مجلة البيان للبرقوقي/العدد 17/الجمال والجلال
→ ../ | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 17 الجمال والجلال [[مؤلف:|]] |
الإنسان الأول ← |
بتاريخ: 31 - 5 - 1914 |
قد رأينا أن نتحف قراء البيان بنبذ وشذورات مختارة من أنفس كتاب تناول هذا الموضوع الجليل الذي جرت في مضماره حلبة الأقلام فانثنت عنه حسرى، ولم يسبق إلى الغاية سوى قلم الفيلسوف الكبير والخطيب المصقع أدمند برك واضع هذا الكتاب الذي نحن بصدده. وكان الفيلسوف المذكور قد أوتي نفاذ البصيرة ودقة التفكير، مع سحر البيان وخلابة التعبير، فجاء كتابه آية الآيات، ومعجزة المعجزات، وأصبح على قلة حجمه قد لا تساويه الخزائن المشحونة، وسيرى القارئ مصداق هذا القول إذا ذاق ما نحن مقدموه بين يديه من محاسن ألوان هذا الخوان البديع. أو تنسم ما نحن مهدوه إليه من أطايب أفانين هذا الروض المريع. وقبل أن نطرق هذا الباب يجدر بنا أن نذكر كلمة موجزة عن المؤلف ليعلم القارئ من هو أدمند برك فنقول:
أدمند برك هو خطيب الإنكليز المفوه وحكيمهم الجليل، كان إيرلندياً ولد في دبلن عام 1728 ونال شهادة أستاذ في الآداب عام 1751 وأبدى في سنى دراسته ميلاً شديداً لقراءة أنواع العلوم وصنوف الفنون وأبدى كذلك سرعة بديهة وقوة ذاكرة وولوعاً بالشعر وما وراء المادة. وبعد نيل شهادة أستاذ في الآداب درس القانون ولكنه لم يحترف به بل انصرف للتعمق في الآداب والفلسفة وكان يستظهر كل ما راقه من ملح الكتاب وطرف الشعراء وحكم الفلاسفة، ثم شرع يفكر في ترشيح نفسه للخدمة العامة أعني خدمة الوطن من الوجهتين السياسية والاجتماعية. وفي ذلك يقول ولما وجدت أن دستورنا وتجارتنا هما منبع مجدنا وسعادتنا لم آل جهداً في تفهم هذين الركنين وتوطيدهما فكان سفر القانون لكثرة ما قلب أوراقه وطول ما نظر في سطوره رث الغلاف خلق الصحائف.
وفي عام 1757 تزوج ابنة الأستاذ نيوجنت فكانت ريحانة قلبه وسلوة همومه طول عمره. ويحسن بنا في هذا الموضع أن نسأل ذوي الحرص على الشهرة والمجد والمنصب من الفتيان أن يردوا من مطامعهم، ويكفوا من حدة حرصهم، وأن يؤثروا الصبر والقناعة والزهد أسوة بهذا الرجل العظيم (برك) الذي كان مع بلوغه الثلاثين من عمره ومع ما كان قد أوتى إذا ذاك من جليل المواهب الآلهية والعلوم الاكتسابية عاثر الجد أسود الحظ يعول زوجة وهو لا منصب له ولا عمل وليس في سعة من الرزق ولا في ذروة من المجد ولا جاه له ولا ذكر. ففي ذلك يقول في كتاب له لبعض أصدقائه إنما منعني من الرد عليك صروف الدهر ودول الأيام واضطرابي بين هذا البلد وذاك بينا تراني في لندن إذ أنا بالريف، ثم لا تلبث أن تراني في بلاد الفرنس وكأنك بي بعد أيام أطأ تربة أمريكا:
يوماً بحزوى ويوماً بالعقي ... ق وبالعذيب يوماً ويوماً بالخليضاء
ولكن الله أراد بالأمة الإنكليزية خيراً فلم يقدر لفيلسوفها العظيم مناخاً في غير أرضها، ولم يبشنف بأنغام مزهر بيانه إلا مسامع بني أوطانه. وفي عام 1758 اقترح على أحد الساسة دودزلي كتابة تاريخ سنوي لإنكلترا يستوعب أهم حوادث الحياة الاجتماعية والسياسية والأمور الأخلاقية، فوافق الاقتراح هوى في نفس ذلك السياسي، وظهر التاريخ السنوي واستمر برك يكتب القسم السياسي أو الخلاصة حتى عام 1788 بأجر سنوي قدره مائة جنيه.
