوم بروح الحريين السارية، كان من المستطاع أن تدس هذه الآراء الثورية تحت ستار الأدب والروايات، ولعل هذه الآراء لم تجد تأثيراً قوياً في روسيا إلا برواية. (أي ماذا نحن صانعون؟) وضعها منذ سنين الروائي تشرتسفسكي أحد قادة هذه الحركة الثورية، وقد طبعت بعد تصديق أولى الشأن عليها!.
وكانت روسيا منذ عهد بطرس الأكبر عرضة لجملة تطورات إدارية اجتماعية شديدة، وقد تنبأ الكثيرون بأن تطوراً كبيراً قد يحدث برضى من القوة المطلقة وتعاون منها، ولذلك ما كادت تبدأ هذه الآراء تخرج من أفواه دعاتها، حتى انتشرت بسرعة مدهشة، فقد كتب في شتاء عام 1862 موظف روسي كبير إلى صديق له كان غائباً عن روسيا شهراً إنك لو رجعت الآن لعجبت للتقدم الذي ظفر به الحزب المعارض، وإن شئت فقل الحزب الثور أن الأفكار الثورية قد استحوذت على جميع الطبقات والأعمار والصناعات والمهن، تعلن جهاراً في الطرق. وتلقي علانية في الثكنات، وتقال في إدارات الحكومة ومصالحها، بل إني لأعتقد أن الشرطة أنفسهم يغضبون لها ويثورون.
كان برنامج الحكومة سهلاً عدلاً واسعاً، وفيه اليسير من الحرية، ولكن كان هؤلاء العدميون طائشين خفاف العقول، فأبوا إلا أن يريدوا انقلاباً سريعاً، وهدماً عاجلاً وأجمعوا يبعثهم نزق الشباب، وقوة الصبا، وبساطة الحياة، وقلق الحداثة، على أن ينهضوا هم بأعباء هذا المذهب المجنون، نافضين أيديهم من أيدي الحكومة خارجين عليها، معارضين لأمرها، ولما لم يكن بأيديهم القوة الكافية للقضاء على الحكومة المركزية، فقد رأوا أن يحببوا الشعب إليهم، ويضموه إلى جانبهم، فمن ثم بدأوا يؤلفون منهم فرقاً وجمادات، لنشر آرائهم، وبسط مذاهبهم، بين طبقات العمال في المدن، والفلاحين في القرى، وأقاموا منهم مروجين ودعاة، يجمعونهم من طلبة الجامعات ومن المدارس الصناعية، ومن مدارس الطب، ومن الفتيات المشتغلات بالتمريض والجراحة والتطبيب، وسكان البلدة الواحدة منهم يتعاونون، ويتسارون، ويتشاورون، ولكنهم لم يحاولوا أن ينشئوا منها نظاماً تاماً، أو زعامة مرتبة منظمة، وكان لكل فرد الحرية التامة في انتخاب الوسائل التي يستطيع بها نشر مذهبهم، فمنهم من تزيا بزي العمال ليدخلوا في دينهم الطبقات الجاهلة من العمال، وفيهم من أقام في القرى مستغلاً بالتدريس، يحاول ويجد ليثير البغض والكراهية للحكومة في نفوس الفلاحين السذج الأغفال، ويسروا لهم في آذانهم أن من الواجب التخلص من موظفي الحكومة، وملاك الأرض، ويطمعوهم في أنهم سيقبضون بعض ذلك على الأراضي الشاسعة، والغابات البعيدة الأرجاء، والأملاك المترامية الأنحاء، ويتخلصون ثم من دفع الضرائب، وكان هؤلاء الدعاة يريدون أن يثبتوا لبعض المتعلمين من العمال أن الحالة الاقتصادية الحاضرة على أشد الفساد وأنكر الفوضى، وإن وجب كل فرد وطني صادق الرجولة أن يعينهم على الخروج من هذه الملمة، وإن أول خطوة لبلوغ ذلك، هو أن يبدأوا بهدم السلطة الحاكمة.
