مجلة البيان للبرقوقي/العدد 2/المستر دير
→ الفكاهات والملح | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 2 المستر دير [[مؤلف:|]] |
مطبوعات جديدة ← |
بتاريخ: 23 - 9 - 1911 |
أو منتهى الذهول
كادح صديقي دير من طول صحبة الكتب يصير كتاباً ولقد بصرت به منذ أيام واقفاً إلى جنب وعاء فيه كتب وهو صامت ساكن لا حراك به فوددت والله لو حملته إلى مكان التجليد فجلدته في أنفس الجلد المسكوفى ووضعته في المكتبة إذن لازدانت به المكتبة وحسبه الناظر قاموس جونسون أو إحدى مجلدات دائرة المعارف.
وهو كثير الذهاب إلى معاهد العلم يقضي كثيراً من زمنه في التردد بينها وبين نزل كليفورد حيث يقطن بين أشابه خبيثة من المحامين وكتبة المحاماة والسماسرة - أفاعي القانون وذئابه - كأنه الحمامة المخفوضة الجناح في عش الغربان وقد نجاه صمته وانقباضه من شر ذلك الخليط وأنزله بنجوة من مخالب القانون وبمأمن من ابره وحماته تهب من فوق رأسه زوابع القضاء فلا تضيره وماذا تنال الضائرات من رجل لو زلزلت الأرض حوله وقامت الساعة ما أحس وما شعر فكان سكان النزل يرونه صباح مساء ولا يخطر ببال أحد أن يمسه بسوء اللهم إلا إذا استطاع الإنسان أن يمس بالسوء معنى من المعاني قد جرد حتى من اللفظ والصوت.
وارتاع صديقي دير عند ما طلعت عليه في دار الكتب وليس ارتياعه لبغت المقابلة أو لأنه لم يك يتوقع لقائي بمثل ذلك المكان بل لأنه أشد الناس ذهولاً والرجل الشديد الذهول يروعه كل ما يهيب بعقله من عوالم الخيال ويوقظه من غفلة الذهن ومن آيات ذهوله أنه قصد منذ أيام دار صديقنا في ميدان بدفورد ولما بلغ الدار علم من الخادم أن أهلها قد رحلوا إلى مصيفهم بالريف ثم سيق إلى غرفة الجلوس بالمداد والقلم فدون اسمه في دفتر الزوار وحي الخادم معلناً أسفه وغمه ومضى وما هي إلا ساعة أو اثنتان حتى عادت به تجولاته إلى جوار تلك الدار فذكر أهلها وطيب عيشهم واشتعل خياله بتلك الذكرى فعمد نحو الدار مرة أخرى من حيث لم يشعر أنه قد زارها منذ ساعتين وقال له الخادم ما كان قاله قبله من غياب الأسرة وأبدى هو من الأسف والغم ما أبداه قبل وطلب من المداد والقلم ما كان قد طلبه قبل وجيء بالكتاب الذي جيء به قبل وإنه ليضع شفتي القلم على خد الطرس ليكتب اسمه وإذا بنفس ذلك الاسم ينظر إليه نظر الساخر الضاحك! فأصابه من الرعب ما يصيبك إذا باغتك شخص نفسك وفاجأك خيالك من غير مرآة وقد عاهد دير نفسه أن لا يسترسل في الذهول إلى هذا الحد وأملي أن لا يكلف نفسه مؤنة الوفاء بعهده.
وذلك لأن غياب المستر دير عن نفسه إنما هو حضوره بين يدي الله فإذا مر بك وعيناه تلقاء وجهك فلم يرك ومضي في طريقه كأنه لم يعثر بإنسان فاعذره واعلم أنه في تلك الدقيقة بمحراب الله في بيت المقدس أو طائف يدور بأضرحة الأنبياء ومقابر الأولياء والشهداء أو ربما كان في هذه اللحظة مع أرواح الفلاسفة أفلاطون وأرسطو وهارنجتون يفكر فيما عسى يرفع أمتك وبني جنسك جميعاً في مرقاة التمدين والسعادة.
وكان المستر دير بدأ أعماله بعد تدآب الدرس وجهد المذاكرة مدرساً مع ناظر مدرسة فظ غليظ القلب جامد الكف جعد الأنامل مظلم الجناب موحش الكنف لا تندى راحته ولا يبض حجره بمرتب شهري قدره ستون قرشاً خلاف الأكل والشرب والمسكن وما حدث قط أنه أخذ أكثر من نصف ذاك المرتب البخس مدة إقامته مع ذلك الناظر السافل الوغد وكان إذا أثخن الدهر في ثيابه وأطل الفقر من خروق سراويله لدى الركبتين ومن نوافذ ردائه عند المرفقين فاضطر برغم خجله واحتشامه إلى التعريض بذكر المرتب النزر تشاغل عنه الناظر اللئيم وتغافل حتى إذا قام بعد العشاء بين التلاميذ واعظاً وخطيباً لم ينس أن يذكر في عرض كلامه جملة عن فوائد الفقر ومزاياه ومضار المال وبلاياه خاتماً مقالته بقول الإنجيل اللهم اكف عبادك الصالحين شر الثراء ونقمة الطمع! وما يماثلها من الآيات والجمل - فكانت لسائر الطلبة حكماً وعظات وكانت لصاحبنا دير وصلا كاملاً بجميع المتأخر له لدى الناظر.