وفي عام 1761 ذهب السياسي هاملتون إلى إيرلنده ليشغل بها وظيفة كاتب أسرار الحاكم العام وهو اللورد هاليفاكس إذ ذاك واستصحب معه بيرك كاتباً له وهنالك انتفع هاملتون أشد الانتفاع بمواهب بيرك ومعارفه وأجرى عليه رزقاً قدره ثلاثمائة جنيه في العام، ثم حدث خلاف بينهما فاستقال بيرك وعاد إلى إنكلترا وقد بلغ السابعة والثلاثين من عمره، وأصبح ذا ذرية وأنه لصفر من المال والوظيفة، بعيد من مناطق الحرف وميادين العمل. ولكن أعاظم الرجال لابد لهم من عصور محنة وأيام شدة وأوقات فراغ وعزلة تنضج فيها قرائحهم وتجم فيها بدائههم وتحتفل اثناءها خواطرهم ويتهيأون في خلالها لملاقاة الخطوب الجسيمة وإمضاء الأمور العظيمة. فيخرج أحدهم من غيابة العزلة والخمول والمحنة وقد سله الله للخطوب من الغمد كسل المهند المغمود.
فلما كان عام 1765 رأس الوزارة اللورد روكنجهام رئيس الأحرار إذ ذاك فاتخذ بيرك كاتب أسراره، فكان هذا العمل الجديد مدعاة لظهور فضل بيرك فعرف القوم قيمته وأحبوه حباً جماً حتى إذا كان انتخاب أعضاء البرلمان في عام 1765 انتخب بيرك عضواً من حزب الأحرار، ومن ذلك الحين فصاعداً بزغ نجمه وأزهرت دولته وهبط على مجلس البرلمان من فيه ذلك الوحي الجليل السنين الطوال، وتساقط عليهم ذلك الدر البهي الذي لا معدن له إلا بحر علمه الفياض، ولج خاطره الزاخر. وكم له في مجلس البرلمان من موقف كان يأخذ فيه بمجامع القلوب وأزمة النفوس إذ يرسل القول متدفقاً عذباً حتى تظل الألباب عليه حائمة، والأرواح عاكفة، ترف عليه رفيف النور والأقحوان على صافي النطاف سلسال، وإذ أوتار القلوب في يديه يعزف عليها أنغام السرور، وآونة ألحان الترح يحزن ويفرح ويبكي ويضحك.
ولكتابات بيرك وخطبه المكان الأعلى لدى طالب العلوم السياسية والاجتماعية. فأما كتابات شبابه وأوائل خطبه فتمتاز بدقة التفكير والتعبير مع الإيجاز المعجز، وأما كتاباته وخطبه المتأهرة فتمتاز بكثرة المحسنات اللفظية وشدة الاحتفال والتأنق، وتنفرد بما يشبه حذاقة يد المصور وإشراق ألوانه وتنوع صبغه. وإن كتاباته وخطبه الأخيرة هي التي شبت أنكى الحروب وأفظعها حين أثار الرأي العام الإنكليزي ضد الثورة الفرنسية وبعث إنكلترا على مقاتلة فرنسا قمعاً لها وردعاً واستئصالاً لما نشرت من تلك المبادئ الخبيثة والمذاهب الممقوتة، ولئلا تنتقل منها العدوى إلى إنكلترا ويسري إليها الداء، ففي هذا يقول حذار مما نحن هاجمون عليه من الخطر العظيم - خطر إعجاب الشعب الإنكليزي بما قد أتته حكومة فرنسا من الجرائم والآثام فيقلد فظائع ديمقراطية نهابة سلابة فتاكة مفترسة سفاحة مغتصبة حمقاء هوجاء مجنونة لا مبدأ لها وليس فيها ذرة من المروءة والإنسانية ونحن مع شدة احترامنا آراء بيرك فلا يسعنا إلا مخالفته في رأيه هذا واستهجان هذا الحكم الجائر الذي أصدره على حكومة فرنسا إذ ذاك وعلى معظم الفرنسيين.