وجملة القول أن المحرضين لم يصيبوا رائد النجح، ولم يعودوا مما طلبوا إلا بالخيبة، ووقع كثيرون منهم في أيدي الشرطة، ومن هؤلاء المجرمين من اكتشف الشرطة أسماؤهم من نفس الذين كانوا يريدون أن يعملوا على مصلحتهم المزعومة، ولكن سوادهم كان صلب المكسر، ثابت الجنان، رابط الجأش، متأهباً لاحتمال أية تضحية في سبيل فكرته، ولذلك لم يحجم الباقون عن متابعة عملهم، وقد نظر القضاء بين عامي 1861 و1864 عشرين قضية سياسية، وحكم على أكثر المتهمين فيها بالسجن أو البقاء تحت المراقبة.
على أن شدة الشرط ودأبهم وتحريهم زادت سخط العدميين على الحكومة وكراهيتهم لها. فقد حاول في سنة 1866 أحد العدميين وهو يدعى كراكوزف اغتيال القيصر، ولكن خابت طلبته، فأمر بزيادة التحري والمراقبة. وفي عام 1869 ألف رجل منهم يدعى نتيشيف جمعية سرية باسم جمعية تحرير الشعب ولما ارتاب نتشيف في أحد أعضائها قتله فجر، قتله إلى القبض على بعض أفراد هذه العصابة الثورية وارتبط كثيرون من العدميين بالاشتراكيين في البلاد الأوروبية ولاسيما أتباع باكونين رأس الفوضويين وشيعته.
وكانت الحكومة القيصرية لا ترى جواباً لهؤلاء الخوارج إلا بالقبض على رؤوسهم وزعمائهم. فلما كان شتاء 1878 قبض على 193 محرضاً وحوكموا علانية في سان بطرسبرج (بطرغراد) وحكم على أكثرهم بالسجن أو النفي.
على أنه لم تكثر جرائمهم ولم يزدد توثبهم إلا في عام 1880 فقد قتل أحد العدميين الجنرال تريبوف محافظ بطرسبرج وهو يتظاهر بأن يقدم إليه عريضة استرحام وقتل مفتش الشرطة في رابعة النهار ثم أؤتمر على قتل خليفته. وقتل حاكم ولاية كراكوف البرنس كورباتكين، لاشتراعه نظاماً صارماً لمعاقبة المجرمين السياسيين، وهوجم القيصر في قصر الشتاء، وحوول مرات كثيرة نسف القطار المقل أسرة القيصر وهو في طريقه إلى العاصمة، ووضعت مفرقعات من الديناميت في القصر فقتل عشرة من خدمه ولم يصب أحد من الأسرة بسوء لأنهم تأخروا يومذاك عن حضور المائدة، دع غير ذلك من الحوادث التي عجز الجواسيس عن الاهتداء إلى الفاعلين.
ولما رأى الإسكندر الثاني عجز شرطته وضع نظاماً جديداً ودفع به إلى الكونت لوريس ميليكوف فكاد يذهب في جريرته قتيلاً ولم يكن من ذلك إلا أن تمخض عن مؤامرة جديدة لإهلاك القيصر، وذلك أنه في مارس عام 1881 والإسكندر في مركبته إذ رمى بقنبلة مدمرة كانت فيها منونه، فلم تكد المركبة تبلغ القصر حتى فاضت روح صاحبه.
وكان من هذه الوقائع المتتابعة أن ظهر فساد ذلك الرأي القائل بقتل الفوضى بالعطف والملاينة والمسالمة، ولذلك صرح اسكندر الثالث بأنه لا يريد أن يضع حداً لسلطة حكومته، فعادا يتآمرون على قتله وهو في مركبته، ولكن قبض على الجانين قبل محاولتهم فعلتهم، ولكن رجعت نهضتهم إلى الانتعاش إذ وقع في سنة 1901 اضطراب كبير بين طلبة الجامعات الروسية ثم بين الفلاحين في أشهر بلدان الإمبراطورية.
