مجلة البيان للبرقوقي/العدد 19/نوادر وملح وفكاهات
→ ابن الرومي | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 19 نوادر وملح وفكاهات [[مؤلف:|]] |
تاريخ أعضاء الجمعية التشريعية ← |
بتاريخ: 31 - 7 - 1914 |
كان الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر سيد كتاب العربية قصيراً دميماً جاحظ العينين مشوه الخلقة حبهم المنظر حتى قال فيه بعض الشعراء:
لو بمسخ الخنزير مسخاً ثانياً ... ما كان دون قبح وجه الجاحظ
حكي عن نفسه قال: ما أخجلني قط إلا امرأتان رأيت إحداهما في المعسكر وكانت طويلة القامة وكنت على طعام فأردت أن أمازحها فقلت انزلي كلي معنا فقالت اصعد أنت حتى ترى الدنيا معرضة بقصره - وجاءت إلى الأخرى وأنا على باب داري فقالت لي إليك حاجة وأنا أريد أن تمشي معي فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي فقالت له مثل هذا وانصرفت فسألت الصائغ عن قولها فقال إنها أتت إلي بفص وأمرتني أن أنقش لها عليه صورة شيطان فقلت يا سيدتي ما رأيت الشيطان فأتت بك.
وأتاه يوماً رجل فقال سمعت أن لك ألف جواب مسكت فعلمني منها فقلت نعم فقال إذا قال لي إنسان يا زوج الفاعلة يا ثقيل الروح أي شيء أقول له قال قل له صدقت: وطلب إليه شخص كتاباً إلي بعض أصحابه يوصيه به فكتب له رقعة وختمها فلما خرج الرجل من عنده فضها فإذا فيها: كتابي إليك مع من لا أعرف ولا أوجب حقه. فإن قضيت حاجته لم أحمدك وإن رددته لم اذمك: فرجع إليه الرجل فقال الجاحظ كأنك فضفضفت الورقة قال نعم قال لا يضرك ما فيها فإنه علامة لي إذا أردت أن أشكر شخصاً.
حدث أبو العباس المبرد قال حدثنا محمد بن عامر الحنفي وكان من سادات بكر بن وائل وأدركته شيخاً كبيراً مملقاً وكان إذا أفاد على إملاقه شيئاً جاد به وقد كان قديماً ولي شرطة البصرة فحدثني هذا الحديث الذي ذكره ووقع إلى من غير ناحيته ولا أذكر ما بينهما من الزيادة والنقصان لأن معاني الحديث مجموعة فيما أذكر لك. ذكر أن فتياناً كانوا مجتمعين في نظام واحد كلهم ابن نعمة وكلهم قد شرد عن أهله وقنع بأصحابه فذكر ذاكر منهم قال كنا أكترينا داراً شارعة على أحد طرق بغداد المعمورة بالناس وكنا نفلس أحياناً ونوسر أحياناً على مقدار ما يمكن الواحد من أهله وكنا لا ننكر أن تقع مؤنتنا على واحد منا إذا أمكنه ويبقى الواحد منا لا يقدر على شيء فيقوم به أصحابه الدهر الأطول وكنا إذا أيسرنا أكلنا من الطعام ألينه ودعونا الملهين والمهلبات وكان جلوسنا في أسفل الدار فإذا عدمنا الطرب جلسنا في غرفة لنا نتمتع منها بالنظر إلى الناس وكنا لا نخل بالنبيذ في عس يسر فإنا لكذلك يوماً إذا يفنى يستأذن علينا فقلنا له أصعد فإذا رجل نظيف حلو الوجه سري الهيئة ينبئ رواؤه على أنه من أبناء النعم فأقبل علينا فقال إني سمعت مجتمعكم وحسن منادمتكم وصحة إلفتكم حتى كأنكم أدرجتم في قالب واحد فأحببت أن أكون واحداً منكم فلا تحتشموني قال وصادف ذلك منا أقتاراً من الفوت وكثرة من النبيذ وقد كان قال لغلام له أول ما يأذنون لي أن أكون كأحدهم هات ما عندك فغاب الغلام عنا غير كثير ثم أتانا بسلة خيزران فيها طعام المطبخ من جدي ودجاج وفراخ ورقاق وأشنان ومحلب وأخلة فأصبنا من ذلك ثم أفضنا في شرابنا وانبسط الرجل فإذا أحلى خلق الله إذا حدث وأحسنهم استماعاً إذا حدث وأمسكهم عن ملامة إذا خولف ثم أفضينا منه إلى أكرم محالفة وأجمل مساعدة وكنا ربما امتحناه بأن ندعوه إلى الشيء الذي نعلم أنه يكرهه فيزهر لنا أنه لا