وفي 1790 نشر بيرك سفره المسمى خواطر عن الثورة الفرنسية وهو الذي أثار الشعب الإنكليزي ضد الثورة الفرنسية وحدا به إلى ما لم تحمد عقباه من تلك الحرب العوان الحطمة. ولو ترك الفرنس وشأنهم لأسسوا حكومة نظامية ثابتة لا تقل جودة ونظاماً عن حكومة الولايات المتحدة أو حكومة الإنكليز. وكان رئيس حزب الأحرار في إنكلترا فوكس لا يرى هو وحزبه في الثورة الفرنسية إلا نزعة إلى الانتصاف، ونهضة إلى الإصلاح، ولكن بيرك خالف رأي الأحرار على أنه منهم وأبى أن يقعد معهم في المجلس وأن يضمه صفهم فانتقل إلى ناحية الحزب المضاد وجلس إلى جانب الوزراء المحافظين متحملاً مسؤولية عمله هذا. وجعل يحث الوزارة على قتال فرنسا قائلاً إذا اجترأت إحدى الحكومات على قلب كيان الشرائع والأديان عامة وسلكت من الضلال سبيلاً يخشى معها حدوث الفتنة والفوضى في ممالك أخرى وجب على الشعوب والأمم أن تحارب هذه الأمة.
فهذه هي حال فرنسا. وماذا يقي بلادنا سريان هذا الداء إليها وانتقال هذه العدوى؟ الحرب لا غيرها.
فرأى اللورد جرانفيل المسالمة في مبدأ الأمر ورآها كذلك بيت. والواقع إن المسألة كانت تكون إذ ذاك خير خطة وكان عليها ضمان ازدياد ثروة البلاد وقوتها. وكانت شواهد الحال كلها تغري الساسة باتباع خطة المسالمة. بل كانت المسالمة غاية كبار الساسة الفرنسيين والغرض الذي كانوا يرمون إليه حتى جعلوا يحاولون توثيق عرى الوداد بين فرنسا وإنكلترا وتوكيد أسباب السلام بين الإنكليز وبينهم فجاهر باتباع السلام ميرابو وتايواند وبيسيون حتى روبسبير نفسه الملقب بالسفاح وشارب الدماء. ولكن تشنيعات بيرك ومطاعنه قامت عقبة في سبيل المحافظة على السلم، وقد ذكر ميرابو في تقرير رسمي كتبه في ذلك الصدد أسباب إيثاره خطة السلم وقد أعدبنا أحد هذه الأسباب لقوة حجته وهو قوله: إن أقل آفات الحرب على فرش أن للفرنسيين الفوز والظفر هو أن جماعة القواد تأخذ من رؤوسهم نشوة النصر وتزهوهم أبهة الحياة الحربية فإذا وضعت الحرب أوزارها أنفوا أن يتركوا عظمة الجندية إلى تواضع العيشة الملكية فيطلبوا سن القوانين لإبقاء الجيوش وهذه طلائع أسوأ الحكومة أعني الحكومات الحربية.