ولم تخف حدة الفوضويين ولم تهدأ ثائرتهم إلا بدخول مبادئ الحكومة البرلمانية في روسيا.
على أن ليس كل المجرمين السياسيين فوضويين في صميم أرواحهم، ولا عدميين في قرائر نفوسهم، بل فيهم العدد العديد من الذين اندسوا في أهل المذهب وهم لا يشعرون له بشيء من التقدير أو الاستحسان أو الإخلاص، من كل مسموم العاطفة يحقد على الملك لنكبة نكبته لم تقع من يد الملك، وإنما سقطت من يد القدر، وآخر لظلامه ظن أن حقاً له قد هضمته الحكومة، وما هضمته إلا معدة الطبيعة، أو مغمور أولع بالنباهة وأولعت بهجره. فتثور في أنحاء روحه عاصفة هوجاء تزعزع عروش الحكام وتتزاور عن مواطن المحكومين، كالزوبعة القاصفة الهزجة تهشم أعالي السرح، وتعجز عما دونها، هؤلاء يسيئون إلى المذهب أكثر مما يسيئون إلى المجتمع، لأن للجمعيات البشرية مدخراً واسعاً من الملوك والأمراء، ينفد هؤلاء الممرورون قبل أن ينفذ جمعهم.
منذ بدأ القرن العشرين أي منذ عام 1901 هل تعلم كم ضحايا هذه الفوضى الكاذبة؟ ثمانية عشر من الملوك والحكام وكبار رجال الأمم، نذكر من هؤلاء الملك همبرت والد ملك إيطاليا الحالي، فقد قتله إيطالي يدعى بوسكي جاء من أمريكا لقتلنه خاصة، إذ أطلق عليه رصاصات من مسدسه، ثم الرئيس ماكنلى قتل في مدينة بافللو من أعمال الولايات المتحدة، إذ جاء إليها في شهر سبتمبر عام 1901 لحضور معرض الاتحاد الأمريكي، وفي غضون المدة التي لبثها بالمدينة دنا منه يوماً أحد البولانديين المتجنسين بالجنسية الأمريكية وقد خبأ المسدس تحت ضمادات كاذبة موضوعة على يده اليمن بحيث يظن الناظر إليها أن اليد مكسورة أو مقطوعة فعطف عليه الرئيس رائياً لحالهن غير عالم بخافية أمره، ماداًَ يده لمصافحته فلم يكن من البولاندي إلا أن مد له يده اليسرى وأطلق عليه من المسدس المختفي بين ضمادات يده اليمنى فقتله، أما مقتل الملكة دراجا والملك اسكندر الثاني ملك صربيا فقد كان أنكر من كل ذلك وأشد هولاً، ذلك أنه في عام 1903 دخل إلى القصر ثمانون ضابطاً من الثائرين الكائدين والمسدسات بأيديهم ولما بلغوا منامة الملك والملكة كسروا بابها ودخلوا عليهما فوجدوهما في أثواب النوم فأطلقوا عليهما عدة رصاصات سقطا منها صريعين وقد وجد في جثمان الملك ثلاثون رصاصة أما زوجته دراجا الحسناء فقد مزقها الرصاص كل ممزق.
ولعل القراء لم ينسوا بعد مقتل جورج الأول ملك اليونان فقد وقع في التاسع عشر من شهر عام 1913 وكان يتمشى في أسواق سلانيك وقد احتلها اليونان في الحرب البلقانية الأولى فهاجمه يوناني مجنون وأطلق عليه الرصاص فنفذ من ظهره ومات لساعته.
هذا وأما الفوضوية في الإسلام فسنفرد لها مقالاً آخر إن شاء الله.