يحب غيره ويرى ذلك في إشراق وجهه فكنا نعني به عن حسن الفناء ونتدارس أخباره وآدابه فشغلنا ذلك عن تعرف اسمه ونسبه فلم يكن منا إلا تعرف الكنية فإنا سألناه عنها فقال أبو الفضل فقال لنا يوماً بعد اتصال الأنس إلا أخبركم بم عرفتكم قلنا إنا لنحب ذلك قال أحببت جارية في جواركم وكانت سيدتها ذات حبائب فكنت أجلس لها في الطريق التمس اجتيازها فأراها حتى أخلقني الجلوس على الطريق ورأيت غرفتكم هذه فسألت عن خبرها فخبرت عن ائتلافكم وثمالئكم ومساعدة بعضكم بعضاً فسكان الدخول فيما أنتم فيه أسر عندي من الجارية فسألناه عنها فخبرنا فقلنا له نحن تختدعها حتى نظفرك بها فقال يا إخواني إني والله على ما ترون مني من شدة الشغف والكلف بها ما قدرت فيها حراماً قط ولا تقديري إلا مطاولتها ومصابرتها إلى أن يمن الله بثروة فاشتريها فأقام معنا شهرين ونحن في غاية الاعتباط بقربه والسرور بصحبته إلى أن اختلس منا فنالنا بفراقه ثكل ممض ولوعة مؤلمة ولم نعرف له منزلاً نلتمسه فيه فكدر علينا من العيش ما كان طاب لنا به وقبح عندنا ما كان حسن بقربه وجعلنا لا نرى سروراً ولا غما إلا ذكرناه لافضال السرور بصحبته وحضوره والغم بمفارقته فكنا فيه كما قال الشاعر:
يذكر نبهم كل خير رأيته ... وشر فما أنفك منهم على ذكر
فغاب عنا زهاء العشرين يوماً فبينما نحن محتازون يوماً من الرصافة إذا به قد طلع في موكب نبيل وزي جليل فلما بصر بنا انحط عن دابته وانحط غلمانه ثم قال يا إخواني والله ما هنا إلى عيش بعدكم ولست أما طلبكم بخبري حتى آتي المنزل. لكن ميلوا بنا إلى المنزل فحملنا معه فقال أعرفكم أولاً بنفسي أنا العباس ابن الاحنف وكان من خبري بعدكم أني خرجت إلى منزلي من عندكم فإذا المسودة محيطة بي فمضى بي إلى دار أمير المؤمنين فصرت إلى يحيى بن خالد فقال لي ويحك يا عباس إنما اخترتك من ظرفاء الشعراء لقرب مأخذك وحسن تأتيك وإن الذي ندبتك من شأنك وقد عرفت خطرات الحلقاء وإني أخبرك أن ما ردة هي الغالبة على أمير المؤمنين اليوم وأنه جرى بينهما عتب فهي بذلة المعشوق تأبى أن تعتذر وهو بعز الخلافة وشرف الملك يأبى ذلك وقد رمت الأمر من قبلهما فأعياني وهو أحرى أن تستعبده الصبابة فقل شعراً يسهل عليه هذه السبيل فقضي كلامه ثم دعاني إلى أمير المؤمنين فصرت إليه وأعطيت قرطاساً ودواة فاعتراني الزمع واذهب عني ما أريد للاستحثاث فتعذرت على كل عروض ونفرت عني كل قافية ثم انفتح لي شيء والرسل تعتبني فجاءتني أربعة أبيات رضيتها وقعت صحيحة المعنى سهلة الألفاظ ملائمة لما طلب مني فقلت لأحد الرسل أبلغ الوزير إني قد قلت أربعة أبيات فإن كان بها مقنع وجهت بها فرجع إلى الرسول بأن هلتها ففي أقل منها مقنع وفي ذهاب الرسول ورجوعه قلت بيتين من غير ذلك الروى فكتبت الأبيات الأربعة في صدر الرقعة وعقبت بالبيتين فقلت:
العاشقان كلاهما متغضب ... وكلاهما متوجد متعتب
صدت مغاضبة وصد مغاضباً ... وكلاهما مما يعالج متعب
راجع أحبتك الذي هجرتهم ... إن المتيم قلما يتجنب
إن التجنبان تطاول منكما ... دب السلولة وعز المطالب
ثم كتبت تحت ذلك
لابد للعاشق من وقفة ... تكون بين الهجر والصرم
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم
ثم وجهت بالكتاب إلى يحيى بن خالد فدفعه إلى الرشيد فقال والله ما رأيت شعراً أشبه بما نحن فيه من هذا والله لكاني قصدت به فقال له يحيى وأنت والله يا أمير المؤمنين المقصود به هذا بقوله العباس في هذه القصة فلما قرأ البيتين وأفضى إلى قوله.