وأخيراً تمكن بيرك عام 1793 من حمل إنكلترا على التداخل في شؤون فرنسا وساعده على ذلك ما ارتكبه الفرنس من إعدام ملكهم لويز السادس عشر. فذكر الإنكليز مقتل مليكهم شارل الأول فثاروا وأقسموا ليوقعن أقصى العقوبة على الفرنسيين وليرغمهم على إعادة العرش إلى أسرة البوربون وأعقب ذلك حرب استمرت اثنين وعشرين عاماً كابدت إنكلترا أثناءها من الكرب والبلاء والمحنة والشقاء ما يعني به الوصف ويعجز عنه البيان. وطالما حاول فوكس إيقاع الصلح واستجلاب السلم ولكن بيرك كان يكتب ضده بقلم من نار ويرد عليه بلسان شيطان. وعلى هذه الحال أمضى بيرك السبع السنين التي تبقت من عمره ثم قضى نحبه في الثامن من شهر يوليه 1797.
وكتابات بيرك وخطبه مملوءة من الحكم والأحكام والمبادئ بما يجدر أن يسترشد به السياسي في التشريع العملي وتأسيس الحكومة الصالحة. وإذا اضطر إلى تعضيد حزب الأقلية وتوريج الآراء الكاسدة والمذاهب المكروهة قدرة على ذلك اقتداؤه بذلك الخطيب المفوه والمنطقي البليغ الذي استطاع أن يدحض حجة الخصوم ويعلي كلمته مدة ثلاثاً وعشرين حجة.
أما كتابه قواعد الجلال والجمال هذا الذي نريد أن نتحف القراء بأطايبه فهو من مؤلفات صباه ولكنه كهل الحكمة مشحون بالفلسفة يهدي القارئ إلى أسرار الجلال والجمال بعيدها وقريبها فيصبح له في أنحاء الوجود وأرجاء الطبيعة الجامدة والناطقة نظرة الفيلسوف النقاد والحكيم البصير. ذلك إلى ما يمتاز به موضوع الكتاب من دواعي الإمتاع واللذة، وأي شيء أروع في الفؤاد وأعذب في النفس من الجمال والجلال.
الفصل الأول
الجدة
أول وأبسط ما يبدو لنا من حركات النفس الإنسانية هو الوجدان المسمى التطلع وأعنى بالتطلع الميل إلى استكشاف الجديد والتلذذ به. ونحن لا نزال نرى الصبيان يعدون من مكان إلى مكان لتصيد الشيء الجديد يتهافتون على كل ما يصادفونه لا يتخيرون ولا ينتقون فكل شيء يجذب أبصارهم لأن كل شيء جديد في عصر الطفولة، ولكل جديد لذة تستميل وتستهوي ولكن لما كانت هذه الأشياء التي لا سبيل لها إلى النفوس البشرية إلا مزية الجدة لا تلبث أن تزول بالتكرار جدتها لذلك كان التطلع أسرع الوجدانات النفسانية زوالاً وأكثرها انتقالاً وأقلها من النفس استمكاناً. فهو ذو شهوة حادة ولكنها سريعة الاكتفاء. سهلة الاشتفاء. وهو أبداً مشفوع بخلتي القلق والشوق. والتطلع بطبيعته حركة دائبة. سريع المر على ما يصادف من الأشياء فما هو إلا زمن قصير حتى يستوعب صنوف الموجودات التي يلقاها المرء في هذا الكون. ثم يكثر تردد هذه الموجودات على الحواس وكلما كثر خواص ممتعة وصفات معجبة خلاف صفة الجدة لأصبح الإنسان بعد مضي عصر الطفولة لا يبصر في هذه الدنيا إلا ما يكره ولا يرى إلا ما يمل ويسأم. بيد أن هذه الأشياء المؤثرة في النفوس بقوى خلاف عامل الجدة نرى أن الحكمة الإلهية لا تخليها بتاتاً من نوع ما من الجدة فإنه لا يخلو البتة من الجدة إلا ما أخلقه الابتذال وأبلاه الامتهان وسلبه طول الصحبة والمزاولة كل بهجة وطلاوة.
الفصل الثاني الألم واللذة
فمن ذلك نرى أن تحريك الوجدانات في نفوس الكبار يستلزم أن تكون الأشياء المراد منها ذلك التحريك تحتوي - فضلاً عن شيء ما من الجدة - عوامل أخرى محدثة أما ألماً ولذة. والألم واللذة هما وجدنان سبطان لا يمكن تعريفهما والإنسان لا يخطئ قط معنى ما يعتريه من الوجدانات ولكنه كثيراً ما يخطئ في تسميتها وفي الكلام عن أسبابها ونتائجها فيذهب البعض إلى أن مصدر الألم إنما هو زوال لذة ما، كما أن منشأ اللذة إنما هو انقطاع أو تخفيف ألم ما. فأما الذي أذهب إليه أنا فهو أن كلا الألم واللذة القوى منعهما والضعيف هو أمر حادث ووجدان إيجابي لا سلبي وليس أحدهما متوقفاً وجوده على زوال الآخر. ورأيي أن النفس الإنسانية تكون في معظم أوقاتها بحال ليست هي بالألم ولا باللذة أسميها حالة فتور فإذا انتقلت من هذه الحال إلى حالة لذة واقعية فما أحسب أن ذلك يستلزم أني أعاني أولا شيئاً من الألم. فإذا كنت في مثل هذه الحالة من الفتور أو الراحة أو السكون أو كما شئت أن تسميها ففوجئت بالغناء المطرب أو المنظر المونق ذي اللون المشرق والشكل المعجب أو صافح أنفك شذى المسك ونفح الطيب. أو تشرب لذيذ الراح على غير ظمأ إليها، أو تذوق الحلوى على غير سغب، فإنك لاشك تجد في كل من هذه الأحوال لذة مع أنك لم تكن قبل الاستمتاع بهذه المناعم في شيء من الألم. وهل إذا أمتعت حواسك بهذه المناعم المختلفة ثم زالت عنك لنسها تستطيع أن تقول أن زوال هذه اللذة قد أعقبك ألماً. ومن جهة أخرى إذا كنت في حالة فتور فأصابتك لطمة شديدة أو تجرعت شراباً مراً أو خدش سمعك صوت منكر أفتقدر أن تقول إنك لم تجد لهذه الأشياء ألما محتجاً على ذلك بأنها لم تكن نتيجة زوال لذة. فإذا قيل أن الألم في هذه الأحوال إنما نشأ من زوال لذة ولكن هذه اللذة كانت من شدة الخفاء بحيث أنه لم يكن ليظهرها إلا زوالها، قلت أن هذا القول تكلف ليس له أساس من الحق فإنه لا شيء قط يدعوني إلى التسليم بوجود مالا أجد ولا أحس فإن اللذة لا تكون لذة إلا إذ شعر بها لذلك لا أستطيع حمل نفسي على الاعتقاد بأن الألم واللذة هما أمران متعلق أحدهما بالآخر وأ، هما لا يوجدان إلا بمضادة أحدهما للآخر. ولكني اذهب إلى أن هناك آلاماً وملاذ إيجابية لا يتوقف بعضها على بعض. وهذا ما يدلني عليه الشعور الصادق والإحساس الصحيح. ولا أكاد أميز بين ثلاثة أشياء متباينة مستقلة تمييزي بين أحول النفس الثلاث: الفتور والألم واللذة. فإني أبصر كل واحدة منها بأنها من الأخريين منفصلة عنهما ليس لها بهما أدنى صلة أو علاقة. هب أن أمراً أصيب بمغص فلا شك أنه يكون في ألم. فإذا طرحته على آلة التعذيب أحس ولا ريب ألماً أشد، فهل ترى ألم التعذيب كان منشؤه زوال لذة؟ وهل نوبة المغص تعد لذة أو ألماً حسبما نشاء أن نعدها؟.