راجع من يهوى على رغم. استغرب ضحكاً حتى سمعت ضحكة ثم قال أي والله أراجع على رغم يا غلام هات نعلى فنهض وأذهله السرور عن أن يأمر لي بشيء فدعاني يحيى وقال إن شعرك قد وقع بغاية الموافقة وأذهل أمير المؤمنين السرور عن أن يأمر لك بشيء قلت لعل هذا الخبر ما وقع مني بغاية الموافقة ثم جاء غلام فساره فنهض وثبت مكانه فنهضت بنهوضه ثم قال لي يا عباس أمسيت أنبل الناس أتدري ما ساروني به هذا الرسول قلت لا قال ذكر لي أن ماردة تلقت أمير المؤمنين لما علمت بمجيئه ثم قالت له يا أمير المؤمنين كيف كان هذا فناولها الشعر وقال هذا أتي بي إليك قالت فمن يقوله قال عباس بن الأحنف قالت فيم كوفي قال ما فعلت شيئاً بعد قالت إذا والله لا أجلس حتى يكافأ قال فأمير المؤمنين قائم لقيام ماردة وأنا قائم لقيام أمير المؤمنين وهما يتناظران في صلتك فهذا كله لك قلت مالي من هذا إلا الصلة ثم قال هذا أحسن من شعرك قال فأمر لي أمير المؤمنين بمال كثير. وأمرت لي ماردة بمال دونه وأمر لي الوزير بمال دون ما أمرت به وحملت على ما ترون من الظهر ثم قال الوزير من تمام اليد عندك أن لا تخرج من الدار حتى يؤهل لك هذا المال ضياعاً فاشترى لي ضياعاً بعشرين ألف درهم ودفع لي بقية المال فهذا الخبر الذي عاقني عنكم فهلموا حتى أقاسمكم الضياع وأفرق فيكم المال قلنا له هناك الله فكل منا يرجع إلى نعمة من أبيه فأقسم وأقسمنا فقال أسوتي فيه فقلنا أما هذه فنعم قال فامضوا بنا إلى الجارية حتى نشتريها فمشينا إلى صاحبتها وكانت جارية جميلة حلوة لا تحسن شيئاً أكثر ما فيها ظرف اللسان وتأدية الرسائل وكانت تساوي على وجهها خمسين ومائة دينار فلما رأى مولاها ميل المشتري استام بها خمسمائة فأجبناه بالعجب فحط مائة ثم حط مائة ثم قال العباس يا فتيان إني والله أحتشم أن أقول بعد ما قلتم ولكنها حاجة في نفسي فأكره أن تنظر إلى بعين من قد ماكس في ثمنها دعوني أعطه بها خمسمائة دينار كما سأل قلنا له وإنه قد حط مائتين قال وإن فعل قال فصادفت من مولاها رجلاً حراً فأخذ ثلاثمائة وجهزها بالمائتين فما زال إلينا محسناً حتى فرق الموت بيننا.