الفصل الثالث
فرق ما بين زوال الألم واللذة الإيجابية
إن الأمر في الألم واللذة ليس مقصوراً على أن وجود أحدهما غير متوقف على زوال الآخر كله أو بعضه. بل أن زوال اللذة كلها أو بعضها لا يشبه الألم الإيجابي، وإن زوال الألم كله أو بعضه قليل الشبه (من حيث تأثيره) باللذة الإيجابية. ولعل الشطر الأول من هذه القضية أقرب أن يسلم به الناس من شطرها الآخر إذ أن من الواضح أن اللذة إذا جرت بنا شوطها تركتنا حيث كنا قبل مباشرتها أعني في حالة سكينة ممزوجة بأثر حميد مما كنا فيه من تلك اللذة. واعلم أن المرء لا يستطيع أن يدرك لأول نظرة أن زوال الألم الشديد لا يشبه اللذة الإيجابية. فليذكر المرء في أي حالة يجد نفسه عقب الإفلات من خطر شديد أو الخلاص من سورة ألم حادة فإنه إن فعل ذلك تذكر أنه يجد نفسه بحال جد مخالفة لما يعتري النفس من شهود اللذة الإيجابية. إذ أنه يجد نفسه بحالة انتباه ويقظة مشفوعة بشيء من الخوف - بحالة سكينة يعلوها الروع.
فإن هيئة الوجه حينذاك وحركة الجسد تنم عن ذلك، فلو أن جاهلاً بالأمر أبصر هيئة وجوهنا وحركة أجسادنا حينئذ ما شك أننا بحال من الروع الدهش وما مر بباله قط أن بنا أدنى شيء من اللذة. ولا أرى في مصداق ذلك أحسن مما قاله شيخ الشعراء هو ميروس في بعض أبواب الألياذة. وهو قوله يصف هيئة رجل رفع عنه الألم: إن مثله كمثل رجل أجرم وخاف السلطان ففر هارباً:
كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
يؤتي إليه إن كل ثنية ... تميمها ترمي إليه بقاتل
فما زال بهذه الحال من الرعب والفرق حتى خرج من دار الخوف وأفضى إلى مأمن هنالك كنت تراه أصفر الوجه مبهوتاً شاخص البصر مبهوراً. وتلك لعمرك هيئة كل من كان بمثل حالة ذلك الناجي من الخطر المفلت من التلف أفضى به الفرار إلى مأمن فراح دهشاً فرقاً مبهوتا. وبيان ذلك أنه إذا اعترى أحدنا شديد الجزع لسبب ما فزال هذا السبب لم يزل معه الجزتع للتو واللحظة بل بقي حيناً بعد زوال سببه. فمثل ذلك كالزوبعة تهيج بالبحر فلا يسكن بسكونها البحر ولا يفتر بفتورها العباب بل تبصر الماء بعدركدة الريح في القطام. والموج في اصطدام. وكذلك تقرع الطبول وتنبض الأوتار فيبقى لها صدى في الأسماع وفترة في العظام فإذا زال من نفس نقيذ الألم تلك البقية وذهبت من روحه هذه الفضلة عاد إلى حاله المعتادة من الهدوء والسكينة. وقصارى القول أن اللذة وجدان إيجابي مستقل لا يكون قط منشؤها زوال ألم أو خطر.
الفصل الرابع
الكلام على السرو واللذة من حيث تضادهما
ولكن أيجوز لنا بناء على ذلك أن نقول أن زوال الألم أو تخفيضه يترك دائماً ألماً محضاً، أو أن انقطاع اللذة أو نقصانها لا يزال مشفوعاً بنوع من اللذة، كلا لا يجوز لنا أن نقول ذلك. بل الذي أقول هو هذا: أولاً إن هناك ملاذ مستقلة إيجابية وآلاماً مستقلة إيجابية، ثانياً إن الشبه الكائن بين الشعور الناشئ من انقطاع الألم أو تخفيضه وبين اللذة الإيجابية المستقلة أبعد وأضعف من أن يسوغ لنا أن نلحق الأول بالثاني أو نسميه باسمه. ثالثاً إن زوال اللذة أو نقصانها لا يشبه الألم الإيجابي المستقل. ولاشك أن في الشعور الأول (أعنى ما يعقب زوال الألم أو نقصانه) لشيئاً بعيداً من الكراهية والإيذاء. وهذا الشعور الذي هو في كثير من الأحوال محمود والذي هو في جميع الأحوال مخالف للذة الإيجابية لا أعرف له اسماًَ. ولكن ذلك لا يمنع كونه شعوراً حقيقياً جد مغاير لسائر الوجدانات. ومما لا ريب فيه إن كل نوع من الرضى أو اللذة مهما كانت صفة تأثيره هو ذو وجود مستقل في نفس الشاعرية. أجل أن كل شعور هو لاشك إيجابي مستقل وإن كان السبب كما هو الواقع في هذه الحالة - ربما كان نوعاً من الفقدان والسلب. وأنه ليجدر بنا ويجب علينا أن نميز بالتسمية بين شيئين مختلفين مثل هذا الخلاف في ماهيتهما وهما اللذة الإيجابية المستقلة المجردة من كل علاقة وتلك اللذة التي لا تكون قط بلا علاقة - وهذه العلاقة علاقة بالألم.
وأنه لمن أفحش العيب والخطأ أن يخلط بين شعورين متغايرين هذه المغايرة علة وأثراً حتى تقع الشبهة بينهما ويلتبس أحدهما بالآخر وما ذلك إلا لأن العامة لم يفرقوا في التسمية بينهما بل أدرجوهما معاً تحت اسم واحد عام. ولكني سأطلق على تلك اللذة النسبية المتعلقة بالألم اسم السرور وسأبذل الجهد في أن لا أستعمل هذا اللفظ لغير هذا المعنى بل أجعله وقفاً عليه رهناً به. ولقد آثرت اتخاذ كلمة مألوفة معروفة أقصر مدلولها واخصص مفهومها على إدخال كلمة جديدة ربما تعذر حسن إدماجها في سلك اللغة وانتظامها في سمط الألفاظ وخلاصة القول إني سأستعمل كلمة السرور في التعبير عن الوجدان الناشئ من زوال الألم أو تخفيفه وكلمة اللذة في التعبير عن اللذة الإيجابية المستقلة التي لا علاقة لها بالألم.
الفصل الخامس
الفرح والحزن
اعلم أن انقطاع اللذة يؤثر في النفس على ثلاثة أشكال. فإذا كانت لم تنقطع إلا بعد استمرارها زمناً كافياً كان كل ما يحدثه انقطاعها هو حالة السكون الاعتيادية. وإذا كان انقطاعها بغتة نشأ عن ذلك قلق في النفس يسمى حسرة فإذا فقد سبب اللذة حتى أيس من استرجاعه نشأ بالنفس وجدان يسمى الحزن وليس شيء من هذه الثلاث كلا ولا الحزن نفسه ولو بلغ أقصاه بمشبه وجدان الألم. وذلك أن الحزين يترك الحزن يشيع في نفسه ويتفشى في روحه ويسترسل هو فيه ويتمادى وكأنه يحب الحزن ويألفه ويستريح إليه. ولكن هذا خلاف ما يحدث من الألم الواقعي الذي ما علمنا أن امرأ احتمله طائعاً مختاراً لبرهة طويلة من الزمن، وليس بالأمر العسير أن يفهم الناس أن صاحب الحزن ربما حمله مختاراً راضياً مرتاحاً إلى حمله وإن لم يكن بالأمر اللذيذ على الإطلاق، الممتع بوجه عام، وتفسير ذلك أن من شأن الحزن أن لا يزال بمثل المفقود لقلب الفاقد الحزين فيقلبه لناظر وهمه في أعجب أشكاله وأبهج ألوانه وأخلب صوره وأن يجد ذكرى كل ما كان قد اتصل بهذا المفقود من الحوادث ولحقه من الأحوال والشؤون لا يغادر من ذلك صغيرة ولا كبيرة إلا أوردها وساقها إلى مخيلة الحزين الواجد. والسليب الفاقد. كذلك من شأن الحزن أن يرجع بصاحبه إلى العصر الماضي فيشهده في عالم الخيال كل نعمة كان في سالف الأيام باشر، وكل مسرة لابس. وكل لذة عاقر. وكل حسنة خالس. ويطيل به الوقوف على خيالات تلك الملاذ والمطايب. ويكثر به التلوم على أشباح هاتيك المباهج والمطارب. مبدياً بها من جديد المحاسن الآلاف المؤلفة مما كان قد خفى على المرء أيام يباشر حقيقة هذه النعيم واللذائذ. وكذلك الذكرى تذيع - بعد افتقاد الشيء - للوهم. غوامض أسرار كانت أيام وجدانه تغيب عن الفهم. فلا تدركها المعرفة ولا يحيط بها العلم. فمن ذلك ترى أن الحزن تخيم من فوقه اللذة. وإن البلاء الذي تحتمله إذ ذاك لا شبه له بالألم المطلق الذي لا يكون قط إلا بغيضاً مشكراً، والذي ما أن نزال نبتغي الخلاص من ربقته. ويحمل بي هنا أن أستشهد على صدق هذه القضية بأبيات لشيخ الشعراء صناجة العالم القديم والزمان الأول هو ميروس وهي أبيات من ملحمته المسماة الأوديسيا ينعت بها بطل القصة مصاب خلانه وأخدانه، ويندب فيها بلواه وبلواهم. ويبكي شجوه وشجوهم. قال هو ميروس في تلك القصيدة الكبرى على لسن ذلك البطل إني لا أحب إدامة الإطراق والتفكير والهم ولا الاسترسال مع الخواطر المحزنة والهواجس المبرحة ولكن من شأني أن لا أزال فرق بين الخاطر المحزن وأخيه بالفكرة السارة والذكرى المفرحة بيد أن هذه الخواطر الحزينة على ما طويت عليه من حزن ولويت عليه من شجن لتكسبني لذة وتورثني متاعاً.
إني ربما صبوت للحزن وتقت إلى الأسى فسرحت خاطري في أودية الذكرى أحضر مخيلتي صور من مضى من الأصحاب. وعهود من تولى من الأحباب. رعياً مني لحرمتهم وقضاء لحقهم.
ما في اد كارك ساعة من باس ... تقضي حقوق الأزمن الأدرا
وهشت نفسي للوجد وارتاحت عيني للبكاء وخفت جوانحي للزفير وإن من الحنين ما يستحب، وإن من الدموع ما يستعذب وما بلت حرقة الجوى بمثل ماء الشؤون. ولا أطفئت جمرة الغليل بمثل مقلة هتون.
الفصل السادس
الوجدانات الخاصة بوقاية النفس
معظم الأمور الجديرة بأن تحدث في النفس تأثيراً من ألم محض أو لذة محضة أو مزيج من هذا أو ذاك لا تكاد تخرج عن أحد هذين البابين وقاية النفس العمران، فإن إليهما مرجع كل وجدان نفساني. وإني أرى الوجدان الخاصة بوقاية النفس تدور حول الألم أو الخطر.
فترى أن ذكر الألم والمرض والموت يملأ النفس بوجدانات الخوف والرهبة. ولكن الحياة والصحة وإن هما مكنا المرء من التمتع بالملاذ فإنهما لا يستطيعان وحدهما أن يحدثا من عنيف الوجدانات وشديدها مثلما يحدث ذكر والمرض والموت. وخلاصة القول إن الوجدانات الخاصة بوقاية النفس تدور غالباً حول الألم والخطر وهي أشد الوجدانات وأقواها وأعنفها.